التباين المذهبي والعقدي ومساحات التعايش مع الآخر المختلف
فئة : حوارات
يرى الدكتور كمال طيرشي، أن العالم الإسلامي اليومي يعيش حالة من التصدع الكبير في ما يتعلق بالتعايش الديني والسبب في ذلك، حسب الباحث، هو التباينات الكبيرة بين أرباب المذاهب الدينية التي تعيش في عالم إسلامي واحد، والعقلية الحصرية والإقصاء لكل من يخالف عقدياً أو سياسيا، حيث يؤكد أن غياب الرؤية الشاملة اللاإقصائية والعقلية اللحموية التي لا تبعد أيًّا كان من رحابة الدين الواحد ومن رحابة كذلك الوطن الواحد، أدى إلى تشرذم هذه المرامي الوحدوية المنادية بالتعايش، موضّحا في نفس الوقت أن بعض النماذج المتجلية المحتشمة من التعايش الديني في بعض البلدان العربية هي اليوم غير قابلة للتعميم على كل العالم الإسلامي.
ويعتبر الباحث الجزائري المتخصص في الفلسفة الدينية، أن ممكنات التعايش الديني والمذهبي في العالم العربي لا تزال بوادر انبلاجها تلوح في الأفق، ولا يمكن البتة لأي كان التنكر لها، لكن رهانات التعايش وإمكاناتها تعيش حالات كمونية، وحتى يتحقق هذا المسعى، لا بد، بقول الدكتور طيرشي، أن يتم أولا احترام التعدد المذهبي احتراما حقيقيا وكاملاً، ومن دون أية نبرة ازدرائية، لأننا في الحالة التي نحترم فيها التعددية المذهبية والمختلف عقدياً ومذهبيا وأيديولوجيا، نكون قد أنقذنا بوادر الحوار الجاد الذي سيحصل بين كافة الطوائف الدينية دون إقصاء أو استثناءات، ولأننا بحماية التعدد المذهبي نحمي القيم والأعراف والمبادئ التي سيتمخض عنها ثراء فلسفي وفكري وعلمي. وهذا الأمر لا تقوم له قيومية البتة، إلا إذا انفتحت عقليات وذهنيات المذاهب الإسلامية بعضها على بعض وبروح المودة وأخلاق الاعتراف.
ويرفض الباحث أن يتم النظر إلى هذه التعددية الدينية والمذهبية بطريقة سلبية، داعيا للارتكان لما اعتبره حقيقة لا مندوحة عنها قارة في نفوسنا شئنا أم أبينا، مفادها أن التباين المذهبي والعقدي في مجتمعنا ليس شيئا جالبا للعار والحظ العاثر، أو ما يجب أن نستره حتى لا يتجلى بعيوبه، وإنما هو أمر مساهم في التنوع والغنى الثقافي والديني، ويجب أن يكون منطلقا لإيجاد مساحات التعايش مع الآخر المختلف، بل ومساهما في تعميق روح الأخوة الإنسانية وإحياء سنة التعارف البشري.
وبخصوص الحوار بين الأديان والمذاهب كشرط للتعايش الديني، يوضح الدكتور طيرشي أن المبدأ الجوهري لأية محاولة وآلية نحو الحوار بين أرباب الأديان في العالم، لا بد أن تنطلق بادئ ذي بدء من إتيقا الاعتراف، وتبتعد كل البعد عن الحوار الأحادي الجانب، باعتبارها تضر أكثر مما تواشج علائق القربى بين الديانات والمذاهب في العالم، مضيفا أن هناك شروطا يجب مراعاتها، وهي تتمثل في الاختيار الدقيق للشخصيات المحاورة التي تدير عملية الحوار، والمبتعدة عن التبعية أو القيدية أو الإرضائية، تحت وطأة الرهاب الفكري والسيكولوجي، وضرورة إيجاد الأجواء الهادئة للتفكير المستقل بعيدا عن الانفعالات المنغِّصة للحوار الهادف، كما يتعين برأيه أيضا على الأطراف المتحاورة أن تكون على معرفة عميقة بالموضوع المتحاور حوله؛ حتى لا يتحول الحوار إلى تراشقات كلامية وتهكمات وازدراء للآراء والمواقف، وأخيرا التزام الأطراف المتحاورة بضوابط أخلاقيات الحوار، والتي على رأسها الصحة والمعقولية في الطرح من دون مغالاة أو تطرف لرأي على علته، والتركيز على صحة الطروحات التي ينطلق منها الطرف المحاور والملتزمة بالضوابط المنطقية والحجاجية.
