التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلميّة والخوف من التكفير
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب: "التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلميّة والخوف من التكفير"
نصر حامد أبو زيد
صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب بعنوان: "التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير" (الطبعة الأولى، 2010) لصاحبه "نصر حامد أبو زيد"، وذلك في سياق الدفاع عن حرية الرأي، وحرية الفكر، ورفض القهر المعرفي الموازي للقهر السياسي، وفي إطار محاربة التكفير وكلّ ما يمكن أن يدور في فلكه، ونصر حامد أبو زيد (1943 – 2010) مفكر عربي وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية وفي فقه اللغة العربية، حصل على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1972، ثم ماجستير من القسم نفسه والكليّة في الدراسات الإسلامية عام 1976، ثم دكتوراه من القسم نفسه والكليّة في الدراسات الإسلامية عام 1979، عمل أستاذاً مساعداً في كليّة الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة فرع الخرطوم خلال الفترة بين 1983 و1987 ثم أستاذاً مساعداً في كليّة الآداب، جامعة القاهرة عام 1987، اتُهم بسبب أبحاثه الأكاديمية بالارتداد والإلحاد.
من أعماله: الاتجاه العقلي في التفسير، فلسفة التأويل، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نقد الخطاب الديني، التفكير في زمن التكفير: ضد الجهل والزيف والخرافة.
والكتاب يقع في 246 صفحة من الحجم الكبير، قسّمه صاحبه إلى أربعة فصول بالإضافة إلى مقدّمة وفهرس للموضوعات، في المقدمة تحدّث صديق عمره حسن ياغي عن الأسباب التي دعته إلى جمع هذا الكتاب بعد وفاة صاحبه، والذي أوصاه قبل وفاته في حوار دار بينهما على ضرورة إخراج هذا المشروع التنويري إلى حيّز الوجود، وذلك بهدف فتح آفاق جديدة في الدراسات الدينية والاستفادة من المناهج الحديثة في قراءة النصوص، باعتبار الدراسات الحداثية للدين تفتح "النصّ المقدّس" على الحياة الحقيقية والإسهام في بناء حضارة يدخلها النور؛ نور المعرفة والفهم، والحقّ في اختلاف التأويل والقراءة والتفسير، دون الخوف من أولئك الذين يعادون المعرفة ويمنعون أيّ تجديد، طالما أنّنا لا ندّعي المعرفة ادعاء، ولا نحارب الجهل بالجهل، بل بالمعرفة العلمية التي تهدف إلى إطلاق حيوية البحث والتفكير وإعلاء شأن العلم في هذه الأمّة.
في الفصل الأول "تجديد الخطاب الديني: لماذا؟" عمل الكاتب حامد أبو زيد على إبراز ضرورة التجديد باعتباره حاجة ماسّة بدونه تتجمّد الحياة وتفقد رونقها، وتدخل الثقافات نفق الاندثار والموت، كما أكّد أنّ "لكلّ تجديد سياقه التاريخي الاجتماعي، السياسي والفكري؛ فالتجديد في أيّ مجال لا ينبع من رغبة شخصيّة أو هوى ذاتي عند هذا المفكّر أو ذاك... كما أنّ التجديد ليس حالة فكرية طارئة، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصّة. ما ليس تجديداً في مجال الفكر هو ترديد وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شيء، ولا يمتّ إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد."[1]
كما أبرز الكاتب خلال هذا الفصل أنّ للتجديد خمسة مبرّرات: أوّلها المبرّر التاريخي وثانيها المبرّر المعرفي وثالثها الاستخدام النفعي للدين ورابعها الفزع من التأويل العصري وخامسها عداء الغرب للإسلام. أمّا المبرّر التاريخي فيكمن في اجترار إنجازات وانتصارات الماضي من طرف فئة من المثقفين دون النظر إلى ما آلت إليه أوضاع الأمّة بعين العقل وخاصة بعد فشلها في الدفاع عن وحدتها واختراقها من طرف المؤسسة العسكرية الغاشمة لدولة تأسست وفرضت نفسها بالقوة، وبعد هزيمة 1967 تأكد بالفعل وجود أزمة في الواقع وأزمة في الفكر وفي النظام السياسي بصفة خاصة، وعليه يمكن القول إنّ انكشاف أوجه الأزمة خلق الحاجة إلى التغيير والتجديد، ومن هنا كانت بداية كتابات تبحث في التراث من وجهات نظر مغايرة ومختلفة مثل كتابات زكي نجيب محمود وحسين مروّة ومحمّد عابد الجابري وحسن حنفي وغيرهم من المفكرين في اتجاهات مختلفة لتناقش المبرر التاريخي لمطلب تجديد الفكر الديني.
