التطرف الديني ليس سوى جزء يسير من حالة دينية تاريخية راسخة وعميقة
فئة : مقالات
يبدو التطرّف الديني أعقد بكثير مما يظهر في الوهلة الأولى، ليس مجرد خطاب ديني يمكن الردّ عليه أو مواجهتــه بـخطاب ديني معتــدل، أو مواجهة أتباعه وجماعاته أمنيا وسياسيا،.. ويمكن الاستدلال ببساطة من حالة التأييد المتنامي للمتطرفين وأفكارهم في عالم العرب والإسلام أن الخطاب المتطرّف ما زال قادراً على التماسك والإقناع وجذب المؤيدين والأنصار، وأن ما بذلته المؤسسات الدينية الرسمية في مواجهة "الإسلام السياسي" لم يغير شيئا في حقيقة تأثير هذه الجماعات السياسي وهيمنتها على الشارع، بل ونجاحها في تحويل الإسلام السياسي إلى إسلام شعبي.
والواقع أن الخطاب الفكري والإعلامي المفترض أنه يواجه التطرف والإرهاب، يساهم في خدمته ونشره من حيث لا يريد، لأنه وببساطة لا يبدو ثمة فرق بين الخطاب الديني الذي تقدمه وتنشره وتعلمه المؤسسة الدينية والتعليمية الرسمية وبين خطاب الجماعات الدينية المتطرفة، والأسوأ من ذلك أن الفئة المنوط بها مواجهة التطرف لا تملك مؤهلات لذلك سوى التأييد السياسي للحكومات، ولكنها في بنيتها الاجتماعية والدينية والفكرية تمثّل حالة من الكراهية والتعصّب، .. هذا الاعتدال السياسي المصحوب بالتطرف الديني والاجتماعي والكراهية الممتدة والمنتشرة وغياب التسامح، يفشل المواجهة الفكرية والإعلامية مع التطرف، بل يحوّلها لصالحه.
والظاهرة الثالثة الأكثر صعوبة وتعقيدا في مواجهة التطرف والتعصب الديني هي أن التطرف منظومة اجتماعية وتعليمية ومؤسسية تستمدّ مواردها وازدهارها من الكراهية الكاسحة، ولا يمكن تفكيك هذه الحالة إلا بمنظومة شاملة وبديلة من الإصلاح في البيئة المحيطة بالثقافة والتعليم وأسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي.
والظاهرة الرابعة التي يدور حولها الصراع ويستمد التطرف منها زاده الفكري والاجتماعي هي مسألة العلاقة بين الدين والدولة، حيث مازالت الدول العربية والإسلامية جميعها تنشئ سلطات دينية قائمة على تراث ديني وفكري وفي محاولتها لتثبيت الشرعية الدنية والسياسية للسلطات والنخب، فإنها تؤسس للتطرف، وينشئ ذلك صراعا أهليا واجتماعيا لا يبقي ولا يذر.
ولكن لم يعد ثمة مجال للتهرب من مواجهة المسألة الدينية وبخاصة العلاقة بين الدين والدولة ووضعها في سياق يصنع السلم الاجتماعي والاعتدال، فما يجري من حروب أهلية وهجرات واسعة وجرائم مثل تفجير المساجد ومدارس الأطفال والجنائز والأسواق أو الإرهاب الفردي الخارج عن التوقّع (الذئب المتوحّد) تصدم الضمير العربي والإسلامي والعالمي وتجعل من غير الممكن تأجيل المواجهة الحاسمة لأنفسنا والبحث عن جذور وأسباب التطرف في المنظومة الاجتماعية والسياسية السائدة والمطبقة في الدول والمجتمعات.