والدكتور كمال طيرشي، باحث جزائري متحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باتنة (الجزائر) تخصص فلسفة غربية معاصرة عن أطروحة بعنوان: "منزلة الدين في فلسفة سورين كيرككورد"، وعلى درجة الليسانس في الفلسفة من جامعة قسنطينة، عن مذكرة تحمل عنوان: "موقف جورج طرابيشي من العلمانية"، كما حصل على رتبة التفوق الأولى في الماجستير بجامعة الجزائر 02 تخصص فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، عن رسالة بعنوان: "منزلة الدين في فلسفة كانطّ".
عمل طيرشي أستاذًا للفلسفة بالمرحلة الثانوية لمدة ثماني سنوات، وعمل أستاذاً مؤقتاً للفلسفة المسيحية بجامعة سطيف - الجزائر، له العديد من المقالات الفلسفية المنشورة في دوريات علمية محكمة وطنية و دولية. شارك في العديد من الكتب الجماعية كان آخرها كتاب عن "فلسفة الدين: المفاهيم والإشكالات والاتجاهات" صادر عن "منتدى المعارف" ببيروت، وكتاب "مناهج العلوم الاجتماعية" صادر عن الدار نفسها سنة 2018، وصدر له حديثا كتاب يحمل عنوان: "منزلة الدين عند كانط دراسة تحليلية تاريخية".
محمد قنفودي: يعد مفهوم التعايش الديني أحد المفاهيم المركزية الذي أصبح له وجود دال ضمن الخطاب التداولي العربي، سواء الفكري/الفلسفي أو السياسي/ الأيديولوجي، من وجهة نظرك، كيف يمكن وضع هذا المفهوم ضمن سياقه المرجعي؟
كمال طيرشي: حقيق بي الاعتراف بادئ ذي بدء، بأن التعايش الديني من المفاهيم المركزية التي صارت تطرح بقوة في فضاءاتنا العمومية، في وقت شهد فيه عالمنا الإسلامي توترات واضطرابات مقيتة تمخضت عن الاستعمال المغلوط لحقانية الدين وجوهره، ومكمن هذه المغالطة هو سوء استخدام هذا المدلول وطريقة مناقشته من طرف أرباب الإيمان والتدين في عالمنا الإسلامي، فعمدت بعض الطوائف الدينية إجهاضه من منطوق أن من يتخذ غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، فادعت حصرية الدين في الإسلام وكل من كان على غير ذلك، فهو مارق خارج عن الملة ولا سبيل للتعامل معه والتعايش تحت كنفه. والقطع جزما بلا مقبولية الآخر المغاير عني، المختلف أيديولوجيا ومذهبياً، نجمت عن ذلك نزاعات وحروب جلبت الويلات لعالمنا الإسلامي، وتعاظم معها العنف الديني، مع أن التعايش بين الأديان له مرجعياته عندنا في الإسلام، وهو ما دعا إليه النبي محمد وناضل لأجله. فدعا إلى عقد المعاهدات والمواثيق مع الكفار والمشركين، وحث على لزومية احترامها وتقديسها وعدم المساس بها، أو هتكها بحكم أنها تمثل اللبنة الأولى لإحقاق مبدأ التعايس الديني المشترك المتواشج، كما لا تجبر أيّا كان من البشر الارتكان إلى ملّة بعينها، والإذعان لها بقوة وقسر، بل دعا النبي محمد إلى ضرورة أن يحرم كل صاحب ملة ويحفظ. والمتأمل لسورة "الكافرون" سيجد ما يشفي غليله ويدحض كل رأي متطرف يقول خلاف ذلك؛ وهذا ما تجسده فحوى سورة "الكافرون": (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6))، كما نجد كذلك بعض الآيات القرآنية تقر بحرية العمل الديني في الفضاء العمومي، وأن كلا يعمل وفق ما يراه متوافقاً ونحلته ومبدأه الإيماني والديني، إذ يقول الله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)، وقوله أيضا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). كما كان النبي محمد سباقا لإقرار مبدأ التسامح والتعايش الديني، وكان من أولى تجليات ذلك إقراره لمبدأ التسامح مع غير المسلمين. فلما قدم الرسول محمد إلى المدينة مهاجراً عقد معاهدة بين المسلمين وطوائف المدينة تربط وشائج القربى والتعاون المشترك تحت غطاء واحد يضمن ويراعي حقوق الجميع من دون استثناء وفي شتى المناحي الحياتية: سياسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا. وبهذا كانت هذه المعاهدة هي أولى المواثيق الدستورية في الإسلام، و من أبرز ما جاء فيها أن من سار على خطانا ونهج مسلكنا من اليهود، فحقيق بنا أن ننصره والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. كما أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. كما أن المسلمين الأوائل في عصر الخلفاء الراشدين لم ترتهن معاملاتهم للنصارى النسطوريين واليهود على مجرد احترام وتقدير دينهم ومذاهبهم ونحلهم، بل شاركوهم العمل ومكنوهم من أمور حياتية كثيرة، وساهموا في ترقيتهم إلى مناصب رفيعة في سلم الدولة.
