التعددية الدينية وتجلياتها عند "عبد الكريم سروش"
فئة : مقالات
التعددية الدينية وتجلياتها عند "عبد الكريم سروش"
د. عامر عبد زيد
أولاً: التعددية الدينية تأصيل مفهومي
في مجال الحديث عن مفهوم التعددية نجد هناك ضرورة لتأصيل المفهوم والإشكالية التي ولد فيها من خلال تأصل بالبحوث في هذا المفهوم بالأقوال الآتية:
1. هيجل (1770-1831): كان صاحب فكرة جوهرية الدين؛ وذلك من خلال قولبة الدين بكونه فكرة متعالية وغامضة يمكن أن تنكشف وتتجلى في تعبيرات أو انعكاسات مختلفة خلال مسيرة التاريخ. ولكن حينما كان هيجل معنياً بالدين بوصفه فكرة أو جوهراً متعالياً لظاهرة اجتماعية، كان شلايرماخر (1768-1834) وأوتو (1869-1937)، يؤكدان أنّ جوهر الدين لا يمكن العثور عليه إلا في تجربة داخلية (جوانية)؛ فالدين بالنسبة إليهما ليس ظاهرة اجتماعية وليس قضية إيمان بدائية أو ابتدائية لمعتقد أو مذهب معين، وليس هو كذلك ممارسات وتلقيات أو إلقاءات خاصة، وإنما الدين شعور أو إحساس يستولي على الروح ويستحوذ عليها ويمسك بها فجأة.
2. شلايرماخر: كان مؤثراً على أفكار داعية التعددية الدينية جون هيك، فقد اعتبر شلايرماخر الدين الضرورة مسألة شخصية وخاصة، إذ قال: إنّ جوهر الدين مسألة تعمل في ذات الإنسان وروحه وباطنه وتذوب في مشاعره آنية وتجاه المطلق وليس في قوالب أو أنظمة دينية معينة ولا في أية صيغة خارجية مزعومة.[1]
3. ردولف أوتو: يزعم أنّ جوهر الدين كله هو المقدس The Heilige ، رغم أنّ مفهوم المقدس هذا يتضمن كافة العناصر العقلية وغير العقلية، إلا أنه يؤكد بل يقطع أنّ العنصر غير العقلي أو غير المنطقي هو الذي يستحوذ على الثابت الديني. ويسمي أوتو غير المعقول هذا (الانفعال الروحي) numinous مشاعر الانفعال تقترن عادة بالخوف والرعب ترتطم بانطباع آخر يسميه أوتو (الرعب الغامض)mysterium tremendum إنّ الأحساسيس الروحية هذه المصحوبة بالدهشة والكشف والحب هي استجابات أخرى للوجه الآخر للمقدس ويسميها (الانبهار الغامض) mysterium fascinans. أسس أوتو رابطة ثيولوجية دينية المحتوى لرعاية المعاني الروحية والقيم الأخلاقية من خلال التنسيق والتعاون بين المؤمنين من كل الأديان والمعتقدات.
3. آرنس تورلتش (1865-1923) يناقش ما تمّ زعمه من قبل هؤلاء المفكرين حول جوهر الدين الذي استكمل بالمسيحية، إنما هو انعكاس خالص لثيولوجيين ليبراليين يعكسون وجهات نظر خاصة، أكثر من كونه نتيجة لأية دراسة تاريخية هادفة. إنّ التاريخ لا يقوم بحركة تدريجية باتجاه الصورة المتقدمة الأكمل للدين، وإنما هو حركة باتجاه تنوع الأديان، بدأ من الصورة الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيداً، والموجودة دائماً في الثقافات المختلفة والأحقاب المختلفة.[2]
4. جون هيك:[3] موقفه من التعددية الدينية[4] يُعدّ من المرجعيات التي نجد أثرها في علم الكلام المعاصر الإيراني عند سروش، فهذه الرؤية التي تنطلق منها التعددية الدينية عند هيك هي:
1- أنها كانت توسلاً صريحاً والتماساً واضحاً للتسامح الديني، وهذا ما أطلق عليه اسم التعددية الدينية المعيارية Normative Religious Pluralism، ويعني منهجياً أنّ على المسيحيين أن يلتزموا أخلاقياً باحترام أتباع الديانات الأخرى من غير دينهم، ويتطلع دعاة التعددية الدينية هذه من المسيحيين إلى أنّ أتباع الديانات غير المسيحية سوف يستجيبون ويتعاطون مع هذا النمط من التعددية الدينية المعيارية.
