التفكير النقدي السقراطي، كآلية لعلاج المشكلات الاجتماعية المعاصرة
فئة : أبحاث محكمة
التفكير النقدي السقراطي، كآلية لعلاج المشكلات الاجتماعية المعاصرة
ملخص
لم ينفصل السؤال الفلسفي عن الحياة الاجتماعية للكائن البشري، ولم يغفل أبدا قضايا ومشاكل الناس وشأنهم العام، فقد رسخ سقراط التفكير الفلسفي الناقد الذي ينطلق من السؤال لينظر في العلل والأسباب، في الصحة والمرض، حيث لم يكتف بطرح السؤال الفلسفي الصحيح، بل عمل على توسيع دائرة التفكير إلى حد مساعدة طالب الاستشارة الفلسفية في استخلاص حلول لمشكلاته وقضاياه، سواء في علاقته بذاته أو بالآخر أو بالمجتمع ككل. بهذا المعنى، اتخذت الفلسفة النقدية السقراطية الصبغة العلاجية، وتقديم الاستشارة التفاعلية الرصينة، الهادفة إلى النهوض بالذات الإنسانية، وإعادة بنائها على أساس الأخلاق والتطهير الروحي والاستشفاء الفكري، فالحجة التي لا تخفف ألما هي حجة بلا قيمة.
فالهدف من هذه الورقة البحثية هو إعادة إثارة السؤال الفلسفي الذي اعتمده سقراط، والمتأسس على التفكير الناقد التوليدي، لكن بمنظور جديد، نقارب من خلاله علاج المشكلات الاجتماعية المعاصرة، وتبحث الورقة في سؤال عريض مفاده: كيف يمكن للتفكير النقدي السقراطي أن يكون آلية لعلاج المشكلات والقضايا الاجتماعية المعاصرة الجماعية والفردية؟ هذا في وقت ساد فيه الاعتقاد لدى العامة من الناس أن الفلسفة ليست سوى ترفا عقليًّا وجدليات ديالكتيكية عديمة الفائدة.
مقدمة
منذ ظهور التفكير الفلسفي والفلسفة إلى يومنا هذا، لم تكن أبدا منفصلة عن الحياة الاجتماعية للكائن البشري. وفي تناولها للمباحث الفلسفية الكبرى لم تغفل أبدا قضايا ومشاكل الناس وشأنهم العام، وقد تجلى هذا بوضوح لدى محبي الحكمة اليونان، كأبيقور وسقراط وأفلاطون والرواقيين والأبيقوريين، كما تجلى في الفكر الحديث عند ديكارت وسبينوزا وكانط وجون لوك، ... ونجد هذا الأسلوب الذي يتناول الشأن الاجتماعي بمنظور فلسفي، كذلك، حتى في الفكر المعاصر لدى لودفيج فتجنشتين ولوي كافيل ومن سار في فلكهم، بعد أن تم إحياء فكرة "الفلسفة كأسلوب حياة".
لقد اتخذت الفلسفة ومعها التفكير الفلسفي عدة اتجاهات؛ قسم اهتم منذ البدايات الأولى لهذا العلم بمسلك ينظر في العلل والأسباب للوجود والكون، وقسم يبحث في الأسقام ومسبباتها، وفي الصحة والمرض وشروط علاجها، وهناك قسم وسع من مجال التفكير النقدي المنصب على البحث المقتصر على طرح السؤال الفلسفي، إلى التفكير المفضي إلى مساعدة السائل في استخلاص أجوبة للمعضلات الاجتماعية والنفسية للمجموعات البشرية وكذا الأشخاص.
أما اليوم، فقد صوبت الفلسفة بأغلب اتجاهاتها نظرتها نحو ترميم الذات الإنسانية العليلة، وإعادة بنائها على أساس الأخلاق والتطهير الروحي والاستشفاء البدني، ولعل عبارة أبيقور الشهير التي يعلن فيها صراحة عن هذا المسلك، لازالت صامدة تتمتع بقوة الوجود، وتلخص أهمية التدخل العلاجي بالفلسفة، حيث كان يردد دوما "أن الحجة التي لا تخفف ألما هي حجة بلا قيمة".
