التفسير عِلماً إسلاميًّا من خلال "الكشّاف" للزمخشري (الجزء الأوّل)
فئة : مقالات
التفسير عِلماً إسلاميًّا من خلال "الكشّاف" للزمخشري (الجزء الأوّل)
إنّ منزلة التفسير القرآني ضمن العلوم الإسلاميّة لمنزلة أثيرة، مردّها محوريّة النصّ الديني في الضّمير الإسلاميّ؛ فقد عُدّ مصدراً أوّل من مصادر التشريع تُستمدّ منه الأحكام، واعتُبر أيضاً نصّاً يمتح منه المسلم معاني التوجيه إلى السلوك القويم وقيم الهداية وتغذية الأفق الأخروي في نفوس المسلمين. فلا غرابة إذن، أن يكون التفسير فاتحة علوم القرآن ومفتاحها في الآن نفسه.[1]
على هذا الأساس، عُدّ التفسير علماً إسلاميًّا، وهو ما سنحاول التأكّد منه من خلال تفسير الزمخشري (ت 528 هـ) المعروف بـ "الكشّاف"، وهو من التفاسير المنتمية إلى القرنين الخامس والسادس للهجرة. وهذا المُعطى الزمني دالّ على اكتمال معالم هذا الفنّ واستقرار أسسه منذ القرن الرابع للهجرة.
غير أنّ اعتبار التفسير علماً إسلاميّا - اعتماداً على الأنموذج الذي اصطفيناه - يقتضي بالضرورة النظر في الضوابط والشروط المحدِّدة لصفة العلم فيه. فكان لزاماً علينا البحث في منهج التفسير ومادّته، ثمّ استقصاء ما يؤدّيه من وظائف في مستوى التفسير ذاته من جهة، وفي مستوى علاقته بالمنظومة الإسلاميّة من جهة أخرى. ونخلص بعد ذلك إلى تبيّن حدود القول بأنّ التفسير علم إسلاميّ.
لم يخرج "الكشّاف"، في مستوى التعامل مع آيات المصحف، عمّا سبقه من التفاسير؛ فقد كرّس المنهجيّة الخطّيّة التي تراعي ترتيب الآيات في الكتاب، وهي منهجيّة فرضت نفسها على المفسّرين مع مساهمة الطبري (ت 310 هـ) في تفسيره. ذلك أنّ السورة تُفسّر آية آية، ويقع أحياناً الجمع بين عدد من الآيات. ومن غير المفيد، ههنا، ذكر مثال على ذلك، بما أنّ الزمخشري قد اتّبع هذه الطريقة في كامل تفسيره.[2]
إنّ الخطوة الأولى من خطوات التفسير، في مستوى ممارسة هذا النشاط، هي الحرص على تذليل ما يمكن أن يمنع القارئ من فهم معنى الآية. لذلك ضمّ "الكشاف" جملة من القضايا اللّغوية والمسائل البلاغيّة، وحفل بذكر عدد مهمّ من أعلام اللّغة، مثل الخليل (ت 175 هـ) وسيبويه (ت 148 هـ) وابن جنيّ (ت 392 هـ)... فقد تعرّض الزمخشري، في المباحث اللّغويّة، إلى قضيّة اللفظ والمعنى. يقول في تفسيره للآية 249 من سورة البقرة: "...وقُرئ "غرفة" بالفتح، بمعنى المصدر، وبالضمّ بمعنى المعروف. وقرأ أبيّ والأعمش إلاّ قليل بالرفع. وهذا من ميلهم مع المعنى وإعراض عن اللّفظ جانباً، وهو باب جليل في علم العربيّة".[3]
وفي الكشّاف عناية بقضايا التركيب في الكلام، وخاصّة منها مسألة الحذف، وهو في نظر أسلافنا عنوان بلاغة، لأنّه يقوم على مبدإ الإيجاز. فالآية "مَثَـلهُمْ كَمَثلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ" (البقرة، 2 /17) قد قامت على تركيب تلازميّ غاب فيه أحد ركنيه. يقول الزمخشري: "فإن قلت: أين جواب (لمّا)؟ قلت: فيه وجهان: أحدُهما أنّ جوابه: "ذهب الله بنورهم"، والثاني أنّه محذوف، كما حُذف في قوله: "فلمّا ذهبوا به". وإنّما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه. وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصِفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللّفظ في أداء المعنى...".[4]
إنّ إثبات الحذف في الآية تأويل للبنية التركيبيّة الظاهرة فيها؛ لذلك صرفها الزمخشري إلى وجهين اثنين، غرضه من ذلك أن يستدلّ على لطافة الحذف في النصّ القرآني وعلى أسرار بلاغته.
