التجديد الدينيّ؛ أفقًا حتميًّا للفكر الإسلاميّ: حوار مع معاذ بني عامر وإبراهيم غرايبة (الجزء الثاني)
فئة : حوارات
أنس الطريقي: توقّفنا، في حديثنا السّابق، عند المطلوب للعالم العربيّ، لتجاوز مرحلة الفوات الحضاري، وعند فكرتك الأساسيّة، المتمثّلة في؛ ضرورة تحقيق توازن جديد، نحو مزيد من العدالة في توزيع الثروة، وتوزيع السلطة. وهو ما يعني، في النهاية؛ تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله العلمانيّة في التاريخ العربيّ، وكما يصفها منظّروها في الفترة الرّاهنة، بوصفها؛ دعوة هدفها إحلال التعايش بين النّاس. استنادًا إلى هذا التحليل: كيف يمكن للدين في العالم العربيّ أن يساهم في تحقيق هذا المطلب؟
غرايبة: يجب تحرير الدين من الاحتكار، وتحرير الاحتكار من القلّة أو الفئة.
يجب تحرير الدين من الصراع الاجتماعيّ، بكلّ عوامله الخفيّة، وتحرير الصراع الاجتماعيّ من الدّين، ويجب ألّا يكون الدين جزءًا من الصراع الضروريّ في كلّ مجتمع.
الوعي الشعبيّ، السياسيّ والدينيّ، الذي يحصل في العقود الأخيرة، صار وعيًا يريد أن يتحكّم فيه الإسلام السياسيّ، هذا حادث وليس قديمًا؛ فلم يكن جيليّ يعرف هذا الصراع، بين الإسلام السياسيّ والإسلام الشعبيّ.
الإسلام الشعبيّ لم يكن معنيًّا بالصراع السياسيّ، ما كان يعنيه فحسب، هو: تلبية حاجاته الرّوحيّة، وكان أهل القرى والمدن، يتديّنون بطريقتهم التلقائيّة، وحدهم دون حاجة إلى الدولة، ولم يكونوا محتاجين إلى وزارة أوقاف، أو وزارة شؤون دينيّة، كي يعرفوا طريقة الإيمان، كانوا يحتاجون إلى وئامهم الذاتي، وانسجامهم الرّوحيّ، وجاء الإسلام السياسيّ؛ فأربك فيهم هذا الأمر، والدولة، بدورها، أربكت السيرورة الطبيعيّة لهذا التديّن التلقائيّ.
أنس الطريقي: ما هي أهداف هذا الإسلام السياسيّ، من هذا التدخّل في حياة النّاس الدينيّة؛ هل هو ردّ على استحواذ الدولة على كلّ قطاعات حياة الإنسان، وتسييسها لكلّ شيء، أم هو إنقاذ للدين من احتكار الدولة، أم هو يسعى إلى مصالحة النّاس مع دينهم باعتبار أنّهم فرّطوا؟
غرايبة: هو، تعريفًا، التطبيق السياسيّ للدين، أو المعالجة السياسيّة للدين، وهو ينجز تسييسًا إجباريًّا، لكلّ شيء في الحياة؛ فهل الإنسان سياسيّ أو لا يكون؟ هذا لم يكن موجودًا في التاريخ.
إنشاء النظام السياسيّ الإسلاميّ، والدولة الإسلاميّة، والاقتصاد الإسلاميّ، والإعلام الإسلاميّ، والسياحة الإسلاميّة، ولباس السباحة الإسلاميّ، هذه كلّها شعارات جديدة وغريبة، مفروضة فرضًا، وليس من تطوّر اجتماعيّ طبيعيّ.
