التجليّات الإلهيّة في استنطاق الوجود

فئة :  مقالات

التجليّات الإلهيّة في استنطاق الوجود

التجليّات الإلهيّة في استنطاق الوجود[1]

ثمّة ضرورة أو دافع يعتري الكيان الوجوديّ للإنسان، وهو الاستشعار بالحسّ الداخليّ النمو (sens endogène) أو بالسرّ الخفيّ المضمر (implicite) الذي يدخلنا في حالة من القلق التساؤلي للكشف عن اللغز الذي يفتن الإنسان، ويُظهر نوعًا من الخرق المعرفيّ للعالم الوضعي من أجل الدخول إلى عالم ميتالوجيقي. من أجل استبدال النسبيّة العلميّة بالاطلاقية الفلسفيّة التيولوجيّة يخدمنا فضاء الفلسفة الرحب الذي نطرح فيه الأجوبة عن تساؤلات كثيرة مفتوحة للكشف عنها في حقول عدّه وأهمّها الدين والمقدّس. والحقيقة العظمى المتمثّلة بالحقيقة الإلهيّة هي أيضًا كالفلسفة التي يبحث عنها الفيلسوف؛ ذلك أنّ سعينا إلى معرفة الله يبقى في اطّراد مستمرّ مفتوح على عدّة تأويلات. من المعلوم أنّ التفكير الفلسفي الرصين ليس تفكيرًا في الظواهر المباشرة الملموسة والمحسوسة، والفلسفة ليست معنيّة بطرح الأنظمة أو بإنشاء معرفة مطابقة للواقع، بل هي استشراف خاص بإنتاج أو بابتكار وسائل معرفيّة جديدة متّقدة في رغبة ماورائيّة لكشف سرّ التجليّات في الكون. وهذه التجليّات الوجوديّة الكبرى ليست سوى الانبساط الكوني للكائن الأعلى (le déploiement de l’Être)، حقيقة الأمر أنّ الوجود العينيّ الكاشف عن الوجود الذهنيّ ليس سوى الطريقة التي ينشط بها الكون ويتفاعل. والحال هذه لا بدّ من التساؤل، أمام التجليّات الإلهيّة الكبرى بمَ تفيدنا اللماذات الفلسفيّة؟ كثيرًا ما نقرأ الأفكار قراءة ولا نفكرها، ونتأمّل الحياة تأمّلا ولا نعيشها، أضف إلى ذلك ما هو السرّ أو المبدأ أو القانون الذي يقف خلف هذه التجليّات الوجوديّة؟

إخفاق آليّات الفهم

1- معاندة التجلي للقوالب الدينية المخدّرة

تشتق لفظة الديانة (religion) من مصدرها اللاتيني (religare) وهذا يعني الصلة التي تجمع بين الأفراد والله أو بين الأفراد، كما تعني لفظة الديانة المنبثقة من مصدر دأن، ما نتعبّد به لله. قد يكون المعنى الحقيقي للاهوت على حدّ ما أظهره الفيلسوف فيورباخ هو الأنثروبولوجيا، على اعتبار أنّ "ليس هناك من اختلاف بين ذات الله وكيانه أو ذات الإنسان وكيانه، فهما متماثلان. أمّا الاختلاف الذي ندّعي إنشاده، فهو اختلاف العدم والخلق"[2]. لا ريب أنّ الأسباب التي تدفعنا إلى الإيمان بقوة الطبيعة الخارقة هو ذلك الخوف من المجهول، وسرّ الافتتان بالمفارق واللامتناهي وبما تكشفه العلوم من تناسق الحقائق في الكون. وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى إرساء التكافؤ المفهومي الذي يفيد بأنّ التديّن هو الانتساب إلى مجموعة منظّمة تضمّ الطقوس والمعتقدات التي تجمع بين أفراد المجتمع والله؛ وذلك بغية الاهتمام بالطبيعة الإلهيّة وعبادتها. غير أنّنا نلاحظ في الكثير من المواقف الوجوديّة أنّها تُفرض على الإنسان تمامًا كالظاهرة الاجتماعيّة القسريّة (le fait social) القائمة على الرهبة في الرغبة. وممّا لا شكّ فيه أنّ المؤمن يتصوّر الدين كضامن للسلام الفرديّ والاجتماعيّ من خلال الاتّحاد بإله قادر. قد نتّفق على أنّه يجمع ويوحّد بين مختلف التطلعات والأهداف والرؤى والقيم. وممّا تجدر الإشارة إليه، أنّنا في معظم الأحيان نتظاهر بالحميميّة التي يتبلور مآلها في الكيان الأعلى (entité supérieure)...غير أنّ وجه المفارقة المحيّر في موضوع التديّن أنّ هذه الأحجية التوافقيّة المبنيّة على الاختلاف المؤتلف، وأعني به الاختلاف الأفقي تدّعي أنّها منصهرة في هذا الائتلاف التصاعديّ الموحّد للقصد والهدف، ونتيجة لذلك تدخلنا في خواء مستغلق على القلب والعقل، فتحوّلنا إلى كينونة هامشيّة، وتحرفنا عن استجلاء صورة الحبّ الموجودة في الوجود واستنهاض طاقته.

