التقاء الأديان في قصيدة "كل الورى من مسلم ومعاهد" لأبي إسحق إبراهيم بن هلال الصابي
فئة : مقالات
التقاء الأديان في قصيدة "كل الورى من مسلم ومعاهد"
لأبي إسحق إبراهيم بن هلال الصابي
أ. د. قيس مغشغش السعـدي/ ألمانيا [1]
هو إبراهيم بن هلال بن زهرون بن حيون الصابي المكنى بأبي إسحق. ولد في بغداد من أبوين صابئيين عام 313 هجرية وتوفي عام 384 هجرية. قدم والده من حران، وكان طبيبا حاذقا عاقلا صالح العلاج وحاز منزلة متقدمة لدى الخلفاء والوزراء والقادة. كان ذلك وراء تعليم ابنه إبراهيم الذي أراد له أن يكون طبيبا أيضا، كيلا تضيع صنعة أهله وأسلافه، لكن ميول إبراهيم الأدبية وقدراته التي نبغ فيها جعلت الأب ينصاع لرغبته. وحين تتاح الفرصة لإبراهيم في إظهاره مواهبه يتقدم بجدارة في صنعة الكتابة والإنشاء ويتبوأ مهام الكتاب المتقدمين، ويتدرج بسرعة ليرتقي سلم ديوان الإنشاء حتى يترأسه أيام الوزير المهلبي وخلال فترة قيادة آل بويه عز الدولة باختيار بن معز الدولة البويهي ومن بعده عضد الدولة وأبنائه، بل ويتوكل على الوزارة في غياب المهلبي. وكان مقربا من دار الخلافة بحكم صنعته ودماثة خلقه، فأكرمه خلفاء عصره المطيع وابنه الطائع الذي سعى الصابي لاستصدار مرسوم منه بحماية الصابئين والذود عنهم، حيث كان يرأس جماعة الصابئين في بغداد.
ذاع صيت إبراهيم بن هلال في صنعة الكتابة والأدب والشعر، وقد عُـدّ أحد كتاب الدنيا الأربعة المبرزين في هذه الصنعة مذ عرفت. قال عنه الثعالبي إنه: "أوحد العراق في البلاغة ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق له الشهادات في بلوغ الغاية من البراعة والصناعة". أما ياقوت الحموي، فيقول فيه: "هو أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل والإشتمال على جهات الفضائل. فأما بلاغته وحسن ألفاظه، فقد أغنتها شهرتها عن صفتها". وأما ابن العميد، فيقول فيه: "ذاك رجل له في كل طراز نسج وفي كل فضاء وهج، وفي كل فلاة ركب وفي كل غمامة سكب، الكتابة تدعيه أكثر مما يدعيها، والبلاغة تتحلى به بأكثر مما يتحلى هو بها". وكانت علاقته وصداقته بالشريف الرضي الموسوي محط تميز واعتبار، حتى إنها خلدت معاني الصداقة على اختلاف شريعة الدين بينهما، والقصيدة التي كتبها الشريف الرضي في رثاء الصابي تعد من عيون المراثي وفيها يخاطبه بالقول:
"ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا أنّى، ومثلك معوز الميلاد"
ويزيد بالقول: "أبو إسحق إبراهيم بن هلال، فلو كان اسما يوضع على جماع الفضل ويكون علما لمجموع التنبل في زماننا هذا لكان هذا الاسم، وأستُغني بذكره عن الثناء الجميل، واختُصرت به مسافة القول الطويل". وحين أراد الصابي من أبي الطيب المتنبي أن يقول فيه خاطبه المتنبي قائلا: "والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب علي في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت".
