التفكير الحوسبي


فئة :  قراءات في كتب

التفكير الحوسبي

التفكير الحوسبي

بيتر جيه دنينج وماتي تيدري

ترجمة: هبة عبد العزيز غانم

مراجعة: هبة عبد المولى أحمد

  • فكرة الكتاب

يأخذ التفكير الحوسبي كينونته من الحوسبة نسبة إلى الحاسوب؛ فمختلف تعريفاته تعود إلى الحاسوب وطبيعة حضوره في عملية التفكير في حلّ مختلف شؤون الحياة في العمل وخارج العمل، والحقيقة أن التفكير الحوسبي سار يشكل جزءا محوريًّا في تصورنا للأشياء وإلى العالم، من جهة ما توفره مختلف برامج الحاسوب من إمكانيات في معرفة وتتبع مختلف الحقائق والظواهر؛ فالتفكير الحوسبي حاضر بقوة في مختلف البرامج التعليمية والجامعات والمختبرات، فضلا عن مجال الصحة والمال والأعمال وحتى في مجال الأدب والرسم... يحضر فيه التفكير الحوسبي؛ إذ نجد مجالات لرسم مختلف اللوحات عن طريق الحاسوب، وهناك نقاش في مجالات الأدب يعنى بالأدب الرقمي...

من أبرز تعريفات التفكير الحوسبي التعريف الإجرائي الذي قدمته الرابطة الأمريكية لمعلمي علوم الحاسوب الآلي (CSTA) بالتعاون مع الجمعية الدولية للتقنية في التعليم (ISTE) ويصف هذا التعريف التفكير الحوسبي على أنه عملية لحل المشكلات، ويتضمن العناصر التالية:

- صياغة المشكلات بطريقة تمكن من استخدام الحاسوب الآلي والأدوات الأخرى للمساعدة على حلها.

- التنظيم المنطقي للبيانات وتحليلها.

- تمثيل البيانات من خلال التجريدات مثل النماذج والمحاكاة.

- أتمتة الحلول من خلال التفكير الخوارزمي.

- تحديد، وتحليل، وتنفيذ الحلول الممكنة للوصول إلى المزيج الأكثر كفاءة وفاعلية من الخطوات والمصادر.

- تعميم والاستفادة من عملية حل المشكلة التي يتعامل معها الفرد والاستفادة منها وتطبيقها على مدى واسع من المشكلات.

لقد أحدث الكمبيوتر بمختلف استعمالاته تحولا كبيرًا في مختلف مجالات التفكير في الحياة اليومية؛ فالحوسبة سارت حاضرة في كل شيء، فهي تشمل "البريد الإلكتروني، والإنترنت، وشبكة ويب العالمية، والتجارة الإلكترونية، وخدمة «أوبر» لطلب سيارات الأجرة، وخرائط جوجل، وأجهزة الملاحة، والهواتف الذكية، وبرامج الترجمة الآنيَّة، وغيرها من مختلف التطبيقات.. وقد صاحب اتساع الحوسبة نوع من الخوف يتجلى في الحرب الإلكترونية، وبيع بياناتنا الشخصية على نطاقٍ واسع، وغزو الإعلانات، وفقدان الخصوصية، وانعدام الأدب والافتقار إلى حُسن الإصغاء..."[1]

الحوسبة أي حضور الحاسوب وما يتبعه في حياة الناس، لا تتوقف إذن عند الجانب الوظيفي من جهة الاستعمال؛ إذ امتدت إلى مجال التفكير، في التعاطي مع مجمل مقتضيات الحياة اليومية في الشغل وفي البيت...مثلا، حتى عهد ليس بالبعيد كان الناس يعتمدون على كراسات كبيرة أو صغيرة لحفظ مختلف بياناتهم الشخصية، وكان التجار يعتمدون على مختلف الكراسات لضبط مختلف صفقات البيع والشراء...اليوم صار الأمر مختلفا، فالحاسوب يقوم بهذه العملية وقد يذكرنا بمختلف مواعيد إبرام الصفقات، كما يخبر التاجر بمعدل العرض والطلب تبعا لمبيعاته وغير ذلك مما يتيحه في تسهيل عملية التجارة ومتابعة مجرياتها بانتظام. وفي مجال الهندسة كان المهندسون يعتمدون على مختلف الرسومات التي تقربنا من طبيعة ما ينبغي أن تكون عليه واجهة المباني التي أشرفوا على هندستها، اليوم سار الأمر مختلفا، فهناك برامج على الحاسوب تعطينا الصورة المفترضة للواجهة التي ينبغي أن يكون عليها المبنى عند نهايته بشكل دقيق، كما تعطينا بشكل دقيق موقع المبنى ومسافة بعده أو قربه من مكان معين، وقد تساعدنا مختلف تلك البرامج، لنفكر في أمور فنية وإجرائية أخرى، لا تخطر على بالنا من قبل. وحتى عهد قريب كان موظفي المدارس يعتمدون على مختلف الكراسات في تقييم وضبط مختلف نتائج الطلاب، اليوم الحاسوب يقوم بهذه المهمة على أحسن وجه... ماذا يعني كل هذا؟ يعني أن الحوسبة سارت نمطا من التفكير؛ أي التفكير الحوسبي. فالتفكير عملية عقلية تتضمن استخدام العقل من أجل توليد الأفكار والمفاهيم والتوصّل إلى استنتاجات واتخاذ القرارات الحكيمة وحل المشكلات بطريقة إبداعية…

