التحرّر العلماني: العرش والمذبح

فئة :  ترجمات

التحرّر العلماني: العرش والمذبح

التحرّر العلماني: العرش والمذبح

ليس التاريخ الغربي للعلاقات بين السلطات الزمنيّة والسلطات الكهنوتية تاريخ حرب تفترض عداوة دائمة بقدر ما هو تاريخ صراع على قاعدة التواطؤ؛ وذلك في ارتباط بعمليّة هيمنة غير قابلة للاختزال إلى مجرّد تنظيم الحياة الاجتماعيّة. في حالة توظيف الدين الموجود من قِبل سلطة معيّنة، تطرح مسألة التمييز الفعلي بين نوعين من السلطة. إنّ ديناً يضمن السلطة ويضفي عليها قداسة لَينزعُ إلى فقدان معناه الخاص المتمثل في الشهادة الروحيّة المستقلة، كما أنّ سلطة لا تتصوّر الدين إلّا تابعاً ومقرّظاً تُظهر نزوعها نحو الاستبداد. ولكن يوجد حدّ أوسط ربّما يكون الأخطر، هو حدّ التبعيّة المشتركة في إطار الاعتراف المتبادل. يعطي السلطان الزمني السلطةَ الروحيّة نفوذاً حاسماً في الحياة العامّة، في مقابل شرعنةٍ تدعم هيمنته. يبدو أنّ تقاسم الأدوار هذا هو الذي ساد طويلاً: شكلٌ وفاقي لتواطؤ تتلاشى معه الصراعات من أجل حقّ الصدارة في اقتسام فعلي لأنواع السلطة. وهكذا يلعب العرش والمذبح، بالتناوب، سيناريوهات الصدام والتحالف كما لو كان من البدهي أن تكون لهما بصورة مشروعة قوّة ممارسة الهيمنة والمشكل الوحيد هو معرفة من يمسك بها.

التمييز بين المجالات

لا تكتفي العلمانيّة، مقترنةً بإثبات السيادة الشعبيّة، بطرح أولويّة السلطة الزمنيّة مهما كانت طبيعتها؛ فهي، إذن، ليست سابقة لأوانها من خلال الصيغة التي تُخضع عبادة معيّنة لسلطة زمنيّة مع إعطائها امتياز العقيدة الرسميّة (الغاليكانيّة (*) في فرنسا، الإنجليكانيّة Anglicanisme في إنجلترا). لا تحتاج العلمانيّة إلى مثل تلك الأولويّة؛ لأنّها تَعِدُ بالاستقلال المتزامن للأديان وللدولة. لا يضمن خضوع السلطة الدينيّة للسلطان السياسي احترام المساواة الأخلاقيّة والسياسيّة بين المواطنين، وخاصّة أنّها تنسجم بصورة عامّة مع الدين الرسمي، كما يُبيّن ذلك مِثال البلدان الإنجلوسكسونيّة. ليست الغاليكانيّة أو الإنجليكانيّة إلّا قلباً للبابويّة المتطرّفة (Ultramontanisme) (أي الاعتراف بالبابا سلطةً عليا). لقد حصل الصراع التقليدي بين الكهنوت (sacerdoce) والمملكة (أو الإمبراطوريّة) قبل قيام دولة الحقّ الفعليّة، لما اندرج ضمن خلفيّة لم يكن معترَفاً فيها لا بحريّة الضمير، ولا بالمساواة في الحقوق، ولا بالسيادة الشعبيّة. لا يمكن، ما دام الأمر كذلك، التفكير في التحرّر العلماني ضمن الحدود والأطر الموروثة من التقليد؛ لأنّه يمثل إعادة تعريف حقيقي له، مصحوباً بإعادة تأسيس للعلاقة بين الدين والسياسة: لا يتعلق الأمر أبداً بمعرفة من هو المنتصر، بل بالتعرّف إلى التمييز بين المجالات التي ليس عليها أن تتصارع فيما بينها، بل أن يأتمر الواحد منها بأوامر الآخر. إنّ الثورة الفرنسيّة -وليس المعاهدة النابليونيّة لسنة (1801)- هي التي فتحت الطريق لإعادة التأسيس تلك. يمكن أن تبدو الصياغات التي تقترحها غامضة في ما يتعلق بمبدأ حريّة الضمير الذي كان رابو دي سانت إتيان (Rabaut de Saint-ètienne) يرغب في رؤيته منصوصاً عليه بوضوح في (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الصادر في شهر آب/أغسطس (1789)، ولكنّ فضلها يكمن في أنّها أسندت إلى الحقوق المذكورة خاصيّة أوّليّة وغير قابلة للتنازل. سيفضي الطريق الذي فتح إلى فعل التحرّر المشترك للجماعة السياسيّة وللروحانيّة الدينيّة، الفعل الذي سيمثله في فرنسا قانون الفصل بين الكنيسة والدولة الصادر عام (1905). وبالنسبة إلى التخلخل المحرّر، سيكون العنف الناتج عن أشكال الخضوع المشتركة المختلفة مثيراً للدهشة.