ولمّا كانت عديد الآيات القرآنيّة مبنيّة على التمثيل، بمعناه البلاغيّ، فقد احتوت على عديد الاستعارات الدالّة على حسن الكلام وجودته، حتّى أنّ بعض البلاغيّين القدامى يعلّق مأتى الإعجاز، في وجه من وجوهه، بالاستعارة. وتمثّلت منهجيّة المفسّر، في هذا المستوى، في التنبيه على بلاغة الاستعارة وضبط ما تدلّ عليه من معنى؛ فقد جاء القول في الآية "صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ" (البقرة، 2/18) مبنيّاً على الاستعارة. يقول صاحب "الكشّاف": "فإن قلتَ: هل يُسمّى ما في الآية استعارة. قلتُ: مختلف فيه. والمحقّقون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة، لأنّ المستعار له مذكور، وهم المنافقون. والاستعارة إنّما تُطلَق حيث يُطوى ذكر المستعار له، ويُجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لأن يُراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام...".[5]
ومن وجوه بلاغة النصّ القرآني لدى الزمخشري، جريانه مجرى الكناية، وهي في عُرْف البلاغيّين العدول عن المعنى المقصود في الكلام إلى ردفه ودليله عليه. وقد وقف المفسّر على هذا المعنى في تفسيره للآية 223 من سورة البقرة. ذلك أنّها "من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلّموها ويتأدّبوا بها".[6]
وقد عوّل الزمخشري، في تحديد المعاني القرآنية التي انتهى إليها عبر التفسير، على مسلكيْن اثنين هما الاستشهاد بالشِعر وضَرْب الأمثال.
لقد مثّل "الكشّاف"، في قسم منه، مدوّنة شعريّة كاملة اجتمع فيها فحول الشعر الجاهلي والإسلامي إلى القرن الخامس للهجرة. لذلك، قد تعدّدت الإحالات على امرئ القيس وزهير والنابغة الجعدي وطَرَفة وأبي تمّام وذي الرّمة والمتنبّي... واسترشد الزمخشري بهؤلاء وبغيرهم من الشعراء في تدبّر عدد من القضايا اللّغوية البلاغيّة خاصّة؛ فوظيفة الشِّعر في التفسير هي البرهنة على صحّة موقف ارتضاه المفسّر بشأن مسألة لغويّة معيّنة تناولها بالتحليل والبيان.
أمّا المسلك الثاني من مسالك إثبات المعنى، فهو ضَرْب الأمثال، وهي في جوهرها، مواقف أثبتتها التجربة وتعهّدها الناس بالصيانة والحفظ. فقد توقّف الزمخشري عند كلمة "البارئ" الواردة في الآية 54 من سورة البقرة. قال: "البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت، ومتميّزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصُوَر المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالِم الحكيم الذي برّأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مَثـَل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: "أبلدُ من ثور" حتّى عرضوا أنفسهم لسُخط الله".[7]
بالإضافة إلى ذلك، فقد حرص الزمخشري على تحقيق القراءات والعناية بصور اختلافها، فكان يذكر مختلف القراءات التي انتهت إليه عبر التفاسير السابقة له، ويختار منها ما يوافق التأويل الذي ارتضاه عنه تفسير آية من الآيات. ويعنى ذلك أنّ توحيد المصحف في عهد عثمان، ووجود "المدوّنة الرسميّة" لم يقض نهائيّاً على قراءات بقيت رائجة إلى عصر الزمخشري، بل إنّ مصحف ابن مسعود (ت 32 هـ) قد بقي متداولاً إلى القرن الرابع للهجرة.
كان صاحب "الكشّاف" يجوّز القراءات التي لم يعد لها تأثير يُذكر في قراءة النصّ القرآني لارتباطها بلهجات بعض القبائل العربيّة القديمة؛ فالآية "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا: فَإمَّا يَأْتِينَّكُمْ مِنِّي هُدًى، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة، 2 /38) تسمح بقراءة أخرى لكلمة "هدى". يقول الزمخشري: "وقُرِئ: فمن تبع هدى على لغة هذيل، فلا خوف - بالفتح"، ثمّ إنّ من القراءات ما يبدو قاطعاً للمعنى ومحدِّداً له. وكثيراً ما كان الزمخشري ينتهي إلى مواقف صريحة وثابتة بشأن هذا الاختلاف في القراءات. ففي الآية:
"وَإذ ابْتَلى إبْرَاهِيمَ ربُّهُ بِكَلِمَاتٍ، فَأتَمَّهُنَّ. قال: إنّي جاعِلُكَ للِنّاسِ إِمَامًا. قال: وَمِنْ ذُرّيتي، قال: لا ينالُ عَهْدي الظّالمينَ" (البقرة، 2/124) ما يدلّ على دقّة مبحث القراءات القرآنيّة. يقول الزمخشري: "وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه، وهي قراءة ابن عبّاس رضي اللّه عنه: "إبراهيمُ ربَّهُ"، رفع إبراهيم ونصب ربّه. والمعنى: أنّه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت: الفاعلُ في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر. قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربّه إبراهيم...".[8] ولا شكّ أنّ اختلاف القراءات يتعلّق، في الأصل، بالمصحف لا بالقرآن؛ أي الرسالة الشفويّة.
والذي نخرج به هو أنّ منهج التفسير في "الكشّاف" منهج تقليديّ ينخرط في تسييج طريقة التفسير منذ الطبري. وقد عُدّت اللّغة والبلاغة والقراءات مداخل إلى تحديد المدلولات العقديّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة للآيات المفسَّرة. لذلك كان من بين شروط المفسِّر الإلمام بعلوم العربيّة، بل إنّ التفسير نفسه لا يستقيم إلاّ اعتماداً عليها؛ فهو، كما يقول الزركشــي (ت 764 هـ) في "البرهان": "عِلْم يُعرَفُ به فهْم كتاب الله المنزّل على نبيّه محمّد (ص) وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمِه واستمداد ذلك من علم اللّغة والنحو والتصريف وعلم البيان...".[9]
على أنّ مردّ عناية الزمخشري بدقائق البلاغة ومسائلها- وهي الصورة التي عُرف بها في كتب التراجم القديمة وفي مؤلّفات علوم القرآن- هو تطوّر هذا الفنّ في أدواته ومصطلحاته ومنهجه منذ القرن الرابع للهجرة، وهو ما يفسّر مثلا قلّة حفاوة الطبري بالبلاغة في تفسيره.
وبناء على ذلك، فإنّ مثل هذه المعارف التي يحتاج إليها المفسِّر في مراس النصّ القرآني، دالّة على أنّ المسلمين صنفان: صنف قادر على فهم النصّ بصفة مباشرة، وصنف آخر يحتاج إلى سلطة المفسّرين في فهم مقاصد النصّ، وهذا ما أدّى إلى بروز مؤسّسة العلماء، ومن زمرتهم المفسّرون.
