التاريخ: من الخبر إلى العلم
فئة : مقالات
التاريخ: من الخبر إلى العلم[1]
1- معنى التاريخ ومقوماته:
التاريخ لغة وتاريخ كل شيء غايته ووقته والتأريخ والتوريخ يعني الإعلام بالوقت. يقول حاجي خليفة"التاريخ في اللغة تعريف الوقت مطلقا"[2] ويذهب الرازي (864-923) إلى أنّ "التأريخوالتوريخ تعريف الوقت، تقول أرخ الكتاب بيوم كذا وورّخه بمعنى واحد".[3]
بيد أنّ صاحب "لسان العرب" لم يجد لعبارة "تاريخ" فعلا أصليا تُشتقّ منه، فإذا هو اسم عام لتحديد الوقت. والأقرب عنده أنّه مشتق من "الأرخ"، وهو ولد البقر والتاريخ مشتق منه كأنه شيء حدث كما يحدث الولد. وذهب بعضهم إلى أنّ كلمة تاريخ مشتقة من اللغة العبرية وهي تعني تحديد بدء الشهر القمري، وزعم آخرون أنّ هذه الكلمة هي تعريب للمعنى الفارسي الذي يتعلق بحساب الشهور والأيام.
أمّا في الإغريقية التي نظر إليها دائما على أنّها لغة المصطلح الفلسفي؛ فالتاريخ (historia) سرد لأحداث تُحفظ، لأنّها تستحق الذكر. وقد أخذت اللغات الأوروبية هذا المعنى واستعادته – أي معنى تذكر الخبر الماضي وسرده – باستثناء اللغة الألمانية التي تميّزت بأنّها تفرق بين الإخبار عن الماضي (historie) وما حدث في الماضي (Geschichte).
ويعدّ هيرودوتس (Herodotos) (484-425ق م) أب التّاريخ لا لأنّه تجاوز الرواية والسرد وتحوّل من قصّ الخوارق الأسطوريّة إلى سرد الأحداث والحروب الواقعيّة فحسب، بل لأنّه أيضا قد حاول –في مستوى المنهج- تفسير الأحداث وتعقّلها بالبحث في عللها ونتائجها.
أمّا في الثقافة العربية الكلاسكية، فإنّ حاجي خليفة يقدم تعريفات للتاريخ من بينها أنّه "تعريف الوقت بإسناده إلى أوّل حدوث أمر شائع من ظهور ملّة أو دولة أو أمر هائل من الآثار العلوية والحوادث السفلية، مما يندر وجوده جعل ذلك مبدأ لمعرفة ما بينه وبين أوقات الحوادث والأمور التي يجب ضبط أوقاتها في مستأنف السنين"[4] فهو إذن الإخبار عن الأحداث الماضية بتعيين زمن حدوثها أو هو"ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل حسب التعريف الذّائع لابن خلدون".[5]
وقد تطوّر مدلول مصطلح التاريخ؛فتجاوز الحدث إلى الحديث، حيث صار التاريخ هو"مجموع وقائع الماضي، وهو أيضا المعرفة المتعلقة بهذه الوقائع"[6] دون أن يعني ذلك التطابق بين الحدث والمعرفة بالحدث. ومهما تنوعت تعاريف التاريخ، فإنّ وجوده منذ القدم يعود إلى ارتباطه الوثيق بالإنسان، باعتباره المقوّم الرئيس في تعريف التاريخ. فالتاريخ الحق في نظر معظم منظريه هو" تاريخالبشر للبشر وبالبشر"[7]. فالطبيعة لا تاريخ لها إلاّ بما يكون على صلة بتاريخ الإنسان، لأنّ "الطبيعة هيكل من القوانين. أما التاريخ فهيكل من الوقائع"[8]، والتاريخ لم يصبح علما إلا حين صار إنسانيا وتجاوز خوارق الأسطورة واهتمّ بالبحث في الآثار والوثائق التي خلّفها السّلف. فإذا كان الحدث التاريخيّ مفردا، لأنّه لا يتكرّر مرّتين[9] فإنّ التّاريخ هو إحياء لهذا الحدث المفرد عبر إحياء الوثيقة.