تتمثل القطيعة المؤسِّسة من جديد، إذن، في ردّ السياسي والديني إلى استقلالهما المتبادل، إلى تحرير كلّ واحد منهما من الآخر. وبالتزامن مع ذلك، يتحرّر كلّ الفضاء الروحي من خضوعه إلى الوصاية الدينيّة، أو من الامتياز الذي يُعطى له عندما يكون لوسمٍ عقائدي ما تأثير في المؤسّسات العامّة. وليس مفهوم الفصل إلّا التعبير عمّا يتطّلبه ذلك التحرّر. تعيد الإشكاليّة الجديدة تعريف نظام حقّ الأديان في اللحظة ذاتها التي تصبح فيها هذه الأخيرة مؤسِّسة لحقوقٍ معتَبَرة، من هنا فصاعداً، حقوقاً أوّليّة غير قابلة للاشتقاق من سلطة يمكنها ألّا «تهبها». إنّ حريّة الضمير وترجمتها خياراً روحياً معيّناً لا يمكن أن تتعلق بإرادة خارجيّة، أو بسلطة زمنيّة «تتسامح» معها مفضِّلة ديناً مرجعيًّا. لا تتلاءم المساواة الأخلاقيّة بين المواطنين مع مثل ذلك التفضيل الذي يعني تمييزاً -وإن كان معتدلاً-بين القناعات الغريبة عن المرجعيّة المعتمدة. إنّ القدرة المعترَف بها لكلّ واحد لتوجيه حياته وتعريف نمط اكتماله الخاص في احترام للقانون العام تقصي كلّ وصاية، كما تمنع كلّ ميل أبوي للسلطة السياسيّة إلى تحقيق سعادة الناس رغماً عنهم. إنّها لا تطلب منها إلّا الوسيلة التي تحميها من كلّ أشكال الضغط والتحكّم؛ أي أن تتمتّع بالاستقلاليّة التي يؤسّسها عقل مستنير.

في ما وراء التسامح

لقد تحقق التحرّر العلماني من وصاية رجال الدين مفهوماّ كمسار انعتاق تاريخي في لحظتين؛ تمثّلت الأولى في الانتقال من التسامح المحدود إلى التسامح العام، وقطعت اللحظة الثانية مع غموض مفهوم التسامح وحدوده على المستوى السياسي لتحقق في مستواه القانوني بما هو مبدأ دستوري عملية إعادة التأسيس العلمانية؛ (أي) إثبات حرية الضمير والمساواة الأخلاقية في الآن نفسه. بين اللحظتين حصل تقدم حاسم أفضى إلى وضع الحقوق الأساسية خارج نطاق كل تعسف.