منظومة الاعتدال في مواجهة الكراهية
هناك إشكالات معقّدة في بناء استراتيجيات الاعتدال والتسامح ومواجهة الكراهية والتطرف، تتعلق بدور الحكومة والمجتمع ومسؤولياتهما والعلاقة والشراكة بينهما، فأن نطالب الحكومة بإصلاح المؤسسات التعليمية والدينية وتشجيع خطاب ديني وثقافي معتدل ومتسامح، يعني ذلك بالضرورة توسعة دور الحكومة الاجتماعي والثقافي والديني على حساب المجتمع وولايته على شؤونه وأولوياته، وأن نطالب بإسناد الدور الديني والثقافي للمجتمع يعني ذلك بالضرورة تمكين المجتمعات واستقلالها وقدرتها على تنظيم نفسها ومؤسساتها المجتمعية، وأن تكون لها الموارد المالية والقدرات التنظيمية، الأمر الذي يبدو أن الحكومات العربية ليست متحمّسة له، فالحكومة ألحقت المجتمع بها على مدى العقود الماضية، وأفقدته ما كان لديه من قدرات ومؤسسات اجتماعية، لأنه وببساطة يعني ذلك نشوء قيادات وقواعد اجتماعية قادرة على التأثير في الأسواق والسياسات والتشريعات في اتجاه مصالح المجتمعات، وفئات وطبقات اجتماعية واقتصادية مستبعدة من دوائر النخبة والتأثير والموارد، وتفضّل الحكومة مشاركة اجتماعية تابعة لها وليست مستقلّة، وبالطبع فإن وضع المجتمع في حالة تلقٍّ سلبي من غير مشاركة حقيقية، سيجعل برامج الحكومة وسياساتها لا تحظى بحماسة ومشاركة فاعلتين، ولن تجد الحكومات شركاء لها سوى مجموعات من الموظفين والأتباع غير المتحمّسين لمحتوى الخطاب والبرامج، وإن كانوا يشاركون فيه مؤسسياً أو احتفالياً.
هذه العلاقة القائمة اليوم بين الدين والدولة في العالم العربي والإسلامي تحتاج إلى مراجعة وتفكيك، ولا يمكن البدء بمواجهة التطرف والإرهاب وتصحيح الحالة الدينية القائمة إلا بتصحيح العلاقة بين الدين والدولة، وهناك اليوم ثلاث فئات سياسية تلحق الضرر بنفسها إلى درجة تهددها بالانحــسار، وتنشئ حالة من الصراعات والحروب الأهلية بســـبب علاقتها المضطربة بالدين، وهي النخب والسلطات السياسية التي تدير الدولة العربية الحديثة منذ تشكلها، وجماعات الإسلام السياسي التي شاركت في الحياة السياسية والعامة وطورت نموذجاً حداثوياً لعلاقة الدين بالدولة، والجماعات السلفية القتالية التي تخوض حروبا وصراعات وتدير عمليات قتل وعنف كما تؤسس لحالة من الكراهية المخيفة في المجتمعات والطوائف والمذاهب.
تعتبر الدول العربية والإسلامية الحديثة نفسها دولاً إسلامية تشكل امتداداً للتاريخ الإسلامي وأنظمة الحكم الإسلامي القائمة منذ بداية التاريخ الإسلامي، وسلكت في الوقت نفسه في بناء مؤسسات الدولة الحديثة وأنظمتها الانتخابية والقضائية والسيادية متبعة نموذج الدولة الغربية الحديثة في بنائها ونظامها الإداري والسياسي، وفي ذلك فقد أنشأت بنفسها ولنفسها مأزقاً، فأوقعت نفسها في تناقض كبير في محاولتها الجمع بين الدور الديني والحداثة السياسية، ولم تحصل أيضاً على تأييد وشرعية من الجماعات الإسلامية وقطاعات شعبية واسعة، ولم تنشئ نظاماً سياسياً حديثاً قائماً على الحريات والمواطنة.
وتواجه جماعات الإسلام السياسي مأزقاً في نموذجه الذي تقدمه وتدعو إليه فلا هو إسلامي ولا ديموقراطي، وفي الوقت نفسه فقدت كثيراً من شرعيتها وصدقيتها السياسية والدينية أمام جماهيرها التي انحازت إلى النموذج المثالي والمتطرف الذي أنشأته جماعات الإخوان المسلمين والتيارات المرتبطة بها ثم تخلت عنه.