أمّا المبرّر المعرفي فمستنده تحقيق عملية التواصل الخلاّق بين الماضي والحاضر، "والمقصود بعملية التواصل الخلاّق الخروج من أسر التقليد الأعمى وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وكذلك الخروج من أسوار التبعيّة السياسية والفكرية التامّة للغرب باسم المعاصرة، وعمليّة التواصل الخلاّق ليست محاولة تلفيق بأخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة من دون تحليل تاريخي نقدي لكليهما، وهو النهج الذي سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكري النهضوي؛ فأفضى إلى تكريس ثنائية الغرب المادي العلمي المتقدّم والمفلس روحياً، مقابل الشرق المتخلّف ماديّاً وعلميّاً والغنيّ روحياً".[2]
أمّا الاستخدام النفعي للدين بغية تحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية أو سياسيّة أو شخصيّة سواء تمّ هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها أو من جانب أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية فالنتيجة واحدة، وهي تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية، ومن هنا برزت وبحدّة ضرورة التجديد وإعمال العقل كأداة أكد النصّ المقدّس على أهميتها. فنحن كما أبرز الكاتب بحاجة إلى تنوير فكري، فقد سيطرت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا سواء السياسية أو الاقتصادية أو التعليمية حالة من الركود طال بها العهد حتى أوشكت أن تتحوّل إلى موت.
أمّا الفزع من التأويل العصري فيقصد به الكاتب ما تتشارك فيه الحركات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي، وهو ذلك الفزع من أي تأويل عصري حداثي للإسلام، خاصّة إذا طال هذا التأويل النصوص المؤسّسة: القرآن الكريم والسنّة النبوية، ومن هنا كان لا بدّ من إضفاء لمسة تجديد على تراثنا الموروث والنظر فيه بعين الحداثة وملاءمته للوقائع والأحداث الآنية.
أمّا المبرّر الخامس للتجديد فهو الخوف من الغرب؛ والمقصود به في نظر حامد أبي زيد هو تأكيد موقفنا من الحضارة الحديثة، وهو موقف لا يقوم على التعامل معها من منظور براجماتي يعتمد على استيراد المنتج التكنولوجي مع تجاهل أساسه العلمي والمعرفي، كما أنّه لا يقوم على استيراد النظريات العلمية والمعرفية ومحاولة فرضها بطريقة ميكانيكية آلية في بيئة ومناخ ومجالات مغايرة للبيئات والمجالات التي أنتجتها.
وبعد استعراض الكاتب لمبررات التجديد تناول من خلال مجموعة من المباحث موضوع تحالف السلطة الدينية مع السلطة السياسية التي أحكمت سيطرتها على المجتمع وأضعفته على مدى سنوات، حتى أفقدت قواه الحية أي أمل بالتغيير، وصارت قوى المعارضة أضعف من أن تستطيع طرح نفسها كقوى قادرة على التغيير والتجديد والإصلاح، سواء في ذلك المعارضة القومية واليسارية والعلمانية، التي فقدت بريقها وما عادت قادرة على جذب الناس بأفكارها القديمة، أو المعارضة الإسلامية التي تقدمت إلى الواجهة عند انكفاء سابقاتها، ولكنها لم تضع على عاتقها خوض معركة اجتماعية سياسية اقتصادية لتحديث السلطة والسياسة.