ضمن إشكاليّة التسامح، بوصفها مسألة مبدأ، تبقى حريّة الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، الاعتقاد بطريقة ما عوض الاعتقاد بطريقة أخرى، تابعةً لسلطة خارجيّة بالنسبة إليها. لقد عبّر ميرابو (Mirabeau) عام (1789) عن تعجبه: «لن أنصح بالتسامح: إنّ حريّة الدين غير المحدودة هي في نظري حقّ مقدّس، حتى أنّ كلمة تسامح التي تعبّر عنه تبدو لي، بمعنى ما، هي ذاتها قمعيّة». ويؤكّد كوندورسي (Condorcet) بصورة جذريّة أكثر على الخطر المرتبط بالتمسّك بعبادة سائدة مضمّنة في سلطة الدولة: «لا تسمح أيّ ديانة في البلاد التي تكون فيها مهيمنة إلّا ببعض الآراء [...] لم تنقطع السلسلة، ولكنّها صارت أقلّ ثقلاً وأكثر تمدّداً. وفي النهاية، في تلك البلدان، حيث كان من المستحيل أن تقهر ديانة معيّنة كلّ الديانات الأخرى، ظهر ما ستتجرّأ وقاحة العقيدة المهيمنة على تسميته بالتسامح؛ أي الرخصة المعطاة من قِبَل أناس لأناس آخرين لأن يعتقدوا ما يقرّه عقلهم، وأن يفعلوا ما يأمرهم به ضميرهم، وأن يقدّموا لإلههم المشترك التبجيل الذي يتخيّلون أنّه يرضيه»[1]. بالفعل يختلف معنى التسامح الإيجابي، بوصفه استعداداً أخلاقياً للاستماع والحوار، بشكل محسوس، عن معناه القانوني-السياسي: تتسامح السلطة مع ما لا تريده أو مع ما لا تستطيع منعه، ولكن ما هو مسموح به يظلّ في وضعيّة دونيّة بالنظر إلى ما هو معطى كمعيار. لذلك، إنّ الدول التي تحترم حريّة الضمير، مع تفضيلها رسميّاً ملّة معيّنة، لا تحترم تماماً مبدأ المساواة بين المواطنين، فالإلحاد، مثلاً، لا يحظى فيها بالمكانة نفسها التي للأديان المعترف بها رسميًّا.

انعتاق مضاعف

يتطلّب التحرّر العلماني أن تكفّ الأديان عن التدخّل في السلطة العامّة؛ أي الفصل التام بين مجالين ذوَيْ نظامين مختلفين، وليس نفيَ واحدٍ لفائدة الآخر. يرى كثير من الكاثوليك أنّ قانون (1905)، المُسمّى قانون الفصل بين الكنيسة والدولة، بمنزلة مرافقة صحيّة للدين نحو نزعته الروحانيّة. لقد ابتدأ مسار علمنة المؤسّسات العموميّة منذ عشرين سنة قبل ذلك: لقد كانت المستشفيات والمقابر والمخيّمات والأماكن العامّة المهيّأة للحياد العقائدي متوافقة مع بُعد الكونيّة المطابق لمفهوم الجمهوريّة الجميل. ولكنّ علمنة المدرسة بشكل خاص هي التي قادت الى إعطاء فكرة الفصل معناها التام. لقد كفّت المدرسة العموميّة عن أن تكون خاضعة للدين لتصبح، عمليّاً، مدرسة للجميع، ولكن دون أن تصبح مناهضة للدين: إنّها بالأحرى لا دينيّة، تترك للفضاء الخاص حريّة ترقية خياره الروحي. وأمّا التعليم، فينبغي أن يكون عموميّاً، لمّا كان رهانه له أهميّة كونيّة، ولمّا كان يتعلّق بتكوين الحكم المستنير بالنسبة إلى كلّ إنسان، كما يمكن أن تؤسّس له ثقافة مشتركة منشغلة بالعقل والحقيقة. يلاحظ هنا أنّ الفصل ليس هو المعاداة المبدئيّة، وأنّ العلمانيّة لا تجري أيّ تغيير في العلاقة بين المهيمِن والمهيمَن عليه: إنّها ترفض تلك العلاقة ذاتها. لا تأخذ ديانة أو إيديولوجيا خاصّة مكان عقيدة كانت لعهد قريب مفضّلة. وبهذا الصدد تُعدّ النزعة الإلحاديّة المناضلة في البلدان الستالينيّة بعيدة عن المثل الأعلى العلماني، تماماً مثل الأشكال التقليديّة لديانات الدولة المختلفة، ومثل الكليروسيّات البابويّة (cléricalismes papistes). من الملائم ربط خاصيّة إعادة التأسيس العلماني بطبيعة مبدأ الوحدة الذي تستخدمه، والذي يجعلها وثيقة الصلة بدولة القانون: المساواة في الحريّة فحسب يمكنها أن تصبح خير الجميع، وتقترن بالاحترام القانوني للاختلافات عندما تحترم هذه الأخيرة، بدورها، الفضاء العام.

