التشكل الأخلاقي للباطوس في الخطاب السجالي: مقاربة بلاغية حجاجية للردود على كتاب "صحيح البخاري .. نهاية أسطورة"
فئة : مقالات
التشكل الأخلاقي للباطوس في الخطاب السجالي:
مقاربة بلاغية حجاجية للردود على كتاب "صحيح البخاري .. نهاية أسطورة"[1]
المقدمة
نسعى في هذا المقال، إلى الكشف عن التشكل الأخلاقي للباطوس في السجالات والردود التي أثارها كتاب رشيد أيلال (صحيح البخاري.. نهاية أسطورة)، وهي ردود تنتمي إلى الخطاب الديني؛ لأنها تعالج قضية دينية تتعلق بصحيح البخاري؛ فقد اهتمت بنقد هذا الكتاب، وبيان تهافت حجج صاحبه، ونقض ادعاءاته... وتمثل هذه الخطابات أحد أهم الصراعات الفكرية المعاصرة التي دار رحاها بين الأصوليين والعلمانيين؛ فقد تلقف بالنقد كتاب أيلال - العلماني - مجموعة من الدارسين والشيوخ الذين يقدمون أنفسهم في صورة الحماة لدين الله، كما انخرط في هذه السجالات جمهور واسع تختلف انتماءاته المذهبية والدينية... الأمر الذي جعلنا نهتم في هذا البحث بتحليل ثلاثة أنواع من الخطابات (التصريحات- المقالات- تعاليق القراء على منشورات أيلال حول كتابه)، لجأ فيها أصحابها، لتهييج عاطفة المتلقي والزيادة في وقع التأثير على النفوس، إلى تقديم أنفسهم في صورة أخلاقية تارة، وفي صورة متأثرة تارة أخرى، حرصا على أن يكونوا والمتلقي لحمة واحدة، ضمانا لقرب المسافة ما بينهما أولا، ورغبة في نقل ما يشعرون به إليه ثانيا، ليتسنى لهم بذلك جعله منخرطا معهم في المضامين التوجيهية، ومشاركا إياهم عواطفهم وانفعالاتهم.
وننطلق من افتراض أساس يرى أن الإيتوس والباطوس لكونهما متعلقين بالذات - ذات المتكلم وذات المخاطَب - أي إنهما استراتيجيتان حجاجيتان ذاتيتان؛ لا ينفصلان، بل قد يتداخلان، فيخدم أحدهما الآخر، بناء على ما يكون العمدة في الخطاب... فحرص الخطيب على التوافق مع مستمعيه يدفعه إلى تعزيز خطابه العاطفي - الذي يراهن فيه على إثارة الأهواء (الباطوس)- ببناء صورة الذات المتأثرة بمضامين هذا الخطاب، وتدعيم الخطاب القائم على بناء صورة الذات (الإيتوس) بإثارة أهواء المستمع وتحريك عواطفه وانفعالاته.
بناء على ذلك، نسعى في هذا المقال إلى الكشف عن الكيفية التي يقدم بها المتلفظ ذاته، وتعمل على التأثير في المتلقي عاطفيا؛ فالإيتوس رغم كونه استراتيجية خطابية قائمة الذات يتداخل في الخطابات المدروسة مع الباطوس[2]؛ لأن «أفضل وسيلة لإثارة الأهواء في السامعين هي أن يشعر بها الخطيب نفسه»[3]، أن يبكي ليُبكي، ويحزن ليُحزن، ويغضب ليُشعرهم بالغضب، ويخاف ليبعث الخوف في النفوس، حتى وإن كان يتوخى في خطابه التأثير في المتلقي، وليس التعبير عما يجيش في صدره من مشاعر وانفعالات. على هذا النحو لا يعرى الإيتوس في خطابات المساجلين من نزوع عاطفي، فهو يحتوي العاطفة، ويعمل على تشكيلها «فأن يظهر الخطيب منفعلا لا يعني سوى سعيه إلى تحريك انفعالات السامع»[4]. لذلك حرص المساجلون على الظهور بمظهر انفعالي تارة وأخلاقي تارة أخرى لإثارة وجدان المتلقي. وقبل أن نتوقف عند الصور التي بناها المساجلون لأنفسهم بهدف التأثير في الجمهور سنتوقف في البداية عند تعريف الخطاب السجالي وإبراز خصائصه ومقوماته.
1- الخطاب السجالي: محاولة في بناء المفهوم
يواجه الباحث في الخطاب السجالي، الراغب في اكتشاف مكوناته وأسسه وخصائصه، مجموعة من الإشكالات النقدية والمعرفية، تجعل التصدي لهذا النوع من الخطابات أمرا محفوفا بعديد من المزالق والمشكلات الابستمولوجية، وتسمه بطابع «الخطاب الإشكالي»[5]، الذي يعبر عن علاقة تصادم ما بين أطاريح أطرافه ومواقفهم حول قضايا ابستمولوجية معينة، حيث تتصارع فيه الذوات لإثبات نفسها ونفي الآخر المناوئ لها، ولهذا تتخذ علاقة أطراف هذا الخطاب طابعا إشكاليا يتوافق مع طبيعة هذا الخطاب نفسه.
من بين تلك المشاكل ما يتعلق بتعريفه، فمفهومه زئبقي يختلف من باحث إلى آخر، إذ ليس من السهل أن نعطيه تعريفا جامعا مانعا، يحيط بكل خصائصه الأجناسية والفنية؛ لأنه خطاب متلون يكتسي كل مرة خصائص جديدة حسب السياق الذي يرد فيه، نظرا لتمايز مرجعياته وتداخلها مع مختلف الخطابات أدبية كانت أو سياسية أو دينية أو فلسفية... وهذا التداخل هو الذي يجعل التنظير للخطاب السجالي أمرا في منتهى الصعوبة. أضف إلى ذلك أنه يتمتع - عند العرب - بغنى معجمي[6] يصعب معه ضبط هذا المفهوم وتحديده تحديدا دقيقا. وهذا ما جعلنا نفحص في بداية هذا المقال مفهوم الخطاب السجالي، ونسعى إلى تعريفه، وإبراز خصائصه، انطلاقا من منظور مغاير لما دأب عليه الباحثون في نظرهم إلى هذا النوع من الخطابات، فقد ساد عندهم اعتباره خطابا لا أخلاقيا، يخرق قواعد التواصل والحوار، ويطيح بمبدأ التعاون ما بين الأطراف لإنشاء حوار فيه قدر من احترام الخصم وتوقيره.