  • موضوعات الكتاب

التفكير الحوسبي ليس مجرد برامج يجب على المُبرمجين معرفتها، بل هو أيضًا أداة تفكير لفهم عالمنا الاجتماعي المُشبع بالتكنولوجيا. فهو يَزيد من وعيِنا بكيفية عمل أدواتنا الرقمية اليومية، ويدعم أخلاقياتنا الإلكترونية، ويتساهم في تعزيز توجيه سلوكنا الاجتماعي في نشر المعلومات وتداولها بسرعة البرق، وتحليل تحركاتنا عن طريق جمع كَميات هائلة من البيانات على نطاقٍ واسع. "علاوة على ذلك، فقد غيَّر التفكير الحوسبي بشكلٍ لا رجعة فيه أدوات العلم وأساليبه وأصوله، ومن ثَمَّ يُمكننا القول إن تعلُّم التفكير الحوسبي له العديد من الفوائد التي تتجاوز نطاق البرمجة"[2] تأتي مختلف موضوعات الكتاب لتقرب القارئ من معرفة التفكير الحوسبي وأهميته وأدواره في الزمن الحاضر، ونذكر من أهم مواضيع الكتاب: ما المقصود بالتفكير الحوسبي؟ أساليب الحوسبة. آلات الحوسبة. علوم الكمبيوتر. هندسة البرمجيات. التصميم لتلبية احتياجات الإنسان. العلوم الحوسبيَّة. تعليم التفكير الحوسبي للجميع. مستقبل الحوسبة

  • التفكير الحوسبي لا يلغي مختلف أنواع التفكير

ويُمكن تصنيف أنواع التفكير عُمومًا إلى عدّة أنماط وأنواع، من بينها: التفكير التحليلي، والتفكير النقدي، والتفكير الإبداعي، والتفكير المنطقي والتفكير العاطفي أو الوجداني...وكل نوع من هذه الأنواع له ما يمتاز به من جهة ما يوفره لعملية إغناء التفكير، فما يتميز به التفكير الحوسبي، فهو يركز "على معرفة كيفية جعل الكمبيوتر يؤدي مهمةً بالنيابة عنا؛ أي على كيفية التحكم في جهاز إلكتروني معقد لإنجاز مهمة بشكلٍ يُعتمد عليه دون التسبُّب في ضرر أو أذًى. والخوارزميات هي الخطوات التنفيذية التي تُحدد كيفية قيام الكمبيوتر بالمهمة. وعلى الرغم من أن البشر يمكنهم تنفيذ الخوارزميات، فإنهم لا يستطيعون القيام بذلك بنفس سرعة الآلة؛ إذ يمكن لأجهزة الكمبيوتر الحديثة القيام بتريليون خطوة في الوقت الذي يستغرقه الإنسان للقيام بخطوة واحدة. ويكمُن السر ببساطة في أن هناك آلةً تُنفذ أعدادًا ضخمة من عمليات الحوسبة البسيطة جدًّا بسرعة هائلة. والبرامج هي الوسيلة لتنفيذ ذلك: الخوارزميات المُشفرة بلغاتٍ مُحددة الغرض تترجَم إلى تعليمات آلة تتحكم في الكمبيوتر... فقد أضحت المعلومات وعمليات الحوسبة طريقةً لفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وكثير من التفكير الحوسبي اليوم موجَّه نحو تعلُّم كيفية عمل العالم. كذلك ينظر عدد متزايد من علماء الأحياء والفيزياء والكيمياء وعلماء آخرين إلى موضوعاتهم البحثية من خلال عدسة الحوسبة؛ وكذلك يفعل المِهنيون في مجال الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد أصبحت المحاكاة باستخدام أجهزة الكمبيوتر تُمكننا اليوم من إجراء تجارِب افتراضية كانت مستحيلةً في الماضي. كذلك يقدم «التفسير المعلوماتي» للعالِم أدواتٍ مفاهيمية وتجريبية لا يُقدمها أي نهج آخر."[3]