تأليف: تعريف عقلاني للعلمانيّة

العلمانيّة مبدأ للحقّ السياسي، وهي تشتمل على مَثل أعلى كوني لتنظيم المدينة، وعلى الجهاز القانوني الذي يتأسّس عليه ويحققه في الوقت نفسه. الكلمة التي تدل على المبدأ أي اللّائيكيّة، تُحيل على وحدة الشعب، لاووس (Laos) بالإغريقيّة. والوحدة تفهم بالنظر إلى ذلك الأصل باعتبارها تقوم فيها على ثلاثة مقتضيات غير قابلة للانفصال: حريّة الضمير، والمساواة بين المواطنين مهما كانت قناعاتهم الروحيّة أو جنسهم أو أصلهم ومقصد المصلحة العامّة، والخير المشترك بين الجميع بما هو المصلحة العليا الوحيدة للدولة. تتمثل العلمانيّة في تخليص مجموع الفضاء العمومي من كلّ نفوذ ممارَس باسم دين أو إيديولوجيا خاصّة، وهي بذلك تحفظ الفضاء العمومي من كلّ انقسام طائفي أو عقائدي من أجل أن يتمكّن جميع الناس، في الوقت نفسه، من أن يوجدوا فيه ويتعارفوا. يؤسّس ذلك الحياد العقائدي، إذن، على قيم معلنة بوضوح ومقبولة: الدولة العلمانيّة ليست فارغة بل تجسّد الاختيار المتزامن لحريّة الضمير والمساواة، وللكونيّة، وهو ما يمكّنها من أن تحتضن كلّ الكائنات البشريّة دون أن تعطي أيّ امتياز لخصوصيّة بعينها. وبواسطة المدرسة العلمانيّة تحصل كلّ من حريّة الضمير والمساواة على الضمانة المؤسِّسة لتعليمٍ هدفه تحرير الوعي وإعطاؤه المرجعيّات الثقافيّة التي تخلّصه من القوى الإيديولوجيّة المهيمنة ومن نفوذها الإعلامي. تشكّل استقلاليّة الحكم والرهان على الفطنة، مع الحريّة والمساواة والاهتمام بالكوني، قيماً أساسيّة للعلمانيّة.

يتلاءم الاهتمام بفضاء مشترك بين الناس، على الرغم من اختلافاتهم، مع تلك الاختلافات، شريطة ألّا يسبّب النظام الذي يثبّتها انتهاكاً للقانون المشترك الذي يجعل وجودها معاً ممكناً فيتحقق التوافق. إنّ قانون فصل الدولة عن الكنائس هو الجهاز القانوني المكوِّن للعلمانيّة المؤسّساتيّة؛ لأنّه يضمن تماماً ليس حريّة الضمير فحسب، بل أيضاً المساواة التامّة بين مختلف المؤمنين والملحدين واللّاأدريين. تنقسم المجتمعات اليوم بحسب تلك الأصناف الثلاثة من الاختيارات الروحيّة. ومبدأ المساواة العلماني لا يتطابق مع أدنى تمييز إيجابي أو سلبي مطبّق على الشكل الإلحادي أو الديني للاقتناع الروحي. سيكون من غير المشروع التوسّل بالثقافة أو بالتقليد أو بعناصر مفتَرَضة للهويّة الجماعيّة لرفض تلك المساواة من خلال التكريس العلني لخيار روحي عوض آخر. سيؤدّي ذلك إلى خصخصة الفضاء العمومي وممارسة العنف ضدّ أولئك الذين لا يتمتّعون بذلك الامتياز لمّا كانت اختياراتهم الروحيّة ستحتلّ مكانة دونيّة. وفضلاً عن ذلك، لا تعترف الجمهوريّة العلمانيّة إلّا بالشخص الفردي ذاتاً حَريّة بالحق، والوحيد المؤهّل لاختيار مرجعيّاته الروحيّة.