2- الفلسفة ومغالق المعنى

الفلسفة هي نشاط عقليّ طبيعيّ يمارسه الإنسان سمّيت محبة الحكمة، والحكيم هو الذي يمتلك الحكمة، بينما الفيلسوف هو صديق الحكمة لا يستطيع امتلاكها، لذا يبحث عنها باستمرار، وهي ضرب من الاستيضاح يتصدّى كلّ المسائل الوجوديّة، كما أنّها إعلان لفعل التدليل والبحث عن المبادئ الكليّة التي تتعلّق بالوجود والعالم، تبدأ بالسؤال عن العقل الأوّل الذي يؤسّس بنية الكينونة. أمّا من ناحية علاقتها بالدين، فليس من مسؤوليّة الفلسفة أن تصل إلى اعتقاد؛ لأنّها لا تحسم الحقائق. تفهم الديانة وتحللها كرابط بين الله والأفراد. ومن المفيد القول إنّ السؤال عن الوجود هو أقصى ما تسأله الفلسفة منذ الحقبة اليونان. الفلسفة من أرسطو إلى هيغل وكانط ....اختارت النظام المعرفي "الابّستميّ" بهدف إنتاج معرفة متّسقة، نذكر ما أزمع به سقراط أنه يعرف أنه لا يعرف، ومحاولة أفلاطون من خلال الديالكتيك لتشييد عالم الأفكار وإخفاقه في تشكيل المفهوم الحلم، ممّا دفعه للجوء إلى الأسطورة؛ وذلك لاستنطاق السرّ، بالإضافة إلى كانط الذي أظهر من خلال تناقض العقل المحض أنّ البرهان العقلي لا يكفي لإثبات وجود الكائن الأبدي..... ومرلوبونتي الذي اعتبر أنّ الفلسفة عرجاء مخفقة في محاولة التوفيق (بين الفعل والفكر واللامعنى والمطلق).

في سياق المنعطف الفكري هذا تظهر مهمّة الميتافيزيقا الجديّة التي تتطلّب منّا التفكير في اللامفكر به شرط أن نبقيه سرًّا لا يُسبر غوره، من دون توصيفه أو استبداله بفكرة جاهزة على حدّ قول الفيلسوف فلاديمير جانكلفيتش[3]، غير أنّ الإنسان يغرق دائمًا في التفسير من خلال الافتراض والتقدير الحسابي (supputation). قد يستهدي البعض بالتاريخ واللغة، أو بالاسترشاد بالأمل واستلهامه، ولكن ينبغي إلقاء البال على أنّ وضعيّة الإنسان المحدودة لا تجيد طرح السؤال عن اللامعبر عنه. والمفارقة أنّ العقل البشري غير قادر على استبصار المعنى العميق للحياة؛ لأنه جزء منبثق منها، بتعبير آخر تيّار الحياة على حدّ قول برغسون هو الذي أنجب العقل. بالرغم من ذلك، يريد الإنسان القبض على سرّ الفضاء الألوهي فيصاب بخيبة إزاء هذا اللامتناهي وحيال مجانيّة العيش الحرّ، ويرى أنّه مجتاح بنوع من الحزن (باسكال)ّ. وهذا الأمر يجعله مترنّحًا بين العظمة والعجز. قد تخفّف المعرفة من حدّة الوجع، على الأقلّ تسيّر المحن وفقا لمخطّطاتها، لكن في الدين تدخل في استنطاق ضعفها. ومن الأخطاء التي يرزح الإنسان تحت وطأتها شخصنة كل شيء (يد القدر.. رأس الجبل ...) وإعادة إنتاج العالم ذهنيًّا من خلال التوق إلى المتخيّل الأخلاقيّ والجماليّ. ونتيجة لذلك، يبدأ بشرح تجليّات الله وفقًا لما يتهيّأ له، وعندما يحاول توصيفه يغرق من جديد في إخفاقات اللغة المحدودة، وكلّ ما يحدث هو وجود حالات في الأشياء وحالة الأشياء تتكون من انتظام الأغراض في هيئتها. من جراء الانعقادات من مقتضيات المواكبة الثقافيّة أوّل ما تنصرف الملاحظة إليه كيفيّة التفكير في التجليّات الوجوديّة؟