ويقترن التاريخبالذّاكرة إذ هما يشتغلان بحقل واحد هو الماضي، غير أنّ "الذكرى إحساس ذاتي وانفعال قد يخرج بهما الخيال إلى ما لا يمت إلى الواقع بصلة، بينما التاريخ صناعة مضبوطة الأسلوب والقواعد غاية أربابها ذكر ما جرى واستخراج أسباب الوقائع ومسبّباتها". ولئن اشترك التاريخ مع الذكرى في التفكّر والخضوع للماضي كما قد يشتركان في غاية الاعتبار، فإنّ أهمّ ما يميّز الأوّل عن الثانية أنّ "الذكريات، إنّما هي وقوف على التاريخ بالتقسيط وأنّ التاريخ، إنّما هو وقوف على الذّكريات بالإجمال"[10]. لكن يبقى أنّ التّاريخ فنّ وصناعة، بينما الذاكرة ملكة يتميّز بها الخاص والعام، إذ ينزع الأوّل إلى العلمية والموضوعية في حين تخضع الذاكرة للانفعال والذاتية. ويذهب المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (J.Le Goff) إلى التمييز "بين نوعين من التاريخ: تاريخ الذاكرة الجماعية وتاريخ المؤرخين" معتبرا الأول أسطوري يخلط الأزمنة (anachronique) وإن كان يمثل المعيش الرابط بين الماضي والحاضر، والثاني "ينتجه المؤرخون المحترفون" ومهمته أن "يضيئ الذاكرة ويساعدها على تصحيح أخطائها[11]". ورغم أن تاريخ المؤرخين ينزع إلى العلمية والموضوعية، فإنه لا يسلم من تاريخ الذاكرة الذي يتجلى في الثقافة الشفهية والعقلية والذاتية ما دام المؤرخ هو ابن واقعه وثقافته.
وعلى كل حال، فإن مشكل التاريخ هو ذاته مشكل الذاكرة، وهو تمثل الماضي أي حضور الغياب، لأن كل تذكر هو استحضار للغائب. لكن كيف نستحضر الغائب؟ يرى "بول ريكور" أن ذلك يكون عن طريق الصور في الذهن. لكن ما الذي يعصمنا من الخلط بين صور الذكريات وصور الأحلام والهذيان والخيالات؟ كيف نتأكد من توافق الذكريات مع التاريخ؟ هل بالشواهد والآثار أم بمستوى التوافق في الذاكرة الجماعية[12]؟
هذه بعض الأسئلة التي فكر فيها الفلاسفة، ليؤكدوا الصلة المتينة بين الذاكرة والتاريخ ومحاولة علم التاريخ أن يكون وفيا لعقد المصداقية الذي يربطه بالقارئ.
أما صلة التاريخ بالزّمن فعضوية، لأنّ كلّ حدث لا بدّ أن يتنـزّل في إطار زمني. ورغم أنّ الزمان من المقولات القبليّة والمعطيات التي لا تنبني على إحساس أو تجربة سابقة كما يقول كانط، فإنّ تصوّره والوعي به هو شرط تعقّل تاريخية الإنسان وتاريخية المعرفة البشرية. وقد عمّق القرن 19م فكرة الوعي بتاريخية المعرفة الإنسانية، حين أكدت فلسفات التاريخ على قيمتي المعقولية والغائية وخاصة مع هيغل الذي أشار إلى أنّ تاريخ العالم يتراءى لنا مسارا عقليا وأنّ الزمان ثلاثي الأبعاد: حاضر ومستقبل وماض، وتشكل هذه الأبعاد فيما بينها الصيرورة بوصفها اختلافا وتباينا للوجود في تحوله إلى العدم أو في تحول العدم إلى وجود. وقد أكّد هايدغير (1889-) أنّ الزّمانية شرط التاريخية واعترض على"التحديد الهيغلي الذي يكون فيه الزمن صيرورة يفصل فيها حاضر متحرك الماضي عن المستقبل".[13] فالتراث ليس زمنا وراءنا، لأنّه ينتمي إلى الماضي إذ الماضي ما ينفك يمضي والحاضر ما ينفكّ يحضر حسب "هيدغير". إنّ الزمان بهذا المعنى أزمان فليس هو مجرّد وعاء تقع داخله الأحداث، وإنّما هو تابع لتلك الأحداث، يتغيّر بتغيّرها لأنّه علائقي وليس انسيابيّا. ومن جهة أخرى، اعترض آخرون على التصوّر الهيغلي للتاريخ، ذلك أنّه"على نقيض هيغل كان رنكة وداريزن يريان في التاريخ علما تجريبيّا يجب أن ينطلق من الوقائع بدل أن يكون تأملات في معنى التاريخ".[14]
