الترجمة كأفق للتفلسف
فئة : مقالات
"ليست الترجمة هي ما يضمن حياة النص المترجم ونموه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن أيضاً حياة اللغة والفكر ونموها وتكاثرها".
بنعبد العالي[1]
أن نترجم معناه أن نتفلسف
إذا كانت الترجمة هي قضية فلسفية، بمعنى أنه يمكن أن نطرق مسألة الفلسفة عن طريق قضية الترجمة على نحو ما ذهب إليه بنعبد العالي[2] فإنها بالأحرى شرط لإمكان حياة فلسفية، ومعنى ذلك أنها أفق للتفلسف، بما هو تجربة تفاعلية للفكر الذي يجعل كل حياة للوعي حياة يقظة.
ليست الترجمة وفق هذا المنظور مجرد نقل للنصوص والأفكار والمفاهيم الفلسفية، بل هي إيقاظ للوعي من أجل اختبار قدرته على التفلسف الذي يمنح المعنى لحركة الحياة. ومن ثمة تغدو الترجمة كيفية من كيفيات تجديد الحاضر.
كلّ ترجمة تحيين، وكلّ تحيين هو استجابة لجلب الحاضر إلى الذات إلى مجالها البيإنساني أي إلى أفق الذاتية المشتركة البشرية. إذن، فقضية الترجمة هي قضية الانتماء إلى الفضاء المشترك للإنسانية. تكشف الترجمة باعتبارها اشتغالاً على لغة الآخر، لغة الغريب الذي يقضّ مضجع الذات بعد البرانية الذي يحفز كل ذاتية انطلاقاً من انتمائها المشترك للكونية الإنسانية إلى اللقاء بالآخر في غربته وغرابته، إنه اللقاء الذي يجعل من كل ترجمة ممكنة ومستحيلة في الآن ذاته.
ربما يسعفنا هنا التمييز "الليفناسي" ما بين المقول والقول في تأويل عملية الترجمة، بوصفها استجابة لنداء الآخرالذي يتجلى من خلال الاقتراب منه واللقاء به ضمن مجال التعددية الإنسانية.
فاللغة بما هي تحقق عيني من خلال "المقول" Le dit وما يعبر عنه تغدو قابلة للترجمة، أما اللغة بوصفها قولاً، أي ما لا يعبر عنه فهي ما يتعذر ترجمته، إذن فاللغة منكشفة ومتحجبة في الآن ذاته، فهي منكشفة تمنح ذاتها من خلال المقول، الذي يمكن التعبير عنه والذي يكشف كيفية من كيفيات وجود الذات المتكلمة، كما يمكن ترجمته ليصير مقولاً داخل لغة أخرى، ومن ثمة نستطيع أن نقول إنّ المقول يندرج ضمن المشترك الإنساني، أي ضمن بنية "موجودية" الكائن الإنساني التي تحدد أفق صلاحية كل قول باعتباره معبراً عن كيفية من كيفيات تموقع الذات في العالم، فكل قول بما هو إظهار وإبانة وإفصاح وبما هو مقول أول أو كإنتاج في لغة ما أصلية، يغدو قابلاً للنقل والتحويل والزيادة والقلب والخيانة والتأويل في لغة أخرى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فاللغة تحجب ذاتها من خلال القول الذي يندرج ضمن بنية إخلاف الوجود أو ما وراء الوجود، والتي ليست سوى سر الآخرية التي يتعذر التعبير عنها.
هذه البنية هي ما يجعل من كل آخر مطلقاً، يستحيل إخضاعه للذات وردّه إليها. ومن ثمة يتعذر إظهار القول كما يتعذر ترجمته، "لأنّ القول سابق على العلامات الصرفية، سابق على الأنساق اللسانية وعلى حقول الدلالات، سابق على اللغات. إنه اقتراب البعض من الآخر. إنه دلالة الدلالة نفسها"[3] والحال أنّ دلالة القول تتجه إلى ما وراء المقول: "فليست الأنطولوجيا هي محفز الذات المتكلمة، بل على العكس إنها دلالة القول المتجهة إلى ما وراء الوجود (لا يعني هذا المفهوم عند "لفناس" الماهية، وإنما الوجود المخالف للموجود المتضمن داخل المقول الذي بإمكانه تبرير عرض الوجود والأنطولوجيا)".[4]
بناء على هذا التمييز أو الإخلاف ما بين القول والمقول، فإنّ القول تتعذر ترجمته بما أنه سابق على الكلام ذاته، ولكنه مع ذلك يظل بما هو شرط إمكان المقول محفزاً على الاقتراب من الآخر. من الغريب الذي يدعونا إلى لقائه، أما المقول القابل للترجمة فيغدو بوصفه أثراً للغريب، ومأوى لسر القول، كيفية من كيفيات التشارك والتفاهم والتحاور وأسلوب العيش الإنساني. ومعنى ذلك أنّ القول هو مولد الفوارق المانع للتطابق، وهو الحامل لسر الغرابة الذي يحتفظ لكل آخر بآخريته التي يستحيل اختزالها في الذات، لكنه لا يمنع الذات من التورط في برانية الآخر.
