التحديث والتواصل مع العالم
فئة : مقالات
يبدو أن برنامج الإصلاح الذي انطلق في العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وشمل مختلف مظاهر الحياة العربية، مستهدفاً تجاوز حالة التأخر العامة التي كانت السمة الأبرز في هذه المجتمعات، لم يستنفذ بنود البرامج التي أطلق مستهدفاً تحقيق النهضة العربية. نتبين ذلك، ونحن نتابع ما يجري اليوم في العالم العربي، فندرك أننا ما نزال نراوح الخطى على عتبة الإصلاح. وفي ردود الفعل المتداولة في الراهن العربي، حول مسألة الإصلاح في مختلف أبعادها، وفي علاقاتها بذوي الانفجارات التي اندلعت سنة 2011 وتداعياتها ما يكشف أننا أمام تحديات ومعارك جديدة يمكن إدراجها مجتمعة في إطار مشروع الإصلاح المطلوب.
يمكن أن نميز في موضوع الإصلاح بين صِيغه التي رتبت تيارات الإصلاح النهضوي، وبين موضوع الإصلاح الذي يستوعب اليوم برنامجاً أكثر شمولاً، يتعلق الأمر بإصلاح المؤسسات الثقافية والسياسية والاقتصادية، وإصلاح الذهنيات ومظاهر السلوك ما يكشف أننا أمام تحولات كيفية في تصورنا للإصلاح وكيفيات تحققه.
أصبحنا نؤمن اليوم بأن برنامج الإصلاح لا يمكن أن يحصل بسرعة وبفعل ضربة سحرية؛ ففي التاريخ يجب دائماً أن يشكل العمل في المدى الزمني المتوسط والطويل، الطريقَ والأفقَ الأكثر مناسبة لبلوغ ما نرسم لأنفسنا ومجتمعاتنا من طموحات وتطلعات تاريخية. فنحن حينما نتساءل على سبيل المثال، كيف انتقل البرتغاليون إلى مرحلة الإصلاح الديمقراطي، فإنه لا يمكن أن نقول إن البرتغال أصبحت ذات يوم في القرن العشرين دولة ديمقراطية، يجب أن ننتبه إلى التراكمات التي سجلتها عبر عقود خلت، كما يجب أن نراجع نوع المبادرات التي أطلقت في موضوع توطين المشروع الحداثي في البرتغال. ينطبق الأمر نفسه على مشروع الإصلاح في العالم العربي؛ فالمخاضات القائمة اليوم في أغلب المجتمعات العربية، ستترك أثارها في التفاعلات الجارية اليوم في المجتمعات العربية، والتي يصعب قياسها، وستؤتي ثمارها آجلا أو عاجلاً.
لا ينبغي أن نفاجأ حينما سيصبح الإصلاح واقعا قائما في مجتمعنا بدرجات. فوراء مشاريعنا في الإصلاح في الحاضر العربي، تضحيات كبيرة في مجال التحرر من الاستعمار، ومجال مقاومة جيوبه وبقاياه، وكذا في مجال رسم الآمال والطموحات والمشاريع النهضوية. كما أن الإخفاقات والهزائم التي تعاقبت فوق أرضنا، تمنح مجتمعاتنا الخبرة المولِّدة للتراكم الذي يمنحنا القدرة على التجاوز. التاريخ لا يصنع بطريقة خطية، أو بطريقة مُبَرمجة بصورة واضحة تماماً، أو بصورة ميكانيكية. الإصلاح يصنعه التراكم داخل الزمن، حيث تنشأ في الوقت المناسب، القفزة النوعية التي تجعل مجتمعاتنا تبلغ المستوى الذي تطمح إليه؛ أي المستوى الذي يسمح لها بتبديل الصور التي تعكس بعض مظاهر وجودنا، وتنعكس بصورة مُنمَّطة في أذهان الآخرين عنا، بناءً على موازين القوى القائمة بيننا وبينهم، وفي إطار أشكال الصراع الدائر في العالم.