وقد اهتم بول ريكور بالبحث في مفهوم الزمن والزمانية في كتابه "الزمن والسرد" وخاصة في الجزء الأول الذي أوضح فيه علاقة السرد بالزمن في الثقافة الغربية بعد أن راجع تصور كل من القديس أوغسطين في "الاعترافات" وأرسطو في "فن الشعر" و"الطبيعيات". لقد حرج بول ريكور بمفهوم عن الزمان يعقد فيه الصلة بين ما نسيه أو تناساه القديس أوغسطين وأرسطو من جانب، حيث يستمد الزمان قيمته عند أوغسطين من خصيصة ارتباطه بالأبدية بوصفها الحاضر المستمر الدائم ويستمد قيمته عند أرسطو من ارتباطه بالأجرام السماوية وطبيعة حركتها من جانب آخر. ثم يوفق ريكور بين الذاتية الترنسدنتالية لكانط والأنثروبولوجيا التأويلية لهايدغير. "يوجد بين نشاط السرد التاريخي والخاصية الزمنية للتجربة الإنسانية ترابط لا يمكن أن يكون عرضيا صرفا ولكنه يمثل شكلا من الضرورة ما بعد – ثقافية .... إن الزمن يصير زمنا إنسانيا عندما يتمفصل في صيغة سردية، والسرد يأخذ دلالته الكاملة عندما يصبح شرطا للتجربة الزمانية".[15]
و يقترن الزمان في علم التاريخ بالتحقيب، والحقبة حيّز زمني يفصل بين تاريخين منسوبين إلى تقويم معيّن، وترتبط الحقبة بنشاط بشري ما، كالسياسة أو الفنّ أو الاقتصاد... ويبدو أنّ التحقيبات تختلف لا بحسب تباين الحضارات والثقافات والدّول فحسب، بل وحتى داخل الحضارة الواحدة والدولة الواحدة بحسب الاتجاهات والعقائد، ومعظم التحقيبات العامة التي وضعت في التاريخ استندت إلى خصوصيات الحضارة الأوروبية شأن التحقيب الثلاثي الذي اقترحه الألماني كريستوف كيلر (keller )، حين اعتبر التاريخ البشري قد مرّ بثلاثة أطوار كبرى هي:
-الحقبة القديمة التي كان من نتائجها العبقرية اليونانية.
-الحقبة الوسيطة التي تميّزت بالتراجع والإنحطاط.
-الحقبة الحديثة التي من أهم سماتها النهضة الأوروبية الحديثة.[16]
من جهة أخرى، يبدو أنه لا يمكن لدلالة التاريخ أن تكتمل إلاّ بعنصر آخر رئيس، وهو المجال أو الفضاء الجغرافي، لأنّ كل حدث تاريخي، إنّما يكون في مكان ما كما يكون في زمان مخصوص، "فإذا كان صحيحا أنّ للحضارات حاجات وجودية تحقّقها في التاريخ، فالأحرى أن تحقّقها في الجغرافيا التي تمكنها من أن تتراءى في حاضرها".[17]
إنّ لعلم التاريخ ركائز ومقومات تضافرت عبر التاريخ للرقي بهذا العلم وتطويره، وقد حرص المؤرخون منذ القديم على تحقيق البعد العلمي في التاريخ، ولكن اعترضتهم جملة من المسائل، منها أنّ التاريخ يهتمّ بالإنسان والإنسان روح وإرادة ووعي، وهذا يجعل الحديث عن الحتمية في علم التاريخ كما في كل العلوم الإنسانية أمرا عسيرا، إن لم يكن مستحيلا. فدراسة الظواهر البشرية لا تخضع إلى قوانين ثابتة مثل ظواهر الطبيعة، ولا تصحّ فيها مقولات الحتمية والسببيّة، لأنّ عالم التاريخ "تسوده جنبا إلى جنب الحرية والحظّ والأسباب والغايات في مقابل عالم العلم الذي لا يعرف إلاّ القوانين"[18]، ويكفي شاهدا على ذلك موضوع التحقيب، فهناك من يحقّب التاريخ وفق السلالات الحاكمة وهناك من يحقب وفق أنماط أدوات الإنتاج ) العصر الحجري، العصر البرونزي، العصر الحديدي...