إنّ نشاط التفسير - وإن كانت له قواعده وضوابطه المحدّدة - لم ينقطع عن غيره من علوم القرآن، بل ومن سائر العلوم الدينيّة في القديم. فإذا ما جوّدنا النظر في مادّة "الكشّاف" ألفيناها تمتّ بوثيق الصِلات بعلم أسباب النزول وبعلم النّاسخ والمنسوخ، وهُما من المفاهيم الخاصّة بالتفكير الإسلامي. ويعود هذا الارتباط، في الأصل، بين العِلْميْن إلى أنّه لا يمكن فهم النسخ في المنظومة الإسلاميّة إلاّ باعتبار سبب نزول الآيات الناسخة؛ أي تاريخ نزولها المتأخّر عن الآيات المنسوخة.[10]
لقد اعتنى الزمخشري بمسألة الناسخ والمنسوخ في مواطن عديدة من تفسيره. وقد وظّف هذه العناية للاستدلال على تأويل معيّن ارتضاه لآية من الآيات. من ذلك مثلا أنّ الآية 221 من سورة البقرة تحرّم على المسلمين نكاح المشركات. ولكن لا سبيل إلى اعتبار المشركات هنّ الحربيّات الكتابيّات، إلاّ إذا أقررنا بأنّ الآية الخامسة من سورة المائدة ناسخة للآية الثلاثين من سورة التوبة، بل إنّ "سورة المائدة كلّها ثابتة لم ينسخ منها شيء قطّ، وهي قول ابن عبّاس والأوزاعي" ويتناقض هذا الرّأي مع ما ورد مثلا في كتاب "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحّاس (ت 338 هـ) من أنّ سورة المائدة قد نُسخت منها سبع آيات.[11]
وقد بدا لنا الزّمخشري في هذا المبحث مخالفاً لما استقرّ عليه الرّأي في تصنيف الآيات إلى ناسخة ومنسوخة. فالآية 217 من سورة البقرة في نظره غير منسوخة، لكن "أكثر الأقاويل على أنّها منسوخة بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، ورغم ذلك، فإنّ الاختلاف بين الموقفين في التعامل مع الآية المذكورة لا يخرق انسجام المنظومة الإسلاميّة في اتّصالها بمختلف علوم القرآن.
واللاّفت للانتباه في هذا المستوى، أنّ الزمخشري يتجاوز أحياناً اهتمامات المفسّرين وعلماء الناسخ والمنسوخ فيما أجمعوا عليه من تقرير نسخ أصاب آية من الآيات. والدليل على ذلك تعليق صاحب "الكشّاف" على الآية 282 من سورة البقرة، وهي أطول آية في المصحف: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..."، إذ لم يقع التعرّض إلى ما أصاب الآية من "نسخ، بما أنّ الموقف المشهور يعتبر حكم هذه الآية منسوخاً بالآية التي تلتها. ونفسّر إسقاط الزمخشري لمبحث النسخ في الآية بالحرج الذي وقع فيه الفقهاء خاصّة؛ فالمجتمع الإسلامي في أجياله الأولى كان مجتمعاً لا يمكن فيه عمليّا تطبيق أمر الكتابة الوارد في المصحف (واقع الأُمِّيّة تحديدا). وطبيعيّ إذن أن يُهمل صاحب "الكشّاف" العناية بمعنى الأمر في عبارة "فاكتبوه" هل هو على سبيل الواجب أم على سبيل النَدْب والإرشاد؟
بهذا الاعتبار يكون علم الناسخ والمنسوخ من العلوم القرآنيّة التي يتلطّف بها المفسّر إلى تأويل محدّد يتدبّر به معاني النصّ القرآني. ويتمّ هذا التحديد بالتعويل كذلك على أسباب نزول الآيات، خاصّة وأنّ القرآن قد نزل منجّماً على امتداد عشرين سنة تقريبًا. وكثيراً ما يتّخذ الزمخشري البحث في أسباب النزول مدخلا للتفسير، بل إنّه يكتفي، في مناسبات عديدة بذكر سبب النزول فقط، مبديًا في الوقت نفسه رأيه في المسألة. يقول في تفسير الآية 77 من سورة آل عمران: "قيل نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدّلوا صفة رسول الله (ص)، وأخذوا الرشوة على ذلك. وقيل: جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين، فقال لهم: هل تعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله، قالوا: نعم (...) وعن الأشعث بن قيس: نزلت فيّ، كأنت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصما إلى رسول الله (ص). (...). وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق، فحلف لقد أعطى بها ما لم يُعْطِه. والوجه أنّ نزولها في أهل الكتاب...".[12] ولا شكّ أنّ التوسّع في ذكر أسباب نزول الآية ينزع بها إلى ضرب من التخصيص. فلا غرابة أن كانت أغلب الآيات التي تعرّض فيها الزمخشري إلى أسباب نزولها هي آيات أخبار متعلّقة بالمشركين وبأهل الكتاب... إلخ. ولعلّ هذا ما يفسّر اتصال النشأة الأولى لمبحث أسباب النّزول بالسِيرة والمغازي. إنّه العلم الذي يحقّق الحاجة التي شعر بها المسلمون بعد الأجيال الإسلاميّة الأولى في ربط الصّلة بين النصّ القرآني والأخبار المتعلّقة بالرسول أساسا.