التفكير الحوسبي إذن يتصف بالحداثة، فهو تشكل وانبثق مع حضور الحاسوب في الحياة المعاصرة، فرغم اتساع حضور الحاسوب في مجالات الحياة فإن التفكير الحوسبي لازال مفهوما جديدا، ولم يحظ بالقدر الكبير من الدراسة والتحليل، بالنظر إلى طبيعة ما سيكون عليه تفكير الإنسان في المستقبل، مع اتساع حضور التفكير الحوسبي "فهو يمنحنا القدرة في أن نتمكن من التفكير بوضوح في قوى الحوسبة الجماعية وأخطارها، وأن نتعلَّم تصميم أجهزة الكمبيوتر والبرامج والشبكات لزيادة الفوائد وتقليل المخاطر. ويشعر الآباء بالفعل بالدهشة من سهولة تعامُل أطفالهم مع العالم الرقمي، فهل التفكير الحوسبي هو السبيل إلى منح أطفالنا تعليمًا مناسبًا في هذا العالم؟"[4] أم على العكس من ذلك؟

الداعي لطرح هذا السؤال هو طبيعة التحول الحاصل في المسألة التعليمية عبر العالم، فكثير من الوسائل والطرائق التعليمية التي تعتمد على الحفظ وعلى سرعة البديهة في الوصول إلى النتيجة، لم يعد لها معنى في زمن الكمبيوتر، وهي مسألة تسري على مختلف مجالات المعرفة، فالتحدي اليوم لم يعد تحدّياً في حفظ مختلف المعلومات والمعطيات، بقدر ما هو تحدي في طبيعة تحويل مختلف المعلومات والمعطيات التي سارت متوفرة للجميع، إلى بيانات إحصائية وغير إحصائية، مع رفع كل أشكال التعارض بينها،

في التفكير الرياضي، يعتمد الطلاب على تحويل المشكلة إلى معادلة رياضية، فالجزء من الحل يكمن في تحويل المشكلة إلى معادلة قابلة للحل، بينما في التفكير الحوسبي يعتمد الطلاب على تحويل المشكلة إلى بيانات والعمل على إيجاد خوارزمية تعمل على تلك البيانات، وبالتالي يظهر الحل، وهذا لا يعني أن التفكير الحوسبي يلغي التفكير الرياضي فكل له دوره في عملية التفكير والنظر.

إن حضور التفكير الحوسبي في مختلف مجالات حياتنا اليومية، لا يعني على الإطلاق الاستغناء على مختلف مجالات التفكير، والتي جئنا على ذكر بعض منها سابقا من بينها التفكير التحليلي، والتفكير النقدي، والتفكير الإبداعي، والتفكير المنطقي والتفكير العاطفي أو الوجداني... فمختلف أنواع التفكير ترتبط بالإنسان بكونه كائن عاقل يتصف بملكة السؤال والثقافة دون غيره من الكائنات، فسيبقى الإنسان يحب ويكره، يفرح ويحزن، يقول الصدق ويقول الكذب، يبحث عن الحقيقة ويعترض عنها... فخاصية الثقافة جزء لا يتجزأ من كينونة الإنسان، ومن هذه الزاوية فالتفكير الحوسبي سيكون له حضور وأثر في مختلف مجالات التفكير، فالتفكير النقدي مثلا سيكون أكثر مصداقية وأكثر إقناعا بالتوسل بالتفكير الحوسبي، كما أن التفكير الإبداعي في مختلف مجالات المعرفة سيتوسل كذلك بالتفكير الحوسبي في توسيع دائرة الإبداع وكذلك هو الأمر مع مختلف مجالات التفكير، وبهذا الفهم فالتفكير الحوسبي ما هو إلا وسيلة وآلية للنظر وإعادة بناء مختلف الأفكار والمسلمات في فهم الذات والعالم.

ونشير هنا أن التفكير الحوسبي قد "قدم مجموعة الأدوات العقلية للعلوم الحوسبيَّة الجديدة، والتي طُورت على نحوٍ مشترك عبر العديد من المجالات. وأصبح التفكير الحوسبي مهارة ضرورية للباحثين في المجالات التي يمكن فيها تفسير الظواهر الطبيعية بوصفِها عمليات معلوماتية. وللمفارقة، فإنه في الوقت الذي رأى فيه العلماء السابقون أن الحوسبة ليست علمًا؛ لأنه لا توجَد عمليات معلوماتية طبيعية، وجَد الجيل الجديد من علماء الحوسبة عملياتٍ معلوماتية في كل أنحاء الطبيعة. وكما هو الحال مع علماء الكمبيوتر في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، تعلم علماء الحوسبة التفكير الحوسبي من ممارسة تصميم عمليات الحوسبة لاستكشاف الظواهر وحل المشكلات في مجالاتهم".[5]

 

[1] بيتر جيه دنينج وماتي تيدري، التفكير الحوسبي، ترجمة هبة عبد العزيز غانم، مراجعة هبة عبد المولى أحمد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2025م، ص.11

[2] نفسه، ص.12

[3] نفسه، ص.18

[4] نفسه، ص.11

[5] نفسه، ص. 112