تستطيع كل المآزق والأزمات التي عرفها العالم العربي والعالم الإسلامي، أن تشكل حوافز جديدة مساعدة على إطلاق مشاريع في النهضة وفي التقدم، بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول إن المدَّ الذي تعرفه حركات الإسلام السياسي، والحركات التي توظف الإسلام في المعارك السياسية القائمة بيننا وبين الآخرين، يمنحنا اليوم ثمينة لتجاوز سقف النظر السائد في تاريخنا. إنه يمنحنا إمكانية فحص المكون التراثي الإسلامي فحصاً تاريخياً ونقديا. وهذا الأمر كان مطلوبا منذ زمن بعيد، ولعله اليوم بحكم هذا الحضور المكثف للحركات الإسلامية، وهذا الاستخدام المكثف للكثير من المعطيات الدينية في علاقتنا بأنفسنا وفي علاقتنا بالآخر، يشكل مناسبة للتسريع بمواجهة الأسئلة التي سكتنا عنها مدة طويلة. فقد آن أوان طرحها سواء في المجال الثقافي، أوفي المجال السياسي، وبدون تردد ولا مخاتلة، وذلك من أجل مواجهة أنفسنا، ومواجهة تاريخنا، وحلِّ مختلف التناقضات التي نشأت بيننا وبين العالم في التاريخ.
يندرج ضمن الأفق الذي كنا بصدد تعيين قسماته العامة، مبدأ عام نريد التأكيد عليه هنا، يتعلق الأمر بضرورة التواصل الإيجابي مع العالم، ومحاولة التقليص من الصورة المتداولة عن الآخر في الثقافة العربية، صورة فكر المؤامرة، وفكرة الآخر والآخرين الذي يتربصون بنا. صحيح أن بيننا وبين العالم كثيراً من أوجه الصراع، إلا أن هذا الصراع تفسره عوامل موضوعية، وتفسره تناقضات المصالح. ومتى استوعبنا هذا الأمر في أبعاده التاريخية، فإننا نستطيع أن نجد الحلول الأكثر تاريخية، لكل ما يعترض حياتنا ويعطل مشاريعنا في النهضة والتقدم. وفي السياق نفسه، نقول إنه ينبغي التسلح بمبدأ النسبية في النظر إلى قضايانا الخلافية وإلى القضايا القائمة بيننا وبين العالم. والتسلح أيضا بكثير من الحس التاريخي الذي يجعلنا نُمَوْضع ذواتنا في المكان المناسب في علاقتنا بالآخرين، وفي سياق علاقتنا بتاريخنا، وذلك من أجل أن نتمكن من بناء ما يسعف بتخطي عوائق استقلالنا.
أتصور أن تغيير صورتنا في تمثلات الآخرين عنا، يبدأ من تصحيح صورتنا عن أنفسنا، ومعالجة أوضاعنا الداخلية. إن المعركة الهامة في مجتمعاتنا اليوم، هي معركة مع الذات أولاً، مع كل الخيبات والهزائم التي تُقيد وتَشُلُّ إرادتنا في التقدم.
نحن في حاجة إلى تصويب صُوَّرنا، ولا يحصل تصويب الصُّور إلا بالتصالح مع أمرين اثنين: التصالح كما قلنا مع ذواتنا أولاً، وهو الأمر الذي يعني إعادة اكتشاف ذاتنا التاريخية، حيث لا توجد ذات تامة مكتملة ومغلقة. ينبغي أن نكون على بينة من أن ذواتنا تعرف كثيراً من التحول في التاريخ، وهي حمَّالة ذوات متعددة، صُنعت وتُصنع في التاريخ. ثم التصالح في الآن نفسه مع العالم، والاستفادة من مكاسبه ومغانمه في المعرفة والتقنية، وغير ذلك من المكاسب الصانعة اليوم لمظاهر التقدم في العالم. فليس من حق الآخرين الذين يمتلكون القوة والوسائل المتطورة في مجال المعرفة والعلم، أن يستفيدوا وحدهم مما صنعوا، بل من حقنا جميعا أن نستفيد من الميراث الإنساني في مجال التقدم العلمي والتقنية؛ ذلك إننا حينما نستفيد من المكاسب التي ذكرنا، نقوم بتطويرها وتوسيعها. ويترتب عن هذا، أننا نمنحها الطابع الكوني الذي نتجه صوبه جميعا.