التربية والتعليم

فئة :  ترجمات

التربية والتعليم

التربية والتعليم[1]

النص المترجم:

التربية أم التعليم؟ ما هي إذن غاية المدرسة؟ دعونا لا نتسرع في الإجابة بأنها مسألة لا طائل من ورائها أو مشكلة زائفة، بل هي بالأحرى مشكلة حقيقية عادة ما تكون مطروحة بشكل سيئ؛ لأنها تصاغ بمصطلحات خطابية (rhétoriques)؛ أي بمصطلحات تجعل السؤال يؤدي، بل ويتضمن الجواب. فالسؤال سيشمل الجواب، عندما نسند للمصطلحات التي يتكون منها تعريفات اختزالية أو كاريكاتورية تفضي إلى تشكيل حاجز أمام المفاهيم التي تدل عليها. وكما كتب السيد موغليوني M. Muglioni بشكل دقيق، «إن العلاقة بين التعليم والتربية تعتمد على التغيرات التي تؤثر على فهم كل من المصطلحين[2]«. لا شك أن التعليم يُعرَّف اسميا على أنه نقل للمعارف، ولكن إذا اعتبرنا هذا التعريف الاسمي تعريفا حقيقيا، وفهمناه على أنه تلقين قسري لمجموعة من المعارف المتناثرة، وربطناه ببعض الصور المنفرة مثل القمع وإطعام الإوز بالقوة، فلن يكون من الصعب إثبات أن المدرسة ستفشل في مهمتها، إذا تبنت مثل هذا المثل الأعلى. بهذه الطريقة، يمكن التقليل من قيمة التعليم لصالح التريية. والنتيجة المعاكسة يمكن الحصول عليها بسهولة أيضا إذا تم ربط التربية بنوع من الترويض (dressage)، حيث يجبر الطفل على تبني مجموعة من السلوكيات المحددة: إذا ما اختزلنا التربية إلى اكتساب الآداب الجيدة، فلن يكون من الصعب أيضا الاعتراف بأن هناك مهامًّا أخرى يجب على المدرسة القيام بها.

لكن في الحقيقة، التربية ليست ترويضا - بل هي عكس ذلك تماما، كما سنرى لاحقا - والتعليم لا يعني أيضا حشو العقول بالمعرفة. لا يتلخص الأمر حتى في نقل المعرفة، كما لو أن المعرفة يمكن أن تُنقل بطريقة الإرث، أو كعصا تتابع يتم تمريرها من يد إلى أخرى، حيث تتدفق المعرفة من عقل إلى آخر، عبر الشعيرات الدموية، وفقا للصورة الساخرة التي أشار إليها أفلاطون في بداية محاورة المأدبة: «فصرخ أغاثون Agathon، الذي كان يشغل السرير الأخير: "تعال اجلس هنا، يا سقراط، بجواري، لكي تنقل إلي الأفكار الحكيمة التي خطرت لك في المدخل" (…). فجلس سقراط، وقال: "كان من المرغوب فيه، أغاثون، أن تكون الحكمة شيئا يمكن أن يتدفق من إنسان مليء بها إلى إنسان فارغ منها بفعل اتصال متبادل، كما يمر الماء عبر قطعة من الصوف من الكأس الممتلئة إلى الكأس الفارغة"[3].

لذلك، ولكي نقرر ما إذا كانت مهمة المدرسة هي التعليم أم التربية، يجب أن نحدد أولا ما هو التعليم وما هي التربية؛ يجب أن ننظر إلى ما وراء معنى الكلمات، لنكتشف ماهية الأشياء التي تحددها الكلمات. في نهاية هذا العمل التوضيحي، ربما يبدو التعارض بين التعليم والتربية سطحيا، وهويتهما عميقة. ما يبقى علينا حله هو مسألة الغرض من المدرسة، والتي ستكون عندئذ أكثر حدة.

I- هوية التربية والتعليم

أ- التعليم والحرية

كما تشير إلى ذلك إيتيمولوجيا (علم التأثيل) الكلمة بشكل جيد؛ فالتعليم هو تزويد الفرد بالأدوات، أو تجهيزه، أو إمداده بما يحتاجه، أو حتى تسليحه. ومن الواضح أن تقديم الأدوات لشخص معين ليصنع شيئا ما هو أمر مختلف تماما عن تقديم الشيء الجاهز له: ففي الحالة الأولى يبقى الشخص معتمدا على الآخرين، بينما في الحالة الثانية يصبح مستقلا. إذا كان التعليم يتلخص في اكتساب المعرفة، فإننا لا نستطيع اكتساب المعرفة إلا بشرط أن نبنيها بأنفسنا. ولهذا، فإن تعليم شخص معين؛ أي العمل على أن يكتسب المعرفة، لا يمكن أن يعني ببساطة نقل تلك المعرفة إليه: لأننا لا يمكننا نقل عملية البناء نفسها. ما يمكننا فعله هو فقط تزويده ببعض الأدوات التي تمكنه من القيام بذلك، وربما، ولكن هذا موضوع آخر، إيقاظ الرغبة في الشخص الآخر لمباشرة هذا العمل.

إن طبيعة التعليم كعملية بناء ذاتي، ومعنى التعليم كتحقيق للاستقلالية، ليسا اكتشافا جديدا، سواء من الناحية البيداغوجية أو الإبستيمولوجية. فبانعطاف مزدوج، من خلال الغوص في أعمال أفلاطون Platon، والانفتاح على مؤلفات توما الأكويني Thomas d’Aquin، سنتمكن من التحقق من ذلك.

1- طبيعة التعليم: التعليم، البناء، الإبراء

هل يمكن لإنسان أن يُعلم آخر من خلال إنتاج العلم فيه؟ هذا هو السؤال الذي يسعى المقال الأول من السؤال 117 في الجزء الأول من "الخلاصة اللاهوتية" للإجابة عنه".[4]

لماذا مثل هذا السؤال؟ لا شك أننا بحاجة لمناقشة نظريات المعرفة التي، مثل تلك التي طرحها أفلاطون (نظرية التذكر)، وابن رشد (وحدة أو عدم تعدد العقل)، تنطوي على إجابة سلبية. ولكن أيضا، وبالارتباط مع ذلك؛ لأن الإجابة الإيجابية ليست بعيدة عن أن تفرض نفسها بوضوح، خاصة عندما يتصور المرء، مثلما فعل القديس توما، الذكاء كقوة فعالة، بنّاءة، وشخصية.