2- الوجه الآخر لتعددية هيك يتعلق بإشكالية الخلاص. هذا يعني أنّ التعددية الدينية الخلاصية أو الإنقاذية يمكن أن تعرّف مبدئياً على أنها منهج أو مذهب لغير المسيحيين تقودهم إلى سبيل ما لنيل الخلاص المسيحي. وهذا يظهر في التحولات التي مرّ بها فكر هيك من التعددية، إذ كانت الكتابات الأولى لجون هيك حول التعددية الدينية تركز على نوعين منها: التعددية المعيارية، والتعددية الخلاصية.
1ـ التعددية الدينية المعيارية تعتمد على التعددية الخلاصية المعهودة لدى كافة أتباع الديانات في العالم، فإذا كانت التعددية الخلاصية تتعارض مع التصورات المسيحية الأسبق منها، وهي الأولى "الفردانيية exclusivist": القائلة إنّ المؤمنين بدينهم هم وحدهم يدخلون الجنة، فإنّ الثانية المضمونية تفتح أبواب السماء بشكل أوسع قليلاً ، لكي تسمح لغير المسيحيين من الفضلاء الذين ساهموا في التعاطي مع تعاليم بعض الديانات الأخرى عنهم أنهم انتهجوا حياة مخلصة مفعمة بالقيم المستقيمة أو مبنية على الاستقامة، وهم المسيحيون المجهولون بتعبير "كارل راهنر". بالقياس إلى تلك الأفكار تُعدّ تعددية هيك، وإن كانت أكثر راديكالية، إلا أنها أكثر تحرراً من التعددية الفردية والتعددية الضمنية، فهذه تسمح تقريباً لأيٍ كان أن يدخل الجنة بصرف النظر عن العرق واللون والمعتقد، شريطة أن يجتاز الشخص مرحلة العبور أو الانتقال من مركزية الذات إلى مركزية الحقيقة مع أداء أشياء بسيطة من التعاليم الدينية. ويبدو أنّ هذه الرؤية تعود إلى عاملين:
الأول: نتيجة انشغاله في العلاقات الاجتماعية التي مكنته أن يكون قريباً أو على صلة وثيقة مع المسلمين واليهود والسيخ في برمنغهام عندما منح عام 1967 كرسياً لتدريس فلسفة الدين في جامعة برمنغهام، ثم إنه كان منخرطاً في نشاطات لمواجهة العنصرية، أصبح جزءاً لا يتجزأ من مجتمع التعددية الدينية.
الثاني: رغم أنه كان لا يستطع تلقي أو قبول قرار المسيحية التقليدية، في كون أصدقائه من غير المسيحيين غير قادرين أو مؤهلين لنيل الخلاص، إلا أنّ الأمر لم يقتصر على نيل الخلاص في أي مكان في الجنة، بل كان مأخوذاً بانطباعات خاصة عن قدرات هؤلاء ومؤهلاتهم للتوفر على إثارة أسئلة مهمة أمام أغلب التعاليم المسيحية الأساسية والدعوة إلى تشكيل تصوير مبدأ الكنيسة الثيولوجي.