أنس الطريقي: أليس هدف هذه الشعارات، التي كنت تتحدّث عنها، تكوين كتلة تاريخيّة قادرة على المنافسة من أجل تحقيق التوازن الذي كنت تصف سابقًا؟ ما الخطر الكامن في هذه الشعارات، وفي الإسلام السياسي، إذا كان هدفه تكوين كتلة اجتماعيّة كبيرة قادرة على مواجهة قوى الاحتكار وعلى رأسها الدولة؟
غرايبة: بداية؛ يمكن وصف التيّار الدينيّ بأنه: محاولة لاسترداد حقّ التديّن من التديّن العام القانوني أو الشرعيّ؛ فبعد إلغاء الخلافة، ظهرت موجة ليبراليّة واسعة في العالم العربيّ، وصار لزامًا على المتديّنين، السعي إلى التأثير في اتّجاه السياسة الدولتيّة، لاسترداد الحقّ في توجيه مختلف للإصلاح الدينيّ، وكان هذا طبيعيًّا ومعقولًا، ثمّ كانت لحظة تاريخيّة عالميّة، وأخرى عربيّة، وافقت الهزيمة؛ أي هزيمة 1967م؛ التي كانت صدمة هائلة، وجرحًا للنرجسيّة، وكانت معالجة الصّدمة، تجري بأحد الخيارين؛ فإمّا النكوص إلى الماضي للاحتماء بالتاريخ وبالأمجاد، وإمّا توظيف اللّحظة للتجاوز.
اليابانيّون، مثلًا، اختاروا الاتّجاه الثاني؛ فحوّلوا الهزيمة إلى منطلق للتجاوز، والتحوّل، والتطوّر، ولكنّه تحوّل ذكيّ لم يعزل المجتمع عن أصوله؛ بل يمكن القول: إنّه وظّف تلك الأصول في اتّجاه هدف اللّحظة، وهو التجاوز، ولكنّ هذه اللّحظة، عندنا، وفّرت فرصة مميّزة للإسلام السياسيّ وللسلفيّة، كي يشدّدا على ضرورة الارتداد إلى الأمجاد القديمة، بإحياء كلّ المنظومة الدينيّة التي كانت وراء إنتاجها، وقد اختزلوا بهذه الصورة؛ التاريخ في الدين، واستفادوا فترة الثمانينات من لحظة عالميّة عامّة، كان فيها نوع من الارتداد إلى الدين، سبب ذلك الارتداد عالميًّا؛ كان الانتقال الذي وقع من مجتمع الصناعة، إلى مجتمع المعرفة، وإلى مجتمع الشبكة العنكبوتيّة، وهذا الانتقال إلى ما بعد الصناعة، كان مليئًا بالخوف؛ الذي سبّب العودة إلى الدين.
في كلّ لحظات الخوف القصوى، تنشأ ردّة نحو الدين، ويصاحب ذلك ضمور للفلسفة، بما هي: سؤال عن كيفيّة تحسين البقاء؛ فالسؤال الأهمّ في تلك اللّحظات القصوى، هو: كيف نضمن البقاء، لا كيف نحسّنه، والدين: هو هذه المنظومة التي تقدّم الأمان المضمون. والإسلام السياسيّ، جاء محمّلًا بوعود هذا الأمان المضمون.
أنس الطريقي: أنت من نقّاد الإسلام السياسيّ في مختلف كتاباتك، ما الذي تنقده فيه بالضّبط من هذا الجانب؟
غرايبة: أنا أنقد فيه: أنّه يستخدم الدين من أجل الوعود الكبرى؛ أي الوعود بالنماء الاقتصادي، والاجتماعيّ، والسياسيّ، وأنا أعتقد أنّ استخدام الدين بهذا الشكل؛ أي من أجل الوعود الأرضيّة، وهو كاستخدام الحاسوب آلة للطهي؛ أي استخدام الشيء لغير الأهداف التي وجد من أجلها.
أنس الطريقي: لكنّ تجربة التقدّم الغربيّة، تبيّن أنّ: الدين يمكن أن يساهم في تحقيق الوعود الأرضيّة؛ فالعلاقة بين نشأة الرّأسمالية، والمجتمع الصناعي في الغرب، والإصلاح الدينيّ في القرن السادس عشر، تحدّث عنها كثيرون؛ بداية بألكسي دو توكفيل، وصولًا إلى ماكس فيبر.