يعد الخطاب السجالي شكلا من أشكال التفاعل الخطابي، وحدثا تلفظيا، قائما على التواصل بين الأنا والآخر، يحيل على معنى المبارزة بين الخصمين، ويقوم على اختلاف قد يبلغ حد الخصومة والحرب، بتعبير أركيوني([7])، إلا أنه مع ذلك يبقى خطابا ابستمولوجيا، يسعى إلى بناء المعرفة أو المشاركة في بنائها، من خلال قيامه على تقديم بديل ابستمولوجي يغني المعرفة، ويُرسي مبدأ الاختلاف في الرأي، ويدافع عن قيمة الإبداع الذي يناقض التبعية والتحجر والاحتفاء بما هو سائد في الأوساط الثقافية. فالخطاب السجالي خطاب محكوم بالتمرد على ما ترسخ في الوعي المجتمعي، يحاول فرض رؤى الذات المساجلة وتصوراتها عن الوجود، يأبى أن ينقاد لِما يكلس الإبداع، لِما ينظر للمتوارث/ المتعارف عليه على أنه الأنموذج الذي ينبغي اتباعه والاحتفاء به؛ فهو يحركه سؤال الانزياح عن السائد والمألوف، وبالتالي الرغبة في تقويضه وتجاوزه وإحلال وعي جديد محل وعي قديم، يدعي أن من صفاته الزيف والتبعية للموروث والمتقادم، مدفوعا في ذلك برغبة التماهي في الأنساق الجديدة، التي يفرضها تطور الثقافة، وعدم استقرارها واستنادها إلى أنموذج واحد وأوحد. ومن ثَمَّ، يمكن وصفه بأنه خطاب مُفكِّكٌ للأنساق المعرفية والثقافية السائدة، يحاول بناء أنموذج ابستمولوجي أو ثقافي جديد، ينطلق من القديم في محاولة لتجاوزه والبناء عليه؛ أي إن السؤال الذي يحركه ليس كشف زيف القديم فقط، وإنما أيضا محاولة بناء بديل له، من خلال عملية إبستمولوجية تكشف عن قدرة الذات على «الاستيعاب والتحول؛ ومن ثمة قدرتها على إعادة تنظيم العلاقات والفكر على أسس جديدة تستوعب فيها "الأنا" "الآخر" في صيغة اجتماعية حضارية فعالة وبناءة»[8].
بيد أنه يقوم على مفارقة أساسية متمثلة في كون آلياته غير متوافقة مع الغاية التي يرومها، فهو - في طموحه إلى بناء المعرفة - لا يكف عن المواجهة والعنف اللفظي واستخدام الأساليب العدوانية في سبيل هدم فكرة وترسيخ أخرى، إلا أن هذه المفارقة ليست أصلا في الخطاب السجالي، بل هي نتاج لهوى الإنسان الذي يطمح إلى فرض ذاته والإعلاء منها على حساب الحط من الآخر والتغلب عليه. ولعل هذا يجعلنا نفهم لماذا كان يُنظر إلى الخطاب السجالي نظرة دونية قدحية، تحاول أن تحط من قدره، وتسمه بميسم الخطاب العدواني الذي لا يتوخى هدفا غير النيل من الآخر/ الخصم.
إننا لا نُنْكِر أن الخطاب السجالي كما يعرفه بلانتان «حرب نخوضها بالكلمات، وتكون حربا دفاعية من طرف شخص عنيد يرفض بدون سبب أن يغير رأيه»[9]، وأنه كثيرا ما يؤول إلى «حرب ضروس تتخذ أشكالا عديدة»[10]، إلا أنه لا يمكننا أن ننفي عنه طابعه الابستمولوجي، فهو يساهم في بناء المعرفة، رغم أن استراتيجياته قائمة على العنف والبسط والقهر والعنف اللفظي، فهو لم يوجد كي يركن لذلك فقط، حقا أن هذه هي أهم مظاهره، وأن الشائع منه ذاك الذي يتوخى أساسا التهجم على الخصم والنيل منه، لكن هذا لا يجب أن يُنسِيَنا ما له من دور في تطوير المعرفة، وكشف الزائف منها، وإعادة بنائها بناء جديدا يحاول أن يتجاوز القصور والهنات التي كانت ماثلة في الأنموذج القديم قبل تدخل السجال ليعيد رسم خريطته ومناقشة بعض مبادئه...
تحكم أطراف الخطاب السجالي الرغبة في تجاوز الخصم والنيل منه والحط من قيمته، وإظهار التفوق المعرفي عليه، وينشدون الوسائل العدوانية آلية لهذا التجاوز، فمن كانت له القدرة على مجاراة السجال إلى النهاية ينتصر على خصمه في هذه المعركة الاستعارية التي لا يتورع أطرافها عن استخدام أساليب مشينة للتفوق على الآخر المناقض، إذ يلجؤون في الأعم الأكثر إلى: إقصاء الآخر ونسف جهوده، وتفريغه من جوهره، ويغلب على لغتهم طابع الرفض والإقصاء، حتى وإن كان هذا الإقصاء إقصاء ابستمولوجيا وليس ماديا[11]، وتتطلب بيئة خطابهم السجالي حسب ووترهينقراف قدرا من عدم الارتياح وعدم الصفو وتوافر عنصر التهديد[12].
وبهذا، يمكننا تعريف الخطاب السجالي بأنه ذلك الخطاب الاختلافي الذي يجري بين طرفين أو أكثر، لكل واحد منهما موقف مخالف للآخر، يسعى إلى إلجامه وتبكيته، وبيان فساد ما يذهب إليه؛ فالمساجل يروم «إعادة تشكيل العالم ومكوناته المختلفة، ليصبح مطابقا لفرضياته»[13]، يهدم السائد والمألوف والرتيب، ويتجاوزه إلى ما هو جديد وغير متداول، ويعيد بناء العالم، فيشكله انطلاقا من رؤاه وتصوراته. بعبارة أخرى يحاول هذا النوع من الخطابات أن يبني تصورات جديدة، لا تخضع لمنطق الكائن والموجود والمعيش إلا لماما، مما يعني أن مبدأه نابع أساسا من عقد الاختلاف مع المتلقي؛ فالمساجل يلجأ إلى عرض مجموعة من الحقائق، انطلاقا من ادعاءات ذاتية شخصية، وهذا ما يجعل الخطاب السجالي خطابا إيديولوجيا، يتخذ سمته من مضامينه الإيديولوجية التي تشد الباب في وجه الاتفاق وتشرعها أمام الاختلاف في الرأي والتعددية.
