التاريخ واستراتيجيات المنع
فئة : مقالات
التاريخ واستراتيجيات المنع
في كل مسارات التاريخ قديما وحديثا يكتب هذا الأخير بأهواء السلطة ودوائر القرار؛ أي إن عملية التأريخ ليست عملية منزوعة ومفصولة عن أهداف كاتبيها ومؤسسيها، وعبثا نحاول أن نبحث عن كل الحقيقة فيما كتب أو يكتب أو سيكتب مستقبلا إلا في حدود ضيقة، لهذا انتبه الكثيرون أن التاريخ الحقيقي هو ذلك الذي لم يكتب وليس ما كتب؛ أي على المرء أن يتحرّى مسارات التاريخ وأحداثه في الهامش، وليس في صلب مدونات التاريخ وأمهاته. يحيلنا هذا التداول وهذا المعطى إلى أن التاريخ الذي نقرأه اليوم ويراد لنا أن نردده ليس هو التاريخ نفسه الذي وقع في زمن ما، أو مرحلة معينة من هذا الزمن اللامتناهي، فنحن نعرف بأن الإنسان يولد معافىً إلا من سموم التّاريخ، بها وفيها يتشكل عقله. ولكي يستعيد نقاءه، عليه أن يكون خاليا من التاريخ ليكون مليئا بالحقيقة على رأي الجبران. ولأنّ وجوه النّاس كما عقولهم مفعمةٌ بالكذب... يتحوّلون إلى سماسرة يمشون سوية لا يفصل بينهم وبين الموقف سوى النفاق والشقاق...
يحكى أنه لمّا توجّه نابليون إلى باريس قادماً إليها من جزيرة ألبا، قال الفرنسيون: الخائن في الطّريق إلى باريس.
ولما دنا من أسوار باريس، قالوا: نابليون على أبواب باريس.
ولما دخل نسوا خيانته وقالوا: البطل في باريس.
هذه هي لعنة التّاريخ، وهذا هو بؤس الإنسان
نريد أن نتحدث عن التاريخ المسكوت عنه أو التاريخ المحرم كما يحلو للبعض أن يسميه ونطرح مجموعة من التساؤلات علّنا نجيب عنها أو على أقل تقدير نقترب من الإضاءة على بعض إشكالاتها. لماذا يتردد الباحث في البحث في مناطق السكوت أو المناطق المحرمة؟ وما هي دلالة هذا الفعل؟.
هناك خوف مطبق كما يسميه جمال علي الحلاق يحيط بذات الباحث في مجتمعاتنا. خوف من الخروج عن المألوف، خوف من النبذ الذي ينتج عن كل سؤال خارج الأطر المرسومة سلفا، وخوف من المجهول أيضا؛ لأن السؤال عادة يبحث عن إجابة ولا يدري الباحث ما هي إجابة المجتمع على تساؤلاته التبني والتفهم أم الرفض والإقصاء. الباحث في مجتمعاتنا يخون وظيفته ورسالته؛ لأنه لا يبحث في مناطق التحريم والمناطق المسكوت عنها، وهو بذلك يقول لنا بتعبير دقيق لا لبس فيه إنه لا مجال هنا للتغيير؛ أي تغيير المفاهيم وتغيير أنماط التفكير وتغيير البنيات الذهنية التي أصبحت بالنسبة لنا حصونا للتخلف تمنع كل سؤال وتمنع أي محاولة لاقتحام هذا السؤال.
ماذا يعني الاستسلام لمناطق التحريم؟ تعني ببساطة أن الباحث يريد أن يكرر نفسه ويستنسخ صور من قبله في حركة لا متناهية؛ أي إننا في هذا الواقع مجرد فائض لا مبرر لوجودنا على الإطلاق.
التاريخ ليس فقط أحداثا تنقل لنا منزوعة عن سياقاتها، هو أكثر من ذلك بكثير فكل حدث أو خبر يعبر بدرجة من الدرجات عن العقل المنشئ له، أو ذهنية نقلته ومدونيه. كما أنه ليس أخبارا لزمن ماضٍ عاشه أسلافنا دون أن يكون لهذه الأخبار والأحداث هدف أو أهداف مرسومة سلفا ووجهة نظر يراد لها أن تبقى ما بقي الزمان. التاريخ هو أشياء أيضا لم تكتب أو لم يرد لها أن تكتب أو كتبت ولكنها مبثوثة هنا وهناك بشكل محتشم تحتاج لمن يحفر وينبش ويعري ويضرب بمطرقته كل خبر ليفجر المخبوء فيه والمستور. هو عبارة عن طابوهات وممنوعات يتوارثها جيل عن جيل نحملها على أكتافنا وفي شعورنا ولا شعورنا أيضا؛ فحيث يصمت التاريخ يصمت القلم واللسان والبحث.
