التدين الشعبي وأزمة كورونا
فئة : مقالات
نعتقد بوجود سلطة للتدين الشعبي، مرة على نحو الرمزية، وأخرى مادية فاعلة وواضحة بشكل كبير في المجتمع، يصعب أحيانا توجيهها والسيطرة عليها، حتى في أشد الظروف التي تهدد المتدين نفسه، وربما مرد ذلك إلى هيمنة العقل الجمعي لدى الجماعات، وشعورهم أن مثل هذه الممارسات والطقوس الدينية جزء من هويتهم، بل وكرامتهم. ونحاول في هذه الدراسة، مقاربة التدين الشعبي مع ما نشهده من أزمة صحية، متعددة الجوانب، فلا غرابة إن اتفقنا مع من يرى: أن عالم ما قبل وباء وكورنا ليس كما بعده.
التدين الشعبي
هو إجابة فردية ضمن سياق جماعي لحاجة عميقة تفترض تلبية الواجب الديني الموروث، وهو نمط لا يميل في الغالب إلى المعارضة، ويتقيد ولو ظاهرياً بالولاء للسلطة السياسية القائمة، والتقاليد السائدة دون البحث عن شرعيتها ومناقشة أسسها[1]، أو هو "جملة المعتقدات والممارسات الدِّينية التي تتمُّ ممارستُها باستقلالٍ نسبيٍ عن المؤسَّسة الدِّينية الرسمية، وهو شديد التنوع بحسب البيئات ونظُم المجتمع والأحوال الاقتصادية والأنماط المعيشية، كما أنَّه يتمركزُ عادة حول المزارات، أو أضرحة الأولياء والقدِّيسين الصَّالحين، ممن لهم أصول في التَّاريخ، وبالمثل حول شخصيات أسطورية غير تاريخية"[2].
وقد يشير المصطلح في بعض المجتمعات إلى عدد من المعتقدات، والممارسات، منها:
1. التصوف.
2. وزيارة الأولياء.
3. الاحتفالات، والطقوس، والشعائر الجماعية.
إن الشعائر والطقوس - بحسب مارك أوجيه - تعبر عن تكافل المجموعة وهي تقويها، ولا وجود لدين دون كتاب الطقوس[3].
هذا يعني أن للطقوس والشعائر أهمية كبيرة في مكونات الدين، ومن الصعب غياب أو تغييب أدائها ولو لمدة معينة. لذلك، نجد المعتقد الديني الطقسي أو ما يمكن تسميته بــ "الضمير الديني الشعبي" في أزمة كورونا حاضرا وبقوة.
مداخل دراسة التدين الشعبي
نموذج التدين الشعبي هو أرض وسطى بين الدين والعرف؛ فالتناقض المتبادل بين الدين والمعتقدات الشعبية هو ما يعين إطار الدين الشعبي ومادته بالنظر إلى أن هذه المعتقدات تقترب من تكوين ديني اعتقادي بوصفه نظاماً لصيقاً للدين يرتكز[4]:
أولاً- الاستحضار الكبير للقداسَة، وعلى التقليد النوعي، والممارسات التوفيقية.
ثانياً- تقابلية العلاقة مع علماء الدِّين الرسميين.
ثالثاً- التَّفسيرات الرَّمزية، والحضور الكبير للجانب الطقسي، بل الاعتماد على الرأسمال الرمزي للجماعة والطائفة الدينية.
خامسا. تمركز التعبُّد حول شخص الولي، والقدِّيس أكثر منه على النُّصوص والتَّعاليم المجرَّدة، والإيمان بالعجائب الخارقة وبالكرامات والبرَكَة، وتأويل النُّصوص تأويلا خاصا.
إن الشعبي مقولة بُنيت أساسا على العلاقات الرمزية بين الثقافة "الرفيعة" و"الهامشية" ولا يمكن الاقتصار في وصفها على مقولات البنية الاقتصادية والاجتماعية وحدها.
لقد مالت أغلب القطاعات الشعبية الفقيرة إلى نمط التدين الشعبي، كذلك ترسخ هذا النمط من التدين في المجتمعات التقليدية الحضرية، وفي أغلب الأحوال، فإن هذا الأمر راجع إلى أسباب اجتماعية وثقافية واقتصادية.
محددات التدين الشعبي:
ويمكن بالنظر إلى عدد من المعايير والضوابط الموضوعية أن نميز بين أنماط مختلفة للتدين بحسبانه ظاهرة تاريخية اجتماعية، يأتي في مقدمة هذه المعايير:
1. درجة ومستوى حضور النص الديني في الممارسات والطقوس التعبدية.
2. غياب النص ومن ثم غياب التأويل، أو اعتماد تأويل أو قراءة خاصة منتجة في إطار الممارسة الشعبية المستمرة.