إنّ هذا السر هو الذي يجعلنا نستشعر بأنّ كل ترجمة ناجزة باعتبارها مقولاًهي ترجمة غير مكتملة وغير نهائية ولعلها مستحيلة.
ومن ثمة يحفزنا السر على تحيين المقول، بقصد فهمه وتأويله، أي أن نجعله متموقعاً في ذواتنا، ونجعل ذواتنا تتموقع في حياة العالم. فكلّ تحيين لنص الآخر هو جواب على تعدد الكيفية التي تنجزها كل ذات إزاء النص المترجم. وكما يقول بنعبد العالي:
"فليست هناك ترجمة واحدة للنص نفسه، ولن تكون. وكلّ مُقدم على الترجمة لا يجهل هذا الأمر. إنه يعرف مسبقاً أنّ ترجمته ليست، ولن تكون، نسخة طبق الأصل، أن تكون ذات الآخر، ذلك أنّ الترجمة إذا سعت إلى أن تكون نهائية زاعمة أنها تضع نسخة طبق الأصل، فتجعل من اللغة المترجمة مرآة تعكس النص الأصلي، فإنها تكون قد استعملت حالة معينة للغة، وحالة معينة للفكر، تلك الحالة التي لا بُدّ أن تتحول، فأداة الترجمة لغة حية ومرآتها لا بد أن تتكسر، ومصير أعظم الترجمات وأكثرها إتقاناً هو الزوال، وذلك بفعل نمو لغة الترجمة وتجددها. بهذا المعنى فالمترجم مبدع في لغة أخرى. أو على الأصح مبدع في اللغة، ومن أجل ذلك فلا يكون عليه أن ينقل النص وينسخه، ولا أن يترجمه ترجمة نهائية. فالنص الذي يكف عن أن يكون موضع ترجمة لا يحقق ذلك، لأنه لقي ترجماته النهائية في جميع اللغات، وإنما لأنه مات كنص وكتابة. فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة وغير قابل للترجمة في الوقت ذاته".[5]
يمكننا أن نقول إنّ النص قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة في الآن ذاته. وما بين القابلية أو الإمكان والاستحالة يمكن الربط بين الترجمة، باعتبارها عملية ممكنة، وبين التأويل باعتباره تفلسفاً يسمح بالاقتراب من سر الاستحالة الذي يغري المتفلسف على تحويل النص إلى حقل للتجربة الهيرمونيطيقية، وفق هذا المنظور لن تكون الترجمة مجرد نقل توصيلي لمعنى النص، وإنما تكون تمريناً على التفلسف. والنص الذي يكون قابلاً وغير قابل للترجمة يحقق إمكانيتين جوهريتين: تتمثل الأولى في كونه يمنح ذاته إمكانية التجدد، فهو ما يفتأ يحيا في كل تجربة ترجمية، وما يفتأ ينفتح على أفق لا نهائي، فكل ترجمة بالنسبة إليه ليست أخيرة ومكتملة، وتتمثل الإمكانية الثانية في تمكين المترجم من كفاية التفلسف، فالمترجم لا ينقل المعنى بل يؤوله، وكل تأويل يقتضي نحت سيرورة متجددة للتفكير، وكيفية من كيفيات إعادة استنبات الفكر في لغة مغايرة وفي فضاء إنساني مغاير، ومن هنا يمكننا أن نقول إنّ ترجمات الفكر هي الاستعادة المغايرة التي تخلق شروطاً مغايرة للتفلسف. إذ هناك كما يقول "بيرمان" رباط قديم جداً ما بين فعل التفلسف وفعل الترجمة، ويشهد كل من بنيامين وهيدغر على هذا الرباط، فبالنسبة لبنيامين، اللغة الحقيقية التي يحتفظ فيها بالأسرار إذا ما وجدت هي اللغة الحقيقية التي يأمل الفيلسوف في استشعارها ووصفها بإتقان، غير أنها تختفي بشكل مكثف داخل الترجمات، وتتموقع الترجمة بالبذور التي تحملها من هذه اللغة بين الإبداع والنظرية. أما "هيدغر" فيرى أنّ كل ترجمة هي في حد ذاتها تأويل، وهي تحمل في كينونتها أسس التأويل وانفتاحاته ومستوياته الموجودة في الأصل والمجبرة على الصمت. فالتأويل هو إنجاز الترجمة التي ما زالت صامتة ووفق ماهيتها.