ما هو، في الواقع، معنى المعرفة؟ بمعنى أوسع، المعرفة هي التمثل. والتمثل، كما يوحي اسمه، هو حضور ما هو خارج عني في داخلي[5]. ومع ذلك، فليس الشيء نفسه هو الذي يكون حاضرا في ذهني عندما أعرفه، بل شيء يشبهه، "مشابهة". يمكن أن تكون هذه صورة فردية للشيء: عندها نكون في مستوى المعرفة الحسية، المشتركة بين جميع الكائنات الحية المتمتعة بالإحساس. لكن، بالإضافة إلى الحس، الذي هو ملكة الفردي، يمتلك البشر عقلا، وهو ملكة الكوني، الذي يجعلهم قادرين على المعرفة العقلية، وبالتالي على امتلاك فكرة عن الشيء وليس فقط صورة له، وعلى إدراك ماهيته وليس فقط بعض من خصائصه الخارجية. لذلك، فالمعرفة بالنسبة لهم ليست مجرد إحساس، بل هي استقبال الشكل المعقول للشيء داخل أنفسهم.

إذن، سيكون تعليم شخص آخر هو جعل هذا الشخص يتلقى الأشكال المعقولة. ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك؟ هل من الممكن أن يكون الشكل الموجود في ذهن المعلم هو بطريقة أو بأخرى سببا لذلك الذي سيظهر في ذهن التلميذ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ هذا هو الموقف التوماوي من المشكلة.

للتفكير في فعل التعليم، يجب استبعاد نموذج أول، وهو ذلك الذي تقترحه فكرة "نقل المعارف": من المستحيل أن ينتقل الشكل الذي في ذهن المعلم إلى ذهن التلميذ. يعرف الجميع، والأساتذة يعرفون أكثر من غيرهم، أنه لا يفقد المرء معرفته بنقلها، بل على العكس. يضيف القديس توما أن العلم الكامن في المعلم ليس "من الناحية العددية نتحدث[6]" هو نفسه العلم الذي يتم توليده في ذهن التلميذ. ولكن لماذا؟ أولا وقبل كل شيء لأن الذكاء شخصي: هنا يكمن الرهان الحقيقي في الجدل ضد ابن رشد، الذي تقود أطروحته، "وحدة العقل"، إلى نتيجة مزدوجة بأن جميع البشر لديهم نفس الأشكال المعقولة، وأن المعلم لا يمكنه أن يسبب في ذهن التلميذ علما غير العلم الذي يمتلكه هو: إنه الابتكار الذي يحظر. ومع ذلك، فإن الفكرة الرشدية ليست خاطئة تماما. إنها تبرز أن العلم واحد، وكذلك الحقيقة واحدة: إذا كانت هناك عدة حقائق، فلن تكون هناك حقيقة. عندما يفهم بيير Pierre وبول Paul أن أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، فإنهما يفهمان نفس الحقيقة بالفعل. ولكن هذا لا ينطبق إلا "من وجهة نظر وحدة الشيء المعروف[7]": وحدة الموضوع المعروف لا تعني وحدة الذوات العارفة في طريقة معرفتها. بمعنى آخر، يجب التمييز بين المفهوم الصوري (formel) والمفهوم الموضوعي (objectif). في الواقع، المفاهيم هي معلومات عن تفكيرنا (لدينا جميعا مفهوم الحصان أو المثلث الذي هو تنظيم معين لعقلنا) ومعلومات عن شيء ما (المفاهيم تشير إلى مواضيع). المفهوم الصوري هو ما يشير، والمفهوم الموضوعي هو ما يشير إليه المفهوم الصوري، أي محتواه. لكن لدينا جميعا مفاهيم صورية مختلفة لأنه، خلافا لما يدعيه ابن رشد، لدينا جميعا عقولا مختلفة. وهكذا، فإن مفاهيمنا الصورية فردية وفريدة، وتقع في سياقات معينة ومرتبطة بتاريخ معين: مفهومي للحصان أو المثلث وُلد عندما شكلته ولن يبقى بعدي. وفي تلك الأثناء، قد يكون قد تطور مع تقدمي في دراسة الهندسة أو علم الحيوان... ولكن المفهوم الموضوعي هو، في المقابل، كوني: اختفاء الفكرة، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، التي تكون لدي عن الحصان لن تؤثر في فكرة الحصان نفسها. إذا لم يكن المقصود من المفهوم (المشار إليه) مشتركا، لما استطعنا التواصل؛ لما استطعنا أن نفهم بعضنا البعض عندما نتحدث عن المثلث أو الحصان لأننا لن نتحدث عن نفس الشيء. مجموعة السمات المشتركة بين جميع الخيول، وبين الخيول فقط هي شيء ثابت، حتى وإن كانت هناك اختلافات في طريقة تفكيرنا بها؛ لأننا شكلنا المفهوم باستخدام عقول متنوعة، وانطلاقا من تجارب لم تكن هي نفسها، ويظل في أذهاننا أثر ذلك الأصل.

لأن الذكاء شخصي، فلا يمكن أن يكون التعليم هبة. ولأن الذكاء فعال، فلا يمكن أيضا أن يكون التعليم مجرد صناعة. «من بين الآثار المشتقة من مبدأ خارجي، كتب القديس توما، هناك ما ينشأ فقط من هذا المبدأ: هكذا تُنتج صورة المنزل في المادة فقط بواسطة فن المهندس المعماري[8]«. في الحقيقة، لا توجد صورة المنزل في اللبنات التي تتكون منها: بل إن سببها هو فن المهندس المعماري الذي جمع المادة وفقا لصورة كان يحملها في ذهنه، على شاكلة تلك الصورة. فهل يمكن القول إن المعلم يصنع في ذهن التلميذ صورة مماثلة لتلك الموجودة في ذهنه؟ كمهندس للنفوس، كان سيعلم الآخرين بتشكيل أذهانهم. لكن هذا لا يزال مستحيلا؛ لأن الذهن ليس مادة يمكن تشكيلها: «هناك في التلميذ مبدأ طبيعي للعلم، وهو العقل الفاعل[9]«؛ لأن العقل هو في الوقت نفسه، وبشكل غير قابل للفصل، فاعل ومنفعل: لا يمكنه "حمل" وتطبيق سوى المفاهيم التي صنعها هو بنفسه. لذا، فإن التلميذ نفسه هو الذي سيتعين عليه أن يخلق الصورة.