غرايبة: الإصلاح الدينيّ الذي وقع في أوروبّا، هو في الواقع: حصيلة وعي إصلاحيّ متشكّل، تمظهر دينيًّا ضمن تمظهراته المختلفة، وقد بدأ هذا الوعي مع اكتشاف آلة الطباعة، وصناعة النّسيج، والوعي الدينيّ الجديد الذي حصل، كان تابعًا للتحوّل الذي أحدثه هذان الاكتشافان، لمّا أنهت الطباعة الحاجة إلى رجال الدين، وإلى الكنيسة لقراءة الإنجيل، وحوّلتها إلى مقدرة فرديّة سانحة لكلّ النّاس بصفة فرديّة، وهذا أنهى دور احتكار رجال الدين للثروة أيضًا، وحوّل التفكير نحو تعميمها.
والإصلاح الدينيّ، لم يقدّم للنّاس وعودًا بالتقدّم الماديّ، لم يقل لوثر للنّاس: إنّكم إذا صرتم فردانيّين، ستتقدّم الزراعة، وتنتصرون على أعدائكم. الإصلاح الدينيّ كان لذاته؛ أي للدين، ولم يكن للزراعة. مقابل هذا؛ ما قاله الإسلام السياسيّ، بشيء من التبسيط: إنّه إذا صار الفرد مصلّيًا مثلًا؛ فسينجح في حياته الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، سيكون الخلاص باقتصاد إسلاميّ، وتجارة إسلاميّة، ودولة إسلاميّة، تحيي نموذج الخلافة بطريقة معاصرة.
بني عامر: الإصلاح الدينيّ يقوم على فكرة الخلاصات الفرديّة، بينما الإسلام السياسيّ؛ يقوم على فكرة الخلاص الجماعيّ، وهو حلم يربط العالم الأرضيّ بالعالم الفوقيّ، ويعتبر الخلاص عبورًا من مرحلة دنيويّة إلى مرحلة أخرويّة.
الإصلاح الدينيّ قدّم فكرة خلاصات فرديّة، ولم يقدّم وعودًا أرضيّة؛ بل اعتبر الخلاصات الفرديّة حلًّا بديلًا عن الخلاص الجماعي؛ الذي جرّب في عهد هيمنة الكنيسة الكاثوليكيّة، ولم يف بوعوده.
غرايبة: لوك الإنجليزيّ، كتب بوعي عبقريّ مبكّر، عن معنى؛ أنّك تستطيع بمفردك، أن تقرأ الإنجيل، وبعد مائتي عام، كانت التحوّلات أقلّ من أبعاد تفكير لوك بكثير.
بني عامر: الواقع؛ أنّه، كثيرًا، ما يأتي شخص سابق لزمانه، يستبصر الأزمنة اللاّحقة، ولكنّ القوانين الحضاريّة، تعمل ببطء شديد، التاريخ كالآلة المسنّنة التي تتحرّك ببطء شديد، وقد يأتي فيلسوف أو مفكّر، تحتاج أطروحاته إلى سنين كثيرة كي تفكّ شفرتها، ولوك وسبينوزا هما من هذا الصنف.
غرايبة: ما يشبه الإصلاح الدينيّ في الغرب، هو: ما حاوله عندنا الأفغاني، وعبده، والتونسي، والطهطاوي، واليوم ذهب كلّ هذا؛ إذ صار عندنا نظريّة في الإعجاز العلمي في القرآن، وهو يقدّم الحساب والآخرة بطريقة حسابيّة؛ فكلّ واحد منّا، بهذه الطريقة، يمكن أن يحسب مصيره، هذا تبسيط منّي، ولكنّه تعبير عن قلقي من هذا التسطيح للدين.
أنس الطريقي: نظريّة الإعجاز العلمي في القرآن، يؤمن بها حتّى من نسمّيهم مثقّفين؛ فمنهم الأطبّاء والمهندسون، وغيرهم. لم تنتشر هذه الظاهرة ويحبّها النّاس؟
غرايبة: نعم، وفيها رسائل جامعيّة أيضًا، وأعتقد أنّ جاذبيّتها مأتاها؛ أنّها تقدّم وعودًا كبرى.
بني عامر: فيها، أيضًا، دافع اقتصادي، صارت نوعًا من "البزنس"، وهذه الظواهر ستبقى موجودة، بسبب الحالة الدينيّة التي نحن فيها، وهي حالة ستتمظهر في تمظهرات شبيهة، وتستمرّ في جذب النّاس؛ لأنّها تمنح النّاس بعض الإحساس بالأمان الذي يفتقدونه.
غرايبة: الأنظمة السياسيّة الفاشلة تكرّس هذه الظواهر، وهي تسخّر لها، أحيانًا، الجامعات ومراكز البحث.
موضوع الحاكميّة، الآن، فيه رسائل دكتوراه، وكثير من المعاني التي تجاوزها الزمن؛ فهي خرافات، ومع هذا، تنجز حولها رسائل دكتوراه، لماذا تستمر في الوجود؟ السبب: أنّ لها أساسات صلبة في وعي النّاس، وما من خرافة، إلّا ولها حجج صحيحة عند النّاس.
بني عامر: إنّ الإنسان العربيّ المتعلّق بالدين، لم يصل إلى مرحلة الخروج من التديّن إلى الدين، وهي المرحلة التي يعيشها العالم، هناك مسلّمات عندنا في الدين، لم تمسّ بعد، بسبب شروط التديّن الثابتة، ولم نتمكّن بعد من كسر طوق التديّن، الممأسس إلى مواجهة مباشرة وحرّة للدين، هذه المرحلة تفصلنا عنها مئات من السنين، ولا يمكن اختصارها مع التكنولوجيا الحديثة؛ لأنّ الانتقال من التديّن إلى الدين، والمرحلة التي تليها؛ هي الانتقال من الدين إلى العالم، نحن وجودنا الأنطولوجيّ في هذا العالم مربوط بالدّين، نحن حضارة النصّ الدّينيّ، ولسنا حضارة العالم، ونحن لا نفكّر ببنية العالم، لذلك؛ لا نستطيع أن نفكّر في صناعة الكمبيوتر، أو أن ننتج عقارًا، ما نستطيع أن نقوله: هو أنّ العقار مربوط بالدّين، ومازلنا في مرحلة بعيدة عن الإبداع المادّي، إلّا من قبل بعض الاستثناءات، والتحوّل الذي نعيشه نحوها، بفعل حركة العالم حولنا، يفقد المتديّنين فكرة الأمان الكبير التي يعيشونها، نحن في هذه النّقطة التاريخيّة، وإذا خرجنا من النصّ إلى العالم، سنفقد أماننا؛ لهذا ترى أنّنا نتمسّك بوضعنا في التديّن المتمأسس؛ فنحتفظ بالبخاري مقابل الذهاب إلى اللّه، وينتصر البخاري عندنا على النصّ القرآنيّ، وانتقالنا من البخاري إلى اللّه، سيجري بأثمان باهظة على جميع الأصعدة، ولهذا؛ لن يتغيّر الأمر بسهولة، نحتاج إلى تراكمات تفتّت هذه البنية المتصلّبة، خلال ألف عام أو أكثر.
أنس الطريقي: ما هي مداخل هذا التحوّل المطلوب، ألا يمكن أن نتحكّم فيه وننتجه بدل ترقّب أن يحدث تلقائيّا نتيجة تراكم طبيعيّ؟ هل مدخله سياسيّ أم قانونيّ أم اجتماعيّ أم ثقافيّ؟ في تونس، مثلًا، ارتبط هذا التحوّل بزعيم وطنيّ؛ هو الحبيب بورقيبة، فعل ذلك بالقانون وبالثقافة عن طريق مجلّة الأحوال الشخصيّة، وعن طريق التعليم. والآن، يمثّل ذلك الفعل الذي لقي معاندة القوى المحافظة وقتها، مكسبًا تتعلّق به نسبة كبيرة من المجتمع التونسي، لكن هناك من ناحية أخرى؛ من يقول: إنّ ما فعله وقتها، من نتائجه؛ ما نعيشه الآن من تطرّف دينيّ عند بعض الشباب.
بني عامر: المداخل متعدّدة، والتعليم أحد تلك المداخل، لكنّ الفكرة الأكثر عقلانيّة، وقد لا تكون واقعيّة، هي فكرة الصيرورة؛ فالإنسان احتاج، كي يصل إلى صناعة الكمبيوتر والتلفاز، إلى تراكمات في المعرفة، وفي الحاجات، وقد يأتي نظام سياسيّ جيّد، ولكنّه لا يؤدّي نتائجه.