( وهناك من يحقب وفق الثورات التقنية الكبرى )عصر الفلاحة، عصر الصناعة، عصر الإعلامية( والبعض الآخر يضع تحقيبا حسب تعاقب أنماط الإنتاج )الشيوعية البدائية، العبودية، الإقطاعية، الرأسمالية، الإشتراكية( وهناك من يحقب التاريخ وفق التدرّج في التفكير العقلي والفلسفي )عصر السحر، عصر الدين، عصر العلم(... وحتى في صورة اتفاق المؤرخين"على مضامين أحداث معيّنة وعلى نتائجها؛ فهم ليسوا قادرين على التنبؤ بالمستقبل خلافا لصنف معيّن من علماء الطبيعة، مثل علماء الفلك على سبيل المثال الذين بإمكانهم تحديد كسوف الشمس تحديدا دقيقا للغاية وذلك قبل وقوعه بمدة طويلة جدّا".[19]
2- الموضوعية في التاريخ:
على الرغم من صعوبة الفصل بين الذات والموضوع في البحث التاريخي، ممّا يجعل إدراك الموضوعية أمرا متعسّرا، فإنّ تطوّر علم التاريخبانفتاحه على معارف مختلفة كالفلسفة والجغرافيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللّسانيات وعلم الأديان المقارن والسوسيولوجيا...جعل المؤرّخ يجتهد في إدراك حظّ وافر من الحياد ويعتمد مناهج مختلفة للاقتراب من الحقيقة التاريخية عبر جمع الوثائق ونقدها والبحث في الشواهد والتنويع في المصادر ويسترفد بالعلوم الأخرى، لتغطية النقائص التي قد تشوب موضوعه ويطرق المسكوت عنه والمهمش والمنسي والعلمي والأسطوري والواقعي والخيالي، لذلك تنوعت المدارس وتباينت المناهج، وكان كل ذلك عامل إثراء لعلم التاريخ.
لكن باحثين كثرا بيّنوا أن الموضوعية ليست إلاّ قضية زائفة، إذ "الفرق بين الموضوعي والذاتي مرحلي ومتطوّر باستمرار في البحث التاريخي كما في غيره من البحوث العلمية"[20] حيث إن النسبية التي قد تطرح في شأن المؤرخ ليست ذات قيمة بما أنّ"شبح النسبية لا يعلو المعرفة التاريخية وحدها، بل يعلو كل حقل معرفي عندما تتوقف حركة البحث، ويتم الاكتفاء بالنتائج المكتسبة"[21]. ولكن هذا الشبح يعظم – في تقديرنا – في سياق موضوعات تتوقف نتائجها في النهاية على التأويل. ولهذا تختلف التآويل وتتباين، وكلما اتفقت مجموعة من الباحثين على نتائج معينة كان ذلك أدعى إلى الاطمئنان بشرط ألاّ تتحوّل تلك النتائج إلى حقائق ثابتة ونهائيّة أو نماذج قياسية، لأنّ المعرفة التامة أو النهائية في علم التاريخلا تدرك أبدا[22]، وإنّما هي في حاجة إلى تضافر الرؤى المختلفة لتقرب إلى الصدق، وهذا ما يدعّمه قول الفيلسوف كارل بوبر(K.Popper)( 1902-1995) الذي رأى"أنّ أية حقيقة علمية ليست حقيقة، لأن التجربة أثبتتها، وإنّما هي حقيقة لأنّنا لم نتوصّل بعد إلى إثبات عكسها".[23]
ثمة فرق شاسع بين من ينظر إلى التاريخ من الخارج كمراقب من فوق ومن يؤول التاريخ من الداخل، باعتباره ينتمي إلى فضاء ذلك التاريخ وتربطه به روابط دينية وأخلاقية واجتماعية وحضارية. ولئن أدت المعالجة الخارجية إلى الإسقاط، فإن المقاربة الداخلية تنتهي غالبا إلى الذاتية. لكن الإشكال في رأينا ليس أن نكون مؤولين للتاريخ من داخل التاريخ أو من خارجه، بل أن نلتزم الصرامة الأخلاقية مع الموضوع وأن نحترم الموقف الإنساني الذي ينشد الحقيقة مهما كانت.