يترتب على ذلك، أن النموذج المناسب للتفكير في التعليم هو نموذج الفن الطبي: فالتعليم يشبه الإبراء (الشفاء). هل لدى الطبيب القدرة على شفاء المريض؟ بصراحة، الشفاء هو أحد تلك التأثيرات ذات المبدأ المزدوج: المريض الذي يستشير طبيبا سيتم شفاؤه من خلال العمل المشترك لفن الطبيب والدفاعات الطبيعية الخاصة به. ومع ذلك، لا يمكن وضع هذين المبدأين على نفس المستوى. إذا كان المريض يمكنه الشفاء بمفرده، دون تدخل هذا المبدأ الخارجي المتمثل في فن الطبيب (وهو ما يحدث كلما أصبنا بالزكام أو الإنفلونزا وتركنا الأمور تسير كما يقال، وفقا للطبيعة السليمة)، فإن العكس ليس صحيحا: فن الطبيب عاجز عن شفاء المريض دون التعاون الفعال لجسمه. الأدوية التي يصفها ستقوم بتحفيز الدفاعات الطبيعية للجسم، ولكن الجسم وحده هو الذي يمكنه طرد العنصر الممرض pathogène. بهذا المعنى، لا يمكن للمرء إلا أن يشفي نفسه، مع إمكانية مساعدة الطبيب الذي يحاكي فنه، في هذه الحالة، الطبيعة. لذلك، فإن المبدأ الداخلي هو العامل الرئيس، والمبدأ الخارجي هو المساعد لهذا العامل الرئيس.

هذه هي العلاقة بين المعلم والتلميذ في فعل التعليم: «المعلم لا يُنتِج النور المعقول في تلميذه، ولا ينقل إليه مباشرة الصور المعقولة؛ ولكن من خلال تعليمه، يدفع تلميذه إلى أن يشكّل بنفسه بواسطة قدرة ذهنه التصورات المعقولة التي يقترحها عليه المعلم عبر إشارات خارجية[10]«. إذن، فإن العقل الفاعل لدى التلميذ هو الذي يقوم بالعمل الأساسي. المعلم لا يمكنه إلا أن يساعده، ويقوم بذلك بطريقتين: من جهة، عبر تقديم «بعض الأمثلة الحسية أو المتشابهة أو المتناقضة، أو أشياء أخرى مماثلة[11]«؛ أي من خلال تزويده بالمادة التي سيبني منها التلميذ الصور المعقولة بنفسه. ومن جهة أخرى، عبر "تقوية" ذكائه[12]"؛ أي من خلال جعله يفكر. في الجامعة الوسيطية، وفي كلية الفنون، كانت القراءة/التعليق (lectio)؛ أي شرح المعلم لنص معروف، هي التي تحقق الوظيفة الأولى. أما الثانية، فكانت تُؤمّن من خلال الجدل (disputatio)، وهو ليس نزاعا بل نقاشا، وفحصا شاملا لجميع الصعوبات التي قد تظهر بخصوص مسألة ما، وحوارا صارما تقتضي فيه أخلاقيات المعلم ألا يتهرب من أي اعتراض، مهما كان غريبا، ويمكننا أن نخمن أن التلاميذ في القرن الثالث عشر، لم يكونوا يواجهون صعوبة في صياغة مثل هذه الاعتراضات…

2- معنى التعليم: التعليم والتحرير

لقد علمنا أفلاطون من قبل أن المرء لا يستطيع أن يتعلم إلا من خلال نفسه، وأن الحوار الذي يجبر كل شخص على تأسيس ما يقوله هو أفضل وسيلة للقيام بذلك. ويشهد على ذلك بشكل نموذجي هذا المقطع من "ألسيبياد" l’Alcibiade، حيث يطلب سقراط من محاوره أن يثبت له أن ما هو عادل ليس دائما مفيدا، حيث يتردد هذا الأخير في تلبية هذا الطلب:

ألسيبياد: هيا، تكلم.

سقراط: أجب فقط عن أسئلتي.

ألسيبياد: آه! لا تسألني عن شيء، أرجوك، بل تحدث أنت وحدك.

سقراط: حسنا، ماذا؟ أليس أعظم أمنيتك أن تكون مقتنعا؟

ألسيبياد: أوه، نعم! بالتأكيد!

سقراط: أليس عندما تقول: "هكذا هو الأمر" أنك ستكون مقتنعا بشكل كامل؟

ألسيبياد: يبدو لي أن الأمر كذلك.

سقراط: إذن، أجبني؛ وإذا لم تتعلم بنفسك أن ما هو عادل هو مفيد، فلا تصدق ذلك أبدا بناء على قناعة شخص آخر[13].

ما ينتظره ألسيبياد من سقراط، وهو يُلح عليه أن يتحدث أمامه، هو ما يُسمى عادة وبطريقة غير دقيقة بـالمحاضرة الدراسية (cours magistral): أن تُقدّم له الحقيقة الجاهزة، على غرار النموذج الأغاتوني le modèle agathonien. ما يحاول سقراط أن يُفهِمه إياه هو أنه لا توجد وسيلة أخرى للوصول إلى المعرفة سوى أن يفكر المرء بنفسه. وهذا لا يعني بالطبع أن الحقيقة فردية، بل يعني أنه لا يمكن للمرء التقدم نحو الحقيقة الكونية إلا من خلال جهد شخصي.