أبرز ما عرف عن الصابي أنه موسوعي المعرفة، وإن طغت عليه صنعة الكتابة، وحسن العشرة ويحترم مشاعر وشعائر الآخرين حد أنه كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين احتراما، وكانت آيات القرآن تدور على لسانه معتمدها بشكل احترافي متقن في الرسائل التي يكلف بكتابتها، وبالمقابل فإنه كان صابئيا ملتزما بديانته وأبرز إشارة في ذلك أنه إعتمد لقبه "الصابي" إشارة إلى صابئيته، كما أنه رُغّب بالإسلام كثيرا حد أن عرضت عليه الوزارة إن أسلم؛ ذلك أن هذا المنصب لا يكون إلا لمسلم، ومع ذلك فقد آثر البقاء على ديانته، بل ويذكر أنه لالتزامه وقدرته ترأس جماعة الصابئين في بغداد، وامتد صيته وتأثيره على جماعته في الرقة وديار مضر. ويقدم لنا هذا الالتزام مؤشرا مهما في فسحة الحرية الدينية التي كانت سائدة في عصره أيام الخلافة العباسية، وأن التقدير الأساس، إنما يقوم على الكفاءة والسيرة الحسنة وصلاح المواطنة، وهذا ما يشهد له في القرنين الثالث والرابع الهجريين بتميز وتؤشره الكفاءات العاملة في بيوت الخلافة والوزارة والإمارة وغيرها، ومن جميع الأديان المعروفة في المنطقة دون أن يكون هنالك تمييز كبير سوى الكفاءة وحسن الالتزام.
ومن جميل وبليغ ما يوثق في ذلك، إحدى قصائد أبي إسحق الصابي، وهي مدار تحليلنا منطلقين في ذلك من:
- شهرة إبراهيم بن هلال الصابي بعد أن ترأس ديوان الإنشاء وذيوع صيته في الكتابة، حتى صارت كتاباته ورسائله تقرأ وتدرس ويتم تداولها في المحافل والمجالس للتهذيب البلاغي والأدبي.
- أنه عارف بكل الأديان، ومقرب من أتباعها عامة بحكم علاقاته الواسعة ومنصبه المتقدم.
- أن هدفه كان بيان ذكر الأديان ووجودها في عصره، وليس التغزل بشخص قدر ما كان أداة للغرض الذي شاءه الصابي، وهو الذي عرف بحشمته والتزامه.
- أن القصيدة شملت ذكر الأديان الخمسة الموجودة في ذلك العصر، وما بينهما من تعايش سلمي.
ومع شيوع هذه القصيدة بحكم طبيعة موضوعها وإدراج خلاصة معتقدات الأديان في غرضها، إلا أنه لم يتم تناولها بالشرح والتحليل مذ كتبت وإلى اليوم، رغم أنها ترجمت إلى اللغة الألمانية من قبل الأديبة "أنا ماريا شميل" بالوزن والقافية، كما قام بترجمة القصيدة إلى اللغة الإنكليزية فان بلادل كفين، واعتمتدها أيضا ألكسندرا روبرتس في مبحث لها، وأشادوا جميعا بها لقيمة وصفها ودلائل إثباتاتها وطبيعة موضوعها.
القصيدة دالية تتكون من ثلاثة عشر بيتا، وهي من بحر الكامل أوردها ياقوت الحموي في كتابة معجم الأدباء والثعالبي في يتيمة الدهر، ومنهما إلى تصنيف ديوان الصابي. تظهر القصيدة التغزل بمحاسن من رآها الصابي أو تخيلها لتكون مادة موضوعه. والقصيدة وإن كانت العاطفة فيها ليست جياشة؛ لأن غرضها غير ذلك، إلا أنها تفيد في بلورة وتقديم صورة عن المرتكزات الإيمانية لمعتقدات الأديان الخمسة التي ذكرت؛ ذلك أن الصابي اختار من كل دين أبرز ما ينطبق منه على الوصف، ليظهر سعة معرفته حيث جعل كل دين ينظر إليها من جانب ما يكرم ويقدس. وهكذا يكون الجميع مشتركا بشأن واحد، ولكن من مداخل متعددة. ومع أن الصابي هو من ملة الصابئين؛ فبعض يرى في البيتين الخاصة بالصابئين أنه يصف رؤيته الشخصية كصابئي، وآخر يرى نظرة الصابئين عموما، ونحن نرجح هذا، بل إنه فاق في ذلك؛ لأنه كشخص واصف موجود في كل الأديان حين وصف. يقول:
1- كــل الورى مــن مــســلم ومُــعـاهـد للديــن مــنــهُ فــيـك أعـدلُ شـاهـدِ
ينطلق الصابي من أن كل الناس اجتمعت في نظرتها الشاملة لمن وصف، ولم يقتصر الأمر على فرد أو جهة بعينها، كما أن الجميع يشاركونه نظرته الشخصية. فأي حسن وجمال رأى وأي شخص هذا الذي أجبره على هذا الوصف. لا فرق إذاً بين مسلم ومعاهد، بل أتباع الأديان يشتركون دون تمييز. وهذا مسعى عظيم من الصابي للتوجه في مقاربة الأديان من خلال الصورة الجمالية الأخاذة التي قدمها، والتي وضعها بموضوع يتعلق بقيم مطلقة تخص الحسن والجمال، وبما يلزمهم جميعا في النظرة المشتركة، رغم أن كل منهم ينظر بمنظاره. ولا ظير في ذلك، فالنتيجة أن يرى الشخص ذاته مثلما ترى جميع الأديان الله الخالق المطلق ذاته، وإن تعددت تسمياته عندهم. وهذا الذي يشاهدونه في الموصوف هو ما ذكرته الأديان، ليكون شاهد عدل على ما ورد فيها؛ لأنها تلزم في الشهادة أن يكون الشهود شهود عدل. فالشهادة، إنما تقوم على الشاهد وما لم يكن عدلا لا يمكن الركون إلى شهادته. فكل ما ورد في الدين هو أعدل شاهد حسبما يرد عندهم ويجب تصديقه.
2- فــإذا رآك المــسـلمـون تـيـقـنـوا حـور الجـنان لدى النعيم الخالد
إيمان المسلمين بوحدانية الخالق لا ينازع، والوعد للإيمان أن لا أسف على هذه الدنيا إذ هنالك اليوم الآخر والوعد فيه بالجنة والتمثيل التصويري بحور الجنان الذي يمكن أن يكون غاية ما يصبو المرء إليه، فيعمل ملتزما في الدنيا ليفوز بنعيم خالد. فإذا غفل المسلم عن تصور ما في الجنان الموعودة، فإنه سيتيقن من خلال النظر إلى حسن وجمال الموصوف هذا الذي على الأرض، فيعلم أن في الجنة ما يفوقه ولا غرابة، وهذا من الإحسان الإلهي، وهو مبعث إيمان ودليل وبرهان.
3- وإذا رأى مـنـك النـصارى ظـبـية تعــطــو بـبدر فـوق غـصـن مائد
أثـنـوا عـلى تـثــليثهم واستشهـدوا بـك إذ جـمـعـت ثـلاثـة فـي واحـد
أما النصارى، فإذا ما أبصروا فكأنهم يبصرون الجمال في غزال يرفع قامتيه الأماميتين ويمد رقبته صوب البدر لينال من غصن مائد، فيتحقق عندهم في رؤيتهم تثليثهم، حيث تقوم عقيدتهم أساسا على الآب والابن والروح القدس، ويضاف إلى هذا التثليث عبارة إله واحد. فالثلاثة مجتمعون بالإله مثلما يمكن رؤية الثلاثة في ظبية تعطو بضياء بدر وتمتد على غصن مائد، لتكون في غاية الرشاقة والجمال الحال في هذه الموصوفة من قبل الصابي. ومثلما يجتمع كل هذا في واحد، فكيف لا يجتمع التثليث ويكون في واحد حسبما يؤمنون ويكون مصدر إستشهاد.