تقصي العلمانيّة، بالنتيجة، كلّ امتياز عمومي يُعطى للدين أو للإلحاد؛ وذلك الامتناع أو الحياد المبدئي يضع الدولة، باعتبارها وحدة المواطنين القانونيّة، خارج كلّ نفوذ طائفي. إنّ وضع الدولة لنفسها حدوداً -وهي ليست حَكَماً فيما يتعلّق بالمعتقدات- يحرّرُ الفضاء الخاصّ في المجال الأخلاقي والروحي. إنّ ماريان (Marianne)، الجمهوريّة الديمقراطيّة والعلمانيّة، لا تشبه قيصر، سلطة الهيمنة التقليديّة التي تستخدم الدين عند الاقتضاء بأن تضمن له مكانة العقيدة المفروضة. إنّ العلمانيّة هي مَثَل أعلى تكمن أصالته في كونه يسمح للجميع، مؤمنين وملحدين، بأن يعيشوا معاً دون أن يكون هؤلاء أو أولئك موسومين بسبب قناعاتهم الخاصّة. يتمثل سبب وجود العلمانيّة في ترقية المشترك بين الناس جميعاً لا ما هو مشترك بين بعضهم.

في المدرسة العموميّة المفتوحة للجميع، يُترجم احترام حريّة الضمير المقترن باحترام الفضاء الشخصي بالانشغال بتطوير الخير الوحيد، الذي يمكن أن يكون مشتركاً بين الجميع، ألا وهو التربية على الحريّة، وذلك بواسطة المعرفة العقليّة والثقافة الكونيّة بما هما شرطا استقلاليّة الحكم.

تنزع المدرسة العموميّة العَلمانيّة نحو الكوني وتريد أن تعطي لنفسها الشروط التي تمكّنها من القيام بدورها. وهي عندما تحتضن الأطفال الصغار الذين لا يتمتع أغلبهم بعدُ بالأهليّة القانونيّة، بل يحتاج إلى ذلك النوع من الاحترام الذي يساعد على تحقق طاقاتهم الكامنة، لا تعزلهم داخل الجماعات التي يُفتَرض أنّهم ينتمون إليها. قد يُهدّد تكريس الاختلاف دورها التحريري، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ التأكيد على الاختلاف سيكون مستحيلاً، بل إنّ نمط تأكيده ينبغي أن يبقى متلائماً مع القانون المشترك، ولا يشهد على أيّ اغتراب أوّليّ كما في الحالة التي تريد فيها العائلات إظهار خصوصيّاتها في المدرسة باستعمال الأطفال الذين يُختزَلون إلى «أعضاء» في جماعة خاصّة من دون إرادة شخصيّة.

إنّ التمييز بين الفضاء الخاصّ والفضاء العام هو هنا تمييز حاسم؛ لأنّه يسمح بتمييز أمكنة وأنماط إثبات الاختلافات من أجل حماية الانتقاء الحرّ المتزامن لخيار أخلاقي أو روحي وسكينة الفضاء المدرسي المفتوح أمام الجميع، وهو أيضاً فضاء مفتوح -بصورة خاصّة- أمام الثقافة المحرِّرة التي تستبعِد كلّ خصوصيّة على الأقلّ من أجل فهمها جيّداً بإعادة وضعها في أفق الكونيّة ليتمّ بذلك تأكيدها وفق نمط غير متعصّب.