يجب أن يستمرّ حلمنا بهذا التحوّل، الحلم؛ هو بمثابة الحارس الجيّد؛ فهو يحرسك حتّى لا تفنى سيكولوجيًّا، ويحافظ على مقتنياتك النّفسيّة، ولكن إذا شعر أنّ هناك خطرًا على حالتك النّفسيّة، يتحوّل الحلم إلى كابوس، في عصر الأنوار في أوروبّا، بدأ الإصلاح دينيًّا، ولكن، في الوقت نفسه، كان هناك موسيقيّ يشتغل، وهناك روائيّ، وهناك خيالات مختلفة تتطلّع، ولا يعرف أحدهم عن الآخر شيئًا، والتغيّر يقع عندما تتجمّع كلّ المصبّات في اتّجاه واحد، فتغيّر البنية كاملة.
لا يمكن أن نقفز قفزة في الفراغ، يجب أن ننتقل تدريجيًّا، ومثلما عانت أجيال كثيرة، لا بدّ أن تعاني هذه الأجيال كي تصل إلى مرحلة الخلاصات، متى حدث التحوّل بمنطق الطفرة، لا بدّ أن يعاني الجيل اللاّحق للجيل الذي عاش الطفرة؛ لأنّه لم يحدث تدرّج وتحوّل، مترقّ في البنية؛ لأنّك، عمليًّا، موجود في التاريخ.
غرايبة: إرادة الإصلاح إذا وافقتها قوّة سياسيّة؛ أي إذا كان السياسيّ مصلحًا، تتقاطع مصالحه مع الإصلاح، قد تتحوّل إلى واقع، لكنّ الأداة المضمونة هي العمل، والوعي؛ أي وعي الإصلاحيّين بضرورة أن ينقلوا الفكرة التي يريدونها إلى خطاب، إن الإصلاح كلام جميل؛ فكيف يمكن تحويله إلى خطاب؟
بني عامر: السرعة لا يمكن أن تأتي بنتيجة؛ فالحضارة كائن بطيء حركاته متمهّلة، والسرعة خطرة عليه، والتحوّل يجب أن يكون محسوبًا من قبل الإصلاحيّين، عليهم ألّا يتقدّموا على شعوبهم كثيرًا، ويجب أن نتقدّم بمحاذاة التاريخ، ونجد في تصنيف بعض الفلاسفة أن روح الشعب تأتي مباشرة بعد الرّوح المطلق؛ لأنّها الأقدر والأذكى في إدارة الشأن العامّ في وقت الأزمات.
أقترح عليك مثالًا من الأردن، فشل فيه الإصلاحيّ: نحن، تقريبًا، في وضع ثقافي رسميّ شبه ميّت، وهناك فئة من الشباب تحمّست لتغيير الوضع، لإيجاد منفذ داخل هذا الجدار؛ فأنشؤوا أندية للقراءة، وانتشرت هذه الأندية، وساهمت في زرع نوع من ثقافة الحوار، والتعايش مع الآخر المختلف، ذهنيًّا وزمنيًّا؛ لأنّها ارتبطت بمجموعة من الوسائل الاقتصاديّة. هذه تغيّرات وقعت ببطء، وهي تبيّن؛ أنّه إذا فشل الإصلاحيّ في إنزال خطابه التنويريّ إلى الواقع، اشتغل أناس آخرون بأدواتهم، يعني هذا؛ أنّ فئات كثيرة تشتغل على الإصلاح، أو تمثّل روافد غير مباشرة له، تبقى مجهولة؛ لأنّها غير مرصودة، ولكنّها موجودة. وهناك مثال آخر وقع في إربد؛ حيث كوّنت جمعيّة من النساء المحجّبات ناديًا للسينما، وبفعل السينما، تعرّضت هذه الجمعيّة إلى تغيّرات في معنى التزامها الدينيّ؛ الذي لم تعد تراه الكثيرات من نساء الجمعيّة في الالتزام بالحجاب الشرعي؛ فنزعت بعضهنّ النقاب، وعرضت في هذا النّادي أشرطة سينمائيّة، أيضًا، ما كانت لتعرض في مثل ذلك النّادي، وهو شاهد ثان على هذا التطوّر الجانبي غير المرصود.