4- وإذا اليـهـود رأوا جبينك لامعـــاً قــالوا لدافـع ديـنهـم والجـاحـد
هــذا سـنـا الرحـمن حـيـن أبـانه لكـليـمـه مـوسـى النـبـي العـابد
وتناول الصابي من اليهود حوار النبي موسى في أن يرى ربه، فهم بنظرتهم لجبين الموصوف سيرون في لمعان ذلك الجبين، وكأنه سنا الرحمن الذي طلبوا ليكون لهم به حجة لكل من يجحد عليهم دينهم ويحاجهم فيه. فإذا كان هذا النور واللمعان يصدران من جبين إنسان، ألا يكون أكثر من هذا نور وسنا الرحمن، وليكون ذلك مصدقا حين طلب موسى من ربه أن يراه، فكان وراء ذلك حدثا عظيما، وعليهم أن يكتفوا بهذا، فيرد في القرآن: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) الأعراف: 143 وأيضا: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) النساء: 153 فلا حاجة لليهود بعد أن يطلبوا رؤية الرب، بل عليهم أن يستشهدوا بما رأوى ويشيروا إلى سنا الرحمن في جبين الموصوف، فيثبت لديهم به الدليل وبه يحاجون.
5- ويـرى المجـوس ضـياء وجهك فوقه مــسـود فــرع كــالظـلام الراكــد
فـتـقــوم بـيــــن ظـلام ذاك ونـــور ذا حــجـج أعــدّوهــا لكـل مــعــانــد
أصـبـت شـمـسـهم، فـكــم لك فـيـهــم مـن راكـع عـنـد الظـلام وساجـد
والمجوس ولغاية عصر إبراهيم في القرن الرابع الهجري موجودون في بغداد وفي البلاط العباسي؛ ومنهم من هو بمناصب متقدمة في الدولة، ولهم فيها أسماء لامعة ولهم من يمثلهم في قصر الخلافة ودار الحكومة، وهم ديانة قديمة ذكرت في القرآن أيضا، مشيرا أن الله هو من يفصل بينهم يوم القيامة، وعلى هذا لهم الحق بإيمانهم وممارسة عباداتهم؛ ومنها ما عرفوا به وثبت في معتقدهم من ثنائية النور والظلام. وهذا ما اعتمده الصابي في رؤيته للموصوف بأن له وجها مضيئا منيرا وفوقه خصلات الشعر السوداء، فاجمتع بذلك في وجهه النور والظلام بحسن أخاذ وجمال دون تعارض. بهذا يقوى إيمانهم ويكون لهم الحجة في النقاش لإثبات معتقدهم. وبالتالي، فالموصوف بضيائه قد كسف شمسهم فصاروا راكعين ساجدين عند الظلام، ليتأكد لديهم ما يؤمنون قياسا بما يرون.
6- والصـــابـــئون يــرون أنــك مفــرد فــي الحـسـن إقـــراراً لفـرد مـاجـد
كــالزهــرة الـــزهـراء أنـت لديـهـم مــسـعـودة بالمــشـتـري وعـطـارد
أما الصابئون، ومنهم شاعر القصيدة أبو إسحق الصابي، فهم يرون أن هذا الموصوف مفرد في الحسن (وفي نسخ أخرى "فردة" بدلا من مفرد). وبهذا يعبر الصابي تماما عن أساس معتقد الصابئين وإيمانهم بأن الخالق هو الذات الإلهية المفردة غير المعرفة ولا المعروفة، ويرد اسمها في لغة الصابئة المندائيين الآرامية (نخرايي) من أساس الفعل (نكر) أي غير معروف، فهو فرد فريد. ويقودهم هذا التفرد الذي يرونه في الموصوف من حسن إلى إقرار ما لديهم وتثبيت للفرد الماجد الواحد الأحد الذي به يؤمنون، فيتيقن معتقدهم. فمن جعل الموصوف مفرد في الحسن لابد أنه فرد فريد ماجد. وبعد هذا التثبيت للإيمان بالمطلق ينتقل الصابي إلى التشبيه بما عرف به الصابئون، وخاصة صابئة حران، باعتماد الكواكب وأجرامها لهذا الوصف، انطلاقا من أن هذا الموصوف قد زاد بما لديه على ما في الأرض حتى اقتضى تشبيهه بما هو أعلى مما في الكون.