التجلّي فعل إمكان الاستحالة

قد يفيدنا أن نستذكر فكرة هايدغر عن موضوع "الإيمان الذي لا يحتاج إلى فكر الوجود"، وماريون (Marion) في كتابه الموسوم (Dieu sans l’être) "الله دون حاجة لأن يوجد" الذي يرى أنّ الله لا يدخل في باب الوجود؛ لأنّه يأتي إلينا في هبة أو كنوع من الجود. وبدلا من انتظار الله في أفق الوجود علينا أن نجازف بمحبته والمحبة تطلب ولا تدرك أو تفهم.

من أضمن سبل الظاهراتية أنّها تستدعي حضور العالم وأسبقيّته على الفكر، نتعامل مع القابليّة على الرؤية من خلال نظام الوجود الدالّ على القصد، والقابليّة على الرؤية تنبثق من تواشج المرئي مع اللامرئي؛ لأنّه نظام قائم على فن التبادلات. والشعور بالعالم ككليّة محدودة يولّد التفكير بالماورائي أو بمعنى المعنى؛ ذلك أنّ العالم يتجاوز العالم. وهذه الحقيقة العميقة المتأصّلة في العالم والمجاوزة له تستبطن كنهه. ممذ لا شكّ فيه أنّ ممكنات الوجود واجبة وغير واجبة، والله ليس من قبيل الممكن، ولكنه يتجلى في ممكنات. إزاء هذا الوضع لا بدّ من مدرك، وما الإنسان سوى شعور مرآويّ لهذا الوجود ووعيه بذاته. نحن لدينا الميول إلى الجود السابق على الوجود والخير والجمال والحبّ، وهذه المفاهيم ترضي العقل أيضًا، غير أنّنا نأتذر بمنطق الإحساس بالجمال الكونيّ والاندهاش الذي يستبق تبرير الحقائق وإثباتها[4]. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الجهل الحكيم (docte ignorance). وطالما أنّ نظام الكون هو نظام الوفرة (abondance) والمجانيّة (gratuité) فالإنسان من خلال الدعاء الحثيث لإحراز قابليّة التلقّي تمدّد له العطاءات المعنويّة الارتقائيّة، حتى ينجذب إلى السورة الحيّة أو نحو الدافع المطلق. وهذا النمو أو الانفتاح الإنساني يسير باتجاه المطلق المثال، وينجم عن ذلك تقليص للحالة الماديّة الجسديّة وازدياد في الحالة الروحانية ممّا يؤهّله إلى فهم التجليات الوجوديّة من خلال التلثلث في القاعدة الفيزيائيّة الهارمونيّة للكون والتبصّر بقوانين الطبيعة كما صوّرها لنا سبينوزا وأشاد بها أينشتاين.

[1]- ورقة ألقيت في ندوة "العلاقة بين الفلسفة والدين" التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت لبنان، بتاريخ -01- 2025

[2] فيورباخ، جوهر المسيحية، ت. جورج برشين، 1841، ص. 105.

[3] Penser l’impensable tout en le maintenant impensable sans le substantiver sans lui substituer un impensé, une idée toute faite.. Voir Jankélévitch, La philosophie première, PUF, 1986, p. 45

[4] Le monde est beau avant d’être vrai le monde est admiré avant d’être vérifié. Voir: Bachelard, L’Air et les Songes, Paris, 1943, p.216