ولما كان الخطاب السجالي خطابا غايته تفكيك الأنساق المعرفية والثقافية، فهو لا يتورع - لتحقيق مراده - عن المزج بين ما هو معرفي وما هو شخصي، فيكشف بالتالي عن ممارسة خاصة به، ينفرد بها عن باقي الخطابات الأخرى، إذ يستخدم مختلف الاستراتيجيات الخطابية بما يتلاءم مع القصد الذي يرومه، فالكلمة تصبح فيه ذات دلالة خاصة، وصور الأسلوب تصبح محملة بطاقات سجالية تخول لها أن تحيا وتتطور ضمن هذه العملية الإشكالية المعقدة، التي تكشف عن خطاب مختل بين طرفين خصمين لبعضهما، كل واحد منهما له تصور مغاير عن الآخر، يتجرأ على خصمه، سعيا إلى التفوق عليه وإسكاته؛ فالخطاب السجالي «وليد فعل السجال، ومماثله في التباري والتنافس والرغبة في الغلبة والفلج على الخصم»[14]. وهذا المعنى هو ما تشير إليه الدلالة اللغوية لمفهوم السجال؛ إذ تلتقي المعاجم اللغوية في تعريفها للسجال للدلالة على معنيين هما المبارزة والتنافس، وتربطه بمجالي السقي والحرب، جاء في لسان العرب: «سجال جمع سِجْل وسَجْل، وهو: الدلو الضخمة المملوءة ماء، وساجل الرجل باراه... وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحد منهما في سَجْله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نَكَل فقد غُلب. فضربته العرب مثلا للمفاخرة [...] وتساجلوا أي تفاخروا، ومنه قولهم الحرب سجال وانسجل الماء انسجالا إذا انصب»[15].
1-2- الخطاب السجالي وفكرة التحيز
يرتبط الخطاب السجالي – في نظرنا - بفكرة التحيز، التي تتأسس على اعتبارين؛ أولهما: تضخيم الذات والتمركز حولها؛ إذ يتم التَّلَعُّبِ باللغة من أجل خلق تنميطات جاهزة، تسم الذات بكل سمات التعالي والفوقية، وتجعلها رمزا للكمال والتفوق والعلم... أما الاعتبار الثاني، فهو تغييب الآخر أو انتقاصه وتهميشه في محاولة لإقصائه؛ وذلك بوسمه بكل سمات الدونية[16]. وبذلك، فهو يروج لمركزية الذات السجالية، ويجعلها ذاتا موسومة بالتعالي والتميز والتفوق، في مقابل ذلك، يروج لهامشية الآخر، وتحقيره، ويتعمد جعله مشوبا بمجموعة من السمات السلبية، كالتوتر والانفعال والجهل، وبالجملة يلصق به كل القيم المتعارضة مع ما هو نقي وفعال ومتعالٍ، ومن ثَمَّ يستبعد فكرة تقبل نسقه الثقافي.
بيد أن تحيز الخطاب السجالي لا يعني أنه ينفي الآخر نفيا مطلقا، وإنما يجعله على الهامش فقط، فوجود الأنا في هذا الخطاب ليس مرتبطا بفكرة وجودها، كما ادعى ذلك ديكارت. إنها لا تكتسب كينونتها المطلقة، ولا تضمن تحقق وجودها حتى تكون مقترنة بذلك الذي يخالفها، ممتدة فيه، وممتد فيها. على هذا النحو تغدو الذات السجالية مركبة من طرفين متمايزين ومختلفين هما "الأنا" و"الآخر"، يسعى كل واحد منهما إلى الإيضاح في خطابه عن هذا الاختلاف والتمايز. وهذا ما يجعل الخطاب السجالي قائما على التعددية في الآراء، التي تفترض أيضا تعددا في الحقائق، أو قل في النظر إليها، فكل ذات في الخطاب السجالي تنشئ عن العالم الخارجي صورا إدراكية خاصة بها، تتحول معها إلى مصدر للمعرفة والحقيقة المطلقة، لا حقيقة إلا داخلها. تتسم نظرتها إلى الوجود بالتمركز حول ذاتها، والانطلاق من اعتباراتها، وتهميش ما يخالفها. تسعى إلى تحويل الوقائع إلى صياغات متماسكة غير قابلة للاختراق من قبل الآخر، وتقف موقف عداء إزاءه، فهو يهدد صفاء هويتها وثبات وعيها، فكل ذات ترى نفسها مصدرا للمعرفة والحقيقة، وما جاورها وكان خارج كينونتها يمثل وعيا مزيفا، أو صورة إدراكية مشوهة، أو تخييلا يلفه الوهم والغموض[17].
1- 3- الخطاب السجالي وتعدد المنجزين
إن الخطاب السجالي بهذا الاعتبار هو خطاب مشروط بتعدد المنجزين، لا يمكن أن يقوم إلا إذا كان متضمنا لخطاب الآخر، يحيل عليه بشكل صريح حينا، أو بشكل مضمر أحيانا أخرى، فهو ليس نتاجا لخطاب الذات وحدها، فكما أنه يقدم خطاب الأنا المساجلة وتصوراتها يقدم خطاب الآخر الخصم وتصوراته ويستحضرها، إلا أن هذا الاستحضار ليس معناه الإعلاء من شأن خطاب الخصم، والاكتفاء بترديده، وإنما الهدف منه تجاوزه معرفيا، والحلول محله...
بهذا، يسهم كل من "الأنا" والآخر في منح الخطاب صفة السجالية، التي لا تتأتى له إلا بوجود هذين الطرفين؛ فالأنا «لا تستطيع أن تبدع خطابها بدون الآخر، والعكس، حيث يحضر خطاب كل طرف بقوة في خطاب الطرف الآخر، فالأنا تتعرف على نفسها بوصفها جزءا في خطاب الآخر، والآخر يتعرف على نفسه بوصفه جزءا في خطاب الأنا»[18]. وهذا يجعلنا على بينة من أن الخطاب السجالي يتناسل من خطاب الآخر المخالف ويتولد عنه، ولا ينحصر «في خطيته وصور انكتابه وتحققه، في صورة بنية لغوية أو مضمونية»[19]، فكل خطاب من هذه الخطابات يقدم نفسه على أساس أنه قادر على استيعاب خطاب الخصم، وبالتالي فنحن في الخطاب السجالي - في الحقيقة - لسنا أمام خطاب واحد، وإنما أمام خطابين أو أكثر إذا جاز لنا ذلك...