محمد قنفودي: كيف تفسر واقع التعايش الديني في العالم العربي، وهل الخطاب المتداول اليوم يسهم في عكس صورة إيجابية على تعايش المذاهب والديانات مع بعضها البعص، أم هو محاولة لتجاوز حالة من التشنج التديني والتعصب الطائفي؟
كمال طيرشي: نعيش حالياً تصدّعاً كبيراً فيما يتعلق بالتعايش الديني والسبب من وراء ذلك هو التباينات الكبيرة بين أرباب المذاهب الدينية التي تعيش في عالم إسلامي واحد، بالإضافة إلى العقلية الحصرية والإقصاء لكل من يخالفنا عقدياً أو سياسيا. فغياب الرؤية الشاملة اللاإقصائية والعقلية اللحموية التي لا تبعد أيّا كان من رحابة الدين الواحد، ومن رحابة كذلك الوطن الواحد، أدى إلى تشرذم هذه المرامي الوحدوية المنادية بالتعايش. ربما قد تتجلى بعض النماذج المحتشمة من التعايش الديني في بعض البلدان العربية، ولكنها غير قابلة للتعميم على كل العالم الإسلامي، ربما هناك حاجة اضطرت هؤلاء إلى الالتفاف في بوتقة واحدة تلافياً لأي صراعات تأتي على الأخضر واليابس. لكننا للأسف، لا نزال تحت رزح الاختلاف المودي إلى التنازع. كما أننا نجد أنفسنا دوماً بين فكّي كماشة، حينما نتحدث عن الدين والمذاهب الدينية وعن إمكانية التعايش الديني، والتي تكون في بعض الأحيان عزاءات في ظل ما نشهده اليوم من حنق وتنامي لخطابات التطرف والكراهية والعدائية، وههنا يمكن القول، إن الدين قد يكون عند البعض تهديدا، وبينما يمثل عند البعض الآخر إلهاما روحيا، أو مواساة وباعثاً على الطمأنينة. هذه الحالة التي يجب أن نعرف بها الدين في كل مرة نستحضره في خطاباتنا اليومية في الفضاء العام، وأنه طريق لإحلال روح السلام الدائم، هذا من جانب بالإضافة إلى أنه من واجبنا أن ننطلق دوما من تاريخية العلاقة بين الأديان قديماً، إذ بقي الدين لردح من الزمن مصدر قلق وهلع، حينما يتعلق الأمر بالفضاء العام الليبرالي، وخصوصاً لما كان الدين مشتبكا مع طرق السياسة التي زادت من غلواء هذا التنازع.
لكن ومهما حاولنا تغطية وتعتيم حضورية الدين في فضاءاتنا، إلا أننا لا نقتدر على إغفال قوة الاعتراف به في المجال العام، كما أنه إذا أردنا للتعايش بين الأديان أن تقوم له قيومية، علينا أن نحث الدولة على عدم التدخل فيه أو استعماله لصالحها، سواء انحيازاً لمذهب بعينه، أو طائفة دينية بعينها أو الرفض بالإطلاق. كما يجب أن نحفز عقيدة الاندماج في الخطاب الديني عموماً، وأن نوحد الفهوم والعقول نحو مخرج واحد يجمع كل الأديان ضد أي تهديد ومهما كان نوعه أو مصدره، حتى من رجال الدين أنفسهم، ونحفز خطاب النحن الجموعي بقوة وندحر خطاب الأنا الحصري المدعي الخلاص والأحقية. وبالتالي، نخلق بيئة اندماجية موحدة ومنسجمة كما يلزمنا أن نطرح فكرة التعايش بوصفها بديلا ومكملا وليس مهربا فقط، وبالتالي يحصل العقل الاندماجي العام المتوافق، ونثمن أخلاق التعايش التواشجية على منحاها الإنساني قبل العقائدي والمذهبي والنحلي، كما يجب أن نفرق بين عنف الدين وعنف الدولة، لأن أخلاق تعايش الأديان قد تكون العلة من ورائه انعدامها تكمن في جبروت وتعنت الدولة وتسلطيتها. كما أن العلماني مهما كانت دروبه ورؤاه، يجب عليه هو الآخر الإنصات وبإمعان لألحان وموسيقى الدين، والعكس صحيح. بالإضافة إلى ذلك، فحري بنا كذلك أن نعثر داخل موروثنا وعاداتنا وتقاليدنا المشتركة على تقاليد دينية متنوعة تخدم انسجامنا وتوافقنا.