ولهذا جاءت رؤية الخلاصية القائمة على العبور من مركزية الذات إلى الحياة المبنية على الحقيقة المطلقة بصرف النظر عن تسمية هذه الحقيقة أو عنوانها، سواء سميت إلهاً أو براهمان أو نرفانا أو تاو. فالمرء يمكن أن يعتبر مقدساً أو طاهراً أو حالة فيه القداسة والطهارة إذا عاش فترة في انسجام وتناغم مع الإرادة الإلهية، أي عبر التركيز على الحقيقة المتعالية أو التعاطي معها.[5]
2. التعددية الدينية الإبستمولوجية: epistemological religious pluralism لاحظنا أنّ تعدديته الدينية وصياغته للثيولوجيا المسيحية متأثرة بنشاطه الاجتماعي من ناحية، وأنّ تلك التعددية أيضاً مطبوعة بعقلانية الاعتقاد الديني من ناحية أخرى. فهذه العقلانية في الفكر الديني أوصلت هيك إلى نتيجة مفادها أنّ التجربة الدينية هي التي تجعل المعتقد الديني عقلانياً. وهنا يناقش هيك بأنه من العقلانية بمكان أنّ على أولئك الذين تقودهم تجربتهم الدينية بقوة إلى نفسها أن يعتقدوا بحرارة بالحقيقة الإلهية.[6] وانطلاقاً من هذه التجربة من خلال بعدها العقلاني يحاول هيك تلمس المشتركات بين الأديان فيقول: إنّ المسيحيين ليسوا أوفر حظاً من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى في تجسيد الإيمان واستيعاب مفهوم البراءة، هنا يعتقد هيك أنّ المسيحية ليست على تضاد مع أتباع الديانات الأخرى في العالم، إذ يقفون على قدم المساواة بمقدار ما يتعلق الأمر بفهمهم لفكرة البراءة في معتقداتهم الدينية، التي يطرحها على أنها نابعة من التجربة الدينية وتقف على أرضيتها بقوله: (إنّ الفرضية الظنية القائمة على النمط الكانتي تعرض إشكالية دعاوى الحقيقة المتصارعة أو المتدافعة للأديان المختلفة بتثبيت الافتراض القائل إنها ليست في الحقيقة مسألة صراع وتدافع حقيقية، وإنما هي مجرد تجليات متباينة للحقيقي أو المترشح عن كتل العقائد الدينية المختلفة، ولكن من منطلقها الخاص أو تعاطيها الخاص مع تجاربها الروحية الخاصة، وكذلك أسلوب معيشتها وما تختزنه من كنوز الأساطير والأقاصيص والخواطر التاريخية.[7] وقد عبّر عن تلك التجارب الروحية ولكن بلغة كانطية (إنّ الحقيقة المفترضة من قبلنا إنما هي افتراض قبلي أو زعم مسبق، وليس من الحياة الأخلاقية ـ كما عند كانط - وإنما بوصفها تجربة دينية في الحياة، فيما يعبر الآلهة، كما هو معروف صوفياً لدى (البرهمية) وسونياتا وغيرهما أنها تجسيدات أو تجليات مظهرية للحقيقة حينما تجد نفسها في دائرة التجربة الدينية)،[8] تتحول التجربة الروحية إلى وسيلة من أجل تجنب الصراعات العقائدية بين الأديان والمذاهب التي تحرمنا من الأرضية لتأكيد الاتفاق المطلق، وبدون تلك الأرضية فإنّ تنوع المعتقدات والتجارب تقوض إيجاد ضمانة عقلية للاعتقاد بالتجربة الدينية، ومن أجل البحث عن تلك الدعامة التي وجدها في المصالحة عبر التأويل عندما يكتشف الشخص أنّ إدراكاته الحسية تحمل له معنى يقول إنّ الله هو الأعظم، فيما يزعم شخص آخر أنه يدرك روحياً أيضاً أنّ البرهمة مثلاً هي الأعظم، والتأويل يمكن أن يوصلنا إلى نوع من المصالحة بين ما يعتقده هو، وما يعتقده الآخر كون كلمة براهما تعني كلمة الله.
التعددية الدينية عند سروش:
التناصات الفكرية كبيرة ومهمة في هذا المجال بين هيك وسروش إلى حد التطابق، ممّا يجعل من تلك التأصيلات ضرورية في فهم تأويلات سروش في فهم الدين والتجربة الدينية في كتابه الصراطات المستقيمة التي تناولت التجربة الدينية وانتقدت الرؤية التجريدية للفلسفة.
أ. وبالتالي نجد ضرورة تأثيث الفكرة بالإشارت إلى مقدمة المترجم لكتاب: "الصراطات المستقيمة"[9] هناك مقولتان مهمتان في دائرة فهم الحقيقة، الأولى منهما: هل هناك دين حق؟ والثانية: ما هو نصيبنا من هذا الحق؟ دار حولهما نزاع بين الفريقين: الفريق الأول يقوم على الرؤية التالية: التي تتناول التعددية الدينية بوصفها نظرية معرفية في باب حقانية الأديان والمتدينين تكشف الستار عن هذه الحقيقة، وهي أنّ كثيراً من عالم الأديان - غير القابلة للاجتناب حسب الظاهر- حادثة طبيعية تعكس في طياتها حقانية كثير من الأديان، وأنّ كثيراً من المتدينين محقون في اعتناقهم لدينهم، وأنّ ذلك مقتضى الجهاز الإدراكي للبشر، وليس بسبب سوء فهمهم، أو مؤامرة قوى الانحراف والباطن، أو اتباع الهوى والشهوات، أو سوء اختيار الإنسان، أو غلبة قوى الشيطان. في مجال إجابتهم عن الأسئلة التي أثيرت يقولون:
- إنّ الواقع ذو أبعاد، والحقيقة ذات بطون، لذلك يتعدد الحق ويتنوع.