3. في بعض الأحيان، يتجاوز هذا النمط من التدين النص والعمل بشكل صريح وعلني مخالف للنص برعاية رموز هذا النمط من التدين؛ أي دون الرجوع للمؤسسة الدينية الرسمية[5]، المعترف بها.
4. هيمنة التقديس، وإضفائه على كل ممارسة شعبية، في إطار ديني.
5. الولاء للرمز الديني بشكل أو بآخر.
إن الرموز الدينية تفعل فعلها بأن توجد لدى المُتعبّد مجموعة من الحالات النفسية الخاصة (من الاتجاهات، أو القدرات، أو الميول، أو المهارات، أو العادات، أو نقاط الضعف أو الاستعدادات التي تصبغ أفعاله ونوعية تجربته بصبغتها المعهودة)[6].
ومع قولنا، إن التدين الشعبي غالبا ما يتجاوز النص، أو يقوم بتأويله تأويلا يناسب المحيط والظرف المعاش، إلا أنه في الوقت ذاته يظهر ولاء كبيرا للرمز الديني، ربما غير حاضر في بيئة التدين الرسمي أو المؤسسي، ولأن (الرمز هو علامة تقارب، بواسطته يحدث التعارف بين حلفاء وينت الاتحاد بين مؤمنين. فالوظيفة الأولى للرّمز هي إرساء رابطة علاقة بين الناس، بتلك الوظيفة كمرجع يحدّد الرمز فعلاً اجتماعياً. فمنذ م. موس نُظر إلى الرمزيّة على أساس أنها واقعة داخل المجتمع. وحدها الوظيفة معتبرة في تلك الرؤية الإناسية المرجعية للرمز)[7].
لكن مع هذا الولاء الكبير للرمز الديني، المتمثل بشخصية تتمتع بالورع والتقوى، نجد الولاء للمعتقد المتجذر تاريخيا، عبر الطقوس وغيرها، أحيانا يفوق الولاء الرمزي، ولذلك نشهد أحيانا ما يرقى للخرق في تراتبية واستمرارية الولاء وتجاوز الرمز، إذا ما شعر اتباع التدين الشعبي حصول ما يعدونه تهديدا لهويتهم التاريخية المتجذرة في النفوس.
ولهذا تصبح الثقافة الخاصة، والطقوس في أهم جوانب تلك الثقافة، ملجأ للجماعات، فتلعب دورًا أساسيًا في تصليبها، أيًّا كانت دينية أو وطنية أو غيرهما، وهي تمثل درعا لحمايتها، ووسيلة لاستمرارها وتوريثها وتعميقها وانتشارها، ومن هنا يكمن الاستبسال لدى كثير من المنتمين إليها عبر المشاركة في تلك الطقوس وإحيائها، والدفاع عنها بكل الشراسة الممكنة. إن حماية الهوية يعني تمتين خطوط الدفاع الأولى التي تمثلها الطقوس، وهذا أمر طبيعي جدًّا، فهي تحمل في ذاتها دفاعا عن الذات الشخصية، وعن الجماعة: حاضرها ومستقبلها.[8]
أزمة كورونا وسلطة التدين الشعبي
يرى ميشال مسلان: "أن الشيء المقدس هو قبل كل شيء رمز"[9]، وهذا يعني مدى التداخل بين المقدس والرمز، لكن يبدو أن أحدهما يرتبط بالآخر، وإذا أخذنا بالمفهوم الواسع لمصطلح السلطة، سواء كان في مجال علم النفس أو الاجتماع أو السياق الديني، نجد هناك نوع من التأثير والقوة، بل والإمرة والطاعة، التي هي من مؤيدات وحضور السلطة[10] في سياق التدين الشعبي.
وذات السياق، كشفت أزمة كورنا مدى الاختلاف في الأوساط الشعبية، والجدل الذي يدور حول القداسة والطقوس والعلم وعالم الغيبيات؛ ففي بداية انتشار الوباء في الصين، بعض الأوساط الشعبية كانت ترى أنه عقاب رباني!!، وحين ظهر في بلدان العالم الإسلامي حاولوا تأويل المقولة وتغييرها، ومن ثم ربط بعضهم بين ظهور هذه الجائحة، وبين أخبار وأحداث آخر الزمان التي تزخر بها المدونات الروائية والحديثية، حتى وصلنا في هذا الوقت، إلى الاعتراض على طريق دفن المتوفين بسبب الفايروس، على أكثر من مستوى، ولعلنا نلخص ذلك في الآتي، مما يدل على غلبة وتفوق المعتقد والحضور الطقسي في صلب الممارسة الدينية الشعبية، حتى لو كان على حساب النفس والمجتمع.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك، ما حصل من جدل كبير في الأوساط الاجتماعية، وحتى قسم من الجهات الرسمية التي تخشى سلطة التدين الشعبي حول طريقة دفن المتوفى بسبب الفايروس وحكم تكفينه، مما استدعى تدخل المرجعية الدينية، بوصفها المثال الحي للتدين الرسمي النصي.