إن فضاءنا العمومي بما فيه وما عليه ما هو في الحقيقة إلا جدلية عقلانية نقدية تخضع كل شيء بما في ذلك أهل المذاهب والنحل الدينية للتشاور حول الخير العام، و أن صاحب كل أيديولوجيا دينية لديه رؤية استشرافية قد تساعد صاحب ديانة أخرى، وتأخذ بيديه نحو برّ الأمان. إننا في حقانية الأمر، نركب سفينة واحدة ربانها هو الإنسان، وإذا عمد إلى خرقها أحد معتنقي مذهب ديني معين أو نحلة، فإن الإنسانية برمتها سوف تغرق ونخسر خسرانا مبينا.
محمد قنفودي: هل يمكن الحديث عن ممكنات للتعايش المذهبي والديني بين مختلف الطوائف في العالم العربي؟ ماهي هذه الممكنات؟ وكيف يمكن استثمارها؟
كمال طيرشي: ممكنات التعايش المذهبي والديني بين مختلف الطوائف في العالم العربي لا تزال بوادر انبلاجها تلوح في الأفق، ولا يمكن البتة لأي كان التنكر لها، صحيح أن هناك معوقات وما أكثرها، لكن رهانات التعايش وإمكاناتها تعيش حالات كمونية تنتظر الانبجاس في أي وقت، وحتى يتحقق هذا المسعى الإمكاني لا بد أولا، أن نحترم التعدد المذهبي احتراما حقيقيا وكاملاً ومن دون أية نبرة ازدرائية، لأننا في الحالة التي نحترم فيها التعددية المذهبية والمختلف عنا عقدياً ومذهبيا وأيديولوجيا نكون قد أنقذنا بوادر الحوار الجاد التي سيحصل بين كافة الطوائف الدينية بدون إقصاء أو استثناءات، ولأننا بحماية التعدد المذهبي نحمي القيم والأعراف والمبادئ التي سيتمخض عنها ثراء فلسفي وفكري وعلمي. وهذا الأمر لا تقوم له قيومية البتة إلا إذا انفتحت عقليات وذهنيات المذاهب الإسلامية بعضها على بعض وبروح المودة وأخلاق الاعتراف، وستزول معها كل العقبات والمعوقات والأسباب التي تقف حجر عثرة أمام تفعيل روح التواصل الحثيث والفعال بين شتى المذاهب الفقهية والمذهبية.
كما يلزمها وبروح أخوة وتوافق أن نسعى إلى تقريب وجهات النظر والتصورات، واسترجاع سنة التعارف التي قام عليها الوجود البشري، وأكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". وبالتآلف وتعميق روح الأخوة الإنسانية وإحياء سنة التعارف البشري، لأنه مفهوم يحوي في كوامنه دلالات تنضح بكل المعاني الثقافية والسوسيولوجية، بالإضافة إلى المعاني العقدية والأيديولوجية و الفلسفية. فنحن حالياً، لا نسعى إلى التقارب بين وجهات الرؤى المذهبية و الطائفية، لأنه مسعى ضعيف ودوني إذا تمت مقارنته بالتعارف كأخلاق وكلحمة اجتماعية تحمل أبعادا سيكولوجية ووجدانية وغير ذلك، وهي التي توطد المنحى العلائقي بين الناس وتواشج بينهم، فيتعرف الإنسان على أخيه الإنسان قبل أن يعرف مذهبه ونحلته وطائفته، وبماذا يؤمن وبماذا يكفر. وهي التي ستسهل الطريق للوصول إلى إيتيقا الاعتراف بالآخر المختلف عني، والذي سأكتشفه بمنأى عن الأحكام المسبقة التي قيلت أو تقال عنه، وبالتالي أنتشل ذاتي من عالم القناعات الجاهزة إلى عالم الحوار الدائم والعملي. كما يجب علينا أن نرتكن إلى حقيقة لا مندوحة عنها قارة في نفوسنا شئنا أم أبينا، مفادها أن التباين المذهبي والعقدي في مجتمعنا ليس شيئا جالبا للعار والحظ العاثر، أو مما يجب أن نستره حتى لا يتجلّى بعيوبه.
