التجديد وحركة الاجتماع لماذا لا يُعول عبد الجواد ياسين على دعوات تجديد الخطاب الديني
فئة : مقالات
التجديد وحركة الاجتماع
لماذا لا يُعول عبد الجواد ياسين على دعوات تجديد الخطاب الديني
يعد عبد الجواد ياسين أحد أعلام حركة إصلاح الفكر الديني، انطلق من داخل بنية المدرسة الحرفيّة/ الظاهرية التي تتمسك بظاهر النصّ وترفض القراءة الثانية، وتجلّى ذلك في كتابيه: "مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة"، و"تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر"، إلا أنّه سرعان ما تجاوز أفكار تلك المدرسة مفككاً نسقها الفكري المغلق منتقدا أفكارها عن قُرب، فانتهى إلى موضع أبعد ما يكون عن الموضع الذي بدأ منه، فاتّسع مفهوم القراءة عنده تبعاً لتنوع العلوم التطبيقية والفلسفية التي اطلع عليها بالإضافة إلى إلمامه المبكر بالعلوم التراثية؛ فالعقل كلّما تعرّف على ثقافات متنوعة، اتّسع أفقه، وازدادت ثقته بنفسه كجزء من عالم متعدد الأفكار والثقافات، وأصبح مرناً لا يتوقف عن مراجعة أفكاره ومواقفه باستمرار، متقبلا للتغيير والتجديد الذي لا يأتي فجأة، بل يحتاج إلى قراءات وتأملات، فعلى حدّ تعبير ياسين "تحوّلات الروح لا تُولد بل تتكوّن".
ينطلق ياسين في دراساته من خارج النطاق التقليدي المزدوج الذي ما يزال مبحث الدين أسيرا له منهج اللاهوت ومنهج الفلسفة؛ ففي كلا المنهجين يُغيّب البعد الإنساني/الاجتماع/الذات/السياقات الزمكانية تارة لحساب الموضوع الإلهي/المطلق الذي يظن العقل التقليدي الحرفي أنّ المطلق يستحوذ على المسألة الدينية برمّتها، وتارة لحساب المعاني المجردة التي تتجاوز الإنسان ككائن اجتماعي، ويظهر ذلك جليا عندما نُناقش المسألة الدينية من منطلق الدرس الفلسفي اليوناني القديم.
ولا تقف إشكالية هذين المنهجين عند دراسة مبحث الدّين، بل يظهر أثرهما السلبي في الانتقاص من التجربة الروحية، فعلى مستوى التجربة الإيمانية الفردية يرى ياسين أننا أمام الإشكالية نفسها فـ "لا ندخل إلى مسألة الإيمان إلا عبر هذين البابين، (الميتافيزيقا واللاهوت الرسمي/ المؤسسي)، وكلاهما يعجز عن تقديم جوابات شافية فيها؛ الميتافيزيقا بسبب محدودية الآليات العقلية (اليونانية) التي تشتغل بها، واللاهوت المدرسي الرسمي (المؤسسي)، الذي يصدر في عمومه عن ذات الخلفية الأنطلوجية التي تصدر عنها الميتافيزيقا ذاتها".([1])
يستوقف القارئَ في مشروع عبدالجواد ياسين عدمُ اكتراثه بدعوة تجديد الخطاب الديني، فلا يُعوّل على مبادرات تجديد الفكر الديني المطروحة على الساحة؛ ويرى أنّها لن تُحقق غايتها، ويعزو الفشل المتكرر لتلك المحاولات إلى عدّة عوامل في مقدمتها ضعف التطور الاجتماعي، فكل تجديد دون حركة اجتماع هو تجديد مكذوب، فإيقاع التطور الاجتماعي البطئ نسبياً لم يُسفر عن ضغوط كافية لإحداث تغيير بنيوي داخل الفكر الإسلامي الذي لا يزال محكوما بمكوناته السلفية؛ فإصلاح الفكر الديني لا ينتج فعليا إلا بضغط التطور الاجتماعي، فأي مقاربة تجديدية تُطرح قبل اكتمال التطور الاجتماعي تبقى مجرد مقترح نظري يفتقر إلى إقرار، فالنظام الديني الذي مرّ، من منظوره، بمرحلتي تأسيس ثمّ مرحلة تجميد لن يُقدم في تلك المرحلة تنازلات طوعية في منطوقه النظري أو على مستوى السلطة إلا تحت تأثير ضغط التطور الاجتماعي، فهي الآلية الوحيدة لإحداث تغيير أو تجديد في النظام الديني.