- إنّ الحقيقة الدينية من الغموض والإبهام إلى درجة أنّ الذهن واللسان يقعان في دوامة التناقض.
- لعل الحق هنا من قبيل "الحق بالنسبة إلى..." لا الحق المطلق، ولذلك يكون المسيح نبياً للمسيحيين ومحمد نبياً للمسلمين. وهنا نصل إلى التعددية، وهذا يعني أنّ الحقانية مقترنة بالعقلانية، والهداية بدورها مقترنة بالحقانية، والسعادة بالهداية، هنا شرع التعدديون بالاستدلال على صحة مدعاهم والبرهنة على سلامة نظريتهم واستندوا بذلك على مقولة أنّ الواقع ذو بطون، أو حيرة اللسان، تنوع التفاسير للتجارب الدينية، قبول النص لتفاسير متعددة، مع هذه الأدلة بمفاهيم من قبيل العقلانية، الهداية، جوهر الدين، لسان الدين، الذهن، السعادة، الفلاح، العامة، التجربة، القيمة، الفردية... إلخ.
أمّا الفريق الثاني فإنّه يقوم على الرؤية التالية: تقف في مقابل "الانحصارية الدينية" التي ترى أنّ الحقانية والهداية والسعادة تكمن في اتباع دين معين، وأنّ المخالفين والمنكرين لهذا الدين يتسمون بالعناد عن الحق أو من المستضعفين والمعذورين، وأنّ كثرة الأديان توصد باب السعادة أمام البشر وتحجب أنوار الهداية عنهم. وهم يردون على التعدديين بالتالي:
- إنّ كل واحد من هذين النبيين قال من موقع الحصر إنّ طريق النجاة والفلاح هو المتمثل بدينه فحسب.
- ما نصنع بالأدلة العقلية التي تقرر أفضلية وأحقية دين معين على سائر الأديان؟ يجيب التعدديون: إنّ عقلاء كل طائفة يرون أدلتهم أقوى من أدلة الآخرين ولا يذعنون لصحة أدلة الطرف الآخر.
- ويتساءل الحصريون: هل يعقل عدم وجود معيار مستقل لغربلة الأفكار وتعيين الحق من الأديان؟ يجيب التعدديون: إنّ هذا المعيار بذاته يورث التنوع والاختلاف، فالمعيار ليس شيئاً سوى دليل العقل، وقد وصل العقل في هذه المسألة إلى طريق مسدود، ولا يمكنه الفتوى لصالح أحد الأطراف بشكل قاطع، وإلا فكيف نفسر بقاء النزاع الفكري بين عقلاء العالم لحد الآن؟
- يقول الحصريون: لعل الكثير من العقلاء في العالم مبتلون بالنوازع النفسانية والجواذب الطائفية أو يعيشون الاستضعاف الفكري فلا يتسنى لهم رؤية الحق ومشاهدة الواقع، أو أنهم يرون الحق ولكنهم لا يذعنون له فيجيب التعدديون: لعل هذا الكلام صحيح ولكن في هذه الصورة سيشمل سوء الظن هذا جميع العقلاء ومنهم الحصريون. يردّ الحصريون: وما الإشكال في ذلك؟ إلا أنّ الحظ قد حالفنا وكان الحق من نصيبنا (المسلمون، أو الهندوس، أو اليهود...) وحرم الآخرون منه. فيجيب التعدديون: الإشكال فيه: أنكم تحصرون الهداية الإلهية بكم وتوصدون الطريق أمام امتدادها لتستوعب مساحة أكبر.[10]
من أجل معرفة توظيف سروش لا بدّ من التطرق إلى الأمور الآتية:
- المعرفة الدينية وبعدها التجريبي والتاريخي
- نقد التمركز الديني القائم على الشعب المختار ومفهوم الأمّة المختارة وتاريخ النجاة
- تصوره للتجربة النبوية
ثانياً: التجربة الدينية والتعددية الدينية:
أ. التجربة الدينية والإطار النظري لها:
بعد أن قمنا بالتأصيل الفكري للمفهوم بوصفه علامة دالة على معالجة سروش لهذا الأمر الذي يُعدّ من أهم مقومات فلسفة الدين بمعيارية الخطاب العقلاني الليبرالي، وبالتالي ثمة تواصل كبير بين تلك المعالجات من حيث خلفيتها المعرفية والغايات الحداثوية التي تنشدها، فهو يقوم بتأصيل التعددية الدينية ويجدها تقوم على دعامتين: إحداهما: التنوع في الإفهام بالنسبة للمتون الدينية، والأخرى: التنوع في التفسير[11]
هنا سروش يريد تناول تلك المواقف التي وجدناها عند هيك، القائمة على رفض التحليل العقلي القائم على التعدد الذي يحول دون الاتفاق، وهذا ما نجده في موقف سروش الميال إلى التأكيد على التنوع الذي نجده في النصوص وفي تفسيرها التي تقوم على (فهم التنوع والسر في ذلك أنّ النص صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواء في الفقه أو الحديث أو القرآن من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النص والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة وهذه جميعاً مفروضة من خارج النص، وبما أنّ واقع الفكر متنوع لهذا كانت التفسيرات هي الأخرى متنوعة)[12]
ب. تصور سروش للتعددية الدينية:
مباني التعددية الدينية:
المبنى الأول: يتناول فيه "السر في تنوع الفهم الديني"، ويرجع إلى القول إنّ الواقع يتضمن التعدد في باطنه، وبما أنّ الكلام عن الواقع ويكشف الستار عنه فسيكون متعدداً بالتبع.[13] أي أنّ الواقع هو الذي يطرح تحدياته على النص من خلال المتغيرات التي يمرّ بها المتلقي لهذا التنوع من الإفهام للنص، وهو يذكرنا بمقوله هيك التي يرددها سروش بالقول (التنوع الذي لا يقبل الوحدة في ذاته)[14] وكما أسلفنا في النص أعلاه.
المبنى الثاني: كما أننا لا نملك ديناً غير مفسر، فلذلك لا توجد تجربة غير مفسرة، سواء في دائرة الطبيعة (أي العلوم الطبيعية) أو دائرة الروح (أي دائرة العلوم الإنسانية التي أسماها دالتاي بعلوم الروح ومن ضمنها العلوم الدينية)، فالتجربة الدينية هنا عبارة عن مواجهة الأمر المطلق والمتعالي، وهذه المواجهة تتجلى بإشكال عديدة وصور مختلفة، فتارةً بصورة رؤيا، وأخرى بسماع صوت معين، وثالثة برؤية ألوان، ورابعة على شكل إحساس باتصال النفس بعظمة عالم الوجود.[15] لكنّ التجربة هنا تبقى علماً حضورياً فردياً ذاتياً غير قابل للنقل إلى الآخرين إلا إذا تحول إلى علم حصولي تفسيري، والنتيجة التي يتوصل إليها عندما تغدو التجربة هي القاسم المشترك بين الأنبياء وبالتالي بين إتباعهم (فالحقيقة واحدة ولكن هؤلاء الأنبياء الثلاثة ينظرون إليها من ثلاث زوايا أو يقال بتجلي الحقيقة لهؤلاء الأنبياء الثلاثة علة ثلاثة أنحاء ومن خلال ثلاث نوافذ، ولهذا قدموا لنا ثلاثة أديان).[16]
المبنى الثالث: ثم إنه يعرف بالتعددية التي عند هيك فيقول فيها أن يستوحي الفيلسوف والمتكلم المسيحي المعاصر "جون هيك" الذي بدوره يحيلنا إلى تجربة روحانية عرفانية إسلامية يشير إليها هيك المسيحي، لأنه يقدم التجربة ويعدها أساساً، وهو أمر اعتمده سروش في إحالته هو الآخر إلى ذات العرفاني أي جلال الدين الرومي في ديوان المثنوي:
عندما أصبح عديم الألوان أسير اللون
صار موسى في صراع مع موسى
وعندما تصل إلى مرتبة عديم الألوان
فسوف تجد أنّ موسى متصالح مع فرعون[17]
هذه الأبيات تكشف عن الآتي:
1. هذه الأبيات تشير إلى ظهور المطلق في المقيد واللامتعين في المتعينات وعديم اللون في ظواهر الألون.
2. من جهة أخرى تكشف هذه الأبيات عن السر الذي يكمن خلف الظاهر، إذ صراع للأهل المشغولين بتكريس النزاع الديني، فيما أهل الباطن يرون الكنز في مكان آخر، هنا ثمة حكمه تكمن في إخفاء سر مهم وجوهرة ثمينة.
وهذا التصور الذوقي يدعم التعددية وتصحيح مسيرة الليبرالية[18]
المبنى الرابع: ينطلق أيضاً من استعارات شعرية العرفاني جلال الدين الرومي في تعليل التعدد لا من زاوية الأخطاء والانحراف الذي أصاب الأديان، ولكن من زاوية جديدة بوصفها تجربة الإنسان الذي يعيش أجواء الحيرة في اختيار حقيقة معينة، لأنّ الحقائق المكشوفة لهم كثيرة جداً ولذلك بقوا متحيرين بين الحقائق ويعيشون عالم الجذب وأجواء الكثرة والتعدد في اختيار الحقائق.
إنّ الصاحب يعلم بوجود الكنز في الخرائب
فلا تظن سوءاً أنه وضع النعل معكوساً بلا غرض
إنّ الحقيقة غارقة في دوامة حقيقة أخرى.
ومن هذه الرؤية يتحول إلى التعددية فيقول: بما أنّ الحقيقة ذات بطون ومليئة بالإسرار وكثيرة الأضلاع، وبما أنّ الغيرة الإلهية والقضاء الإلهي يوجبان التعدد والتخاصم من هنا رضينا بالكثرة وتعاملنا مع تنوع الأديان من موقع القبول.[19]
المبنى الخامس:
1ـ تقوم هذه القاعدة على نفي الكثرة وإرجاعها إلى الوحدة وهو ما أشار إليه "جون هيك" الذي مفاده "القول بالكثرة الظاهرة"، ويجعله مقابل القول بالكثرة الواقعية القائم على نفي الكثرة، على اعتبار ما يؤكده سروش تصيب الناس سواء كانوا من أهل الظاهر- الذين (يهديهم الله) رغم غفلتهم فنحن نقيض لهم من هدايتنا ونسلك بهم طريق الحق رغم عدم غفلتهم وجهلهم - أو كانوا من أهل الباطن.
2ـ تقول أيضاً إنّ النجاة ليست حكراً على المسيحيين، فهؤلاء يقول فيهم "كارل رانر" إنّ جميع السالكين في خط الإيمان هم من المسيحيين في نهاية الأمر أو يمكن إطلاق عنوان المسيحيين المجهولين عليهم.
3ـ وأيضاً تنظر إلى القول بالتعددية الأصيلة؛ لأنها تبنى على أساس الاقتدار الفكري لدى الإنسان، فنحن تعدديون لأننا نمتلك الشيء الكثير من المعارف، ولأنّ الحقيقة ذات بطون ومليئة بالإسرار وكثيرة الأضلاع، هكذا يمكن النظر إلى تفرع الخط المستقيم إلى مئات الخطوط التي يجب النظر إليها على أنها مستقيمة قد تتقاطع فيما بينها أو تتوافق في ميدان تراكم الحقائق.
المبنى السادس: يرجع إلى مفهوم الهداية والنجاة التي لكل فرقة، إلا أنه يناقش هذه الهداية من خلال اسم الله "الهادي"، من خلال الاعتقاد بأنّ الهداية والنجاة والسعادة الأخروية تتلخص في سلوك خط العبودية للحق والطلب الصادق للحق لا من خلال الميول الشخصية لهذا العبد أو ذلك العمل أو الالتزام بنمط معين من الأدب والشعائر.[20]
المبنى السابع: تقوم على قاعدة أنه لا يوجد حق خالص أو باطل خالص، ويشير إلى ما يقوله الإمام علي عليه السلام: "يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان"،[21] ويشير سروش إلى أنه في هذا العالم لا نجد قومية خالصة ولا لغة خالصة ولا ديناً خالصاً. فعندما تسأل علماء الطبيعة عن هذا الموضوع سيعترفون لك بصراحة أنه لا يوجد شيء خالص في جميع موارد الطبيعة، بسبب هذا الازدحام والتزاحم الشديد والغليظ بين مختلف مساحات الطبيعة لا نجد لحد الآن قانوناً علمياً صادقاً ودقيقاً مائة بالمائة، وعندما نذعن لهذه الحقيقة فستكون الكثرة أقرب إلى الهضم والمقبولية.[22]
المبنى الثامن: هنا يؤكد أنّ هذا المبنى يقوم على أنه لا يوجد حق يتقاطع تماماً مع حق آخر، فجميع الحقائق تسكن في صالة واحدة وتمثل نجوماً وكواكب في مجرة واحدة، وهذه الملاحظة البدهية المنطقية:
أولاً: تنقذ الحق من التموضع والتلون بصيغة الغرب أو الشرق، الرجعية والتقدمية، وبذلك تفسح المجال لطلاب الحق ليطرقوا أبواباً ويسلكوا طرقاً مختلفة في عملية نيل الحقيقة.
ثانياً: تدعو العلماء وطلاب الحق لوزن حقانية ما لديهم باستمرار من خلال عرضها على الآخرين. ومضمون هذا الكلام هو لزوم اتباع هذه القاعدة، وهي أنّ الفكرة الحقة ينبغي فهمها وإدركها بالتزامن مع فهم الأفكار الحقة الأخرى[23].
[1]ـ محمد ليكنهاوزن، الإسلام والتعددية الدينية، ترجمة مختار الأسدي مؤسسة الهدى للنشر والتوزيع ط1، ص 26
[2]ـ المرجع نفسه، ص ص 29-30
[3]ـ جون هرود هيك (باللاتينية John Harwood Hick) 1922 أستاذ وثيولوجي وفيلسوف في الدين. قدم مساهمات في الثيولوجيا الدينية عن الكريستولوجيا والإسكاتولوجيا والثيوديسيا، وفي فلسفة الدين قدّم مساهمات في إبستمولوجيا الدين والتعددية الدينية.
[4]ـ يعتقد هيك بسبب تأثره بكانت أنّ الاعتقادات الدينية المختلفة صيغت لحد كبير بالأصناف التي قدمتها الطبيعة. ويقدم أدلته ضد الحصرية المسيحية التي تقول إنّ الأديان الأخرى قد تحوي بعض الحقيقة والخير لكن النجاة ممكنة فقط بشخص المسيح، وأنّ الحقيقة الكاملة موجودة فقط في المسيحية. يقول روبرت سمد إنّ هيك يعتقد أنّ عقائد المسيحية "لم تعد صالحة في العصر الحالي، ويجب بالنتيجة تنزيلها". ويلاحظ مارك مان أنّ هيك يقدم أدلته عن وجود أشخاص عبر التاريخ "كانوا أمثلة عن الحق"، ويرفض هيك حتى الفلسفة المسيحية غير الحصرية، فهو يشعر أنّ آلهة العالم المختلفة كانت ببساطة طرقاً مختلفة لرؤية الإله عبر تفكير محدد بالأصناف بسبب الحضارات. الموسوعة الحرة.
[5]ـ المرجع السابق، ص ص 48-54
[6]ـ المرجع نفسه، ص 55
[7]ـ المرجع السابق، بواسطته، وانظر:
John Hick "Religoous Pluralism," inACompanin to Philosophy of Religion, Ph L.Quinnn and Charles Taliaferro, eds.(Oxford:Blackwell,1997), 612-613
[8]ـ المرجع السابق، ص59، وانظر بواسطته: John Hich ,An Interpretation of Religion (New Haven: Yale, 1989,243
[9]ـ عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، الترجمة: أحمد القبانجي، دار الفكر الجديد للطباعة والنشر والتوزيع،ط1، النجف (د.ت)
[10]ـ المصدر نفسه، من المقدمة للمترجم، ص ص 3-4
[11]ـ المصدر السابق، ص 12
[12]ـ المرجع السابق، ص 13
[13]ـ المرجع نفسه، ص 15
[14]ـ المرجع نفسه، ص 17
[15]ـ المرجع نفسه، ص ص 18-19
[16]- المصدر السابق، ص 24
[17]- المصدر السابق، ص35، وانظر بواسطته: المثنوي الأبيات 2471-2479 من الدفتر الثاني
[18]ـ المصدر السابق، ص 36
[19]ـ المصدر السابق، ص ص 38-39
[20]ـ المصدر السابق، ص ص 46-48
[21]ـ المصدر السابق، ص 49، وانظر نهج البلاغة ـ الخطبة، 50
[22]ـ المصدر السابق، ص 50
[23]ـ المصدر السابق، ص 54