محمد قنفودي: إلى جانب الممكنات، تبرز إلى العلن صعوبات طائفية تسهم في التفرقة، هذه الصعوبات قد تتمظهر فكريا أو سياسيا أو عنفيا من خلال تجلي ظاهرة العنف الديني ضد الآخر المختلف من الناحية العقدية، كيف تقرأ هذه الصعوبات؟ وإلى أيّ حد قد تؤثر في بناء جسور التعايش الديني؟
كمال طيرشي: لنا أن نقر شئنا أم أبينا، أن الركيزة الأساسية لاستنهاض وبعث الطوائف هي الطائفية، وفي الأزمنة الراهنة ليست الطائفة هي التي تنتج الطائفية، بل العكس هو الصحيح. والمشكلة للأسف الشديد، تكمن في قضية تحول الطائفية إلى بنية سوسيولوجية فكرية مسيطرة على الأفراد، حيث يعتقد أن الطائفية تتحول إلى بنيات وعلاقات سوسيولوجية مفروضة بطريقة قسرية على الفرد، حتى وإن لم يكن هذا الفرد طائفي، بحكم أن الطائفية ما هي في الحقيقة إلا بنية اجتماعية ذات خصائص وميزات غير متعالقة بصفات الأفراد لزوماً، فمن المتحمل أن يكون الأفراد طائفيين أو غير طائفيين، بمعنى أنهم مجبولون على أفكار مسبقة ضد الأغيار، ولكنهم بالضرورة مطيفون أو يجري تطييفهم في المجتمع الطائفي أو في النظام الطائفي، حيث نجد: الأسماء، أماكن لسكنات البشر، وفرق كرة القدم وأمور أخرى كثيرة ترتبط بشدة بالانتماء الطائفي. ومن هنا تبدأ بوادر وبواعث العنف الديني أو الكره الديني بتعبير إيمانويل كانط. وقضية العنف الديني لا أعتقد بأنها ترتبط بالدين أو الصراع الطائفي والمذهبي أكثر مما هي تعبير تمظهري عن حالة خواء الروح بسبب تمكن عالم المادة، والذي أدّى إلى فقدان الإنسان لمشاعر الأمان والهدوء النفسي، وازداد معه الشعور بالاغتراب عن الذات، خصوصًا مع التقدّم التكنولوجي الكبير وصراع الإنسان مع الطبيعة وسعيه للاستحواذ عليها، مما أدّى إلى انهيار الذوات البشرية من الداخل، وتولّد من ذلك عنف نحو الذات، بعد أن تعرّت من التصورات المصطنعة التي كانت متلبّسة بها، وكأنها مقيّدة بها، فأصبح وجود الإنسان بمثابة دراما حقيقية يبحث من خلالها عن معنى جديد للحياة. وتمخّض عن ذلك شعورٌ بالقلق والمسؤولية وتوتر موقفه إزاء العالم والحرية، فعرض نفسه لليأس والمجازفة؛ فسعى باحثاً عن منفذ نجدة عله يجد متنفسه ويشفي غليله، فوجد فلبس دثار طائفة دينية معينة تبيح له استعمال القوة بغية استرداد ما فقده في حياته الضائعة، الصراحة أنا أجد بأن عائق العنف الديني ليس مشكلة في حد ذاته، بقدر ما أن المشكلة الجوهرية تكمن في الخواء والقمع، وعدم الطمأنينة الذي يعيشه الإنسان الفرد في الحياة المعاصرة. بالإضافة إلى الفقر وتدنّي مستوى المعيشة والتفكك الأسري والعنف داخل الأسرة، وغيرها من هموم ومشاكل الحياة اليومية.
