التفوّق بين دلالة المعايير وإشكالية القيمة الإنسانية
فئة : مقالات
التفوّق بين دلالة المعايير وإشكالية القيمة الإنسانية[1]
روضة عبد الخالق
يعد الميل إلى التفوق "نزعة فطرية لدى الإنسان"[2] نابعة من شعوره بفرديته وتميِّزه وتمايزه عن الآخرين، يسعى من خلالها إلى تحقيق ذاته وإثبات هذه الذات، بكل ما يملكه من قدرات وإمكانيات ضمن ظروف بيئية واجتماعية واقتصادية خاصة به. ويبذل كل ما بوسعه للتكيّف مع هذه الظروف، وتكييفيها في سبيل ذلك. وقد أصبح التشجيع على التفوق وتيسير السبل لتحقيقه ثم الإعلاء من قيمته الرمزية وقيمة الأشخاص الذين يحققونه، سمة من سمات حياة الإنسان في كل عصر، وقيمة من قيمه التي لا تقبل الشك أو النقاش أو الجدل، والتي يُعزى إليها الفضل الأكبر في ما حققه الإنسان من تطور وتقدم في مجالات حياته كافة وعلى مدار تطوره التاريخي والإنساني.
تظهر بوادر هذه النزعة عند الإنسان في محاولاته للسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لتحقيق غاياته وتسخير مواردها بما يخدم حاجته للحفاظ على وجوده وبقائه أولا. ومن ثم التفوق على ذاته بكل ممكناتها وقدراتها، وتجاوز هذه الممكنات والقدرات سعياً منه للوصول إلى الكمال ثانياً. وكان ألفريد إدلر (1870- 1937) مؤسس علم النفس الفردي قد أكد أن "القوة الرئيسة للنشاط البشري بوجه عام ما هي إلا نضال لتحقيق الرّفعة والكمال، وأن هذه القوة ما هي إلا دافع نحو الوصول إلى السلطة. ولكنه عاد ليسمّيها لاحقا النّضال في سبيل الرفعة"[3]. فالإنسان في سعي دائم للتفوق على الآخرين واحتلال المراتب الأولى في جميع مجالات الحياة، والتربع على قمّة المجد، مهما كلفه ذلك، وفرض هيمنته وقوته وسيطرته على نظرائه، إن كان من خلال إخضاعهم لسلطته أو بتجاوزهم والعلو عليهم في الشأن في أسوأ الحالات.
فالإنسان في رحلة بحثه عن ذاته وعن هويته النفسية والفردية المختلفة والمتمايزة عن ذوات الآخرين يخضع لقوانين المجتمع الذي ينتمي إليه، ومعايير الخطأ والصواب، النجاح والفشل، التفوق والخمول، التي أقرّ بها هذا المجتمع، والتي أصبحت فيما بعد معايير ومقاييس يقاس بها جميع الأفراد من حيث صفاتهم وقدراتهم وإمكانياتهم، وكل ما يقدمونه من إنجازات تخدم مجتمعهم. وبالتالي أصبحت أداة للحكم عليهم بناء على مدى مطابقتهم لهذه المعايير وتوافقهم معها أو ابتعادهم عنها.
للتعرف على ظاهرة التفوق وتمييز المتفوقين اُعتُمدت مجموعة من المعايير، المقننة وغير المقننة، لتسهيل عملية الاستدلال عليهم، وفرزهم وتصنيفهم وفق فئات ومجموعات خاصة يسهل من خلالها الاهتمام بهم، وتقديم الخدمات التي تتناسب مع حاجاتهم وقدراتهم، وكل ما يساعد على تحسين أدائهم وإنتاجيتهم بما يعود بالنفع على المجتمع وعلى الفرد في آن معاً. علماً بأن محاولة التعريف هذه تواجه الكثير من الصعوبات، التي تعود إلى اختلاف المحكات، التي يمكن اعتمادها في الكشف عن المتفوق، وتنوع فئات المتفوقين وخصائصهم، والتداخل بين مضامين التفوق، بوجهٍ عام.[4]
فكان من أهم هذه المقاييس والمحكات المتبعة للتعرف على الطلبة المتفوقين مثلاً: اختبارات الذكاء، واختبارات التحصيل الدراسي، واختبارات الإبداع والمواهب الخاصة، وترشيح الفرد لنفسه، وترشيح الآباء والمعلمين والزملاء له، والمقابلة وغيرها من المعايير.[5]
وقد درجت العادة على ربط مفهوم التفوق بمفهوم الذكاء العام، كقدرة عقلية عامة، ثم اتسع هذا المفهوم، ليشمل أنواع الذكاء المختلفة والجوانب النفسية والشخصية والسلوكية، التي تميز المتفوق عن غيره من الأشخاص. لذا، فقد تمّ الاعتماد بشكل أساسي على اختبارات الذكاء والشخصية للكشف عن المتفوقين، إلى جانب اختبارات التحصيل الدراسي التي أصبحت الأكثر شيوعاً واستخداماً من بقية الاختبارات الأخرى، لسهولة تصميمها وبنائها من جهة، ومن ثم تطبيقها على شريحة واسعة من الأفراد ممن هم في سن الدراسة والتعليم، إضافة إلى سهولة تفريغ نتائجها والتعامل مع هذه النتائج من جهة أخرى.
ولكن يبقى السؤال الأهم: إلى أيّ مدى يمكن الوثوق بهذه المعايير والمقاييس واعتبارها أداة صادقة وموضوعية للحكم على فرد من الأفراد على أنه متفوق، وبالتالي تصنيفه ضمن فئة المتفوقين؟
هذا التساؤل يعيد إلى الذهن رأي غاردنر (1983) أنه "من المستحيل أن ترسم اختبارات الذكاء، حتى الحديثة منها، صورة حقيقية للقدرات الواقعية للإنسان في وقت لا يتجاوز بضع ساعات من التطبيق". وما يقوله ستيرنبرغ (1988) "إن الذكاء يوجد في عالم أكثر اتساعاً وتعقيداً من المواقف الاختبارية والمهمات التي يحددها علماء النفس".[6]
فمن المعروف أن بناء أيّ مقياس أو معيار مرهون، في نشأته، بالمعطيات الموضوعية والواقعية الخاصة بالمرحلة التي وضع فيها هذا المقياس، وبالظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بتلك المرحلة، والضرورات التي دفعت إلى الاهتمام بهذه الظاهرة وبالأفراد الذين ينتمون إليها دون سواهم. إضافة إلى تأثر هذه المقاييس بذاتية الأشخاص الذين قاموا بوضعها أو تطبيقها، وإمكانية تحيزهم، وتحكم أهوائهم وقناعاتهم ووجهات نظرهم الشخصية فيها، وبالتالي تأثيرهم المقصود أو غير المقصود في النتائج التي يتم الوصول إليها، وافتقادها في كثير من الأحيان لعوامل الصدق والثبات والموضوعية مما يجعلها عرضة للخطأ بشكل دائم، إضافة إلى جمودها وعدم مرونتها بما يتماشى مع روح العصر ومتطلباته، وبما ينسجم مع طبيعة الحياة وصيرورتها الطبيعية المتجددة والمتغيرة. مما قد يحولها في أفضل حالاتها إلى شكل من أشكال الأيديولوجيات الفكرية الثابتة والمقدسة وغير القابلة للنقاش أو الجدل، وبالتالي تحولها إلى أداة للحكم على الأفراد بدلاً من أن تكون أداة للتعرف عليهم والتعريف بهم، إذ يتجلى ذلك بوضوح كلما خرج هذا المفهوم من بين أيدي أهل الاختصاص والعاملين في مجال التربية وعلم النفس، ليصبح مفهوماً متداولاً وشائعا بين العامة والأوساط الشعبية، ووسيلة لإطلاق أحكام جزافية على الأفراد وتقييمهم بما يتوافق مع معايير المقبول أو المرفوض المستوحاة من هذه المقاييس الشعبية، أو المستوحاة من أهوائهم الخاصة، مما جعلهم يسيئون لغيرهم من الأفراد إن كان عن وعي أو عن غير وعي، حين يقلّلون من قيمة بعض الصفات، التي لا تندرج تحت قائمة التفوق، حتى وإن كانت تحمل الكثير من مقومات الإبداع والابتكار والموهبة، أو من خلال تعظيمهم وتفخيمهم للصفات والقدرات التي درجت العادة على إعطائها الأهمية الكبرى لمجرد تماشيها مع ما يظنه البعض أنه من صفات التفوق والمتفوقين وتطابقها مع المعيار المتبع في الحكم على الأفراد، حتى لو تعارضت هذه الصفات مع القيم الأخلاقية العليا. والأخطر من ذلك كله، هو اختزال قيمة الفرد نفسه كإنسان بمجموعة الصفات التي توافق تلك المعايير، والحكم عليه بناء على ما تقرّ به هذه الأدوات التي يتم الاحتكام إليها.