متوالية الدين في السياسة
ولكن المتوالية الدينية- السياسية أعقد بكثير من هذا المشهد الذي قدمته، فقد تشكلت متوالية من الحالات والمؤسسات الدينية السياسية الاجتماعية الاقتصادية، والتي لا يمكن استيعابها أو تفكيكها بملاحظة الرواية المنشئة للإسلام السياسي وأطرافه الفاعلة، فقد أنشأت السلطات السياسية في تحالفها مع الجماعات الدينية بحثاً عن الشرعية الدينية السياسية ولمواجهة التيارات السياسية المعارضة والمنافسة متوالية من التطبيقات الدينية أو المرتبطة بالدين، واستطاع هذا التحالف أن يطور التراث الديني السياسي التقليدي إلى منظومة فكرية وعملية اجتذبت أعداداً كبيرة من المؤيدين، يمكن ملاحظتها في البنوك والمؤسسات الاقتصادية «الإسلامية»، وكذلك المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، وفي الجماهير والجماعات المنظمة والمتعلمة، والتي انخرطت في الانتخابات النيابية والنقابية والبلدية منشئة مشاركة سياسية وعامة بقواعد وأفكار جديدة ومختلفة، .. هذا «الإسلام السياسي» تحول إلى «إسلام شعبي» مستقل عن الجماعات السياسية الإسلامية كما هو مستقل عن السلطات السياسية، وإن كان يعمل في كنفهما وبالمشاركة معهما، وصار المستفيد الأكبر من هذا المد الشعبي هو شبكة من الاستثمارات والشركات والجماعات السلفية بتياراتها المتشددة والقتالية أو تشكلات عشوائية ومجتمعية لا علاقة لها بالسلطات ولا الجماعات المنظمة، وأصبحت الظاهرة الدينية كما التطرف والكراهية والارهاب حالة خارجة عن السيطرة والمألوف، ولا يعرف حتى الآن من يمكنه أن يقودها أو يؤثر فيها، ففي الشبكية القائمة والمستمدة من تقنيات الحاسوب والاتصالات لم يعد ثمة حاجة كبيرة لجماعات منظمة أو قيادات ومؤسسات محددة ... وإنه من المحير أن تكون الجماعات المنتجة للتخلف هي الأكثر استيعاباً للتقنية والمعارف الأكثر تقدماً.
التطرف تحميه منظومة سياسية اجتماعية
يُلاحَظ أن معظم إن لم تكن جميع موارد التطرف والإرهاب موجودة في بيئة آمنة ومحمية من السياسات التعليمية والدينية والاجتماعية المتّبعة في الدول العربية، وفي التراث الديني والتاريخي والفقهي المتّبع لدى الدول والمجتمعات الإسلامية. وما تدعو إليه وتنادي به الجماعات المتطرفة، ليس أمراً مختلفاً عما هو مطبّق ومتّبع في عالم الإسلام منذ قرون طويلة، ولا يختلف ما يدعو إليه المتطرفون عما تدعو إليه المؤسسة الدينية الرسمية، أو ما يُعلم للتلاميذ في المدارس وكليات الشريعة في البلاد العربية والإسلامية.
لقد أقحمت المؤسسات السياسية والفقهية منظومة من المبادئ والتطبيقات، باعتبارها جزءاً من الدين، وبذلت جهداً سياسياً وعلمياً متراكماً لتحويلها إلى الدين باستخدام الهيمنة السياسية وتأثير الفقهاء، واليوم فإن الجماعات الدينية تستند إلى التراث الفقهي والتطبيقي نفسه، الذي بذلت السلطات السياسية والدينية قروناً طويلة في إقناعنا بالقوة أو الحجة والمنطق، بأنه الدين.
فالجماعات الدينية تسوغ أفكارها وأعمالها على أساس مبدأين أساسيين هما الحكم والردّة، وهما مبدآن أضيفا إلى الدين لأغراض سياسية وسلطوية، واكتسبا مع القرون المتطاولة صفة دينية راسخة، وتؤدي السلطات السياسية أدواراً دينية كثيرة لم يطالبها بها الدين، مثل التعليم الديني وإدارة وتنظيم الشأن الديني والعبادة والإفتاء. وفي ذلك، أنشأت الحكومات بيئة آمنة للجماعات الدينية للعمل والدعوة والتنظيم، وبتمويل حكومي من الموارد العامة وأموال دافعي الضرائب.
وتمثّل الحالة الدينية السائدة وموجات التديّن والإقبال على الدين، والنشاطات والبرامج الدينية في وسائل الإعلام والفضائيات، والمحاضرات والبرامج الدينية الرسمية في التعليم والأوقاف، وعلى الرغم من أن معظمها إن لم يكن جميعها يبدو متقبلاً أو لا يخدم مباشرة التطرف والجماعات المتطرفة، فإنها تشكّل المساحة المشتركة بين المتطرفين وعموم المتدينين، وتمثل بالنسبة الى الجماعات القاعدة الأساسية للبناء عليها وتطوير نموذج خاص ومختلف في الفهم الديني.
ويمكن أن يجد المتابع مئات الأمثلة والملاحظات في المناهج التعليمية والمؤسسات الدينية والتعليمية الرسمية والتطبيقات الحكومية والتشريعية، مما يمكن اعتباره مورداً دينياً وفكرياً للتطرف، ولا يختلف بحال عما تدعو إليه الجماعات المتطرفة، ويمكن في الوقت نفسه الاستغناء عنه بلا تعارض مع الدين!