2- التشكل الأخلاقي للباطوس في الردود على كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة"
إذا كان المحور الأول قد اهتم بتعريف الخطاب السجالي، فإن هذا المحور يسعى إلى تحليل السجالات التي أثارها كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة" تحليلا بلاغيا حجاجيا، يفحص التداخل الكامن فيها بين الإيتوس والباطوس، وسنركز أساسا على خمس صور نعرضها كالآتي:
2-1- انفعال السخط والغضب
استدعت مواجهة رشيد أيلال والرد عليه من المساجلين أن يلجؤوا إلى إظهار أنفسهم في صورة الغاضب لدين الله، المنافح عنه والمتصدي لكل الهجمات التي يتعرض لها من قبل الأعداء. ولعل ما يبرر هذا الحرص سعي المساجلين إلى إثارة غضب الجمهور ونقمته، لذلك، نلفي في خطاباتهم اهتماما بانتقاء المفردات والأساليب الدالة على غضبهم وحنقهم على رشيد أيلال.
يُستشف من وراء ذلك، أن الظهور بصورة الغاضب في خطابات المساجلين أسلوب عاطفي، يتوخون منه إثارة انفعالات المتلقي، وجعله مشاركا لهم في غضبهم وسخطهم على أيلال، فيتحول بالتالي من مجرد كونه وسيلة لبناء الإيتوس إلى المساهمة في البناء الحجاجي للباطوس. ويمزج هذا الأسلوب العاطفي ما بين التصريح والإيحاء، في الأسلوب الأول تحضر ملفوظات تعبر عن غضب المساجلين، سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إذ عملوا في خطاباتهم على صب غضبهم على رشيد أيلال، يتضح ذلك من خلال تعابير وجههم وطريقة حديثهم، (الأمر هنا متعلق بالتصريحات)، وأيضا من خلال استخدامهم لألفاظ عنيفة، يتبدى من خلالها انفعال الغضب والسخط، كاللعن في تعاليق القراء على منشورات أيلال (الله يلعن الكلب اللي ولدو- لعنك الله يا جاهل، ألا لعنة الله عليك...)، والشتيمة (أنت بربري لقيط)، والدعاء على الخصم (تبا لك، قبحك الله، خبت وخاب مسعاك، أخاب الله مسعاك...)... كما يتضح هذا الأسلوب أيضا من خلال عناوين بعض الخطابات التي تشي بنوع من العدائية، وبذلك فهي معبرة عن غضب المتكلم وسخطه (الرد الناري على الذي طعن في صحيح البخاري)[20].
وإذا كانت هذه الأساليب تشكل صراحة انفعال الغضب، فإن اختيارات المساجلين الأسلوبية واللغوية بدورها تكشف عن هذا الانفعال وإن بطريقة موحية، فقد لجأوا إلى استخدام تعابير وألفاظ توحي بهوى الغضب، وتجعلنا على بينة من الانشغال الحجاجي لإيتوس الغضب في هذه الخطابات، من قبيل استخدام الاستفهام (ما هذا؟ هل هي فوضى؟ هل هي فوضى؟)([21])، والأمر (فاسأل أمك) ([22])، والنداء (يا سفيه، يا أيلول الخريف، يا مخلوق، يا جاهل) [23].
صور بعض المساجلين أنفسهم، في خطاباتهم، في صورة المشفق على الخصم، وأوهموه بأن أمره يعنيهم؛ غير أن الظهور بهذا المظهر لم يكن إلا إخفاء وتورية للانفعال الحقيقي الذي هو إثارة الاستخفاف والاستهزاء به؛ فالشفقة هنا تتلبس بالسخرية، وتمتزج بها؛ ذلك لأن السياق الذي يحتوي هذا الانفعال هو سياق التقليل من الخصم والانتقاص منه، وليس سياقا يتطلب إظهار عاطفة الشفقة؛ إذ كيف يتصور أن يكون خطاب ما يحتوي على الشفقة، وهو يطعن في الخصم ويكيل له كيلا من الشتيمة والسباب؟!
بناء على ذلك، تشكلت الشفقة الزائفة في خطابات المساجلين من جملة من الملفوظات التي يمكن التمثيل لها بما يأتي:
- «والله أنا أشفق عليك يا هذا» (تعليق)[24].
- «في الحقيقة لا أريد أن تكون أضحوكة، وبالفعل أنت أضحوكة لا غير».(تعليق).
- «تريد الشهرة، طيب، ستسلط عليك الأضواء هنا وهناك، ثم ماذا بعد؟ لا شيء، إلا أنه سيلعنك اللاعنون، وهذا الذي لا أريده لك، لا أريد لك أن يلعنك اللاعنون»[25].
يقدم المساجلون أنفسهم من خلال هذه الملفوظات في صورة المشفق على الخصم، وهي شفقة تخرق معيار الاستحقاق الذي اشترطه أرسطو فيها حينما عرفها بأنها: «حزن ما لازم عن رؤية شر مهلك أو محزن يصيب من لا يستحق»[26]؛ فالشفقة بناء على ذلك يجب أن تكون تجاه شخص يستحقها، شخص أصابه شر أو مكروه، لكنه لا يستحقه. وبالجملة، فنحن نشفق على الذين نحبهم وتتوفر فيهم سمة الخير وعدم الاستحقاق للشر. انطلاقا من ذلك، يمكننا أن نقول: إن رشيد أيلال (1) ما دام ليس شخصا خيرا[27]، ولا يظنه المساجلون كذلك، وما دام (2) معاديا لهم إيديولوجيا؛ فهو (3) يستحق الشر أو العاقبة الوخيمة التي من الممكن أن تلحق به، جراء تماديه على صحيح البخاري، و(4) لا يستحق الشفقة.
ومن هنا، فإن الشعور الحقيقي الكامن وراء تلك الملفوظات هو التشفي بالخصم؛ إذ لا يمكننا أن نشفق على من يعادينا ولا يألو جهدا للقضاء علينا، بل تغمرنا الفرحة إذا ما علمنا بشر قد أصابه، ولكننا أمامه نخفي هذا الشعور ونظهر شعورنا الزائف بالشفقة... إن تعبير المتكلمين بالشفقة على خصمهم في هذه الملفوظات يتناقض وسياق هذه الخطابات، الذي يكشف لنا عن ممارسة خطابية تستهدف الخصم، وتتغيا القضاء عليه والتقليل منه وتقديمه في صورة مشوهة...