في الواقع، إذا استجاب سقراط لطلب ألسيبياد، لكان الأخير سيحصل على فكرة "مأخوذة". قد تكون الفكرة المأخوذة حقيقية، لكنها لن تشكل علما لمن تلقاها من الخارج دون أن يستوعبها، دون أن يتملكها، دون أن يجعلها خاصة به، لأنه لن يكون قادرا على تبريرها، أي على تأسيسها في حقيقتها. يمكنني أن أكرر قولا خرج من فم شخص أُقر بسلطته (رجل دين، رجل قانون، رجل علم، أو حتى سقراط نفسه)، وقد يكون هذا القول حقيقيا: لكن بما أنني لا أعرف لماذا وكيف هو حقيقي، فلا أعرف شيئا. ومن ثم، وفي مواجهة أول شخص بارع في الكلام، رجل ماهر قادر على إقناعي بالعكس، لن يكون أمامي سوى تغيير رأيي؛ أي استبدال فكرة مأخوذة بأخرى مأخوذة. لا يملك الإنسان سوى الأفكار التي يُكوّنها بنفسه.

إن أفكارنا هي أولا، وحتما، أفكار مأخوذة. ما نأخذه بشكل تلقائي كأفكار شخصية هو في الغالب آراء شائعة تعكس تبعيتنا للغير، أفكار توجد فينا دون أن تكون لنا حقا، أفكار لم نفكر فيها بأنفسنا، بل فرضها علينا عنف الآخرين (حجة السلطة، الدعاية، والقيود الاجتماعية المختلفة)، أو، بشكل أكثر دقة وخفاء، ولكن ليس أقل خطرا، العنف الداخلي المتمثل في رغباتنا، وعواطفنا، ومصالحنا. لنحافظ على أحكامنا المسبقة، كما قال باريس Barrès، فهي تبقينا دافئين!

نفهم عندئذٍ معنى التعليم السقراطي: إنه مشروع تحرير، أو بالأحرى خلاص، بالمعنيين لهذه الكلمة. لحظته الأولى، السخرية، هذا الاستجواب الذي يحاول ألسيبياد تجنبه، يهدف إلى تحريرنا من أحكامنا المسبقة، من أفكارنا الجاهزة، إلى إزالة هذه الأفكار المأخوذة التي تمنعنا من التفكير. كان هذا الفن بالفعل هو فن السفسطائي الذي يعترف له الغريب، في الحوار الذي يحمل نفس الاسم، بأنه "مطهر الآراء التي تعيق العلم في النفس"[14]. لكن السخرية السقراطية ليست غير مبررة، ولا عقيمة، ولا مدمرة بشكل محض وبسيط: فهي تستمد معناها من شرطها المتمثل في فن التوليد، فن توليد العقول للحقيقة الكامنة في أعماقها، وبالتالي، فن جعل الآخر يفكر بنفسه ويصبح هو نفسه في النهاية من خلال تفكيره الخاص؛ أي من خلال التفكير الحر. أنا أفكر بحرية، في الواقع، عندما أستطيع أن أؤسس ما أقوله على العقل وعلى العقل وحده. وعندئذ، وبالخضوع للعقل فقط، أكون حرًّا؛ لأنني تحررت من سلطة الآخرين ومن أهوائي الخاصة.

هنا أيضا، تُفرض مقارنة طبية، وأفلاطون يميل إليها أيضا، لتوضيح فن التعليم: تماما كما لا يستطيع الطبيب إلا أن يساعد المريض على الشفاء عن طريق تحفيز الدفاعات الطبيعية لجسمه، كذلك لا يمكن للقابلة إلا أن تساعد المرأة في المخاض على الولادة، دون أن تقوم بالعمل نيابة عنها.

إذن، يتمثل التعليم في تحرير الآخر من خلال مساعدته على التفكير بنفسه، وبالتالي بناء معرفة حقيقية ستكون في الوقت ذاته معرفة صحيحة، لأنها ستكون معرفة يستطيع مؤلفها، لا مجرد مالكها، أن يؤسسها.

إذا كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية لعملية التعليم، فسوف نفهم أخيرا أنه على الرغم من التشابه اللفظي المزعج في اللغة الفرنسية، فإن العلاقة بين المعلم والتلميذ تختلف تماما عن العلاقة بين السيد والعبد. فالعلاقة بين السيد والعبد هي علاقة هيمنة وتبعية متبادلة: إذ إن السيد، من خلال استعباده للعبد لتحقيق مصالحه الخاصة، يصبح في الوقت نفسه معتمدا على العبد الذي يستعبده. أما في الحالة الأولى، على العكس، فإن المعلم يصبح خادما لتلميذه حتى يتمكن الأخير، من خلال تفكيره الخاص، من الاستغناء عن المعلم ويصبح مستقلا وحرًّا.

ب- التربية والحرية

يمكننا الآن أن نرى كيف يلتقي التعليم والتربية في أعلى غاياتهما، التي تتمثل في جعل الإنسان حرا. فالتربية هي ترفيع (ترقية) الشخص، كما تعلمنا أيضا الايتيمولوجيا. بالطبع، يرتبط مصطلح التربية (educatio) في البداية بتربية الحيوانات: "التربية" تعني حينها الإطعام أو تسمين الحيوانات. العلاقة بين المربي والحيوان المُربى تشبه حينها العلاقة بين السيد والعبد، حيث إن الثاني في كلتا الحالتين يُعتبر مجرد وسيلة لخدمة مصالح الأول. بالمقابل، تربية الطفل تعني جعله ينمو، ليس لاستخدامه، ولكن لكي يتمكن من الاستغناء عن مربيه ويصبح مستقلا، أي أن يحدد لنفسه القانون.

لهذا السبب، لا يمكن أن تتجلى التربية في إعطاء الطفل عادات تجعله يتكيف مع وضعيات اجتماعية محددة مسبقا. إذا كان الأمر كذلك، فلن تختلف عن الترويض الذي يتضمن خلق ردود أفعال شرطية يكون تفعيلها مفيدا ليس للحيوان نفسه، بل لمن يقوم بتدريبه، والتي ستستمر في التفعيل فقط إذا تم الحفاظ عليها: مما يجعل الحيوان المدرب خاضعا مرتين.

الإنسان، وفقا للصيغة الشهيرة لكانط، هو الحيوان الوحيد الذي يحتاج إلى التربية؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي ليس له غريزة؛ أي الذي لا يتحدد فقط بواسطة الطبيعة ليكون ما هو عليه: «الحيوان هو بفضل غريزته وحدها كل ما يمكن أن يكون؛ فقد اعتنت به قوة خارجية مسبقا بكل العناية اللازمة. لكن الإنسان يحتاج إلى عقله الخاص. ليس له غريزة...[15]« الإنسان يحتاج إلى التربية؛ لأنه يحتاج إلى عقله الخاص ولأنه فقط كائن عاقل، أي قادر على التعقل: عقل بالقوة، لا عقل بالفعل بالكامل. ومن ثم، فإن التربية ستكون عملية تحويل هذه القوة إلى فعل.