وعلى الرغم من أن ثمّة علاقة مركبة تربط النظام الديني بالاجتماعي إلا أنّ تلك العلاقة لم تسلم من تناقضٍ في حالة المسيحية الغربية، ومن توترٍ في المحيط الإسلامي؛ لأنّ الفكر الديني والفعل التديني تمّ تثبيته/تجميده بمنحه وصف المقدّس بينما النظام الاجتماعي لا يكفّ عن التغير تبعاً لطبيعة الاجتماع المتطورة وقوانين العالم، ويعزو ياسين توقف علاقة النظام الاجتماعي بالديني في مجتمعاتنا عند أعتاب التوتر دون أن تتجاوزه إلى تناقض جذري تراكمي لأسباب من أهمّها ضعف وتيرة التطور الاجتماعي.
فلا أمل في تطوير التّدين/ الفكر الديني/ الممارسة الدينية إلا بتطوير وتغيير هياكل الاجتماع الكلّية، فما زلنا نعيش القبلية العشائرية اجتماعيا رغم تحولنا إلى الدولة الحديثة، وما زالت المثالية اليونانية السابقة على المنهج التجريبي حاضرة في العقلية العربية على حساب العقلانية النقدية، وما زالت الهياكل الاقتصادية رعوية رعية، فدون تطور في الهياكل الاجتماعية لن يكون هناك تطور إصلاحي في الفكر الديني الذي يُواجه التغيّرات بإنتاج تطورات محدودة موظفا آليات الماضي المعرفية التي قد تُحدث حراكا، لكنه لا يُمثّل نقلة كبيرة، ولن يُجيب عن أسئلة الواقع المتسارعة.
يُميز ياسين بوضوح بين تطور اجتماعي حقيقي يدفع إلى التغيير، وبين تطور اجتماعي مكذوب تدفع فيه السلطة السياسية إلى التغيير، فلا يُعوّل ياسين على مبادرات التجديد الديني التي تطرحها الدولة بين الحين والآخر؛ فالدولة من منظوره لا تبدو واثقة من قدرتها على اقتحام معضلة التجديد الذي يُوافق مُيولها الحداثية، فهي مترددة بين دورها الحداثي ودورها الديني الذي تقمّصته لأسباب وأغراض سياسية، فهي وإن كانت غير مؤمنة به تماما، إلا أنّها دُفعت إليه دفعا تحت الضغوط الأصولية المتفاقمة التي صارت تسحب من الرصيد المعتدل للتدين الشعبي العام، أضف إلى ذلك انشغال الدولة الدائم بمشاكل أخرى ومواقف أكثر تعقيدا.
من جانب آخر يُفنّد ياسين فكرة كثيرا ما تتردد، وهي تحميل المؤسسات الدينية مسؤولية فشل التجديد واتهامها بأنّها العقبة الكؤود في مسار التجديد، فيرى ياسين أنّه لا توجد مؤسسة جامعة لها صفة تمثيل الإسلام، حيث تملك صلاحية إقرار تعديلات وتجديدات جوهرية. وأنّ الهيئات التي يُشار إليها بوصف المؤسسة الدينية، إنما هي إشارة مجازية وغير دقيقة؛ ففضلا عن افتقارها إلى تفويض نصي لتمثيل الديانة، لا تحظى هذه الهيئات بقبول جمعي داخل المحيط الإسلامي المنقسم أصلا على المستوى المذهبي والسياسي، فهي واقعيا تعيش تحت ضغوط مزدوجة من قبل الطرح الأصولي والإشعاع الحداثي معا؛ فالمؤسسات الدينية متهمة من وجهة النظر الأصولية بأنّها جهات متساهلة وخاضعة لأغراض الدولة العلمانية، ومتهمة من وجهة نظر الحداثة بأنّها مؤسسات سلفية جامدة إلى أبعد مدى.