فقد حصل نوع من سوء التدبير والتخطيط في إدارة الازمة، خصوصا ما يتعلق بدفن المتوفين بوباء كورونا، حيث أصبح الموضوع مثار جدل ورفض من قبل الجهات في تحديد مكان الدفن، وكذلك في جواز التكفين من عدمه؛ لارتباط الموضوع بنقل الفايروس لمن يتصدى للتكفين والدفن، وقد رصدت بعض وكالات الأنباء الصحفية ومواقع التواصل الاجتماعي تذمر بعض المعنيين من ذلك[11].
ويقول المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر في فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي إن منع الدفن "قضية لا تنسجم مع الأعراف الدينية والإنسانية التي تشدد على أن إكرام الميت دفنه". واعتبر أن مسألة انتشار المرض من الأموات "غير مستندة إلى حقائق علمية"، وأن هناك إجراءات تتخذها الدولة للحد من المخاطر "كالتعقيم ولف الجثة بأكياس وتابوت خاص".
وبعد انتشار هذا الموضوع وحصول نوع من الإرباك وعدم اتخاذ الجهات الرسمية القرار الواضح، في هذه المسألة وخشيتها من السطوة الشعبية، وحساسية الموقف، أفتت المرجعية الدينية في مدينة النجف العراقية بوجوب تكفين الميت بوباء كورونا بالأثواب الثلاثة (الأكفان) وعلى السلطات المعنية تسهيل دفنه في المقابر العامة، ولا يجوز حرق جثمانه[12]، مما جعل السلطات الحكومية المعنية تجهيز طاقم متخصص لهذه المهمة، وكذلك تخصيص قطعة أرض لهذا الغرض، وبالفعل جرت الأمور بشكل انسيابي إلى حد ما.
كذلك انسحب الأمر لكن بشكل أقل في إقامة مجالس الفاتحة على روح المتوفين بسبب الفايروس، حيث الموضوعية تقتضي القول: إن أغلب الأوساط الشعبية، التزمت بعدم إقامة مجالس الفاتحة، سواء كان للمصابين بالوباء أو بغير الوباء، التزاما بتعليمات عدم كسر حظر التجوال، وربما يعزى ذلك الالتزام، لأن المرض أصبح حقيقة على أرض الواقع، لكن ظهرت حالات قليلة أصر أصحابها على إقامة مجالس الفاتحة مع إخفاء سبب الوفاة، مما اضطرت الجهات الحكومية لتنبيه الحاضرين والتوجيه بزيارة المراكز الصحية لغرض الفحص، نتيجة ملامستهم لذوي المتوفى خشية انتقال الفايروس.
كذلك من صور التعاطي مع الرمز الديني، الذي هو سمة بارزة في التدين الشعبي، والتي تجلت في أزمة كورونا وما تبعها من حظر للتجوال سبب انقطاع أرزاق كثير من الناس الذين يعتمدون على المردود اليومي، وما إن صدرت توجيهات خطية من المرجعية[13]، حتى تسابقت قوافل المساعدات الغذائية، وبشكل لافت في مختلف الأحياء والقصبات السكنية في عموم العراق، ولرب سائل يسأل، هل مساعدة المعوزين - خصوصا وقت الأزمات - تحتاج إلى فتوى أو توجيه من الزعيم الروحي؟
بالتأكيد، إن مثل هذه التوجيهات التي تدعو إلى التكافل متوفرة وواضحة في النصوص الدينية والسيرة الخاصة بالنبي وغيره من الأئمة والأولياء والصالحين، لكن كما بينّا في هذا النمط من التدين إنه - في الغالب - لا يستحظر النص أو تأويل النص، بل يعتمد التعاطي المباشر على نحو الممارسة العملية.
ومن المعلوم أن نمط التدين الشعبي لا يقتصر على جغرافيا محددة، بل يشمل جميع الديانات والطوائف في مختلف العالم؛ فقد لجأ بعض المؤمنين لكتابة نصوص دينية على أبواب البيوت والمنازل أو رسم الرموز الدينية وأسماء الأولياء أو حتى رسم الصليب بالنسبة إلى المسيحيين، وفي تقديري هذا نوع من التماس الاطمئنان النفسي للشخص المتدين والمعتقد، لكن يمكن وضعه في التساؤل الأكبر في قابلية الإنسان للاستشفاء بالدين.