لا شك أن التربية تتضمن لحظة أولى تبدو وكأنها شبيهة بالترويض. هذه اللحظة الأولى، السلبية بشكل بحت، هي ما يسميه كانطE.Kant بـ "الضبطdiscipline "، والتي تتمثل في «منع ما هو حيواني فيهم (الناس) من خنق ما هو إنساني (…). يتجلى الضبط إذن وببساطة في تجريدهم من همجيتهم[16]». لكن الأمر لا يتعلق فقط بمكافحة شهوة (الجشع) بشهوة أخرى (الخوف، على سبيل المثال): الحيوان المدرب لا يُربى، بل يُحدد عن طريق الفعل الإنساني بطريقة مختلفة عما كان محددا به في الأصل من قبل الطبيعة. لتربية الطفل؛ أي لجعل الإنسان يولد فيه، يجب ألا يتم استبدال تحديد اجتماعي بتحديد طبيعي، بل يجب أن تُعرض على حريته القيم التي تؤسس لإمكان الحياة الإنسانية، وهي القيم التي سيكون بإمكانه اختيارها بحرية أكبر طالما أنها «هي التي يجب أن يوافق عليها الجميع، ويمكن أن تكون في نفس الوقت غايات للجميع»[17]. هذه الغايات، الضرورية والكونية، لا يمكن أن تكون إلا غايات العقل، وبالتالي غايات خاصة به، بحيث أنه باختياره لها يكون قد اختار نفسه، وقرر أن يكون مخلصا لنفسه. لكن لا يمكن لأي تدريب أن يرغمه على مثل هذا الاختيار، على اتخاذ مثل هذا القرار، لسبب واضح هو أن إرغامه على الحرية سيكون متناقضا.

تتجلى التربية إذن في قيادة الفرد من الطبيعة إلى الحرية. إنها توجيه الطفل نحو هذه السيطرة على الذات التي تمكنه من أن يصبح هو نفسه، من خلال انتزاعه في الوقت ذاته من الاغتراب الطبيعي والاغتراب الاجتماعي: من الاغتراب الاجتماعي؛ لأنه بتربيته يُصبح قادرا على الاستغناء عن المربين، مستقلا وغير تابع للآخرين؛ ومن الاغتراب الطبيعي لأنه (المربي) يساعده أيضا على التحرر من عبودية شهواته الخاصة وحكم نفسه بنفسه من خلال اختيار العقل بحرية، محققا بذلك وجهته الأخلاقية.

II- التمييز بين التربية والتعليم

بعيدا إذن عن التناقض أو الاستبعاد، يلتقي مشروع التعليم ومشروع التربية في العمق. ومع ذلك، فإن سؤالنا الأولي، وهو سؤال غاية المدرسة، لا يزال دون حل. تعليم أم تربية، فالأمر في النهاية يتعلق دائما بالتحرير. أما بالنسبة للمدرسة، فنحن نتفق بلا شك على أنها يجب أن تكون محررة. ولكن، هل يجب أن تحرر بالتربية أم بالتعليم؟

يجب عليها بالطبع أن تقوم بالأمرين معا. سيكون من العبث تماما أن نمنعها من التربية كما سيكون من العبث إنكار حق الأسرة في التعليم عندما تكون قادرة على ذلك. لا يوجد أب ولا أم سيرفضان، إذا كان ذلك في استطاعتهما، أن يشرحا لطفلهما مبرهنة في الهندسة أو معنى تعبير إنجليزي تحت ذريعة أن ذلك سيكون منافسة غير عادلة للمدرسة... وبالعكس، فإن المعلم الذي يدعو التلميذ إلى كبح شهواته من أجل احترام إحدى القواعد التي تجعل الحياة المشتركة ممكنة، ليس فقط في دائرة حقه، بل هو يؤدي واجبه.

السؤال الحقيقي إذن هو معرفة ما هي المهمة الأساسية للمدرسة، بعبارة أخرى، يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كان التقليد الذي يعهد بالتربية إلى الأسرة وبالتعليم إلى المدرسة مستندا إلى أساس عقلاني.

هل يمكن للأسرة أن تعلم؟ يمكنها أن تفعل ذلك عرضا، كما رأينا سابقا، لكن طبيعتها لا تؤهلها على الإطلاق للقيام بهذه المهمة، بل على العكس: «الآباء، كما كتب آلان Alain، يُعلمون أبناءهم بشكل سيء للغاية عندما يريدون التدخل. رأيت أبا جيدا، كان أيضا عازف كمان جيد، يقع في نوبات من الغضب السخيف، وفي النهاية يُسلم ابنه إلى معلم أقل شغفا. الحب بلا صبر. ربما هو يطمح إلى أكثر من اللازم؛ وربما يظهر له أدنى إهمال كإهانة من نوع ما»[18]. ما تفعله الأسرة بشكل سيء، تقريبا بشكل لا مفر منه؛ لأن روابط القلب تثير متطلبات تتناقض مع مساعي العقل، يمكن للمدرسة أن تنجزه لأنها، بعيدا عن كونها عائلة كبيرة، هي، كما أشار هيجل Hegel بشكل دقيق، مرحلة وسطى بين الروابط العائلية الضيقة والدافئة، المطمئنة ولكن الخانقة، والروابط الاجتماعية والسياسية، الأكثر برودة، والأكثر بعدا، والأكثر تجريدا: «المدرسة تقع، في الواقع، بين الأسرة والعالم الحقيقي(الواقعي)، وتشكل الوسيط الذي يضمن الانتقال من تلك إلى هذا»[19].