مشكلة الإنسان أنه كائن يخضع لمنطق الطبيعة فهو جزء منها، ولكنه منفلت منها بدرجة من الدرجات. لهذا هناك دوما ما يجره إلى أن يكون فردا، ولكن ليس مستقلا بكيانه وتفكيره وعقله، بل فردا في قطيع، أو جماعة بشرية تفكر بعقل من يقودها. ثمة من يزرع في دروبه الخوف، وينثره في طريقه كلما أراد الانفلات، أو الخروج عن ضوابط العقل الجمعي المتحكم. لا أحد يريدك أن ترى العالم بشكل مختلف، أو بشكل آخر، أو بقراءة مختلفة، كلنا نخشى الاختلاف. لهذا هناك من يسلبنا هذا الحق أن نكون مختلفين، أو جريئين أو حتى باحثين عن خلاصنا الفردي. هذا يزعج الآخرين الذين لا يشبهوننا.
الأفكار كائنات حيّة تحيا بالسؤال والبحث، وتحيا أيضا بالجرأة في حدود الممكن، فلا تطور ولا تقدم دون حد أدنى من ثقافة السؤال والرغبة في تحطيم الأصنام الذهنية التي تستعبدنا دون وعي منا. والفكرة تموت لحظة التوقف، والاكتفاء بالنص التاريخي هو في حد ذاته توقف؛ أي شلّ لحركة النص، وتوقيف للحياة فيه.
هنا يمكننا أن نطرح السؤال التالي: لماذا كل هذا التحريم المحيط بجوانب كثيرة من ثقافتنا وتاريخنا؟.
للجواب عن هذا السؤال نقترح النقاط التالية أكد عليها الحلاق:
1. التوقف عن التفكير والبحث والملامسة هو نتيجة لفعل يطبع كل الثقافات الشمولية، وهو القداسة.
2. تحريم الاقتراب من بعض المناطق عبر الحث على عدم التفكير تكشف العمق الخفي لإنتاج الوعي داخل تلك الثقافة.
3. منع التفكير يهدف بالأساس إلى إقصاء المراكز الفاعلة والاكتفاء بمركز واحد يحتوي كل تلك الجهات ويستوعبها.
4. ثقافة المنع تكشف أيضا على معطى ومهم وخطير، وهو الطابع الإقصائي الذي تتميز به هذه الثقافة.
5. المنع والدعوة لعدم الاقتراب من مناطق بعينها مؤشر على أن هناك ثقافة تحتكر الحق في تاريخها وأسلوبها وثقافتها.
هذا باختصار شديد ما يمكن أن يقرأه أي باحث من هذه الاحتكارية المحيطة بنا، ولكن نحن أمام هذا الواقع نريد أن نفهم كيف يتم تهريب التاريخ وطمسه وتشويهه في بعض الأحيان. هنا يمكننا الإشارة إلى ثلاث استراتيجيات كبرى يتم بها تهريب التاريخ وأحداثه نجملها فيما يلي:
1- التعمية: تتجلى هذه الممارسة بذكر الأخبار دون ذكر أصولها، فتبدو بلا تجذير، كما لو أنها نبتت في فراغ، كاستخدام أحدهم جملة من قبيل قال أحد الحكماء، أو قال أحدهم، أو عن بعض أهل العلم.
2- التضبيب: تتجلى هذه الممارسة بجعل الخبر أكثر انفتاحا، في القراءة والتأويل والفهم.
3- التجزيء: من خلال طرح جمل قصيرة وامضة سرعان ما تختفي في ظلمات الكتب الضخمة، لو أخذت على انفراد لما أنتجت معنى، يمكننا أن نؤسس عليه فهمنا، أو تأويلنا لحدث أو واقعة، أو قصة. لكنها في حالة تجميعها معا وإعادة تركيبها، فإنها تتحول في النهاية إلى آلية يمكن من خلالها الوصول أو الاقتراب من قراءة حادثة تاريخية معينة على أقل تقدير.