ولا يُعفي ياسين الهيئات الدينية الرسمية من تناقضٍ، فرغم توافقها المعلن مع التوجه الحداثي للدولة، إلا أنّها تواصل دورها الوصائي حيال أي مقاربة تغيرية داخلية أو خارجية، وتمتنع عن تقديم طرح تجديدي جذري يتجاوز الحلول الفقهية الجزئية، فتُساهم بتمسكها الحرفي بالمدونات المذهبية التي تُمثل كل منها نسقا مغلقا في ترسيخ حالة الجمود التي يعيشها الفكر الديني، فتتجاهل طروحات تغيير جذرية من قبيل إعادة النظر في طبيعة التشريع الذي يظلّ، من منظور ياسين، فعلا اجتماعيا، وإن تبنّاه نصّ ديني، فالشريعة، بوصفها قانونا، متغيرة؛ لأنّ القانون متغير بطبيعة الاجتماع؛ والمتغير ليس من جوهر الدين بما أنّ الدين مطلق.
وإن كان الإصلاح في العالم الإسلامي يبدو للوهلة الأولى ميسورا لغياب المؤسسة الدينية المركزية التي لا يتحقق التجديد إلا بإزاحة سيطرتها، على غرار ما حدث مع الكنيسة مرة بالضغط الاجتماعي الذي قامت به حركة التجديد البروتستانتي، ثم بالانقلاب الجذري الشامل عند القرن التاسع عشر إلا أنّ المتأمل سيجد الأمر أكثر تعقيدا، فالدين الإسلامي في مرحلة التأسيس الأول/الوحي لم يسند إلى هيئة أو فرد صلاحيات بعد النبي المؤسس لكن ألزم الجميع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما سيفهم خطأ، وسيتولّد عنه فرق وجماعات، لا سيما في ظل التداخل المبكر بين الديني والسياسي في مرحلة التأسيس الثاني/حقبة التدين التي أُسند فيها للدولة دور مؤسسي كحارسة للدين بعد أن تمّ الربط بين الدين والدولة، وبين الدين والتشريع، فمُنح للفقهاء مهمّة شارحي الشريعة، وصار الفقهاء والدولة/ السلطة يتقاسمان الأدوار التقليدية للمؤسسة الدينية، حتّى بعد أن تراجع دور الدولة الإسلامية الحارسة، ظلّ الفقه يُحافظ على سلطته المعنوية الموروثة (حماية اللاهوت/ تفسير الشريعة/خدمة الطقوس)، وهي السلطة التي جرى تأميمها لاحقا من قبل الدولة الوطنية التي حوّلت الفقهاء إلى هيئات إدارية ملحقة بالجهاز الحكومي، وعادتْ في إطار عصري مخفف إلى تقمص دور الدولة الحارسة للدين.
من جانب آخر، لا يُعوّل ياسين على أي تجديد في البنية الفكرية للحركات الأصولية، فهي تحتفظ بموقف مضطرب عاجز لا يُنتظر منه أيّ تغيير؛ فالتجارب العملية للحركات الأصولية التي وصلت إلى الحكم كشفت عن عدم جدية تلك الحركات في التعاطي مع قضايا الإصلاح الديني، فلم تُقدم الحركة الأصولية ما يُمكن وصفه باجتهاد واضح على المستوى النظري لتجاوز المعضلات الجذرية التي تنطوي عليها مسألة "تطبيق الشريعة" الشعار الأكثر استحواذا وحضورا في خطابها، كذلك لم تُقدم اجتهادا واضحا على المستوى العملي لمواجهة الصعوبات التفصيلية التي جلبها التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام، مما يفضح أولوية الغرض السياسي في نموذج الإخوان الذي يتبنى مواقف أكثر سلفية وأكثر جهادية بدفع براجماتي سياسي، وعجلة وغياب الوعي بمعطيات الواقع المتغير في نموذج داعش.