محمد قنفودي: انعقدت في العقدين الأخيرين عدة مؤتمرات حول حوار الأديان، بحضور تمثيليات وازنة عن مختلف الديانات، خاصة منها الديانات السماوية (المسيحية، الإسلام، اليهودية..)، إلى أيّ حد ساهم هذا المشروع في إذكاء خطاب الكراهية ونبذ الآخر المختلف عقديا؟ وهل استطاع منذ انطلاقه أن يحقق انسجاما داخليا بين الأديان والمذاهب؟
كمال طيرشي: إن المبدأ الجوهري لأية محاولة وآلية نحو الحوار بين أرباب الأديان في العالم، لا بد أن تنطلق بادئ ذي بدء من إيتيقا الاعتراف، وتبتعد كل البعد عن الحوار الأحادي الجانب (عالم غربي مسيحي يدعو الشرق الإسلامي إلى عقد ندوات ومؤتمرات ضخمة لبحث سبل حوار الأديان أو العكس)، وهذه أراها تضر أكثر مما تواشج علائق القربى بين الديانات والمذاهب في العالم. بحكم أننا نتساءل ولماذا يتوجب علينا نحن المسلمين أولاً، أن نلهث وراء بحث سبل الحوار؟ ولماذا تكون وفق ما يضعه ويسطره الغرب؟ هذه المسألة يجب إعادة النظر فيها جيداً ليكون الحوار صادقاً ومثمراً ومتيناً، وينتج عنه إشراقة نحو التسامح والتعايش الديني بين الأمم، فلا يمكن البتة تصور حوار بين الأديان تجتمع فيه الذوات البشرية إلا من خلال الاعتراف المتبادل؛ فالطرفان يعترفان نفسيهما من جهة اعترافهما ببعضهما اعترافا متبادلا هذا من جانب، بالإضافة إلى اعتماد ضوابط توافقية وأخلاقية وسيكولوجية لآليات هذا الحوار، والتي أذكر منها: اختيار دقيق للشخصيات المحاورة التي تدير عملية الحوار بعيدا كل البعد عن التبعية أو القيدية أو الإرضائية، تحت وطأة الرهاب الفكري والسيكولوجي، أو أن يشعر الطرف المعارض بعظمة الطرف المجابه له في الحوار، ويتضاءل أمامه وينسحق، أو أن يصبح صدى لأفكار الآخر، وهي الحالات التي شهدناها في بعض مؤتمرات حوار الأديان، والتي يجب تلافيها مهما كان الحال إذا أردنا للحوار بين الأديان أن يكون ناجحاً، ويسير بنا نحو أفق تسامحي رحب، كما يجب أن نخلق الأجواء الهادئة للتفكير المستقل بعيدا عن الانفعالات المنغِّصة للحوار الهادف، وبمنأى تماما عن أية حماسة قد ثوّرتها الجماعة المحاورة تأييدا لفكرة أو رفضا لأخرى، فيستسلم المحاور لها استسلاما مذعنا من دون أن يشعر، فينصهر في الجو العام، ويصبح ظلا باهتًا للجماعة، وهي قضية يجب الالتفات إليها جيّداً وإعطاؤها حقها من النظر والتمحيص. كما يجب على الأطراف المتحاورة أن تكون على معرفة عميقة بالموضوع المتحاور حوله؛ حتى لا يتحوّل الحوار إلى تراشقات كلامية وتهكمات وازدراء للآراء والمواقف، يعمد من خلالها المتحاور إلى تغطية ضعفه وعجزه، وليس الدفاع عن فكرته بقوة وحزم. وإن هذا الشرط يلزم أن يكون المتحاور عارفا بالموضوع، وتكون لديه رؤية واضحة وهدوء في الفكر وقوة في الحجة ولطافة في الكلمة، كما يجب أن تلتزم الأطراف المتحاورة بضوابط أخلاقيات الحوار، والتي على رأسها الصحة والمعقولية في الطرح من دون مغالاة أو تطرف لرأي على علته والتركيز على صحة الطروحات التي ينطلق منها الطرف المحاور والملتزمة بالضوابط المنطقية والحجاجية هذا من جهة، بالإضافة إلى الالتزام بمعقولية الحجج والبراهين التي يدلي بها المحاور، وتجتمع عليها العقول البشرية جميعها، وتحظى بالمقبولية من طرف الجميع، وهنا بالضبط نقتدر على خلق فضاء للتفاهم تجمع عليه كل الفهوم، ودقة الأفعال والأقوال، والصدق والبرهنة. ويبقى ما قدمته هذه المؤتمرات جيّداً ومثمراً ساهم ولو بالنزر اليسير في إذكاء خطاب الكراهية ونبذ الآخر المختلف عقديا.