وبما أن الزهرة هي الكوكب الجميل، وهي عشتار وآلهة الجمال والعشق فثبت الصابي أن هذا الموصوف إذا ما رآه الصابئون سيكون لديهم كالزهرة الزهراء تشبها. ليس هذا وحسب، بل إنها مزهوة سعادة وخيلاء بالمشتري وعطارد. ويثبت الصابي بهذا إيمان الصابئين بقيمة هذه الكواكب كونها مدبرات في الكون وتقتضي التعظيم؛ لأنها الدليل العالي والراقي على قدرة الفرد الفريد خالقها والمسيطر عليها. كما أنها دليل للإرشاد مثلما حور الجنان عند المسلمين وعد بالآخرة. ويبدو أن اختيار الصابي لهذه الكواكب الثلاثة لم يأت اعتباطا، فأخوان الصفا وخلان الوفا يثبتون في رسائلهم خصائص للأجرام ويذكرون أنه "ينبت من جرم الزهرة قوة روحانية فتسري في جميع العالم وأجزائه، وبها تكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره، ورونق الموجودات وزخرف الكائنات، والتشوق إليها والعشق لها، والمحبات والمودات أجمع... وينبت من جرم المشتري قوة روحانية تسري في جميع العالم بها يكون اعتدال الطبائع المتضادات وتأليف القوى المتنافرات وسبب المتولدات الكائنات وحفظ النظام على الموجودات ... وينبت عن جرم عطارد قوة روحانية تسري في جيمع جسم العالم وأجزائه بها تكون المعارف والإحساس في العالم والخواطر والإلهام والوحي والنبوة والعلوم أجمع". من هنا نجد أن الصابي قد اختار الأجرام الأكثر انطباقا، ليعضد بذلك رأي الصابئين حين يرون هذا الموصوف فيتيقنون تماما.
7- فـعلى يـديك جـميـعهـم مـسـتـبصر في الدين من غاوي السبيل وراشد
بهذا يتم الصابي ذكر الأديان الخمسة الموجودة والباقية في مجتمعه معتمدا أساس عقيدة كل دين ومشيرا له. وهؤلاء جميعا إن رأى كل منهم الحسن في الموصوف، سيكون بصيرا مستبصرا بدينه ولا تنقصه الحجة فيه سواء أكان راشدا أو حتى من ضل السبيل منهم، ومن حاد في إيمانه سيعود ويبصر ويستبصر. وهذا يعني أنه لا مناص من الإيمان بالخالق إيمانا ثابتا، بل وحتى لو كان متزعزعا فإنه في النهاية إيمان ذلك أن ما من أحد يستطيع أن يكفر بعد الذي رأى وليس له إلا أن يقول: سبحان الخالق فيما خلق.
8- أصـلحـتهم وفـتـنـتـنـي فـتـركـتـني مــن بـيـنـهـم أسـعـى بـديـن فـاسـد
وكل هؤلاء سيصلحون، من يؤمن يزداد إيمانا وغير المؤمن سيستبصر، إلاّ هو المفتون والوله الذي أحب فوصف وأشهد على ما وصف بالثابت في الأديان إضافة إلى الوجدان. وهذه الفتنة قد أذهبت عنه دينا محددا؛ لأنه لم يعد يميز من شدة الوله أي دين يعتمد في نظرته فصار يتخبط، والخوف أن يسعى لدين يفسد حاله وما ذاك إلا جنون التعلق والوله!
وما يهمنا هو هذه الصورة الإجمالية المتفردة التي نحى بها الصابي في نظرته لمحاسن من وصف، والغرض الذي قصده فيها. فكل الأديان تقدر الحسن والخلقة الجميلة التي تلزم النظر إليها وحمد الخالق على خلقه للإنبهار المتحصل في الرؤيا. وهذا ما جعل الصابي لا يكتفي باعتماد ما لديه في معتقده، بل وزاد في اعتماد أبرز ما في المعتقدات الأخرى ليؤكد بها دليلا على ما ملك موصوفه وما حباه به الخالق فيتشارك الجميع في هذه النظرة، وتلمس هذه المحاسن كل بما أبلغه دينه. ولاشك أنها نظرة في تكامل الأديان في خلقة المخلوق الفاتن.