وإذا أمعنّا النظر في المواطن التي تعرّض فيها الزمخشري إلى أسباب نزول عدد من آي القرآن أدركنا أنّه لم يَشُذّ عن المجاليْن الرّئيسيَّيْن اللّذَيْن اعتنت بهما الكتب الممحّضة لأسباب النزول (كتاب الواحدي (ت 468 هـ) مثلا)، وهما تحديد ظرف نزول الآية (الاهتمام بالسياق التاريخي) وضبط المناسبة التي نزلت فيها (حادثة، شخص معيّن...). بذلك لا يخرج تفسير الزمخشري، في جانب منه، عن خصائص علم أسباب النزول، ولا يشبّ عن طوقه. ويوظّف المفسّر في الوقت نفسه، عنايته بأسباب النزول لتبرير ممارسة تاريخيّة تخرق بعض قواعد الدِين أو الأخلاق. يقول الزمخشري في تفسيره للآية 187 من سورة البقرة: "إنّ عُمَرَ رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة عشاء الآخرة. فلمّا اغتسل أخذ يبكي ويلُوم نفسه فأتى النبيّ (ص) وقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، وأخبره بما فعل/ فقال (ص): ما كنتَ جديراً بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء، فنزلت".[13]
إنّ مادّة أسباب النزول قد تحدّدت واستقرّت منذ تفسير الطبري في بداية القرن الرابع للهجرة. ولم يزد الزمخشري على توجيه عنايته إلى متون هذه الأخبار وإسقاط أسانيدها. وعلى الرغم من ذلك، تبقى أسباب النزول المذكورة في "الكشّاف" شاهدة على خصائص المرحلة الأولى للوحي، هي مرحلة طغت عليها العفويّة في التعامل مع النصّ القرآني، مع وجود هذا الجدل بين المفارق (الوحي) والبشري (الصحابة مثلا).[14] وفي "الكشّاف" نموذج ممثّل لهذا الاتّجاه، إذ يذكر الزمخشري في سياق تفسيره للآية 219 من سورة البقرة: "يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِع للنَاسِ وإثمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كذلك يُبيّنُ اللهُ لكُم الآياتِ لَعَلّكم تتفكّرُونَ" أربع آيات نزلت في الخمر:
-الآية الأولى: نزلت بمكّة (شرب المسلمين ثمرات العنب والنخيل)
-الآية الثانية: الاستجابة لرأي عمر ومعاذ وعدد من الصحابة من أنّ الخمر تُذهِب العقل.
-الآية الثالثة: تجاوز خطأ بعض المسلمين في قراءة سورة "الكافرون"، وهو سكران.
-الآية الرابعة: الاستجابة إلى قول عمر في أن يبيّن له الله في الخمر"بيانًا شافيًا".
وتدلّ مثل هذه الأسباب على أنّ الزمخشري قد تجاوز، في الظاهر، صعوبة التوفيق بين أن يكون الوحي لا تاريخيًّا من جهة، وأن يكون متعلّقا بمناسبات من جهة أخرى.