ولكنني سأعرض مثالاً واحداً صارخاً واستفزازياً، وهو الرسالة الموجّهة إلى البغدادي، خليفة «داعش»، والتي توزّعها الحكومة الأردنية بلغات عدة وعلى نطاق واسع، ما يؤكد أنها تمثل الرد الديني الرسمي على «داعش»، وقد وقّع على الرسالة عشرات العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
من يقرأ الرسالة يتأكد له أن مصادر المتطرفين الفكرية والدينية هي نفسها المصادر القائمة والمتقبّلة لدى النخب الدينية على مدار التاريخ العربي والإسلامي، وأن المتطرفين لا يستخدمون في واقع الحال أدلة ونصوصاً مختلفة عن النخب الدينية، وأن الصراع في الحقيقة ليس حول الدين ولكنه صراع على الدين!
لقد عرضت الرسالة أفكاراً وحججاً تجعل المواطنين يخافون من السلطات القائمة في العالم العربي، مثل أو أكثر مما يخافون من «داعش»... هل كانت مشكلة «داعش» هي الخطأ في تفسير النصوص الدينية؟ وهل تعتقد الحكومات العربية والإسلامية أن بيان حكم الشريعة الإسلامية سيقضي على التطرف؟ وهل ينقص الناس في بلاد العرب والمسلمين كما المؤيدين للجماعات المتطرفة، بيان الحكم الشرعي؟ ومن يملك هذا الحكم الشرعي؟ ولماذا كان الصراع على مدار التاريخ العربي والإسلامي على السلطة، ولم تجر حروب ولا خلافات في يوم من الأيام على أركان الإسلام وأركان الإيمان، وسائر العبادات والأحكام الدينية؟
رسالة العلماء تحمل مضامين مرعبة للمواطنين والعالم أيضاً، ولا تفيد شيئاً في محاربة «داعش» والتطرّف والإرهاب. فالرسالة ترى الخلافة من الدين، وواجباً يجب أن نسعى إلى تحقيقه، وكل ما فعله «داعش» أنه أخطأ الوسيلة. كما أن قطع اليد ورجم الناس وقتلهم، أمور من الدين، وما فعله «داعش» هو عدم التحوّط، وأنه يجب قتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
ألا يعني ذلك، وفق الرسالة، أننا مأمورون بقتال كل الأمم والدول، من الآسيويين والأفريقيين والمسيحيين أيضاً، وما يمنعنا من ذلك ليس إلا عجزنا، وأن من مصلحة العالم، بل من واجبه، أن نظل فقراء عاجزين، لأننا بغير ذلك سنقاتل العالم كله حتى يقول الناس لا إله إلا الله؟ والواقع أنه وفق رسالة العلماء، فإن اليهود فقط هم الذين لا يشملهم الأمر بالقتال، فكل من عداهم يمكن اعتبار أنهم لا يقولون لا إله إلا الله.
والرسالة تكريس للسلطة الدينية على الناس، على نحو يحرم الحريات والديموقراطية وولاية الأمة، وكونها مصدر السلطات والتشريع. وإن كانت للرسالة حسنة، فهي تأكيدها أن ثمة حاجة الى إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة على نحو مختلف عما كانت عليه الحال طوال التاريخ، وأن الدولة الحديثة، بما هي حديثة، يجب أن تكون محايدة تجاه الدين. والواقع أنه توجد حسنات أخرى للرسالة، فقد أفتت بجواز حب الأوطان!
ويبدو من البداهة بالطبع أن تنشئ الدول والنخب السياسية حالة جديدة من العلاقة بالدين تكون أكثر ملاءمة للإصلاح والتقدم من دون معاداة للدين، فقد أثبتت القطيعة مع الدين أنها تزيد الحالة الدينية قوة وتماسكاً، كما أن الحالة القائمة في العلاقة بين الدين والحكم والسياسة يســتحيل الاستمرار فيها، بما تثيره من تحديات ومتاعب وتناقضات فكرية وواقعية. وأسوأ من ذلك ما أنشأته من حروب وصراعات وتهجير ومجاعات وإهدار الأمن والاستقرار والمصالح وتدمير المؤسسات والموارد.