إنّ التأويل والترجمة يشكلان شيئاً واحداً".[6]
وفق هذا المنظور فالترجمة والتفلسف هما الشيء نفسه. فأن أترجم معناه أن أتفلسف، لكن الترجمة التي أنجزها ليست هي الإمكانية الوحيدة للتفلسف، وإنما هي إنجاز يفتح سبيلاً من بين السبل المتعددة التي تقود إلى المفهوم، فكأنّ التفلسف هو ترجمة لم تنجز بعد، مادامت الترجمة عملية لامتناهية ومشروعاً غير قابل للاكتمال، وهذا ما يدفعنا إلى القول إننا لم نترجم بعد، على غرار "إننا لم نفكر بعد". (هيدغر).
ثمة سؤال يقضّ مضجع كل متفلسف: هل اكتملت ترجمتنا لنصوص فلسفية بعينها، بل لمفاهيم فلسفية معينة من قبيل: الوجود، العدم، الماهية، الحقيقة، الدازاين، العوالم الممكنة، الكوجيطو...إلخ؟ وعلى سبيل الحصر هل تعد ترجماتنا للكوجيطو الديكارتي نهائية ومكتملة؟
حين نقول إننا لم نترجم بعد، فمعنى ذلك أنّ كل ترجمة من ترجمات الكوجيطو لن تكون بديلاً نهائياً، بل هي مجرد إمكانية من الإمكانيات التي تدخل في ترجمة المفهوم وفي سيرورة حياته. لأنّ مفهوم الكوجيطو مازال يحتفظ في ذاته بسر الغرابة. فتارة تدخلنا ترجمته في غربة عن ذاتنا، وتارة تصيره بعض الترجمات مغترباً عن ذاته، وتارة أخرى تمكننا ترجمته من المساهمة في إعادة بنائه، لكن في كل لحظة من هذه اللحظات فإننا نمنحه حياة ما تفتأ تتجدد من خلالنا، بل لعل أقوى لحظات المفهوم هي تلك اللحظة التي يكون فيها المفهوم محفزاً وباعثاً على استنبات حياة فلسفية داخل الأرض التي ارتحل إليها عبر الترجمة، فالمفهوم ليس مجرد عبارة فلسفية تستمد صلاحيتها من مجرد الاستشهاد النصي فقط، بل هو الذي يحفزنا على التفلسف، ويمكننا من اكتشاف كيفية مغايرة من كيفيات وجودنا في أفق الذاتية المشتركة.
فإذا ما تأملنا ترجمة الكوجيطو إلى اللسان العربي فإننا نجد ثلاث صيغ على سبيل المثال لا الحصر هي التالية:
1- الصيغة الأولى: أنا أفكر، إذن أنا موجود[7]
2- الصيغة الثانية: أفكر، إذن أنا موجود[8]
3- الصيغة الثالثة: انظر تجد[9]
الصيغة الأولى لمحمود محمد الخضري، وينعتها طه عبد الرحمن بالتحصيلية، أما الثانية فهي لنجيب بلدي، وهي توصيلية حسب طه عبد الرحمن، أما الصيغة الثالثة فهي من اقتراح طه عبد الرحمن نفسه، وهي في نظره الترجمة التأصيلية التي يعتبرها الصيغة النهائية للكوجيطو، وهي بالذات المقابل التأصيلي العربي للعبارة الفرنسية: Je pense, donc, je suis
ولأنّ هذه الترجمة تأصيلية باختصارها للعبارة وتهوينها للمضمون، تستعمل مقابلات لها من القوة الفلسفية على الأقل ما لألفاظ الأصل، استمداداً وإمداداً، فيجب الأخذ بها، فبفضلها وحدها حسب طه عبد الرحمن نقوى على الظفر بما امتنع علينا زمناً طويلاً حتى تطرق الشك إلى نفوس بعضنا وفقدنا الثقة بقدرته على نافع الإنتاج الفلسفي، ألا وهو الإسهام في تجديد الأصل الأول الذي انبنت عليه الفلسفة الحديثة.[10]
هناك مأزق جوهري في هذه الصيغة، لا يتعلق بما انتهت إليه من صيغة مغايرة تماماً للكوجيطو فحسب، بل يتعلق أيضاً في اعتبارها صيغة نهائية للكوجيطو، وفي كونها وحدها سبيلاً للتفلسف وتجديداً للأصل. أي أنها هي البديل الأخير للترجمة التحصيلية التي يجب ترك العمل بها ما أمكن، وهو ما ينطبق كذلك على الترجمة التوصيلية، فالترجمة التي يعتبرها طه عبد الرحمن تأصيلية والتي تخضع المنقول إلى مقتضيات وشروط التداول العربي الإسلامي هي ما يجب العمل به ما أمكن.[11]