فإشكالية إصلاح الفكري الديني من منظور ياسين تكمن في العقل الديني نفسه العاجز عن مطالب الإصلاح؛ فالسلفية كنمط تفكير مارست وما زالت تُمارس سلطاناً عاتياً على العقل المسلم، فنستطيع أن نقول إنها هي ذاتها العقل المسلم، فما العقل المسلم الراهن سوى مجرد امتداد طولي زمني للعقل السلفي الأول، وهذا يُفسر بشكل بسيط جدّاً الهبّة التي يهبّها هذا العقل الراهن في وجه أيّ نوع من أنواع الممارسة النقدية على العقل السلفي؛ لأنّه - في حقيقة الأمر - وهو يدافع عن العقل السلفي الأول يدافع عن نفسه. ومن الصعب جدّاً أن تقتلع الأفكار التي تم توارثها عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة من أعماق الناس... أيّاً كانت هذه الأفكار، فما بالك إذا كانت هذه الأفكار تتعلق بفرضية السلفية ذاتها؛ لأن العقل السلفي الأول كان سلفه سلفياً، وكانوا على وعي بهذه القضية، وورث العقل المسلم فيما ورث مفهوم السلفية، أي مفهوم الاتباع الأعمى، وهذه قضية خطيرة جدّاً في العقل المسلم. لذا، فإن الأمّة تمرّ بأحرج أطوارها التاريخية، وهو التحول من التكوين الذهني العقلي النفسي الثقافي المتأثر بالميراث السلفي العاتي الشديد الوطأة، الذي ترزح الأمة تحته منذ القدم، ويُكرّث لمفهوم التبعية العمياء، وهذا نقيض الممارسة العقلية الإصلاحية التي تأبى بطبيعتها مبدأ الاتباع؛ أي أنْ يكون الإنسان تابعاً بلا تفكير.
وليست تلك الحالة السلفية وليدة الفكر الإسلامي كما هو متداول، بل هي من منظور ياسين امتداد للعقل الديني عبر التاريخ وفي مختلف الحضارات، فلا تعدو فِكرة التمييز القطعي الكامل على مستوى الحضارة والفكر بين الغرب والشرق بالمعنى المعاصر عن كونها خطأ شائعا؛ فالعقل الديني كلّه واحد، غربياً وشرقياً، يهودياً ومسيحياً وإسلامياً، ينتمي إلى سيكلوجيا دينية، إلى تكوين خاص بالعقل، فـ "الحوارات اللاهوتية الكلامية في المسيحية هي نفسها في الإسلام بلا استثناء". فالمسيحية السلفية؛ طول فترة سيادتها على الثقافة الغربية مارست سلفية عاتية منغلقة لا تقل انغلاقاً عن السلفية الإسلامية، وكل أصناف التحريمات التي مارستها السلفية الإسلامية الصحراوية كانت لها نظائر في السلفية المسيحية التي أخذت موقفاً كبيراً جدّاً من التماثيل، وحتى الأيقونات، نفس الحوارات ونفس القضايا التي تتكلم عن حرمة التمثيل وحرمة الصور، وحرمة الموسيقى أحياناً، كانت واردة عند قطاع كبير من السلفية المسيحية الغربية.
وتجاوز تلك الحالة السلفية التي تجاوزها الغرب ـ من منظور ياسين - مرتبط بحركة التاريخ الطبيعية، فيد التاريخ تعمل بعناصر بعضها ظاهر ومحدد، وبعضها خفي غير مرئي، دون أن نراها.
([1]) عبدالباسط سلامه هيكل، مسيرة فكر طه عبدالرحمن. عبدالجواد ياسين. نصر حامد أبوزيد تناقض أم تكامل، القاهرة، نيوبوك للنشر والتوزيع، 2021، الطبعة الأولى، ص ص153-154