تحرير الدين من الصراع وتحرير الصراع من الدين
ثمة فرصة كبيرة تتشكل اليوم لتيار اجتماعي قادر على تحرير الدين والصراعات القائمة في البلاد العربية من بعضهما بعضاً، ويمكن أن يكون هذا التيار ائتلافاً تعددياً من مجموعة من الأفكار السياسية والدينية، من المتدينين الذين يشاركون في الحياة السياسية والعامة على أسس وقواعد علمانية بهدف التأثير في العملية السياسية من دون إضرار بها، ومن علمانيين متدينين، يؤمنون أن العلمانية موقف ديني أو هي التطبيق والفهم الأكثر صواباً للدين، وعلمانيين غير متدينين، لكنهم لا يتخذون موقفاً عدائياً من الدين، ويؤيدون حياد الدولة الإيجابي تجاه الدين، بمعنى الالتزام بحرية التدين مع استقلال الدين والدولة عن بعضهما بعضاً.
هناك تفاوت بالطبع في نضج الفكرة ووضوحها لدى التيارات الثلاثة، فالعلمانيون غير المتدينين هم الأكثر وضوحاً وفهماً للعلاقة الممكنة بين الدين والدولة، وإن كانوا يتعرضون لسوء فهم وعداء من الإسلام الشعبي الذي تحول إلى إسلام سياسي أكثر تعصباً وأقل تسامحاً من الإسلام السياسي المنظم في جماعات وأحزاب، وأما المتدينون العلمانيون، فقد كانوا التيار الأكثر عرضة للإقصاء وسوء الفهم، واجتمعت عليهم سهام السلطات السياسية وجماعات الإسلام السياسي، وإن كانوا الأقدر والأكثر كفاءة وتجربة في تقديم رؤية فكرية ودينية واضحة وعملية للخروج بالحالة السياسية والتعليمية من التطرف والجمود الراسخ والمتغلغل في كل أنحاء ومستويات المؤسسات التعليمية والدينية الرسمية وفي الإعلام والدعوة والإفتاء، وأما المتدينون المؤيدون للمشاركة العامة والتأثير فيها بأدواتها وقواعدها فهم الأكثر غموضاً وتردداً، وما زالوا في حالة صراع مع الذات وفي اجتهاد فكري مضنٍ لأسلمة الديمقراطية أو تحويلها إلى فكرة إسلامية، وهم وإن كانوا يناقضون أنفسهم وينشئون رؤية ومواقف ليست إسلامية ولا ديموقراطية، فإنهم في واقع الحال مقتنعون عملياً بضرورة استقلال الدين والدولة عن بعضهما بعضاً، أو بعبارة أخرى أنسنة الدولة، لكنهم يواجهون أزمتين تربكهما: مع أنفسهم وضمائرهم التي تؤمن بمطالب تطبيقية دينية للدولة لا تحتملها الديمقراطية بما هي نسبية وعدم يقينية، ومع جمهورهم وقواعدهم التنظيمية المأسورة في صورة مثالية للتاريخ لا تقبل المداهنة وأنصاف الحلول، لكنها على أي حال تلتزم بعملية سياسية واجتماعية مع الاختلاف معها في الوقت نفسه.
المسألة الإيجابية في التيار الثالث، أنه واضح في مطالبه ويحدد على نحو واقعي الفرق بين ما يريده والواقع القائم، ويوضح أيضاً فكرته لتطبيق ما يدعو إليه على أسس ديموقراطية وسلمية، وهو في ذلك شريك ملائم، ويمكنه أيضاً أن يدفع ويؤثر في قطاع واسع من المتدينين سواء من أعضاء الجماعات المنظمة أو الفئات الاجتماعية الواسعة والمؤمنة بالإسلام السياسي، لكن نقطة الضعف الأساسية في هذا التيار أنه وإن كان مؤيداً للديمقراطية، فإن إيمانه بها مستمد من دوافع ومبررات دينية، وسوف يظل الدين بما هو حق نزل من السماء هو القيمة العليا المرجعية والمنظمة للحياة السياسية وليس المواطنة وولاية المواطنين على مصائرهم ومواردهم، وهي مسألة خطيرة ولا يجوز غض الطرف عنها، حتى مع الاتفاق في المحصلة مع أصحاب هذا الاتجاه، لأننا في واقع الحال سنظل في تنظيم الدولة والمجتمع وفي ممارسة المواطنة والحريات تحت رحمة فتوى دينية أو وساطة بشرية مع السماء.
... والحال أن ما نحتاج إليه، هو أن نعمل ونفكر معاً بحثاً عن الحكمة والصواب موقنين بنقص معرفتنا واحتمالات الخطأ والصواب والمصالح والأهواء فيما نفكر فيه ونخطط لأجله، لكننا نواصل حياتنا بما هي كذلك ولأجل أن نعيشها.