هناك بؤر كثيرة تشتغل في الوقت نفسه، لا يعرف عنها شيء، ولكنّها فعّالة ومنتجة.
الآن في الأردن، عُيِّن وزير للثقافة، لديه قدرة على الشغل، والعمل، والإصلاح، واتّخاذ قرارات جريئة، ولكنّه يعمل داخل إطار حاضن، وإذا لم يكن هذا الإطار مستعدًّا بما يكفي؛ فبمجرّد انتهاء حقبة وزاريّة، سيأتي وزير آخر ينسف كلّ شيء؛ لأنّ البنية غير مساعدة، قد يشتغل الهيكل الذي وضعه وزير مصلح، ضدّ الهدف الذي وضع من أجله في فترة وزاريّة لاحقة.
أنس الطريقي: لو انتقلنا إلى الحديث عن الكتاب الذي تستعدّون لإصداره، ما موضوعه؟
غرايبة: كتابي القادم عنوانه: "الخطاب الإسلاميّ المعاصر؛ من الدولتيّة إلى المعرفيّة"، والفكرة التي أتناولها، هي: أنّ الخطاب الإسلاميّ المعاصر، الذي يعدّ، عندي، التدوين الثالث للإسلام، على اعتبار أنّ الأوّل: وقع فترة الأمويّين، والثاني: في فترة الامبراطوريّة الفارسيّة، التي صارت عبّاسيّة، وهذا الخطاب الإسلاميّ المعاصر، الذي بدأ بعد محمّد عبده، صار حديثًا عن دولة إسلاميّة وقوننة للشريعة، بتحويلها إلى قانون؛ أي حديثًا في كيفيّة الاستيعاب المعاصر للدين، الذي تتشكّل حوله الدولة الحديثة، وقد بدأ بإصلاح الخلافة، ثمّ مرّ إلى أسلمة الدولة، ثمّ تطوّر فترة أزمة الدولة القوميّة، إلى الحديث عن بديل إسلاميّ، ليصل إلى الأزمة الرّاهنة، وسبب هذه الأزمة: أنّ الدولة، نفسها، تمرّ بأزمة، وهي تتطوّر بنفس تطوّر الإسلام السياسيّ، وتنتحر معه.
أقصد بالدولتيّة، في عنوان كتابي: الخطاب الإسلاميّ المتشكّل حول الدولة الحديثة، من قبل الإسلام السياسيّ، في ما يتصوّره أسلمة للدولة، وقد أحصيت اثني عشرة خاصيّة لهذه الحالة، تتشكّل في؛ عناوين، أو شعارات تطبيق الشريعة، أو الأسلمة، أو البديل الإسلاميّ. أمّا ما أقصده بالمعرفيّة؛ فهي وضعيّة تاريخيّة للدولة في مرحلة المعرفة الشبكيّة.
أنس الطريقي: هل الكتاب وصفيّ لتحوّل أم هو دعوة لهذا التحوّل؟
غرايبة: هو تصوّر، وليس دعوة، وهو استشراف وتوقّع لمستقبل، وقد أدرك الإرهاب هذه التحوّلات، أكثر من الإصلاحيّين والأنظمة السياسيّة؛ فنقل إرهابه إلى مرحلة عالميّة، وتحوّلت الحالة الإسلاميّة: من صراع مع الدّاخل؛ أي مع الدولة، إلى صراع مع كلّ العالم، وقد نجح في التأقلم مع العولمة، وهو يستخدم الشبكة العنكبوتيّة بطريقة أفضل من أيّ كان؛ في التعبئة، والتجنيد، والتدريب.