فكان من أهم السلبيات التي كرسها مفهوم التفوق، وشكل الاختبارات التي يتم اعتمادها للكشف عن المتفوقين، تحييد القيمة الإنسانية للإنسان وإخراجها من دائرة التعريف الإنساني، من حيث هي أسمى القيم وأعلاها شأناً، وأكثرها تأصلاً وقرباً من جوهر الإنسان وحقيقته، إذ تم تحويل قدرات الفرد وإمكانياته وإنجازاته إلى كمِّ رقميِّ مأخوذ من النتائج التي تم الحصول عليها في الاختبارات التي طبقت عليه، والحكم عليه من خلالها فقط، بغض النظر عن الطبيعة الحقيقة لهذه القدرات وعن أيّ اعتبارات أخرى يجب الأخذ بها ووضعها في الحسبان. وإخراج الأفراد الذين لا يحققون الحد المطلوب أو الشروط المطلوبة لهذه المعايير خارج دائرة الاهتمام والرعاية، مما يؤدي إلى هدر الكثير من الموارد البشرية والطاقات الكامنة لدى الأفراد حين لا توجه توجيهاً صحيحاً بما يتناسب مع هذه الإمكانيات. أو الخطأ في الحكم عليهم بسبب أخطاء القياس وانعكاس ذلك بشكل سلبي على طريقة توجيه هؤلاء الأشخاص ودفعهم في اتجاهات خاطئة أحياناً، إن كان في مجال التعليم أو العمل، التي لا تتناسب مع مقدراتهم الحقيقية.
ومن ناحية أخرى، فإن قيام مبدأ التفوق على فكرة المنافسة والسعي إلى إحراز الغلبة على الآخرين وهزمهم في سبيل تحقيقه واحتلال المراتب الأولى، يحرض مشاعر العدوان والكراهية ما بين المتنافسين، ويساهم في خلق العنف وتكريسه وإرجاعه إلى صورته التدميرية الغريزية الأولى، إن كان عنفاً موجّهاً نحو الذات، حين تعجز عن تحقيق التفوق وتجاوز الآخرين وتحقيق المرتبة الأولى، أو عنفاً موجهاً نحو الآخرين القادرين على تحقيق ما عجزت هذه الذات عن تحقيقه، أو موجّهاً ضد المجتمع والأنظمة والأساليب المتبعة لتقييمه، والتي يشعرون في الكثير من الأحيان بأنها ظالمة وجائرة في الحكم عليهم. كل هذا يجعل هؤلاء الأشخاص يعانون من مشاعر القلق والتوتر والضغط النفسي والإحباط والعجز وانعدام الكفاءة، وبالتالي انخفاض قيمة الذات وتقديرها، والشعور بالنقص والدونية تجاه الآخرين، وتحولهم إلى أشخاص عصابيين غير راضين عن أنفسهم يشعرون بالعداء والنقمة، وتحول الآخر المنافس في نظرهم إلى عدو مباشر أو محتمل، يلجؤون إلى كل ما في وسعهم للتغلب عليه وهزمه أو تحييده ونفيه خارج مضمار السباق والمنافسة على أقل تقدير، حتى وإن اقتضى منهم ذلك استخدام أساليب غير أخلاقية وغير مشروعة، لتحقيق هدفهم المنشود ألا وهو التفوق.
ويعدّ الواقع المدرسي في مجتمعاتنا مسرحاً غنياً لمثل هذه السلوكيات، وبيئة خصبة لظهور مثل هذه المشاعر السلبية، نظراً لعدم مراعاته للفروق الفردية بين الطلبة في النظام التعليمي السائد: من حيث طبيعة المناهج الدراسية والمحتوى العلمي وأساليب التدريس ونظم الامتحانات فيها، واعتمادها مبدأ تعزيز التنافس والتراتبية بين الطلبة وتقديس المرتبة الأولى وإعطاؤها القيمة الأكبر وجعلها هدفاً في ذاتها، بغض النظر عن طريقة الوصول إليها أو مدى تمكّن الطالب من المحتوى المعرفي للمادة العلمية. إضافة إلى عدم توفر الإمكانيات المادية والظروف المناسبة والبيئة النفسية الآمنة التي تشجع الطلبة على التعبير عن أنفسهم، وإطلاق طاقاتهم وإبراز إمكانياتهم، من حيث الاهتمام بمواهبهم، وإذكاء روح الإبداع والابتكار لديهم، وتميّز كل منهم بما يملك وبما يستطيع. واعتماد الاختبارات التحصيلية كطريقة وحيدة لتقييم أداء الطلبة والحكم على أدائهم من حيث النجاح أو الفشل، والاعتماد عليها بشكل أساسي كمحك للكشف والتعرف على المتفوقين ومن ثم توجيههم إلى ما يُعتقد أنه مناسب لهم. علماً أنها لا تصلح أن تكون محكّا وحيداّ لذلك، بالرغم من أنها تكشف الكثير من مظاهر النشاط العقلي، فهي تحمل الكثير من العيوب، من حيث البناء وصياغة البنود ومدى تمثلها لأجزاء المنهج الدراسي. إضافة إلى اعتمادها غالباً مقياس الحفظ والتذكر أكثر من قياسها للقدرات العقلية العليا، كالتحليل والتركيب والاستنتاج والإبداع. وهي أيضا تكشف فقط عن الأشخاص الذين حققوا مستوى عالياً من التحصيل، في حين تفشل في الكشف عن الأفراد الذين لديهم إمكانيات التفوق، ولكنهم عجزوا عن إظهار هذه الإمكانيات بسبب عوامل تؤثر في أدائهم الأكاديمي، كالأوضاع الأسرية والاجتماعية السيئة، وعادات الدراسة والاستذكار الخاطئة، والاضطرابات الانفعالية.