وإذا كانت الفلسفة تسعى إلى الخير والفضيلة والصالح العام، فإنها تعلن، الآن، تكييف آليات تدخلها بإعادة بناء التفكير الناقد القائم على التدخل العلاجي في القضايا المعاصرة، على أن تقدم لهذا الإنسان المحاصر بالمشكلات النفسية والاجتماعية حلولا تطبيقية عملية، ووصفات علاجية، حيث إن مظاهر الملل والكآبة والتيه الاجتماعي والفشل الشخصي قد ارتفع منسوبها واستشرت، بالرغم من كل ما يحوزه هذا الإنسان من تكنولوجيا متطورة ووسائل الراحة والرفاه.
يبدو أن الاعتقاد السائد -اليوم- لدى عامة الناس، يرى أن الفلسفة لا تتعدى كونها ترفا عقليا، وجدليات ديالكتيكية عديمة الفائدة، حتى وإن كانت لازالت عند القلة من الأنتلجينسيا والفلاسفة قوة فاعلة ومحركة في المجتمع، فهي قبل أن تطرح السؤال الفلسفي الصحيح، تقدم تصورات وتمثلات للمشكلات والقضايا الكبرى، حتى تتمكن من الإفصاح لاحقا عن المنهج الذي يمكن أن يسير عليه تفكيك وتحليل هذه القضايا والمشكلات فهما وعلاجا. لكن ما هي هذه المشكلات والقضايا الكبرى التي تصدت لها الفلسفة التدخلية عبر تاريخها؟ يمكن تقديم جواب أولي يختصر أهم القضايا التي واجهت الإنسان عبر سيرورة حياته في: الله، الكون والذات الإنسانية؛ أي القضايا المرتبطة بالوعي الإنساني.
انطلاقا من المقدمات أعلاه، جاءت هذه الورقة البحثية لتعيد إثارة تفكير فلسفي قدمه سقراط، "التفكير النقدي التوليدي"، لكن بمنظور جديد، نقارب من خلاله المشكلات الاجتماعية، ونسعى عبر تفعيله –الآن- إلى تقديم نماذج لصفات علاجية لها. فالسؤال الإشكالي الذي تتمحور حوله هذه الورقة يمكن صياغته كالتالي: كيف يمكن للتفكير النقدي السقراطي أن يكون آلية لعلاج المشكلات والقضايا الاجتماعية المعاصرة الجماعية والفردية؟ ويتفرع عن هذا السؤال أسئلة من قبيل: ما الذي تقدمه الفلسفة السقراطية، عبر إعمال التفكير النقدي، كحلول لمعضلات تمس حياة الإنسان اليوم؟ كيف يمكنها تشخيص الوضعيات الاجتماعية؟ وما طبيعة الوصفات العلاجية التي تقترحها؟ وما الآليات التي تتوسل بها؟ وهل أصبح للفلسفة العلاجية مستشارين يسهرون على تقديم المشورة للمحتاجين إليها؟ وإذا كانت الفلسفة العلاجية فرعا من فروع الفلسفة التطبيقية، فهل الأمر بلغ حد قيام مدارس وعيادات متخصصة في تقديم المشورة الفلسفية والاستشفاء بالفلسفة؟
لمقاربة السؤال الإشكالي أعلاه، كان لابد من تناوله من خلال التوزيع المحور التالي: المحور الأول يعرض لأهم المشكلات والقضايا الاجتماعية من منظور فلسفي، والثاني يتناول بالتحليل التفكير الناقد كأسلوب علاج تبناه سقراط في حل المعضلات الاجتماعية، بإسقاط جديد، لاستخلاص طرائق علاجية للمشكلات والقضايا الراهنة. أما المحور الأخير، فقد ركز على مشكلات الذات الفردية وكيفية علاجها، وشروط تدخل الفلسفة العلاجية.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا