التراث العربي في الحاضر النشر والقراءة والصراع رضوان السيد
فئة : قراءات في كتب
التراث العربي في الحاضر
النشر والقراءة والصراع
رضوان السيد
موضوع الكتاب وأهميته
التراث بمعنى كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلاً بعد جيل؛ [1] فالتراث العربي الإسلامي يعد هو حلقة مهمة من تراث الإنسانية؛ لأنه أدى ولا يزال دوراً أساسيا ومهماً في إغناء وتطوير الحضارة الإنسانية، فالقارئ للتراث العربي الاسلامي يجد أمامه عملاقاً متشعب الفروع، يضم الطب والرياضيات وعلم البصريات إلى جانب الفلسفة والجغرافية والآداب والعلوم...
تعرف المسلمون أواخر القرن التاسع عشر، على طبيعة تأخرهم الحضاري، بالمقارنة مع الدول الأوروبية الغربية، التي تميزت حينها بمدنية متقدمة في مختلف مجالات الحياة العسكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية، وهو وضع جعل النخبة الثقافية والعلمية حينها تنظر إلى الذات الإسلامية وتراثها من جهة، ومن جهة أخرى إلى الآخر المتقدم ومختلف العلوم التي جعلته في الصدارة؛ فالسؤال المحوري لديها هو لماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق؟ وهو سؤال تتفرع عنه الكثير من الأسئلة، من بينها، فهل اللحاق بعجلة التقدم يقتضي التخلي عن تراث الامة؟ أم إن التقدم حالة بإمكان الأمة أن تعيشها إلى جانب تراثها وهويتها الحضارية؟ هذه هي الأسئلة التي أطرت رواد النهضة ورجال الإصلاح، من بينهم الطهطاوي والأفغاني وخير الدين التونسي...وكانوا على مستوى من الوضوح بأن مدنية الغرب لا تتعارض مع هوية الأمة وتراثها العلمي والأدبي؛ فالمشكلة ترتبط بطبيعة فهمنا لذلك التراث فهما يتوافق مع متطلبات العصر. وقد شرع رجالات النهضة ورواد الإصلاح في تجديد قراءة التراث الإسلامي وترجمة ما يقتضي ترجمته من الفكر الغربي؛ إذ أثمرت جهود الطهطاوي فتح مدرسة الترجمة سنة 1835م، التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن وعُيـِّن مديراً لها إلى جانب عمله مدرساً بها.
ترتب عن التفوق الحضاري للغرب واقع الاحتلال العسكري الذي كرس واقعا ثقافيا وسياسيا وعلميا طيلة عقود القرن العشرين في العالم الإسلامي، وقد بسط نموذجه الثقافي والعلمي بشكل واسع، وهو نموذج يصحب معه خلفيته ورؤيته للتاريخ والتراث الإسلامي، وقد تشكلت في العالم الإسلامي بدءا من العقود الأولى من القرن الماضي اتجاهات وتيارات متعددة منها ما هو مشبع بالنزعة العروبية ومنها ما هو مشبع بالنزعة اليسارية ومنها ما هو مشبع بنزعة الإسلام السياسي والاتجاهات السلفية النصية ومنها ما يتصف بالوفاء لروح التقليد في مختلف المؤسسات الدينية الكبرى مثل القيروان والزيتونة والأزهر وغيرها...فمختلف هذه التيارات كان لها موقف من التراث، وكل منها تقرأه وفق توجهاتها وتوظفه لمكاسب سياسية أو ثقافية...ولا شك أن مختلف تلك التيارات كان لها دورها سلبا أو إيجابا على كثير من النخب حتى هذه اللحظة.
من هنا تأتي أهمية كتاب رضوان السيد "التراث العربي في الحاضر" النشر والقراءة والصراع؛ وذلك بالعمل على قراءة مختلف تلك التيارات التي تشابكت واختلفت أو اتفقت حول موضوعات التراث وموقفها منه التي تجمع ما بين الانتقاء والتوفيق والتلفيق والدعوة إلى القطيعة أو الدعوة إلى الثبات عليه دون تجديد، ومختلف هذه المواقف دارت في مدار نشر المؤلفات التراثية التي تم نشرها وتعميمها، ومدار مختلف القراءات المتباينة لنفس المادة التراثية، بتبني قراءة جانب من التراث دون آخر، بأدوات ومناهج مختلفة بين تلك التيارات، التي خرجت بنتائج واستنتاجات تتعارض أحيانا مع مضمون التراث نفسه، بهدف تحقيق مطالب أيديولوجية عابرة.
لا شك أن الاهتمام بقراءة التراث بشكل كبير، كانت شغل المثقفين خاصة بعد هزيمة 1967م، الحدث الذي أثر كثيرا في نفسه نخبة كبيرة من المثقفين، ذو الثقافة العصرية في مختلف المجالات وبالأخص في تخصصات الفلسفة؛ إذ جاءت دعوتهم ومختلف مشاريعهم العلمية للإجابة عن سؤال كيف نتعامل مع التراث؟
فصول الكتاب
كتاب التراث العربي في الحاضر: النشر والقراءة والصراع؛ لرضوان السيد صدر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة؛ دار الكتب الوطنية، في طبعته الأولى سنة 2014م الكتاب يضم ثمانية فصول، وهي: الفصل الأول: الصراع على التراث أي معنى وأي مآلات. الفصل الثاني: الحضور التراثي في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر. الفصل الثالث: حضور التراث العربي في كتابات الطهطاوي. الفصل الرابع: نشر التراث العربي: الأصول والاتجاهات والدلالات الثقافية. الفصل الخامس: التراث العربي وتراث الآخر. الفصل السادس: الإيديولوجي والمعرفي في تحقيقات في تحقيقات التراث العربي وقراءاته. الفصل السابع: المصادر التراثية في دراسات محمد أركون. الفصل الثامن: إشكالية التراث ومناهج قراءته في فكر الجابري وكتاباته.
مراحل التعامل مع التراث
يرى رضوان السيد أن الإصلاحيين النهضويين، في سياق مصارعتهم لفتح باب الاجتهاد والتجديد في وجه التقليد اختاروا مصطلح التقليد (وليس التراث)، في تعبيرهم عن الماضي الديني والثقافي للمسلمين الذي يرون تجاوزه، لصالح أمرين مهمين: الأول: وضع الاجتهاد والتجديد في وجه التقليد. والثاني: تأسيس التجديد على مرجعية مزدوجة، تستند إلى الأصول الإسلامية وتستخدم الطرائق والمناهج الأوروبية الحديثة. أما الانتقال من مفهوم "التقليد" إلى مفهوم "التراث"، فقد حدث بعد ذلك وترسخ مع العقود الأولى للقرن العشرين وكان للمستشرقين دور في هذا الأمر، ففي الأول كانت كلمة التراث تعني الموروث الثقافي والأدبي المكتوب أي المخطوط، دون أن تعني النص الديني، وعندما اشتد الصراع في الستينيات والسبعينيات بين مختلف الاتجاهات وضع الموروث الديني كله في دائرة التراث. فتطور مفهوم التراث على طول القرن الماضي يعكس في الحقيقة مجريات الصراع على السلطة في المجتمع والثقافة والدين والدولة لدى العرب والمسلمين.[2]
قسم رضوان السيد مرحل التعامل مع التراث إلى خمس مراحل:
المرحلة الأولى: وقد بدأت مع رفاعة الطهطاوي، وقد سار مع النهضويين الأربيين في إنسانويات عصر النهضة في القرن السابع عشر والثامن عشر، وحاول شأن المستشرقين الأوروبيين الآخرين اكتشاف روح الأمة العربية والإسلامية عبر تراثها المخطوط مثلما اكتشفت أوروبا ذاتها في الموروثين اليوناني والروماني.[3]
المرحلة الثانية: بدأت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعنوان هذه المرحلة وعنوان هذه المرحلة النهوض عن طريق الإصلاح الديني والإصلاح السياسي.
المرحلة الثالثة: بدأت بانفجار في مجال علاقة الدين بالدولة بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال 1924م، وقد قامت ضجة كبرى لها تأثير وتداعيات فكرية من بينها ظهور اتجاه الإسلام السياسي (جماعة الإخوان المسلمين 1928م). ففي الوقت الذي كتب فيه رشيد رضا كتابه الخلافة أو الإمامة العظمى، وهو يقول بالتلازم بين الدين والدولة في الإسلام مخالفا مختلف التوجهات التي تقول بالشورى والحكم الدستوري. في نفس الفترة بقليل كتب علي عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ويقول بمدنية الدولة، ويرى أن دعوة النبي كانت دينية، ولا تتضمن أي أبعاد سياسية. فالصراع حول طبيعة الحكم وطبيعة الدولة في الإسلام ألقى بظلاله، على موضوع التراث وقراءته، فالغلبة ستكون لمن امتلك الموروث الديني والثقافي، فالغرب زمن احتلال مختلف دول العالم الإسلامي لم يعد، كما تصوره الطهطاوي والأفغاني، فهو عدو يهدد هوية الأمة وكيانها ووجودها، هكذا انقلب سؤال الإصلاحيين الأوائل كيف نتقدم؟ إلى سؤال كيف نحفظ هويتنا؟ عند الذين يقولون بالتلازم بين الدين والدولة، وبدأ التفكير في الاستلاء على الماضي الثقافي للمسلمين والحاقه بالدين وتقديسه وتوظيفه في السيطرة.[4]
المرحلة الرابعة: يمكن القول إنها بدأت بعد هزيمة 1967م، فقد كان اليساريون والليبراليون يدرسون التراث دراسة تفكيكية. أما الإسلاميون، فهم في قطيعة مع اليساريين والليبراليين، فهمهم هو الاستلاء على الإرث الثقافي للأمة فيما يخدم فكرتهم السياسية، فالقراءة العلمية للتراث وللنصوص التاريخية لا تعنيهم في شيء، وسار التراث عندهم هو الدين نفسه، فأي مجادلة للتراث في حد ذاتها مجادلة في حجية الدين وحجية الكتاب والسنة.[5]
المرحلة الخامسة: ونحن فيها فباسم النظام الكامل والاسلام هو الحل والدعوة لتطبيق الشريعة يمكن امتلاك الدولة والمجتمع، وهذا أمر فيه تجاوز للتراث الديني والثقافي وتجاوز للسكينة والوحدة الدينية والشعورية. ولهذا من الضروري حماية الدين من التسيس، حفاظ على أن نسقط في فخ الاستبداد الديني، وهو أسوأ أنواع الاستبداد.[6]
الكتاب يقرب القارئ من موضوع اهتمام المستشرقين بالتراث الإسلامي، وطبيعة الاهتمام لدى العرب ما بعد القرن التاسع عشر، وكيف تم نشر الكثير من المؤلفات دون غيرها، كما أنه يتضمن دراستين نقديتين في غاية الأهمية، اهتمت بنقد مشروع كل من الجابري ومحمد أركون.
[1] معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبد الحميد عمر (ت ١٤٢٤ هـ) بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، الطبعة: الأولى، ١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م، ج. 3، ص.421
[2] رضوان سيد؛ التراث العربي في الحاضر: النشر والقراءة والصراع؛ هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة؛ دار الكتب الوطنية، ط.1؛ 2014م، ص ص. 13-14
[3] ص. 16
[4] ص.21
[5] ص.24
[6] ص.26