محمد قنفودي: حسب خبرتكم البحثية والمعرفية في مواضيع التسامح الديني والتعددية الدينية، هل تجدون أن الهويات الدينية لها دور في تحقيق الانتماء أو الإقصاء الاجتماعي للآخر المختلف من الناحية العقدية، أم هل يمكن اعتبارها من مداخل التعصب الديني والانتمائي؟
كمال طيرشي: إن المشكلة الحقيقية التي نصطدم بها في نقاش مسألة الهوية الدينية تكمن أساساً في بنية تكوين الهوية الدينية، والتي يتداخل فيها بشكل أساسي العرق والجنس، ويبقى للدين في توليفة هذه الهوية الدينية دور هامشي وجانبي للأسف؛ فالهويات الدينية كان الأجدر أن تكون لها اليد الطولى في توطيد وإحقاق روح الانتماء للحمة اجتماعية واحدة دون أي إقصاء لأي طرف مهما كان اختلافه معي عقدياً، ولكن إذا أقحمناها في سياقات متعلقة بالعرق أو الجنس تأخذ منحى نكوصي وتبعث على التعصب والتطرف والتشبث بعنجهية الانتماء، ونبذ العرقيات الأخرى من منطوق أنه لا يتجسد فيها التدين الحقاني، وأن هذا العرق أقدر على حمل لواء الدين والمنافحة عنه، إذا ما قورن بباقي العرقيات الأخرى، ويبدأ الشعور بالتهديد والخوف من تشرذم هذا العرق أو ذاك، خصوصاً الأقليات منهم. كما تلعب عوامل سيكولوجية في تأجيج هذا الشعور، وأنه لابد أن نتقوقع على أنفسنا ونحارب كل مخالف لنا، لأنه سيمثل تهديداً حقيقيا يسعى إلى زوالنا وتشتتنا. هذا من جانب، ومن جانب آخر، هناك الدور الذي يلعبه الجنس في تهييج هذه القضية، فمثلاً الإناث في بعض الشعوب يكون لديهن شغف بممارسة الطقوس والشعائر الدينية أكثر من الذكور فتجد الأنثى تستشعر الحضور الديني في حياتها أكثر من الذكر، كما تجدها تشعر بمتعة كبيرة، وهي تمارس شعائرها الدينية أكثر من الذكور. فمثلاً فريضة الحج عند المسلمين تجد عند بعض الشعوب العربية شغف المرأة بالذهاب إلى العمرة أو الحج كبيرا، وتسعى جاهدة رغم الإمكانيات القليلة. العكس صحيح، فقد تجد في بعض البلدان شغف الرجل بالشعائر الدينية والاجتهاد للقيام بها أكثر من الإناث، بل ومنهم من ينظرون إلى الإناث على أنهن ناقصات دين لظروف وأسباب متعلقة بتركيبة الأنثى البيولوجية وإحجامها عن ممارسة الشعائر الدينية أثناء الدورة الشهرية أو الحمل والنفاس. فتجدها تفطر أيّاما من شهر رمضان، ولا تصلّي الفريضة، حتى تنقطع عنها دم الحيض. كما أن الإناث في المناطق ذات الأغلبية المسيحية، واللائي يقطن في مناطق ريفية، فهن أكثر اهتماما بالذهاب إلى الكنيسة أكثر من الذكور. وهناك مسألة في غاية الأهمية، تتعلق باضطراب الهوية الدينية عند المراهقين، والتي ترجع بالأساس إلى التحول الذي يطرأ عليهم جنسياً وجسدياً وعقلياً ونفسياً، ما يؤثر ويؤدي إلى اضطراب هويتهم الدينية، وهو ما يؤدي إلى نزوعهم، إما إلى الشاذ من الآراء الدينية والفتاوى المثيرة التي تدعو إلى التطرف، أو إلى الاستهتار بالشعائر الدينية والتشكيك في بعض القضايا الدينية. وللصراحة، فأنا كنت شاهداً على الكثير من المراهقين الذي نزعوا إلى التطرف لأسباب نفسية اجتماعية خالصة؛ فحالة الخواء النفسي وغياب الرقابة الأبوية الصارمة، بالإضافة إلى تفشي بعض الظواهر الاجتماعية السلبية، كتناول المخدرات والحبوب المهلوسة؛ فالمراهق الذي تعرض إلى هذه الممنوعات بمجرد توبته منها يتخذ سبيلاً متطرفاً في تدينه، كحالة من حالات التعويض عن ذلك الشغف المرضي بالمخدرات، فيتعاطى الدين كسلوك متشدد، وينزع إلى العنف، كما تثيره بعض الخطابات الدينية الحماسية التي تدعو إلى الجهاد وقتال أعداء الله، والتي يروج لها بعض مشايخ الدين الذين لم يفهموا الدين على حقانيته. وكذلك الذين كانت لهم تجربة قاسية مع التربية الدينية القاسية في طفولتهم، فقد كانوا أكثر نبذا للالتزام الديني عن غيرهم؛ فمثلا تجد الأب يعنف أبناءه في مرحلة الطفولة، ويفرض عليهم الدين في صورته الموحشة المملوءة بالكراهية، ويغذي فيهم هذه الروح، فتتكون لدى الطفل صورة متخيلة عن الدين القاتم الدامس. كما نجد كذلك، اضطرابا في الهوية الدينية عند بعض من تعرضوا إلى التعنيف من لدن أزواجهم، فتجدهم ينبذون ممارسة الشعائر الدينية والالتزام الديني أو يتلقفونه في صورته المشوهة المقيتة.