أنس الطريقي: ما توقّعاتكم حول مستقبل هذه الحالة الإسلاميّة، هل سيستمرّ وجودها، وتكون في سياق هذا التوجّه النكوصي للفكر الإسلامي، الذي وصفه عبد الإله بلقزيز، خصوصًا، وأنّنا توقّعنا زوال هذه الحالة في السبعينات، ثم العشريّة الأخيرة من القرن العشرين، ولكنّها، في كلّ مرّة، كانت تنجح في العودة، وها هي تعود لتكذّب تكهّنات أبرز المختصّين في دراستها كأوليفيي روا، أم أنها ستخمد وتنطفئ؛ لأنّ التاريخ يلفظ عادة الأجسام الغريبة؟
غرايبة: أنا أعتقد أنّها حالة ستزول حتمًا؛ فهناك سيرورة طبيعيّة للحياة، ستدخل فيها الحالة الإسلاميّة، وسيدخل فيها الإسلام السياسيّ، نحن بالتأكيد في مرحلة ما بعد الإسلام السياسيّ.
بني عامر: لا تنس أنّ التديّن جزء من اللّاوعي، واللّاوعي يتقدّم دائمًا على الوعي؛ فالوعي قوّة ضامرة، تتعرّض، دائمًا، إلى التآكل من الداخل، ومن الخارج بفعل السلطة، مثلاً، وهناك مثال يضرب في علم النّفس، يمكن أن يبيّن هذه العلاقة؛ بين الوعي واللاوعي، ومؤدّاه: أنّنا نخاف من العقرب، ولا نخاف من السيّارة، على الرغم من أنّ السيّارة قد تقتل عددًا أكبر من الناس الذين قد يقتلهم العقرب، والسبب في ذلك: أنّ اللاوعي استبطن، عبر خبرة مئات السنين، أنّ العقرب خطرة وقاتلة. نفكّر في هذا، رغم أنّ قتل العقرب فرديّ، بينما قتل السيّارة قد يكون جماعيًّا.
ما يحدث مع الدين: هو نفس الحالة تقريبًا؛ فلدينا لا وعي كبير، يرعى الدين ويشكّله، لذلك؛ فلا يمكن التفكير بمدّة زمنيّة، تناهز العشرين عامًا، لحدوث التحوّل في علاقتنا بالدين؛ فالبنية السيكولوجيّة لروح الشعب دينيّة، ولكنّها تتقدّم باستمرار باتّجاه الإصلاح، ونحن في اتّجاه إيجابيّ بالضرورة.
وما يحدث الآن من قبل داعش، لا يجب النظر إليه سلبيًّا، ولا يجب النظر إليه من زاوية ما يحدث على أرض الواقع من فظائع، فعمليًّا تعدّ نتائجه إيجابيّة على العقل الإسلاميّ، على شناعته، وذلك؛ لأنّه يضع المسلم أمام إحراجات كثيرة؛ فهو يقدّم له صورة تطبيقيّة للنّموذج الذي يؤمن به، ويدعوه إلى اختبار قدرته على العيش به، ويطرح عليه أسئلة حرجة، ليس فقط للتديّن؛ وإنّما للحياة ككلّ أيضًا. يتأكّد هذا عندنا، عندما نعلم أنّ داعش تستند إلى النصّ، لذلك؛ فوجودها الذي لم يكن مرغوبًا، له فوائده، رغم رداءته في سيرورة التغيّر نحو الأفضل، وما يحدث الآن في العالم العربيّ: أنّ حالة اللاوعي الدينيّ، تتقدّم كثيرًا على الوعي، وتحدث مراكمة من أجل التغيير، أو الارتقاء داخليًّا، لهذا؛ لا يمكن اليأس من الإسلاميّين.
غرايبة: سينقلب الإسلاميّون والإسلام السياسيّ؛ لأنّ أدوات الحياة التي يتحرّك فيها تغيّرت؛ فتاريخيًّا ما كنّا نستخدمه من أدوات انقرض؛ لأنّ طبقة الحرفيّين التي كانت تنتجها، انقرضت بانقراضها، هذا ما سيحدث مع الإسلاميّين، سيرورة التاريخ ستفرض عليهم ذلك.
الإصلاح يلزمه جيل؛ يتراوح بين الثماني عشرة سنة والثلاثين سنة، وهذا الجيل هو من ثار على الديكتاتور في تونس، وليس دورنا إلّا مساعدته لإنجاز التحوّل، يجب أن نساعدهم على دفننا.