نظراً لكون المدرسة العموميّة هي كذلك بالتعريف، لا يمكن لأيّ معتقَدٍ ديني، ولا لأيّ اقتناع إلحادي، أن يُعدَّ الأفضل أو الأرفع شأناً؛ لأنّ ذلك يلغي مبدأ المساواة، ويؤذي العائلات التي لا تتقاسم الاقتناع الخاص المفضَّل. لذلك إذا كان يتوجّب تطوير معرفة الواقعة الدينيّة والتراث الأسطوري والرمزي للإنسانيّة في المدرسة، فإنّه يجب ألّا يكون فيها مكان لدرسٍ في الدين أو لدرسٍ في النزعة الإنسانيّة الملحدة؛ وذلك لأنّه بالإمكان الاهتمام بهذين الخيارين الروحيين في الفضاء الخاص، سواء كان من طبيعة فرديّة أم جمعيّاتيّة (associative).

إنّ معرفة الواقعة الدينيّة، سواء تعلّق الأمر بالمذاهب أم بالوقائع التاريخيّة، وكذلك معرفة الميثولوجيّات والرمزيّات المسجّلة في التراث الكوني، أو معرفة تمثّلات العالم المندرجة بشكل مشروع في الثقافة المقترحَة للتدريس، يجب أن تُفصَل بدقة عن كلّ تقويم متعصّب وعن كلّ تحقير جدالي. إنّ عبارات «ثقافة دينيّة» أو «تعليم الأديان» هي، بهذا الصدد، على غاية من الالتباس، حيث يحسُن عدم استعمالها. تنتمي المقاربة العلمانيّة للوقائع والمذاهب الدينيّة، بعيداً عن كلّ موقف منحاز، إلى موقف متطابق مع المسؤوليّة المنسوبة إلى المدرسة العموميّة، ومع المبادئ التي تنظّمها. لا يمكن لأيّ مؤسّسة لاهوتيّة أن تتدخّل في التعليم العمومي، أو في تكوين معلّمي المدرسة العموميّة بتعلّة التعريف بالأديان فيها. وليس لأيّ حزب سياسي أيضاً حق التدخّل فيها بتعلّة التعريف بالمذاهب السياسيّة. إنّ من شأن الخلط بين الأنواع أن يكون مدمّراً ومَصدراً كامناً للصراعات.

من هنا ضرورة دينطولوجيا (علم أدبيّات الواجب) علمانيّة. تدعو هذه الأخيرة إلى التزام المدرّس بواجب التحفظ واتخاذ المسافة اللّازمة، وهو المقابل لحقّ التلاميذ في عدم التعرّض لأيّ توجيه عقائدي. إنّ مسألة معنى الوجود والإحداثيّات الإيتيقيّة أو المدنيّة التي من شأنها أن توضحها لا يمكن إلّا أن تلقى توضيحاً تأمليّاً ونقديّاً، مع استبعاد كلّ تقويم غير محايد هو شكل مقنّع من التكييف. يجب أن تكون سجلات المعرفة والاعتقاد مميَّزة بعناية، وما هو موضوع اعتقاد مصرّح به عَلناً للتلاميذ (مثلاً كلمة «موحى به»، عندما تستعمل للدلالة على الدين، يجب أن توضع دائماً بين مزدوجتين للإشارة إلى أنّه لا وجود لــ «وحي» إلّا بالنسبة إلى من يعتقدون في وجوده). لا يمكن تبرير تخصّص نوعي لدراسة الواقعة الدينيّة؛ لأنّ ذلك يتضمّن حُكماً مسبقاً بأفضليتها مقارنة بجوانب أخرى من الإنسانيّات، ومن العوالم الرمزيّة أو الفلسفيّة، وكذلك بإمكانيّة تحديد معناها دون وَصْلها بسياق معيّن. لا يوجد، بالفعل، سبب يسمح بأن يحظى الشكل الديني بتفضيل خاص مقارنة بالأشكال الإلحاديّة واللّاأدريّة المتعلّقة برؤية العالم.

[1]- Condorcet, Esquisse d'un tableau historique des progrès de l'esprit humain, Huitième époque, Garnier-Flammarion, p. 198-199.