إن حديثنا عن الفرد الذي ينتمي إلى دين الإسلام لا يمكن فهمه على أنه يجسد هوية، لا بد أن تمحق باقي الهويات الأخرى التي لا تنتمي إلى هذا الدين، فلربما تجد شخصا ينتمي إلى دين الإسلام، وينزع نزوعاً خالصاً إلى اعتماد خطاب التطرف والتكفير والدعوة إلى قتل المخالف له في الديانة والمذهب الديني، وقد تجد في المقابل من ذلك، فرداً مسلماً يمقت كل السبل المؤدية إلى التطرف والتكفير والعنف، ويتغنّى بقيم التسامح والتعايش الرحب مع باقي الأديان والمذاهب الأخرى، فتجد في المسلم انفتاحه الكبير على أرباب الديانات الأخرى واحترامه للمخالف له في المعتقد والدين، بل تجده يقيم أواصر مودة ومحبة مع الآخر المغاير له دون أن يحمل في قلبه أية ضغينة أو كراهية له. وهذا ما جسده الاحترام المتبادل بين العرب واليهود أو العرب والمسيحيين؛ فالفرد المسلم الذي يعظم شعائره الدينية قد تجده يجمع بين ممارسة هذه الشعائر وتعظيمها مع إيمانه الراسخ بقيم إنسانية راسخة متشبثة بقيم التعاون والسماحة وتقبل هويات أخرى وقيم إنسانية لأناس مختلفين عنه في المعتقد والجنس والعرق وغيرها. فتجده مثلاً يوافق باقي الهويات الأخرى في نبذ كل أشكال التطرف والعنف تجاه المرأة، وعندما نجد بعض الجماعات الداعشية المنزع تتغنى بانتمائها إلى الإسلام، وأنها تطبق شريعة الله بحذافيرها، وأنها الوصية على هذا الدين من غيرها من المذاهب الدينية الإسلامية الأخرى، تفشل فشلاً ذريعاً في المنافحة عن الهوية الإسلامية. وهنا تجدها تقع في تناقض ومفارقة صارخة في كونها تحاول جاهدة التعبير عن الهوية الإسلامية الأصيلة، وفي الآن عينه تكرس لعقيدة التطرف ونبذ الآخر وكراهيته والدعوة إلى قتاله والانتقام منه. لهذا، لا يمكن البتة المنافحة عن الهوية الدينية الإسلامية الأصيلة بعيداً عن تأييد مفهوم الإيمان الحرّ والارتهان بمنطق العقل. إننا في عالم يتسع للجميع، فلسنا وحدنا فيه، وكل محاولة للاعتقاد بحصرية الدين والتعصب للهوية المفردة التي لا تقبل باقي الهويات الأخرى، فيه فجاجة كبيرة تنبئ بالتلاشي والاضمحلال، ويوسع الهوة بيننا وبين الآخر المختلف عنّا، وتغذي روح التعصب والتطرف الديني وتنامي ظاهرة الإرهاب والعنف. إننا لسنا أفراداً في هذا العالم، وكل ممارسة دينية لا بد أن تتم وفق رؤية جموعية، فهويتنا الذاتية من هوية العالمين. والرسول محمد صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] وقوله أيضا: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] فهو لم يرسل لجماعة معينة أو فرد بعينه، ولا بد لنا أن نتشارك جميعنا في بناء الهوية الجامعة لكل الاختلافات مهما تباينت وتغايرت، ولا بدّ لنا أن نعزز روح الحوار مع الآخر.