وفي ختام هذا الفصل صرّح الكاتب بأنّ سيف التكفير والمنع أصبح مسلطاً على كلّ من يحاول التفكير الجدي والعلمي في وضعنا المأزوم، إذ تنبري السلطتان السياسية والدينية متحالفتين معاً لتكميم كلّ صوت يدعو إلى الخروج من أسر التقليد ويفتح الباب لدخول الهواء الذي يسعى لتحريك الأفكار الراكدة التي حاول المصلحون تحريكها وتعرّضوا لسيوف التكفير. إنّ الفكر العربي ما يزال يرى في كتابات طه حسين ومحمد عبده وعلي عبد الرازق ونجيب محفوظ والكواكبي وغيرهم الأساس الإبداعي والمعرفي لثقافة تطمح لأخذ مكانها بين ثقافات العالم، وعندما نرى كيف أنّ هذه الأسماء الكبيرة تعرّضت لشتى الاتهامات والضغوط، وأجبرت في أحيان كثيرة على التراجع أمام هيمنة الأفكار التي تنتمي إلى الماضي، ندرك ثقل المهمّة وندرك أنّ هذا هو السبيل لإخراج مجتمعنا من أزمته، وهي مهمة تحتاج إلى التحلّي بقوّة المعرفة وتحتاج إلى الشجاعة أيضاً.
في الفصل الثاني المعنون بالفن وخطاب التحريم أكّد حامد أبو زيد أنّ الفنّ هو ممارسة أقصى مستويات الحريّة، يمارس الإنسان فيه أقصى درجات التحرر، فيتحرر من قيود الجسد في الرقص، ومن قيود الرتابة في الموسيقى، ومن قيود المادة في الفن التشكيلي، ومن قيود اللغة التداولية في الشعر والأدب، وفي الفن تتحقق إنسانية الإنسان في علاقته بالكون، حيث يستعيد الفنُّ الإنسانَ من غربته التي فرضتها الثقافة بمفاهيمها وأعرافها ومؤسساتها وقيمها، في الفنّ وحده يتحرر الإنسان ليعيد بناء عالمه ويطوّر ثقافته. من أجل هذه الحرية المبدعة التي لا توجد إلا في الفنّ يكره المتشدّدون الفنّ على اختلاف طوائفهم سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، ويمارسون ضدّ الفنّ والفنانين كلّ ضروب الاضطهاد، وفي أحسن الأحوال يضعون في طريقه الأشواك والمحاذير.
وفي هذا الفصل أيضاً ألمح الكاتب إلى أنّه كلما ضَعُف المجتمع وقلّت حيويته توسّعت دوائر التكفير والتحريم، والعكس صحيح. والتحريم يطال أوّل ما يطال الإبداع، فهو يهاجم الفنون على أنواعها، ولا يلتفت لقيمة تلك الفنون في إظهار حضارة أيّ شعب، كما أكّد على أنّ الدين لا يحرّم الفنون، إنّما يحرمها من يتصوّرون أنفسهم حماة الدين والأخلاق والأعراف والتقاليد، وهم أنفسهم حماة الأمر الواقع ومن يلفّ لفّهم من بعض الإعلاميين والمثقفين الذين يدافعون عن قرارات السلطات التي تبيح وتمنع وفق منطق هو الآخر ينتمي إلى الماضي. إنّ قضية عدم التحريم هي أولاً وأخيراً قضية الحريّة في كل الفضاءات الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية، فالفن شأنه شأن التعليم والفكر والبحث العلمي والإعلام الحر، وهي كلّها أضواء تعرّي هذه الأقنعة، من هنا الخطورة على كلّ أشكال الاستبداد ومستوياته، ومن هنا حاجتنا إلى الفنّ وإلى الحريّة.
في الفصل الثالث، إشكالية تأويل القرآن قديماً وحديثاً، أثار الكاتب قضية التمايز الدلالي بين مصطلحي التفسير والتأويل عند بعض الفقهاء، مشيراً إلى أنّه صار شائعاً أنّ التأويل جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن، ودخول في إثبات عقائد وأفكار أو بالأحرى ضلالات من خلال تحريف متعمد لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية، كما أشار إلى أنّ مصطلح التأويل اكتسب دلالته غير الحسنة تدريجيّاً من خلال عمليّات التطوّر والنموّ الاجتماعيّين، وما يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسيّ.