بقى أن نعرف ما إذا كان يجب على المدرسة أن تربي. هنا يجب الإشارة إلى ما يميز التربية عن التعليم. هذا الأخير يتوجه حصريا إلى العقل الذي يسعى إلى تكوينه من خلال اكتساب المعارف وممارسة الحكم بحرية؛ بينما تلك الأولى تتوجه إلى الكائن بأكمله - ليس فقط العقل، بل الحساسية، الوجدان، الجنسانية، الحس الأخلاقي، الحس المدني - التي تدعوه إلى النمو(التطور)، إلى التحقق، من خلال مطابقة سلوكه، سواء في الحياة الخاصة أو العامة، للقيم.

هل للمدرسة واجب القيام بهذه المهمة؟ لا يمكن أن يكون لها هذا الواجب إلا إذا كانت تمتلك من جهة القدرة، ومن جهة أخرى الحق. وهذا ما يتعين فحصه الآن.

أ- القدرة على التربية: التربية والكلية

تتعلق التربية بالإنسان في كليته، وتسعى لتحقيق تنميته (تطوره) الشاملة. وفقا لعبارة جان-كلود ميلنرJ.C Milner، إنها «العملية التي يُفترض من خلالها أن يحقق الفرد ذاته بالكامل: الكمال المطلق في جميع المجالات المهمة[20]«. إسناد مهمة هذه العملية إلى المدرسة يعني تكليفها بمهمة لا نهائية وغير محدودة في آن واحد. مهمة لا نهائية، فهي مهمة مستحيلة: أمامها، قد تجد المدرسة نفسها كما المؤمن أمام الشريعة الإلهية التي لا يُعتبر أمامها أي شخص عادل[21]، وبالتالي يصبح الوعي التربوي محكوما عليه بأن يتحول إلى وعي شقي. المهمة غير المحددة هي مهمة لا تتطلب مؤهلات خاصة، وهنا تظهر إحدى القضايا المطروحة في النقاش: فحتى لو أصر بعض "البيداغوجيين" على ترديد، ضد البداهة، أنه من الأفضل، لتدريس الرياضيات لجونJohn، معرفة جون أكثر من معرفة الرياضيات[22]، فإن المؤسسة تستمر، وهذا أمر جيد، في إلزام من تعهد إليهم بمسؤولية التعليم بتوفير حد أدنى من الكفاءة العلمية؛ ولكن ما هي الكفاءات التي يجب أن تطلبها من أعضاء "الجماعة التربوية" داخل مدرسة تكون مهمتها الأساسية هي التربية، في حين أن الدولة لا تطلب أي كفاءة من الآباء الذين لا تنازعهم الدولة في حقهم في تربية أبنائهم، حتى وإن كانوا غير أخلاقيين أو غير مدنيين أو منحرفين، ولم تُصدر المحكمة حكما بسحب هذا الحق منهم بشكل منهجي، حتى وإن كانوا يقدمون لأبنائهم نموذجا للسُّكر أو الفجور؟

نرى التناقض. كـمهمة لا نهائية، فإن التربية محكوم عليه بالفشل: الجميع مذنبون. ولكن كـمهمة غير محددة، فهي شأن الجميع: الجميع قادرون. في هذه الظروف، قد لا يكون من غير المعقول أن نحدد للمدرسة هدفا أكثر تواضعا ودقة، وهو تعليم العقول.

ب- الحق في التربية: التربية والعلمانية

من المؤكد أنه سيتم الاعتراض بالقول إنه رغم أن التربية مهمة لا نهائية ودائما غير مكتملة، فإنه يجب الشروع فيها على أي حال. وهذا صحيح. كما سيضاف إلى ذلك أن المدرسة يجب أن تتولى دور الأسرة التي كانت تتحمل هذه المسؤولية تقليديا، والتي أصبحت أقل قدرة على تحملها. وهذه الحجة تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار. ومع ذلك، فإن مسألة ما إذا كان من واجب المدرسة اليوم معالجة النقص الأسري والاجتماعي في مجال التربية لا ينبغي أن تُفصل عن مسألة حقها في التربية. فلنتذكر إذن ما الذي تعنيه التربية: إيقاظ الإنسان في الطفل من خلال دعوته للانضمام بحرية إلى القيم التي تشكل الحياة الإنسانية والتي هي «غايات يجب أن يوافق عليها الجميع بالضرورة، ويمكن أن تكون في نفس الوقت غايات لكل فرد[23]«. فالقيم الوحيدة التي تستحق أن تُسمى قيما هي الغايات التي تكون ذات قيمة مطلقة، وضرورية، وكونية؛ أي التي تكون دائما وفي كل مكان جديرة بأن يسعى وراءها كل كائن عاقل.

للمدرسة بلا شك الحق والواجب في اقتراح مثل هذه القيم: من هذا المنطلق، لها الحق والواجب في التربية. ولكن إذا فُهمت التربية على هذا النحو، فإنها تتضمن مطلبين، أحدهما يتعلق بطبيعة القيم المقترحة، والآخر بطريقة تقديمها. أولا، بما أن المدرسة مؤسسة عامة، فهي ليست في وضع يسمح لها باقتراح قيم قد لا تكون صالحة لجميع المواطنين، بل فقط لجزء منهم. وبالتالي، فإن الأخلاق الوحيدة التي يمكن أن تُدرس بشكل مشروع هي، وفقًا لعبارة جول فيري Jules Ferry، أخلاق "من دون صفة": أخلاق من دون صفة، أي أخلاق غير مرتبطة بأي دين، أو خيار سياسي معين، أو أي إيديولوجيا، لا يمكن أن تكون سوى أخلاق صالحة كونيا، أي أخلاق قائمة على العقل فقط.

المطلب الثاني ينبع من الأول. إذا كانت القيم التي يمكن للتربية المدرسية أن تقترحها بشكل مشروع قائمة على العقل فقط، فيجب أن تُعرض على العقل فقط: وهذا لا يستثني فقط أن يعطى لها أساسا دينيا، بل أيضا أن يُسعى إلى فرضها من خلال استدعاء المشاعر أو استثارة العواطف.

هذا النقاش ليس جديدا. نعلم أنه وضع كوندوسيه Condorcet في مواجهة بعض من معاصريه، مثل رابو سانت-إتيان Rabaut Saint-Étienne أو لو بيليتييه دي سانت-فارغو Le Peletier de Saint-Fargeau، الذين كانوا يفضلون التربية الوطنية على التعليم العام (العمومي) في المشاريع الثورية التي قدموها بدءا من عام 1791. كوندورسيه، كما تذكر كاثرين كينتزلر Catherine Kintzler بشكل مناسب، لا يستبعد أي تربية من التعليم العام: فهو يقبل تدريس الأخلاق الطبيعية المؤسسة على العقل[24]. ما يرفضه بالمقابل هو الدعوة إلى "الحماسة" التي تلهم مشاريع خصومه. دعونا نستمع إلى أحدهم، وهو يعارض بين التربية الوطنية والتعليم العام: «التعليم العام يتطلب ثانويات، إعداديات، كليات، أكاديميات، كتب، أدوات حسابية، طرق، ويسجن نفسه داخل جدران؛ التربية الوطنية تتطلب سيركا، صالات رياضية، أسلحة، ألعابا عمومية، احتفالات وطنية، تنافسا أخويا بين جميع الأعمار والأجناس، ومنظرا مهيبا ولطيفا للمجتمع البشري المتجمع[25]». دعنا نتجاوز الحديث عن السيرك والأسلحة... الأهم هو العقل الذي يقود كوندورسيه إلى رفض "الحماسة" كآلية بيداغوجية: «بمجرد أن تستثار، فإنها تخدم الخطأ كما تخدم الحقيقة؛ ومن ثم فإنها تخدم الخطأ فقط، لأنه بدونها، ستنتصر الحقيقة مرة أخرى بقواها الخاصة[26]». قبله، لاحظ كانط أن الدافع العاطفي، مهما بدا جيدا، يمكن أن يؤدي إلى أفعال غير عادلة أخلاقيا، وسيقول إريك فايل Éric Weil لاحقا إن العاطفة دليل سيء. فلنفهم جيدا: الدليل (guide) السيئ ليس هو الذي يضلل دائما أولئك الذين وضعوا ثقتهم فيه، بل هو الذي لا يمكن الوثوق به، لأنه يقودك أحيانا إلى بر الأمان وأحيانا إلى قاع الوادي.

إن الحدود التي تفصل بين استدعاء المشاعر الطيبة وإطلاق العنان للشهوات، مرسومة بشكل سيء: غالبا ما تكون هذه الأخيرة نتيجة للأولى. التاريخ لا يقتصر على حيلة العقل الذي يستخدم الشهوات الأنانية لخدمة أهدافه العليا: بل هو أيضا حيلة العنف الذي يحرف ويضلل أسمى المشاعر. وإذا ادعينا التمييز بين المشاعر الجيدة والسيئة، فسيتعين علينا أن نعهد بالتحكيم إلى سلطة أخرى غير الشعور نفسه.

إذن، سواء كانت المدرسة تعلّم أو تُربي، يجب عليها أن تُدرّس فقط ما يمكن تأسيسه على العقل، ويجب أن تتوجه فقط إلى عقل من تقوم بتدريسهم. ومع ذلك، فإن جميع معاصرينا بعيدون كل البعد عن الاقتناع بهذا المبدأ، فقد شهدنا في 2 أبريل 1993 في مقال منشور في صحيفة العالم كيف شنّ فيليب ميريو Philippe Meirieu وبعض معاونيه هجوما على التربية المبنية فقط على العقل[27]، حيث تم التنديد بأولئك المجتمعين "تحت الراية الأسطورية لكوندرسيه"، والذين يوكلون للمدرسة مهمة التعليم وحدها. بالنسبة إليهم، «لا شيء مما يتم هناك يمكن أن يخرج عن سيطرة العقل أو يهدف إلى شيء آخر سوى التدريب على ممارسة الحرية بشكل عقلاني». وبذلك يكشفون عن «جهلهم بالوقائع الاجتماعية». والواقع، «أن المدرسين، خاصة في الضواحي، يعرفون جيدًا أن القيم، والقواعد، والمحظورات، والواجبات - وباختصار، الأخلاق - ليست كلها مسألة عقل فقط. كيف يمكن تفسير المحظورات الأساسية مثل القتل، وزنا المحارم أو السرقة للأطفال بشكل عقلاني؟ هذه الإغراءات الوضعية تعني إخفاء الجزء غير القابل للاختزال من التعالي الذي تحمله كل قاعدة وكل قيمة». إذن، فهل عندما نشرح للأطفال أنه لا ينبغي اقتراف القتل والسرقة هو أمر يتجاوز قدرات العقل، ويستدعي استبدال ممارسة العقل باستدعاء التعالي؟ إذا كان الجزء غير القابل للاختزال من التعالي الذي يحويه القانون الأخلاقي لا يشير إلى تجاوز العقل بالنسبة إلى الطبيعة، وإذا كان يشير إلى مبدأ خارجي وأسمى من العقل البشري، فإننا نجد صعوبة في فهم ما قد يكون ذلك غير الكلمة الإلهية (le Verbe divin): هل يجب إذن، بتأسيس الأخلاق على الدين، أن نشرح للتلاميذ في «الضواحي» أنه إذا لم يكن يجب القتل ولا السرقة، فذلك لأن إرادة الله تعارض ذلك؟ بالإضافة إلى أن استخدام مثل هذا الحُجة يبدو من الصعب التوفيق بينها وبين متطلبات العلمانية، حتى وإن كانت "منفتحة"، يمكننا أن نشك في أنها ستكون فعالة بشكل كبير بالنسبة إلى أولئك الذين تُوجه إليهم...

وبعد ذلك بقليل، يتوجه مؤلفو الجرأة في التربية (ميريو ومعاونيه) مرة أخرى إلى «أولئك الذين يدعون أن المدرسة لا يجب أو لم يعد من واجبها أن تربي، الذين يزعمون تأسيس مدرسة الغد على العقل وحده من خلال التعليم«. ويعلنون: «المعرفة والمهارات لا تكفي لبناء التماسك الاجتماعي. الحسّ الأخلاقي، والالتزام بالقيم المشتركة، والصفات الإنسانية لا تقل أهمية عن العقل من أجل إعادة بناء، جيلا بعد جيل، مجتمع متضامن وأخوي«. بعد التعالي، ها هو القلب، والمشاعر الطيبة، والحماس الجامع (الموحد) يتم استدعاؤهم لتعويض العقل العاجز: من كوندورسيه إلى فيليب ميريو، وعودة إلى رابو سانت إتيان! صحيح أنه قبل ذلك بقليل، أعيد للعقل مكانه الصحيح لفترة وجيزة، حيث يمكن أن نقرأ: «في تقاليدنا التي هي تقاليد الأنوار، يتم نقل الهوية الوطنية من خلال التربية - وليس من خلال دم العرق أو تراب الوطن الأمّ (la mère-patrie) - ومن خلال حركة العقل نختار الالتزام بالقيم التي تؤسسها». ربما يكون عدم التناسق هذا ناتجا عن حقيقة أن النص قد كتبه خمسة أشخاص، مما قد يثبت أن العمل الجماعي ليس له كل الفضائل التي تنسب إليه...