ولمّا كان التفسير نشاطا بشريًّا بالأساس، فإنّ المفسّرين كثيرًا ما يقحمون انتماءاتهم المذهبيّة في التعامل مع النصّ القرآني، فيقع توجيه التفسير إلى الوجهة التي تنسجم مع قواعد المذهب. فينطلق الزمخشري مثلا من مبدإ عامّ بنى عليه تفسير "الكشّاف" هو الحاجة إلى علم الكلام في تدبّر النصّ القرآني، وفهم معانيه كما يذهب إلى ذلك أهل الاعتزال خاصّة. يقول في تفسيره للآية السّادسة من سورة آل عمران: "فإن قلتَ: فهلاّ كان القرآن كلّه محكما؟ قلتُ: لو كان كلّه محكماً لتعلّق الناسُ به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عمّا يحتاجون فيه على الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطّلوا الطريق الذي لا يُتوصّل إلى معرفة الله وتوحيده إلاّ به...". وتتأكـّد هذه الحاجة إلى علم الكلام بنزعةٍ في التفسير تتأسّس على مبدإ التأويل المشرِّع للمذهب. فيُقصى، نتيجة ذلك، كلّ تفسير يعدل بمعنى الآية عن الفهم الذي تبنّاه الزمخشري، مثل تأويله لعبارة "أولو العلم" الواردة في الآية الثامنة عشرة من سورة آل عمران. يقول في سياق جدال مفتَرَض: "فإن قلتَ: ما المرادُ بأَولِي العلم الذين عظّمهم هذا التعظيم، حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيّته وعدله؟ قلتُ: هم الذين يثبتون وحدانيّته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة، وهم علماء العدل والتّوحيد". ويبرز هذا التقيّد بالمذهب المعتزلي والانخراط في مقولاته في السياقات التّي تقتضي من المفسِّر ضبط التعريفات والحدود. فقد وردت كلمة "الفاسقين" في الآية 26 من سورة البقرة، ووجد الزمخشري المجال الذي يَسمح له بتعريف الفاسق، يقول: "والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتيْن؛ أي بين منزلة المؤمن والكافر. وقالوا: إنّ أوّل من حدّ له هذا الحدّ أبو حذيفة واصل بن عطاء رضي الله عنه وعن أشياعه". وواضح أنّ المنزلة بين المنزلتين من أهمّ أصول الاعتقاد الخمسة لدى المعتزلة.
[1]ـ بخصوص المقاربة النقديّة لمكانة التفسير القرآني في الثقافة الإسلاميّة، انظر: عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ط. أولى، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص ص 170- 176
[2]ـ نذّكر بأنّ هناك مناهج أخرى، يمكن اعتمادها اليوم في تفسير القرآن من نحو التفسير الأغراضي أو التفسير حسب تاريخ النزول.
[3]ـ الزمخشري، الكشّاف، مكتبة مصر، دون تاريخ نشر، ج 1، ص 266
[4]ـ الكشّاف، ج 1، ص 72
[5]ـ الكشّاف، ج 1، ص 75
[6]ـ الكشّاف، ج 1، ص 241
[7]ـ الكشّاف، ج 1، ص 132
[8]ـ الكشّاف، ج 1، ص 170
[9]ـ الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الجيل، بيروت، 1988، ج 2، ص 148
[10]ـ بخصوص العلاقة بين أسباب النزول والنسخ راجع أطروحتنا "أسباب النزول علما من علوم القرآن"، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء ومؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، ص ص 267- 322
[11]ـ النحّاس، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، مؤسّسة الكتب الثقافيّة، بيروت، 1989، ص ص 110- 130
[12]ـ الكشّاف، ج 1، ص ص 331- 332
[13]ـ الكشّاف، ج 1، ص 209
[14]ـ للتوسّع في هذا المبحث راجع: محمّد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص ص 17- 29