وكأن لسان حال الصابي يقول: تعالوا كل منا يرى ما يؤمن به ويتوق إليه في معتقده، وبهذا نحن نشترك جميعا وإن بنظرات مختلفة ومتباينة لكنها جميعا في مخلوق واحد ومن خالق واحد، فنرى صورة الخالق في المخلوق لنتشارك به ونتوحد. هكذا حرك الصابي مشاعر الجميع وأبانها مجتمعة متساوقة غير متناقضة، مثلما يمكن أن يكون عيش أتباع الأديان في مجتمع واحد متسق منتظم إنتظام محاسن الموصوف. فإن شئت حور الجنان تجد، وإن أمنت بالتثليث تراه، وإن شئت رؤية سنا الرحمن فها هو، وإن تريد أن تقف على النور والظلام مجتمعين فانظر، وإن تقر التفرد إقرارا للفرد الماجد فأبصر!
كما إن هذا النص الشعري يقدم لنا مساحة الحرية الدينية التي كانت سائدة في المجتمع، حيث تجتمع أديان خمسة في البلاد وكل على إيمانه لا يخشى من أن يعبر عن وصف محاسن محبوبه والتشبب به حسبما يرد في عقيدة دينه، ليظهر أن لكل نظرته المستوحاة من ربه لا فرق، فأنت أين تنظر ستجد من الخالق جانبا في هذا الحسن المخلوق فتقر لربك، بل وتتقرب من الأخر لأنك تلتقي معه في كل ذلك وتتكامل النظرة وتأخذ من كل دين عينا فتنظر بعدستها الخاصة. أما عين الصابي، فكانت واسعة ونظرته شاملة للجمال الإلهي الذي ثبته لنا في هذه القصيدة التي أبرزت الكثير من المعاني على مستوى خلاصات المعتقدات واشتراكاتها دون تعارض. حتى إنه منحنا عيونا من الأديان لنرى ما رآه عندهم، فصرنا نقدرهذا الحسن والجمال المجتمع في المخولق ونقر بقدرة الخالق.
ونخلص إلى أن الجميع ينظر إلى الإله نفسه ولكن من زوايا وجهات متعددة وربما متباينة، وقد جمعها إبراهيم الصابي في واحد، لكي يوضحه ويُسهل عليهم النظر، وكأنه بهذا طبيب عيون ألبس الجميع عدسات خماسية الأبعاد.
مراجع
1- القرآن الكريم
2- ابن حمدون محمد بن الحسن بن محمد بن علي، التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، معهد الإنماء العربي، بيروت 1983
3- ابن خلكان شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة بيروت 1972
4- الحموي أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان، داتر صادر بيروت 1956
5- الثعالبي أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، دار الباز للنشر 1979
6- أخوان الصفا وخلان الوفا، الرسالة 20، دار صادر، بيروت 2004
7- السعدي قيس مغشغش، أبو إسحق الصابي درر النثر وغرر الشعر، وزارة الثقافة كردستان العراق 2009
8- السعدي قيس مغشغش، طقوس الصابئة المندائيين رموز ومعان دار درابشا ألمانيا 2015
9- Annemarie Schimmel, Abu Ishak ibn Hilal as-Sabi, Literaturnische. De/GG/sabi.htm
10- Klaus U. Hachmeier. Die Briefe Abi Ishaq Ibrahim al-Sabi. Georg Olms Verlag 2002
11- Alexandre M. Roberts. Being a Sabian at Court in Tenth-Century Baghdad. file:///C: /Users/Qais/Downloads/29436256_roberts_2017_jaos_being_a_sabian.pdf.pdf
12- K. van Bladel, The Arabic Hermes: From Pagan Sage to Prophet of Science (New York: Oxford Univ. Press, 2009)
[1]- دكتوراه تكنولوجيا التعليم/ جامعة بغداد 1989. دراسات مندائية ما بعد الدكتوراه 2001، مقيم في ألمانيا. أمين الرابطة المندائية لعموم ألمانيا. سفير السلام العالمي. له 16 كتاب مطبوع تتعلق بالصابئة المندائية