كان الأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كان هدف المدرسة هو التربية أم التعليم. ومما سبق، يمكن للمرء أن يستنتج أنه، حتى وإن كانت هذه المسؤولية المزدوجة تقع على عاتقها، فإن من المهم أن نقرّ لها، أولا وقبل كل شيء، بمسؤولية التعليم. من جهة؛ لأن عليها أن تتحمل أولاً المهمة التي هي الوحيدة القادرة على إنجازها، والتي لن تنجزها أي مؤسسة أخرى إذا أهملتها. ولكن أيضا وربما بشكل أعمق؛ لأنه إذا كان من الممكن أن نربي دون أن نعلم، كما فعلت أجيال من الآباء الأميين، فإن العكس ليس صحيحاً: فهناك في التعليم، عندما يتم فهمه في حقيقته، بُعد تربوي. إن المدرسة التي تُعلّم هي بالفعل المكان الذي تتعلم فيه العقول التحرر من جميع القوى والقيود من خلال الخضوع بحرية للقوة الوحيدة للعقل والقيود الوحيدة للحقيقة: فما الذي يمكن أن يكون أكثر تربوياً من أن يعتاد الإنسان على إخضاع شهواته ورغباته ومصالحه وأحكامه المسبقة، وكل تلك الأفكار التي تُرضينا أو تُناسبنا، لمتطلبات الحقيقة؟ أليست هي القيمة التي تؤسس لكل القيم الأخرى؟ وبفصلها عن فكرة الحقيقة، ينحصر التمييز بين الخير والشر إلى مجرد التفرقة بين المفيد والضار، بين ما هو مفيد مؤقتا أو ضار مؤقتا، وهذا ما نعرفه منذ خمسة وعشرين قرنا. ما الذي يمكن أن يتفق عليه الناس، بغض النظر عن خصوصياتهم واختلافاتهم، إن لم يتفقوا على ما يظل قائما بشكل مستقل عن تفرد كل واحد، أي على ما يمكن للجميع، في أفق تفكيرهم، أن يعترفوا به كشيء حقيقي؟ المبدأ الحقيقي لجماعة أخوية هو المساواة بين الجميع أمام الحقيقة، التي لا يمتلكها أحد، ولكن الجميع مستعدون، إذا كانت المدرسة هي التي تهيئهم لذلك، للخضوع لمتطلباتها.

[1] Éducation et instruction, André perrin http://philo.pourtous.free.fr/Articles/A.Perrin/educationetinstruction.htm

[2] Jacques Muglioni, Instruction et éducation in Actes du Colloque de Sèvres, Philosophie, école, même combat, Paris, Presses Universitaires, 1984, p. 22

[3] Platon, Banquet, 175 c-d.

[4] La même question est posée, en des termes à peine différents, et traitée de façon plus détaillée dans l’article 1 du De magistro, question XI des Quaestiones disputatae de veritate.

[5] Encore que l’esprit puisse se connaître lui-même et connaître ses propres productions; mais il suffit alors, selon la remarque de Lalande, que « cet objet de pensée soit considéré, en tant que connu, comme se distinguant au moins formellement de la pensée qui le connaît ». (Vocabulaire technique et critique de la philosophie art. Connaître).

[6] Thomas d’Aquin, De magistro, article 1, Réponse à la 6ème objection.

[7] Thomas d’Aquin, Somme théologique, Ia Iae qu. 117 art. 1 Réponse.

[8] Ibid.

[9] Thomas d’Aquin, De l’unité de l’intellect contre les Averroïstes Chapitre 5.

[10] Thomas d’Aquin, Somme théologique Ia Iae question 117 article 1 solution de la 3ème difficulté.

[11] Ibid., Réponse.

[12] Ibid.

[13] Platon, Alcibiade 114 d-e.

[14] Platon, Sophiste 231 e.

[15] Kant, Traité de pédagogie, Hachette, 1981, p. 35

[16] Ibid., p. 42

[17] Ibid., p. 43

[18] Alain, Propos sur l’éducation, IX, P.U.F. Paris, 1965, p. 19

[19] Hegel, Discours du 2 septembre 1811 in Textes pédagogique Trad. Bourgeois, Paris, Vrin, 1978

[20] Jean-Claude Milner, De l’École, Paris, Seuil, 1984, p. 57

[21] Cf. Romains, III, 10

[22] On connaît la belle et profonde réponse d’Alain: « Vous dites qu’il faut connaître l’enfant pour l’instruire ; mais ce n’est point vrai ; je dirais plutôt qu’il faut l’instruire pour le connaître ; car sa vraie nature, c’est sa nature développée par l’étude des langues, des auteurs et des sciences. C’est en le formant à chanter que je saurai s’il est musicien ». Propos sur l’éducation, XVI, op. cit. p. 36

[23] Kant, op. cit. p. 43

[24] Catherine Kintzler, Condorcet, l’instruction publique et la naissance du citoyen, Minerve, Folio-Essais, 1984, p. 246

[25] Rabaut Saint-Etienne, Projet d’Éducation nationale. Cité par Catherine Kintzler, op. cit. p. 245

[26] Condorcet, Rapport et projet de décret sur l’organisation générale de l’instruction publique in Une éducation pour la démocratie, Paris, Garnier, 1982, p. 249, note E.

[27] Alain Bouvier, Marc Fort, Bruno Gelas, Philippe Meirieu et Jean-Pierre Obin, Oser éduquer in Le Monde du 2 avril 1993. Toutes les citations qui suivent sont extraites de cet article.