ثمة سؤال أساسي: هل بإمكان أيّة صيغة للترجمة أن تعتبر نهائية وأن العمل بها واجب؟ وهل يغدو التفلسف ممكناً في ظل صيغة نمطية للترجمة تعتبر ذاتها تأصيلية ونهائية والعمل بها واجب؟ ألا يفضي بنا النوع من الترجمة إلى إخضاع تفكير الآخر لمجال الخصوصية ولنسقها التداولي الذي تتحكم فيه بنية لغة لا تنتمي إلى عالمنا، وإنما إلى عالم الأعرابي صانع العالم العربي على حدّ تعبير الجابري؟ ألا تعتبر صيغة طه عبد الرحمن نفياً للكوجيطو ذاته وإقصاء لروحه الفلسفية؟
لقد أدخلت صيغة طه عبد الرحمن الكوجيطو في غربة عن ذاته، فليس ثمة داخل هذه الصيغة من إمكانية للتعرف على غرابة الغريب الذي تمّ إجباره على التخلي عن غرابته وعن اختلافه عن الذات المستضيفة، والمسألة هنا أكثر من جلب الكاتب إلى القارئ وتركه آمناً كما يقول شلايماخر، ولكنها إخضاع الآخر إلى الذات واختزاله فيها، ممّا يستحيل معه التعرف على أناوية هذه الذات ولا على استراتيجيتها في التفكير.
"انظر تجد"، ليست سوى عبارة شرطية غدت فارغة من المفهوم، لقد غاب الكوجيطو، وحضر الأعرابي برؤيته الحسية وخطابته الأمرية، غابت الأنا أفكر، وحضر المخاطب الآمر، غابت كينونة الكائن في الوجود، وحضر المعطي الموجود سلفاً، غاب التكلم المرتكز على الأنا، وحضرت الخطابة الموجهة للأنت.
ورغم انتقادات طه عبد الرحمن للصيغتين الأخريتين اللتين حثنا على تركهما، فإنّ في هاتين الصيغتين إمكانية للتعرف على الكوجيطو وعلى التفلسف أيضاً.
لقد أدخلتنا هاتان الصيغتان إلى غربة ليس عن ذاتنا المطابقة فقط، وإنما عن وجودنا الغفل، إلى غربة عن عالم الأعرابي المتحكم في عقلنا، إلى غربة عن بنية لغة حسية-لاتاريخية لا تستجيب لأفق مغاير غير الأفق الذي تمّ تحديده في عصر التدوين. وهذه الغربة خلخلت علاقتنا بذواتنا لنعيد اكتشافها وتحريرها من التطابق، ومن الوجود الغفل الذي يحجب كلّ أنا ويفصلها عن إرادة التكلم، بوصفها أنا تفكر. كما خلخلت علاقتنا بلغة الأعرابي التي برزت الحاجة ماسة بفضل لقاء الغريب إلى تجديد بنيتها، والتكلم من خلالها بطريقة مختلفة تمكننا من ابتكار وجودنا.
فالغريب من خلال "أنا أفكر إذن أنا موجود" يقضّ مضجع ذواتنا، فهو يحثنا على إثبات وتوكيد أنويتنا، ويحفزنا على التفكير لاستعادة وجودنا. كما يحثنا على تفلسف يجبر لغتنا على الاستجابة لأفق العالم البيإنسني، أي لأفق الذاتية المشتركة، ومن ثمّ يورّطنا في برّانية الآخر التي تكشف بُعد الغيريّة في ذاتيتنا.
[1] عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، سلسلة شراع، ع 40، أكتوبر، 1998، ص 35
[2] المرجع السابق، ص 9
[3] Lévinas, autrement qu’être ou au-delà de l’essence edmartinus nijho ff 1978, p 17
[4] ibid. p 66
[5] بن عبد العالي، في الترجمة، ص 44
[6] أنطوان بيرمان، الترجمة والحرف أو مقام البعد، ترجمة عز الدين الخطابي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010، ص 36
[7] ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة محمود محمد الحضري، دار الكتاب العربي للصناعة والنشر، ط 2، 1968، ص 143
[8] نجيب البلدي، ديكارت، دار المعارف، القاهرة، 1959، ص 95
[9] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 1 الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 1995، ص 491
[10] نفسه، 511
[11] نفسه، ص 510