إن الحقيقة التاريخية لا تدرك أبدا تامة، بل لا بدّ أن ننظر إليها من زوايا مختلفة ولعل تطوّر المعارف وتعدد المناهج كفيل بإثرائها والدنوّ منها أكثر ولهذا قال بول فاين: "إنّنا لا نرى مكعبا من كل جهاته في اللحظة نفسها، فليس لنا عنه أبدا إلاّ رأي جزئيّ"[24]. والمؤرّخ لا يسعه أن يكون ملاحظا خارجيّا ولكنّه يمكن أن يجتهد في البحث عن الظروف التي تجعل المعرفة التاريخيّة ممكنة، وهو سؤال يشبه السؤال الكانطي: كيف يمكن للميتافيزيقا أن تصير علما؟ إنّ الحقيقة التاريخيّة مزدوجة، لأنّها متكوّنة من صفحة الماضي في مستوى حدث التاريخومن صفحة الحاضر في مستوى فعل التأريخ،ولهذا فحقيقة التاريخ تظلّ دائما رهن فلسفة المؤرّخ ونظرته إلى التاريخ.
ومهما اعتقد البعض في زيف قضية الموضوعية ورأى أنها موضوع مفتعل، فإن الذي لا يرقى إليه الشك عندي أن هذه القضية لها صلة وثيقة بعلم التاريخ "فمهما كانت حدود الموضوعية التاريخية، فإن هناك مشكلا هو الموضوعية في التاريخ. وحسب موريس إندلباوم فإن حكما ما يسمى موضوعيا، لأننا نرى أن حقيقته تقصي إمكانية أن يكون نفيه حقيقيا"[25]
على أن التاريخ له تأويل مثلما أن التأويل له تاريخ؛ فنحن لا نؤول التاريخ عبثا وإنما نؤوله لهدف وغاية، وهما الحفاظ على التراث وتوضيحه وتوسيع أفق فهمه واستبقاء التاريخ حيا متواصلا. ولهذا، فإن زمن التأويل ينتمي بشكل أو بآخر لزمن التراث ولمسار متابعتنا لأطوار التاريخ وأحداثه وقيمه.[26]
3- التاريخ والتاريخ العربي:
إنّنا نعني "بالتّاريخ العربي" تاريخمجموع الشعوب التي ظلت اللغة العربية هي لغتها الرسمية والثقافية منذ المد الحضاري العربي الإسلامي إلى اليوم. فقد ذهب بعضهم إلى "أنّ الجزيرة العربيّة كانت مهد مجموعة من الشّعوب نشأت في بيئة طبيعيّة واحدة، وأنها خرجت بأصول لغوية واحدة، وأنها رغم تفرقها وتطورها بقيت تحمل نفس الأساس اللّغويّ وأنّ آخر مجموعة توسّعت خارج الجزيرة هم العرب".[27] ووفق كتب الأنساب، فإنّ العرب يمثّلون جنسا تناسل في أساسين؛ أحدهما قحطان وبنوه وهم العرب العاربة؛ والثاني عدنان وبنوه وهم العرب المستعربة. القحطانيّون عرب الجنوب والعدنانيون عرب الشمال، وأساس التّمييز بينهما المكان والطبائع واللّغة. وقد تأصّلت العربيّة زمنا، "وفي القرن السادس ظهر الخط العربي وبدأ استعماله في الكتابة"[28]. ويعود أقدم ذكر للعرب في وثائق آشورية حوالي سنة 850 ق.م وقد وصفتهم بأنهم قوم رحل ورعاة إبل عاشوا فيما يطلق عليه اليوم الأردن وفلسطين، ثم انتشروا شمالا وشرقا فيما يطلق عليه اليوم سوريا والعراق، وجنوبا إلى وسط شبه الجزيرة العربية. وحوالي سنة 400 ق.م أخذت القبائل العربية تشكل ممالك صغيرة معظمها على جوانب طرق القوافل كان أبرزها "البتراء" (الأردن) و"تدمر" (بادية الشام) اللتين وقعتا تحت الحكم الروماني خلال القرن الثاني قبل الميلاد.[29] لقد كان للعرب دور حضاريّ مهمّ قبل الإسلام ونشاط تجاري عالمي. وكان من العرب المستقرون، وهم أكثر عددا من الرّحل، وهم مكمن النشاط والقوة. ورغم اختلافهم بين مستقرّين ورحل، فإن شعورا بالأصول المشتركة كان يجمعهم خاصة في نظرتهم لأنسابهم ونشوء تقاليد وعادات متشابهة ونجوم لغة أدبية وشعرية رفيعة مثّلت خيطا واصلا بينهم. ولعل العشيرة كانت تمثل الوحدة السياسية الاجتماعية وخاصة لدى البدو. ولما جاء الإسلام أحدث تحولا حاسما في حياة العرب إذ أعطاهم عقيدة وخلق في أنفسهم إحساسا بأنهم أصحاب رسالة عالميّة فهيأ قيما حلّت محل العصبية وانبعثت فكرة الأمة على أساس العقيدة والمساواة وجاء التنـزيل بلسان عربيّ رسّخ العربيّة وجعلها أساس الانتماء الحضاري ووحد الدّين الجديد عرب الشمال مع عرب الجنوب والبدو مع الحضر ثم حملوا الرسالة إلى خارج الجزيرة العربية، حيث "انتشر الإسلام من الأطلسيّ إلى الهند وأواسط آسيا عبر شمال إفريقية وغربي آسيا وانتشر بعد ذلك إلى بلاد أخرى في آسيا وإفريقيا وأوروبا. إلاّ أنّ الرقعة العربيّة والأمة العربية تحدّدت على أُسس ثقافية اجتماعية تقوم على سيادة العربيّة وعلى غلبة الجماعات العربية نسبا والمتعربة"[30] علما وأنّ ذلك تحقّق بشكل ملحوظ في المناطق التي عمرها أسلاف العرب الذين خرجوا من الجزيرة العربية. لقد احتوى الإسلام العرب والقبائل بفكرة الأمة وبدا التعريب مقترنا بانتشار الإسلام في البداية "و لكن ظهور الفارسيّة الجديدة... كان إيذانا بتطوّر أفضى إلى الحدّ من انتشار العربيّة لا الإسلام وإلى تنوّع لغويّ وثقافي"[31]. وبعد انهيار الامبراطوريّة العبّاسيّة وتمزّق أوصالها وتحكّم كيانات صغيرة فيها لفترات متفاوتة، جاء دور العثمانيّين ليبسطوا سلطانهم على جلّ البلاد العربيّة قبل أن يفكّر الأوروبيّون في اقتسام تركتهم. وبعد حركات التحرير السياسيّ، صار ثمّة مجموعة من الدّول القطريّة التي حافظت على اللّغة العربية لغة الثقافة والمجتمع، وظلّ الإسلام هو الدين الرّسمي للدولة.
إذن فالحديث عن التاريخ العربي هو حديث عن مجموع الأقطار العربية التي ظلّت العروبة سمتها المميزة لغة ورؤية للعالم. ويبدو لنا من المهم أن نحدد نسبة هذا التاريخ إلى العرب -على غرار العروي- بالقول أنّنا "نعني بالعرب المجموعة اللغوية أكثر مما نعني المجموعة الدينيّة .... الواقع أن مجموعات مسلمة، مثل الأتراك والفرس والباكستانيين إلخ... شاركت العرب في الإيديولوجية الدينية، ورغم ذلك كانت لها في الماضي وما تزال نظرة إلى التاريخ مخالفة تماما للنظرة العربية"[32]. وليس انصرافنا عن استعمال عبارة "التاريخ الإسلامي" نكرانا للإسلام، إذ الحقيقة أن الإسلام هو الذي أعطى للعرب هويّتهم الحضاريّة وأخرجهم من الحدود الأنثروبولوجية الضيقة لوجودهم؛ فالعرب هبة الإسلام دينا وحضارة. غير أن الحديث عن التاريخ العربي في رأينا يستوجب الحديث عن تاريخ الإسلام ضرورة وليس حديثنا عن الإسلام اليوم مقترنا بالحديث عن العرب ضرورة، لأنّ كثيرا من الشعوب تنتمي إلى الإسلام دينا ولكنها من جهة اللغة والثقافة تحافظ على خصوصياتها العرقيّة واللسانيّة شأن إيران وباكستان وماليزيا ... وهذا لا ينفي -كسبب آخر- رغبتنا في حصر الموضوع أكثر نظرا لامتداد المجال الذي استقطب الإسلام من جهة، ولأن المفكرين الذين اعتمدناهم نماذج في القراءة والنقد لم يركز جميعهم على التاريخ الإسلامي، وإن عالجوا كلّهم التاريخ العربي من جهة أخرى.
[1]- انظر: كتاب، تأويل التاريخ العربي، محمد الخراط، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي،2013
[2]- حاجي خليفة، كشف الظنون، ص 271
[3]- الرازي (محمد بن أبي بكر)، مختار الصحاح، طبعة دار الفنون ودار القرآن الكريم، 1972، ص 13
[4]- حاجي خليفة، كشف الظنون، ص 271
[5]- عزيز العظمة، الكتابة التاريخية والمعرفة التاريخية: مقدمة في أصول صناعة التأريخالعربي، دار الطليعة بيروت، ط2، 1995، ص 12
[6]- علي أومليل، الموسوعة الفلسفية العربية، ص 217
[7]- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الجزء الأوّل: الألفاظ والمذاهب، المركز الثقافي العربي، ط2، ص 34
[8]- Paul Veyne, Comment on écrit l’histoire, P.22
[9]- يذهب بول فاين إلى أن التاريخ إختلاف وليس إعادة، فنحن نسرد حربا –مثلا- ولكننا لا نسرد الحرب، والتاريخ لا يعيد نفسه وإن حدثت الواقعة مرتين لأنها تقع في زمنين مختلفين. Comment on écrit l’histoire, P 15
[10] ابراهيم بو طالب، الذاكرة والتاريخ، مجلة البحث التاريخي عدد1 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سنة 2003، ص 5
[11]- وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل: دراسات في البحث والبحث التاريخي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص 26
[12]- راجع مقال "كتابة التاريخ وتمثل الماضي" لبول ريكور، تعريب محمد حبيدة، مجلة دراسات فلسفية عدد 6 المغرب 2008
[13]- عبد السلام بنعبد العالي، التراث والاختلاف، دار التنوير للطباعة والنشر والمركز الثقافي العربي، ط1، 1985، ص 13
[14]- Georgia warnke, Gadamer: herméneutique, tradition et raison, P.32
[15]- Paul Ricoeur, Temps et Récit.1 – l’intrigue et le Récit historique, Editions du seui 1983 P 105
[16]- وسوف نرى لاحقا بعض مواقف المفكّرين العرب من هذه التحقيبات التي تؤصّل المركزيّة الأوروبيّة وتزيّف معظم التّاريخ الإنساني. (انظر الفصل الرابع من الباب الأول من الأطروحة).
[17]- Paul Veyne, Comment on écrit l’histoire, P55
[18]- Ibid, P.126
[19]- الهادي التّيمومي، مفهوم التاريخوتاريخ المفهوم، دار محمّد علي للنشر، ط1، 2003، ص 14
[20]- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ج 2، ص 321
[21]- المصدر السابق، ص 322
[22]- يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "التاريخ ليس تاريخا إلا بالقدر الذي لا يؤدي إلى خطاب مطلق discours absolu، ولا إلى فرادة مطلقة singularité absolu. إنه تاريخ بالقدر الذي يبقى فيه المعنى غامضا ومختلطا (....) التاريخ يطمح إلى أن يكون موضوعيا ويبدو أنه لا يمكنه ذلك: يريد أن يحيي من جديد revivre، ولكنه لا يستطيع إلا إعادة البناء reconstruire، يريد أن يجعل من الأشياء معاصرة، ولكنه لا بد أن يأخذ مسافة تجاه البعد والعمق التاريخي". الشاهد مأخوذ من كتاب وجيه كوثراني "الذاكرة والتاريخ" هامش 1، ص 21
[23]- الهادي التّيمومي، مفهوم التاريخوتاريخ المفهوم، ص 13
[24]- Paul Veyne, Comment on écrit l’histoire, P.58
[25]- Paul Ricoeur, Temps et Récit.1 – l’intrigue et le Récit historique, P312
[26]- Paul Ricoeur, conflit d’interprétations, P.31
[27]- عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، مركز دراسات الوحدة العربية، سبتمبر 1984 ص 20
[28]- المرجع السابق، ص 32
[29]-راجع، الموسوعة العربية العالمية، الجزء 16، الطبعة الثانية، 1999، ص 193
[30]- عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية، ص 66
[31]- المرجع السابق، ص 280
[32]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، ط2 (د.ت)، ص 77