وقد اتضح لتيرمان أن 13% من التلاميذ الأذكياء فاشلون في مدارسهم. وهذا ما يؤكد أن بعض الموهوبين قد لا يكونون متفوقين في دراستهم بخلاف ما هو متوقع منهم.
وفي دراسة أجريت على التلاميذ الذين غادروا مدارسهم في ولاية بن سلفانيا الأمريكية، تبين أن 500 تلميذ منهم قد حصلوا على معدلات ذكاء تزيد على 120 في اختبارات الذكاء، ما يعني أنهم أذكياء لكنهم لم ينجحوا في مدارسهم.[7]
والجدير بالذكر أن ما يحوّل هذا النزوع الفطري إلى التفوق إلى حالة سلبية مدمرة للذات وللآخر أو جعله قوة بناءة تدفع بالإنسان إلى استثمار كل إمكانياته وتطويرها بما يخدمه كفرد، وبما يخدم المجتمع والإنسانية جمعاء، هي أساليب التنشئة الاجتماعية والأفكار التي يحملها الأفراد حول مفهوم التفوق وقيمته، إن كان من الأسرة أو من المجتمع من جهة، أو من الطرائق والأساليب المتبعة لتقييم الأفراد وتقييم أدائهم في قطاعات العمل بوجه عام، وفي المؤسسة التعليمية بوجه خاص من جهة أخرى. وقد أثبتت التجربة أن هذه الأساليب بعيدة كل البعد عن قياس التفوق بصورته الموضوعية والدقيقة. وبالتالي، من الجائر إطلاق الأحكام على أساسها أو على أساس قيم سطحية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمفاهيم الخاطئة عن النجاح والفشل، التي تكرس مبدأ التراتبية الاجتماعية المبنية على أساس التراتبية العلمية أو الوظيفية أو المادية أو السلطوية، والتي تعلي من شأن البعض وتبخس من شأن البعض الآخر.
ومن هنا، كان لابد من إعادة النظر في الترتيب المتعارف عليه للقيم السائدة في المجتمع، وبناء سلم قيم جديد يُبنى على نظام أخلاقي وإنساني بعيد كل البعد عن مبدأ القوة والغلبة والتراتبية، تكون القيمة الإنسانية فيه أسمى القيم، ويعلي من شأن الفرد، أنثى وذكراً، ويحترم إنسانيته ويقدر إمكانياته ويحترمها بما هي عليه واقعياً، لا بما تقاس به، ويعزز روح الإبداع والابتكار لديه في فضاء من الحرية بعيداً كل البعد عن الأحكام الجائرة والمعايير الثابتة والقوالب الجاهزة التي حجّمت قدرات الإنسان وقيدتها، وهدرت الكثير الكثير من إمكانياته وطاقاته، والتي لم تنجح إلا في إعادة إنتاج النسخ المكررة والمشوهة ذاتها، وتعزيز نزعة العدوان والعنف، وتضييق الخناق على أي تغيير حقيقي خارج حدود المألوف والمتعارف عليه، وبالتالي تضييق الأفق أمام كل ما يمكن أن يسهم في إخراج هذا العالم من مأزقه الحضاري والإنساني الذي يعيشه اليوم.
[1]- مجلة ذوات العدد47
[2] ألفرد إلدلر، عن مجلة المعرفة الإلكترونية: www.marefa.org/index.php
[3] المرجع السابق.
[4] منتدى الإعاقات - التفوق والموهبة - منتدى أطفال الخليج ذوي الاحتياجات الخاصة www.gulfkids.com
[5] أساليب واختبارات حديثة للكشف عن الموهوبين، محمد أبو شعبان على الرابط التالي:
http: //abushaban.blogspot.com/2011/09/blog-post_1639.html
[6] محمد أبو شعبان، المرجع السابق.
[7] تهاني عثمان، المتفوقون والموهوبون والمبتكرون:
https: //books.google.com/books?isbn=9770523844