ويتضح من هذه الملفوظات أن التعبير عن الشفقة الزائفة يتخذ طابعا صريحا في خطابات المساجلين؛ فهم يتقصدون التعبير عن مشاعرهم للجمهور، ليكون على بينة من الشعور الذي يتملكهم تجاه رشيد أيلال، غير أن الشفقة في هذا المقام يُفهم منها شعور متناقض يتعلق بالتشفي بالخصم، فيغدو ما هو صريح إخفاءً واستبطانا للشعور الحقيقي، فعندما يقول المتكلم في المثال الأول «والله أنا أشفق عليك يا هذا»، فإن شفقته زائفة؛ لأنه يولد شعورا مناقضا، حتى وإن كان قد عبر فيه صراحة عن العاطفة التي تكتنزه، وشكل صورة المشفق بالإحالة المباشرة على الذات، عبر جملة اسمية، مكونة من ضمير المتكلم "أنا" وفعل المضارع "أشفق"، وعززها بالقسم "والله"، ليثبتها في ذهن المتلقي وينفي الشك عنها...
وتكشف لنا الخطابات المدروسة أن سبب هذه الشفقة الزائفة عائد إلى ما يُروّج عن أيلال من افتقاده لشروط النقد، وجهله بالعلم الذي خاض فيه، وهو ما يثبت لنا أن الظهور بمظهر المشفق على الخصم ليس إلا وسيلة للانتقاص منه والتقليل من أطروحته، فالشفقة هنا نابعة من جهل أيلال وضعفه العلمي...
2-3- التأدب الزائف والصورة المصداقية للذات
نلمس في بعض الخطابات السجالية للمحافظين حرصهم على الظهور بمظهر المتأدب، بغية كسب ود الجمهور، وجعله معتقدا أن الرَّدَّ على أيلال ليس من أجل التعصب لإيديولوجيا أو عقيدة معينة، وإنما هو ردٌّ مصداقي، يستهدف المساجلُ من ورائه كشفَ الحقيقة، وتبيانَ الحق من الباطل، والصواب من الخطأ. فالمظهر الذي أراده هؤلاء لأنفسهم هو مظهر أخلاقي يشي بنوع من احترام الخصم، والتأدب في الردِّ عليه ونقده، حتى وإن كان السياق يكشف عن نوع من المعاداة التي تتستر خلف ما هو أخلاقي؛ فالمساجل يسعى إلى إيهام الجمهور بأن ما بين الطرفين ليس عداوة وإنما هي أخوة، ليتسنى له الاستحواذ عليه، وجعله منخرطا في المضامين الموجهة له. إن غاية هذه الصورة التي عمل المساجلون على نسجها لأنفسهم هي غاية تأثيرية بالدرجة الأولى، تتوخى كسب المتلقي وإشعاره بنوع من الأخوة ما بين طرفي السجال، وأن الاختلاف في الإيديولوجيا لا يصل إلى القطيعة والعداوة ما بينهما...
ولبناء هذه الصورة لأنفسهم، يعمد المساجلون إلى الظهور بمجموعة من الصفات في خطاباتهم السجالية، تضفي عليهم مصداقية أخلاقية وتكسب خطابهم قيمته، من خلال إيراد عبارات وملفوظات تشي بالود والمحبة والأخوة والصداقة، كأن ينادوا خصمهم بالأخ: «اطلعت قبل قليل على كتاب الأخ صاحب أسطورة البخاري [..] وكنت أرجو أن يكون كتاب الأخ كبير الحجم. [..] ويبدو أن الأخ أسرع في التأليف [..] ينقل الأخ الحديث بكامله مع السند [...] الأخ الكريم لم يطلع [...]»[28]، أو الصاحب: «ثم الأعجب اعتماد صاحبنا على مقال في الفيسبوك كمرجع [..] من تلك الأغاليط توهيم صاحبنا قارئه بتفسيرات من عنده لأحاديث معينة أو كلمات لعلماء الحديث [...] وصاحبنا بالطبع لا يهتم بنقل خلافات العلماء في الموضوع [..] وأنا أتفق مع صاحبنا»[29]، أو الصديق «[..] كما فهم صديقنا [..]، أخيرا فإن صديقنا الجميل[...]»[30]. وتتجلى وظيفة استخدام عبارات الصاحب والأخ والصديق في هذا السياق - في وضع الخصم في الغياب؛ أي إبعاده عن مجال التعاطف، وتجريده من التقدير، وجعل الذات المتكلمة حَريةً بالتعاطف، فالذي يتأدب في مخاطبة خصمه - رغم فعله الشنيع - لا بد وأن يحبب الناس فيه ويجعلهم منخرطين معه في دعواه، ويدفعهم إلى مشاطرته الموقف نفسه من الخصم. إنه تأدب لا يراد منه الإعلاء من الخصم وتقديره وإنما إقصاؤه والحط منه، ما دام أن الصورة التي تكونت عنه لدى الناس هي صورة لا أخلاقية، تُظهره في صورة المعادي للدين الإسلامي، الساعي إلى تقويض أسسه واقتناص رموزه، وبالمقابل نجد العمل على تقديم الذات في صورة مصداقية، تكسبها هالة من الوقار والرزانة، حتى وإن كانت هالة أساسها التستر عن الصورة الحقيقية، التي هي مجرد صورة زائفة ومُقَنَّعة، يلجأ إليها المساجل لخداع خصمه والجمهور.
ويتجلى التأدب الزائف أيضا من خلال إيراد ملفوظات تنم عن احترام الخصم وعن مسلك في الاحتجاج يترفع عن إسقاط اللوم عليه وتعييره وشتمه، يتبدى ذلك مثلا من خلال ما جاء في تصريح للمقرئ أبي زيد «أنا والله لا ألومه بقدر ما ألوم الذين أعانوه على هذه الضجة»[31]. وغير ذلك من الملفوظات التي تشي بتورع بعض المساجلين عن التهجم على خصمهم في الظاهر، وسلوك مسلك الإيحاء والإخفاء والتستر خلف ما هو أخلاقي للتهجم عليه...
هذا على الأقل ما تحاول أن تظهر به بعض الخطابات السجالية التي أثارها كتاب رشيد أيلال، وإن كان كثير منها يتورط في عملية خطابية هدفها التجريح والقمع والتكفير والتسفيه...
2-4- التنازل البلاغي وصورة الذات المُتَفَهِّمَة
من بين التقنيات البلاغية الأخرى التي نلمس وجودها في خطابات المساجلين تقنية التنازل البلاغي، وهي تقنية «تقوم على مراعاة حجج الآخر واحترام وجهة نظره للوصول إلى نقضها بحججه الخاصة[..] وتظهر هذه التقنية المتكلم في صورة أخلاقية جديرة بثقة السامع، فهو متعاون ومتفتح ومتأدب»[32]. من أمثلتها ما جاء في مقال إدريس الكنبوري: «ينتهي [أي أيلال] إلى خلاصة أن الأصل في الإسلام هو القرآن، وأن السنة لا يعتد بها طالما أن هناك خلافات حولها. وأنا أتفق مع صاحبنا - وأعرف من همس له بالفكرة قبل نشر كتابه - ولكني أخشى أن يكون من يُسقطون السنة يسقطون الكتاب معها»[33]، فهذه الاستراتيجية تسهم بدورها في زيادة درجة التأثير في المتلقي؛ إذ تقدم المتكلم في صورة مطمئنة للمتلقي، تجعله ينجذب إليه، وينخرط معه في دعواه، من خلال رسمه لنفسه معالم الشخص المتفهم الذي لا يتورع عن الاعتراف لخصمه باتفاقه معه في بعض الأفكار، غير أن الأمر لا يستقر على مجرد الإقرار بفضيلة خصمه والاعتراف باتفاقه معه، ففي الحجة أمر يجعلها مثار شبهة، تستدعي التوجس؛ ففي قوله: «ولكني أخشى أن يكون من يسقطون السنة يسقطون الكتاب معها» توجس وخيفة من دعوى أيلال، على الرغم من اتفاقه معها، وقد عبر عن ذلك صراحة باستخدام الفعل المضارع "أخشى"؛ فالمساجل رغم أنه قدم نفسه في صورة المقر لخصمه بصوابه إلا أن استدراكه بالرابط "لكن" يجعله لا يتماهى كل التماهي معه؛ إذ يظل متوجسا من مآل دعواه ومن النتائج التي من الممكن أن تكون سببا لها، فدعوى أيلال الراغبة في إسقاط السنة قد يكون مآلها إسقاط الكتاب أيضا. ويفترض هذا أن ما يمكن أن تنجم عنه نتائج سلبية لا يعتد به ولا يكون مقبولا، أو بالأحرى لا تكون نتائجه مطابقة له، لذلك عمل - من خلال هذا الملفوظ - على التحذير من الأثر الذي يمكن أن تفضي إليه دعوى خصمه، فإسقاط الحديث قد يفضي إلى إسقاط القرآن الكريم.
2-5- التحدي وإثارة الاستياء والاستهجان
من بين الصور الأخرى التي يعمد بعض المساجلين إلى الظهور بها في خطاباتهم صورة المتحدي لخصمه، الذي يرغب في توريطه وإيقاعه في المحظور وإلجامه وقهره. ويتوخى خطاب التحدي غايتين على طرفي نقيض؛ ففي حين يروم المتكلم من ورائه الإعلاء من صورته الذاتية، وتقديم نفسه في صورة عالم، يروم بالمقابل التنقيص من خصمه، والإبانة عن جهله وكشف نقائصه، فهو يجعله في ورطة سواء أجاب أم لم يجب. وتكمن الغاية الأساس منه - في الخطاب السجالي ككل - في إحراج الخصم ومحاصرته، وجعله عاجزا لا يقدر على رفع التحدي، واقعا في مأزقين؛ أولهما الانقياد للخصم إن هو قبل بالتحدي، وثانيهما التعرض للسخرية والاستهجان إن هو لم يعرف الإجابة، أو لم يقبله. لذلك يرتبط التحدي في هذه الخطابات بأمرين، كل واحد منهما يتعلق بمتلق مخصوص، أولهما: الخصم الذي يثير فيه عاطفة التوتر والاستياء، وثانيهما: الجمهور الذي يثير فيه عاطفة الاستهجان بالخصم والاستهانة به.
وتعبر عن التحدي في خطابات المساجلين مجموعة من الملفوظات التي يمكن التمثيل لها بما يأتي:
- «[..] ولا يسعني في الأخير إلا أن أرفع تحدّياً أمام هذا الجاهل، وأتحداه أن يعرب لي كلمة "مثقال" التي جاءت في البيت الشعري مع أن هذا التحدي لن يصبح تحديا حتى يكون في مجمع مباشر حتى لا يستعين بأساتذة اللغة العربية»([34]).
- «قالك هزم البخاري، أتحداك أن تستظهر 10 أحاديث بسندها» (تعليق).
- «أتحداك وأرفع التحدي عاليا وجدا باعتباري قرأت كتابك أن ترد على ما جاء في مقال الباحث خالد التايدي من اتهامات خطيرة، وقد ذكر كل شيء بالأرقام الصماء التي لا تحابي أحدا» (تعليق).
- «ردّ على كتاب بيع الوهم إلى كنت راجلْ». (تعليق)
- «الأستاذ رشيد هل تقبل بمناظرة حول صحيح البخاري من أحد الإخوة المتواضعين». (تعليق)
يتضح من خلال هذه الأمثلة أن المساجلين عملوا فيها على الظهور بمظهر المتحدي للخصم، تقودهم في ذلك رغبة في الانتصار والفلج عليه. وكان التعبير عن التحدي في هذه الملفوظات بغية تعجيز رشيد أيلال وخلق جو من التوتر في نفسِه وإرباكه، بل إن بعض التحديات تتضمن سخرية لاذعة؛ ففي المثال الأول اقترن التحدي بالسخرية من المستوى التعليمي لأيلال، خاصة إذا استحضرنا مضامين الخطاب الذي أخذنا منه هذا الملفوظ، لذلك كان طلب المتكلم من الخصم إعراب كلمة مثقال التي وردت في البيت الشعري (لو كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار) تعضيدا لمضامين السخرية منه والاستهجان به، كأن خلف هذا التحدي خطابا مضمرا، يؤكد أن مستوى أيلال لا يؤهله لإعراب هذه اللفظة، فكيف به ناقدا للبخاري وطاعنا في صحيحه؟!
وقد تشكل حضور ذات المتكلم المتحدي لخصمه في هذه الملفوظات تارة بالإحالة إلى الذات بشكل صريح، وفي صيغة ضمير المتكلم (أرفع تحديا، أتحداك، أتحداك..)، وتارة أخرى بوساطة التلفظ وجهات الكلام؛ أي بالاختيارات المعجمية والأسلوبية؛ وهو ما اصطلح عليه بالإيتوس الموحي[35]، (رد على كتاب أيلال / هل تقبل بمناظرة...؟).
إلى جانب ذلك، فإن المساجلين يبنون لأنفسهم صورة المتحدي للخصم استنادا إلى السؤال الذي يكاد يستأثر بخطاباتهم، ولعل من أمثلة ذلك الأسئلة التي وردت في رد الشيخ الفزازي على رشيد أيلال، يقول: «[..] ما معنى صحيح؟ ما معنى حديث صحيح؟ ما معنى حديث صحيح لغيره؟ ما معنى حديث صحيح لذاته؟ هل الحديث الحسن هو حديث صحيح؟...»[36]؛ فالمتكلم في هذه الملفوظات يتوخى إحراج خصمه، أكثر مما يتوخى الحصول على الإجابة، بل «لعل كل إجابة يكون مردودها سلبيا»[37]، ولا تعود بالنفع على الخصم. وتتخذ هذه الأسئلة هنا طابعا يتوافق مع طبيعة الخطاب السجالي، إذ لم تعد وظيفتها تنحصر في الاستخبار؛ أي في استخدامها بغية تحصيل المعرفة، أو في التقرير والتثبيت والإنكار، وإنما هي من صنف السؤال المفخخ الذي أنزله روبيريو ضمن الأسئلة السجالية، وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أن السؤال في خطابات المساجلين يصبح آلية سجالية، يعمد من خلالها المساجل إلى مضايقة خصمه وتبكيته وإسكاته وتوريطه، بغية إظهار جهله، وكشف نواقصه وهناته، ومن طبيعة هذا السؤال أن يكون له ظاهر غير مقصود، ومعنى خفي هو المقصود، لا يعبر عنه صراحة قصد إيقاع الخصم في حبال التأويل[38].
الخاتمة
سعى هذا البحث إلى تحقيق غايتين؛ تتمثل الغاية الأولى في إعادة النظر في مفهوم الخطاب السجالي، وتقديم تعريف مغاير لما هو معهود عنه لدى الباحثين، الذين سادت عندهم النظرة الاحتقارية التي تنتقص من الخطاب السجالي وتدينه، لكونه يخرق قواعد الحوار ومبادئه، ويصب اهتمامه على ذات المخاطَب... فبنينا تصورنا أساسا على فكرة أنه رغم كونه خطابا يلجأ في كثير من الأحيان إلى الاعتداد بالعنف، نظرا لأن أطرافه محكومون بنوع من الرغبة في تجاوز الخصم والتفوق عليه؛ إلا أن ذلك لا يمنعنا من عدِّه خطابا ابستمولوجيا، يساهم في بناء المعرفة وتجاوز ما هو متوارث ومتداول، لبناء أنساق معرفية بديلة، فهو يقف من القديم موقف المتسائل عن كنهه ومدى مصداقيته، فيناقشه ويفككه سعيا إلى تجاوزه...
أما الغاية الثانية، فتتمثل في الكشف عن التَّشَكُّلِ الأخلاقي للباطوس ووظائفه ومقاصده في خطابات المساجلين وردودهم على كتاب رشيد أيلال، فتبين لنا بناء على ذلك أن الخطابات المدروسة تتميز بطابعها الديني؛ إذ تعالج قضية دينية تتعلق بصحيح البخاري الذي يعد عند المسلمين أصح كتاب بعد القرآن الكريم، فقد وطنت نفسها حول نقد كتاب رشيد أيلال والنيل من صاحبه، استنادا إلى ممارسة خطابية تراهن أساسا على وجدان المتلقي، وتخاطب عواطفه وانفعالاته، الأمر الذي جعلها تعتمد الإيتوس وسيلة من وسائل الحجاج العاطفي (الباطوس). ويظهر ذلك في حرص المساجلين على الظهور بمجموعة من الصور، كصورة المشفق والمصداقي والمتفهم والمتحدي، اعتمادا على مجموعة من التقنيات البلاغية كالتنازل البلاغي والتأدب الزائف والأسئلة... وهي صور تؤكد أن الإيتوس، في هذه الخطابات، كان مستجلبا أساسا لخدمة الباطوس، ما دام أن القضية المطروحة للنقاش هي قضية دينية بالدرجة الأولى، تستدعي استنفار العاطفة، بغية إقناع الجمهور، بضرورة عدم الانصياع لما يدعيه رشيد أيلال، والإعراض عنه.
المصادر والمراجع:
المصادر:
- الإدريسي (المقرئ)، تصريحه على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=QeuYjJ84RXM&t=24s
- الخباز (حسن): الرد الناري على الذي طعن في صحيح البخاري، على الموقع الإلكتروني:
http://eljareedah.com/articles-7691.html
- السعيدي (محمد محمد)، جواب كما يليق بصاحب نهاية أسطورة البخاري، على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=J8ce-kGRSfQ
- الفزازي (محمد)، الرد على رشيد أيلال بخصوص كتابه حول صحيح البخاري، على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=a6PW1GbLTCo
- الكنبوري (إدريس)، الكنبوري يرد على أيلال مؤلف الكتاب الضجة "صحيح البخاري .. نهاية أسطورة"، على الموقع الإلكتروني:
https://www.akhbarona.com/social/224522.html
المراجع
- ابن منظور: لسان العرب، مجلد 7-8، دار صادر، ط7، 2007
- أحمد ادراوي (عبد الفضيل)، بلاغة الدعاء بحث في المبادئ والسمات والوظائف، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2018
- أرسطو (طاليس)، الخطابة، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2008
- الزيدي (توفيق)، جدلية المصطلح والنظرية النقدية، منشورات قرطاج، تونس، 2000
- الشعري (ياسين): الحجاج العاطفي في الخطاب السجالي- مقاربة حجاجية للردود حول كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة" لرشيد أيلال، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، مركز جيل البحث العلمي، العدد 71، أكتوبر 2021
- الشعري (ياسين): التقليل من الخصم في الخطاب السجالي- مقاربة بلاغية حجاجية لردود المحافظين على رشيد أيلال، مجلة خطابات، العدد الأول، ربيع 2020
- العدواني (معجب) والكعبي (ضياء)، الخطاب السجالي في الثقافة العربية، دار الانتشار العربي، ط1، 2012
- العيادي (باشا)، السجال في الأدب العربي، أشكاله ووظائفه (الجاحظ أنموذجا)، مجلة الأزمنة الحديثة، الرباط، المغرب، ع 5، 2012
- العيادي (باشا)، فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية تداولية، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط1، 2014
- أيلال (رشيد)، صحيح البخاري .. نهاية أسطورة"، دار الوطن، ط 1، 2017
- سرحان (هيثم)، بلاغة الخطاب السجالي - مقاربة تداولية في مراسلات أبي جعفر المنصور والنفس الزكية، الأبحاث عدد 60-61 (2012 -2013).
- عبد الفتاح يوسف (أحمد)، الخطاب السجالي في الشعر العربي تحولاته المعرفية ورهاناته في التواصل، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2014
- مشبال (محمد)، في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات، كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2017
- هاشمي (غزلان)، إشكالية التحيز الثقافي عند عبد الوهاب المسيري، ضمن: مجلة البلاغة والنقد الأدبي، ع 2، خريف / شتاء، 2014/ 2015
[1] رشيد أيلال، صحيح البخاري .. نهاية أسطورة"، دار الوطن، ط 1، 2017
[2] اهتممنا في مناسبة سابقة بدراسة البناء الحجاجي للباطوس في الردود على كتاب رشيد أيلال، وكشفنا عن أهم الانفعالات التي تعمل هذه الخطابات على إثارتها، كالخوف والغضب والتحفيز... ينُظر: ياسين الشعري، الحجاج العاطفي في الخطاب السجالي- مقاربة حجاجية للردود حول كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة" لرشيد أيلال، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، مركز جيل البحث العلمي، العدد 71، أكتوبر 2021
[3] ميشيل لوجيرن، نقلا عن: في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2017، ص 269
[4] المرجع نفسه، ص 295
[5] أحمد عبد الفتاح يوسف، الخطاب السجالي في الشعر العربي تحولاته المعرفية ورهاناته في التواصل، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2014، ص 23
[6] ذكر توفيق الزيدي مجموعة من المصطلحات التي تعبر عن السجال في الثقافة العربية، وقد قسمها إلى قسمين هما: "مصطلحات عامة" تعبر عن المتصور الرئيس لخطاب السجال، وهو: التباري، ومن هذه المصطلحات: المماتنة، المطاولة، المقاومة، المنازعة، الإجازة والتمليط... وتعبر الأخرى عن المتصور الثاني للسجال وهو: التساوي ومنها: المواءمة، المحاتنة، المباهلة، والمساماة... أما النوع الثاني من المصطلحات فيسميه بـ "المصطلحات الخاصة" ومنها: المفاخرة، التي تولدت عنها مصطلحات وأساليب أخرى في التباري كالمنافرة والمعارضة والمناقضة، كما عبر عن السجال أيضا بالمقارضة والمراجزة... انظر كتابه: "جدلية المصطلح والنظرية النقدية"، منشورات قرطاج، تونس، 2000، ص 171-177
[7] باشا العيادي: فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية تداولية، كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط1، 2014، ص66
[8] الخطاب السجالي في الشعر العربي، مرجع سابق، ص 11
[9] فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية تداولية، مرجع سابق، ص148
[10] المرجع نفسه، ص148
[11] الخطاب السجالي في الشعر العربي، مرجع سابق، ص 12
[12] معجب العدواني وضياء الكعبي، الخطاب السجالي في الثقافة العربية، دار الانتشار العربي، ط1، 2012، ص15
[13] هيثم سرحان، بلاغة الخطاب السجالي- مقاربة تداولية في مراسلات أبي جعفر المنصور والنفس الزكية، الأبحاث عدد 60--61 (2012 -2013)، ص65
[14] باشا العيادي، السجال في الأدب العربي، أشكاله ووظائفه (الجاحظ أنموذجا)، مجلة الأزمنة الحديثة، الرباط، المغرب، ع 5، 2012، ص 199
[15] ابن منظور: لسان العرب، مجلد 7-8، دار صادر، ط7، 2007، مادة (سجل).
[16] لتدعيم هذه الفكرة عدت إلى المقال الذي خصصته غزلان هاشمي لإشكالية التحيز الثقافي عند عبد الوهاب المسيري، ينظر: غزلان هاشمي، إشكالية التحيز الثقافي عند عبد الوهاب المسيري، ضمن: مجلة البلاغة والنقد الأدبي، ع 2، خريف / شتاء، 2014/ 2015، ص 113
[17] المرجع نفسه، ص 116-117، بتصرف.
[18] الخطاب السجالي في الشعر العربي، مرجع سابق، ص 36
[19] عبد الفضيل أحمد ادراوي، بلاغة الدعاء بحث في المبادئ والسمات والوظائف، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2018، ص 59
[20] حسن الخباز: الرد الناري على الذي طعن في صحيح البخاري، على الموقع الإلكتروني:
http://eljareedah.com/articles-7691.html
[21] ينظر رد محمد الفزازي على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=a6PW1GbLTCo
[22] محمد محمد السعيدي، جواب كما يليق بصاحب نهاية أسطورة البخاري، على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=J8ce-kGRSfQ
[23] المصدر نفسه.
[24] هذه التعاليق مأخوذة من منشورات رشيد أيلال على منصات التواصل الاجتماعي التي كان يروج فيها لكتابه ويذيعه بين الناس، وقد رأينا من الضروري الاعتماد عليها ومقاربتها، ما دام أن هذه المنصات قد أصبحت في وقتنا الراهن وسائل تواصلية لا غنى عنها، وما دام أن صاحب الكتاب قد اتخذها وسيلة ليجر إليه القراء وليشهر كتابه، الأمر الذي جعلها تحتضن السجال الدائر بينه وبين خصومه من المحافظين والمدافعين عن صحيح البخاري... لذلك حاولنا ألا نكتفي فقط بتحليل المقالات والتصريحات وإنما أن نتفاعل أيضا مع تعاليق الرواد على منشورات أيلال عن كتابه.
[25] محمد الفزازي، مصدر سابق.
[26] أرسطو، الخطابة، ص 116
[27] حرص المساجلون، في ردودهم على رشيد أيلال، على هدم إيتوسه الشخصي، وتقديمه في صورة شخص يشكل خطرا على الدين الإسلامي، ولمعرفة هذه الصور يمكن الرجوع إلى: ياسين الشعري، التقليل من الخصم في الخطاب السجالي- مقاربة بلاغية حجاجية لردود المحافظين على رشيد أيلال، مجلة خطابات، العدد الأول، ربيع 2020، ص 82- 107
[28] مقال إدريس الكنبوري، على الموقع الإلكتروني:
http://www.akhbarona.com/social/224522.html#ixzz58ENXK2n3
[29] المصدر نفسه.
[30] المصدر نفسه.
[31] يُنظر تصريح المقرئ الإدريسي على الموقع الإلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=QeuYjJ84RXM&t=24s
[32] محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، مرجع سابق، ص 188
[33] ادريس الكنبوري، مصدر سابق.
[34] حسن الخباز، مصدر سابق.
[35] في بلاغة الحجاج، مرجع سابق، ص 248
[36] محمد الفزازي، مصدر سابق.
[37] محمد الناصر العجيمي، اجتياز الحدود في مساءلة مفهوم الخطاب السجالي، نقلا عن: بثينة قراوي، استحضار الخصم في الخطاب السجالي - مناظرات أحمد ديدات الدينية أنموذجا - مقاربة تفاعلية حجاجية، كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط 1، 2018، ص 176
[38] باشا العيادي، فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية تداولية، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط1، 2014، ، ص 433