بعد تناول هذا الإشكال الدلالي بين المصطلحين تساءل الكاتب كيف أنّ القرآن الكتاب الأعظم في الثقافة العربية يتمّ التعامل معه بمنطق ضيّق يضيّق على المؤمنين به حياتهم، إذ يصبح التأويل عملاً خبيثاً في الخطاب الديني المعاصر، في حين أنّ التأويل يعني فتح الباب مشرعاً أمام المؤمنين لفهم النص القرآني خارج إطار الوصفة التي يردّدها كلّ يوم فقهاء السلطة الدينية، وهذا يفتح الباب للعلاقة بين المؤمن وربّه من دون المرور الإجباري بتفسيرات وتأويلات الفقهاء الرسميّين، وكلما كان الطريق بين المؤمن وربه مفتوحاً ازداد المؤمن إيماناً، ولكنّه إيمان مختلف عن إيمان غيره، إيمان نابع من ذاته ومن رؤيته ومن أفكاره، إيمان حرّ قد يسلك مسلك المعتزلة، وقد يسلك مسلك الأشعريّة، إيمان قد يسلك مسلك ابن تيمية، وقد يسلك مسلك ابن عربي، إيمان قد يسلك مسلك ابن حنبل، وقد يسلك مسلك ابن رشد.
خلص الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى أنّ اختلاف التأويلات إقرار بحق الاختلاف، وإقرار بتعدّد وجهات النظر، وإقرار بحق المؤمن في أن يكون قلبه وعقله دليله إلى الإيمان الحق، كما أنّه، أي التأويل، طريق للاستفادة من المنجزات العلميّة واللغويّة والمعرفيّة لجعل القرآن حيّاً ومعاصراً، يلعب في حياة المؤمنين دوراً كان يلعبه على مدى القرون الأولى.
في الفصل الرابع والأخير والذي عنونه الكاتب بمقاربة جديدة للقرآن: من النصّ إلى الخطاب نحو تأويليّة إنسانوية أشار حامد أبو زيد إلى أنّ الدارسين للقرآن في العصر الحديث دأبوا على مواصلة استعمال المنظور التراثي في التعامل مع القرآن بوصفه نصّاً، والتعامل معه من هذا المنظور يشجّع إمكانيّات التفسير والتفسير المضاد، كما يسمح بالمثل بإمكانية التلاعب الدلالي ليس بالمعاني فقط بل بالمبنى القرآني نفسه، وذلك كما حدث في التأويلات السجالية التي أنجزها المتكلّمون في الماضي، لذلك دعا الكاتب إلى الاهتمام بالقرآن في الوقت الراهن بوصفه خطاباً أو بالأحرى خطابات، وذلك بهدف السعي نحو تحرير الفكر الديني من سلطة القهر والقوة، سياسية أو اجتماعية أو دينية كانت، ومن أجل إعادة الحق في صياغة المعنى الديني للمؤمنين، ومحاولة بلورة منهجيّة تأويليّة تقبل تأويل غيرها وتبني عليه أو تعارضه.
وفي ختام هذا الكتاب، دعا نصر حامد أبو زيد إلى ضرورة الاستمرار في عمليّة التفكير وإعادة التفكير مجدّداً في التراث وفي معنى القرآن، وإلى محاولة التقدّم خطوة أبعد في هذه العملية من أجل إنجاز منهج تأويليّ، وذلك ليكون أهل الإسلام مشاركين نشطين في صياغة معنى حياتهم، في العصر الذي يعيشون فيه، بدل أن يظلّوا متلقّين سلبيّين للمعاني التي تفرض عليهم بالقهر والانصياع من هنا أو هناك.
المصدر:
نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلميّة والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010
[1] نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010، ص 21
[2] نفسه، ص 24