ويعتقد غيرتس: "أن النظم الرمزية هي أنماط ثقافية أيضاً، وهكذا قد ترى الأنماط الثقافية وكأنها نماذج للواقع مثلما هي نماذج من الواقع"[14].
إن أزمة فايروس كورونا كغيرها من الأزمات كشفت عن ممارسات متعددة ومتنوعة، يمثل بعض منها صورة مشرقة في التكافل والتعاون، حتى لو كان بتوجيه معين، وكشفت أيضا عن ممارسات لا ترتضيها حتى النصوص الدينية التأسيسية، وربما لا يمكننا وضعها في إطار ممارسات شعبية دينية، مثل: عدم احترام الخصوصية... فشاهدنا في أغلب الدول العربية والإسلامية، ومنها العراق انتهاكا صارخا للخصوصية، فعند اكتشاف أو الشك بوجود حالة مرضية تتعلق بوباء كورونا، تأتي سيارة الإسعاف وتقوم بتصوير البيت، وكأن المصاب بالفيروس مجرم يلقى عليه القبض.
ويبدو لي أن نمط التدين الشعبي يمكن أن يحدث أثرا فاعلا بما يملك من سلطة معنوية مؤثرة، فمثلما كان أحد الحلول لمواجهة الفكر المتطرف، يمكن الإفادة منه في مجالات أخرى عبر توجيهه توجيها صحيحا، يخدم المتدينين به والمجتمع الذي ينتشر به، وأعتقد أن عماد التدين الشعبي هو "حضور الجانب الرمزي"؛ فالتدين الشعبي مثال واضح على الأنظمة الرمزية، لكنه بحاجة إلى الدراسة والنقد ووضع الحلول للعوائق الاجتماعية التي تطرأ عليه، ولعل أزمة كورونا مثال واضح على ذلك.
إن أزمة كورونا تفرض وبإلحاح إجراء مراجعة شاملة لأكثر من مستوى:
- ديني، معرفي.
- اجتماعي.
- سياسي.
- ومستويات أخرى، وهذا يضعنا أمام مسؤولية كبيرة لمواجهة هكذا تحديات أمام سلطة رمزية اجتماعية.
[1] دكتورة/ سهير صفوت عبد الجيد، الدين والتدين في مصر (مقاربة فينومينولوجية)، ص 42
[2] ظ: د. حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، ص 449
[3] مارك أوجيه، وجان بول كولاين، الأنثروبولوجيا، ترجمة: د. جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008م، بيروت، ص ص 51-52
[4] ظ: د. حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، ص 449
[5] ليس بالضرورة أن يعني مصطلح "المؤسسة الدينية الرسمية"، خضوعها لإشراف أجهزة الدولة الرسمية، فبعض المؤسسات احتفظت باستقلاليتها المعنوية والمادية، ولا دور لوزارة الأوقاف عليها منذ زمن بعيد، بل نعني من "الرسمية" اعتراف أغلب اتباعها بها وإقرارهم بسلطانها المعنوي والروحي (الباحث)
[6] طلال أسد، جينالوجيا الدين..، ترجمة: محمد عصفور، مراجعة: مشير عون، دار الكتاب المدار الاسلامي، ط1، بيروت، 2017م، ص 57
[7] ميشال مسلان، علم الأديان، ترجمة: عز الدين عناية، دار كلمة، المركز الثقافي العربي، أبو ظبي - بيروت، ط1، 2009، 246
[8] د. حمزة الحسن، طقوس التشيع الهوية والسياسة، الانتشار العربي، ط1، بيروت، 2014م، ص 753
[9] علم الأديان مساهمة في التأسيس، ص 74
[10] ظ: أندريه لا لاند، موسوعة لا لاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت، 2012، 3/ ص 1308
[11] لا مقابر ولا تشييع لضحايا "كورونا" في العراق ص، حيفة الشرق الأوسط، الخميس - 2 شعبان 1441 هـ - 26 مارس 2020 مـ رقم العدد [15094]، https://aawsat.com/home/article/2199976/%D9%84%D8%A7-
[12] مكتب السيد السيستاني: https://www.sistani.org/arabic/archive/26406/، والفتوى كما واضح في الصورة المدرجة صادرة يوم 3/ شعبان م1441هــ، ما يوافق 28/ اذار مارسم2020م.
[13] مكتب السيد السيستاني في النجف الاشرف: https://www.sistani.org/arabic/archive/26388/، صدر البيان يوم 25م رجب/ 1441هـ حسب ما موجود في الصورة المرفقة. في الموقع.
[14] طلال اسد، جينالوجيا الدين..، ص 56