التاريخ الفكري لهانز غادامير من خلال سيرته
فئة : قراءات في كتب
تقديم
رغم تعدد وجهات النظر حول الجوانب التي يجب التركيز عليها في سير المفكرين، ما المهم وما غير المهم في حياة الشخص المفكر، لا بدّ أن نشير إلى أنّ التاريخ الفكري وتاريخ المفكرين لم يتمتع بسمعة جيدة في أوروبا، فقد اعتُبر ولزمن طويل أحد الطابوهات المحرمة، ولذا انصرف الاهتمام عنه، لأنه اقترن دائماً بسير حياة الأفراد[1]، وقد اعتبر جاك لوغوف Jacques Le Goff أنّ تاريخ الفكر يدخل ضمن لغط الأجواء الباريسية، وعدّه مجرد موضة عابرة، واستهزأ به قائلاً: "دراسة الموضة الفكرية من الأمور الجدية، وهي جديرة بأن تكون موضوع بحث تاريخي طريف". ولذا فقد أسس مقابله تاريخ العقليات، الذي وضع حاجزاً كبيراً بين التاريخ الاجتماعي والاقتصادي من جهة والتاريخ الفكري من جهة ثانية، وتمّ تصنيف هذا الأخير خارج مجال التاريخ.
التاريخ الفكري، كفرع مستقل، يمثل ظاهرة حديثة بالرغم من وجود صور له بشكل أو بآخر في الماضي، وتبقى اللحظة التي يرتبط بها ازدهاره بشكل حقيقي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، مع تأسيس دورية تاريخ الأفكار من قبل آرثر لافجوي Arthur O. Lovejoy. أمّا في الولايات المتحدة فقد اتسع نطاقه وتوسعت مؤسساته الحاضنة، وقد تطور في أوروبا هذا النوع من التاريخ مع بروز تيارات اتخذت من التاريخ الفكري ميداناً لاشتغالها وبالخصوص في ألمانيا، حيث ازدهر تيار المفاهيم مع أعمال كوزيليك Reinhart Koselleck ورفقائه، وفي بريطانيا بالخصوص تمّ التركيز بشكل خاص على تاريخ الفكر السياسي منذ السبعينيات.
بدأ التاريخ الثقافي يجدد منذ بضع سنوات حقل البحث التاريخي، وقد استطاعت البيوغرافيات التاريخية بخصائصها الجديدة أن تحل العلاقة المتشنجة بين التاريخ الثقافي والتاريخ الاجتماعي، فقد انخرط عدد كبير من المؤرخين الحاليين في إعادة الاعتبار لهذا الجنس، حيث تم دراسة تاريخ الفكر، وحركة تطور الأفكار في العلوم الإنسانية والفلسفة، التي تمّ تجديدها وتوسيعها بعد تجاهلها بشكل تام في السابق[2]، ويعتبر هذا الموضوع فرعاً جديداً من المعرفة التاريخية، وقد بدأ يزدهر بشكل كبير مع الإصلاح الجامعي وتغير طرق التدريس. ومع تزايد مكانة المثقفين في المجتمع، وانخراطهم في المشاركة بفعالية في الحياة العامة من خلال شبكة من العلاقات والنفوذ التي تغذيها التوجهات والإيديولوجيات المختلفة، تصاعدت مكانة المثقف وتأثيراته، وبالخصوص بعد فصل ارتباطاته المالية والسياسية والفكرية بالسلطة الرسمية[3].
نتناول في معرض قراءتنا بيوغرافية ثقافية ذاتية هامة، أنجزها الفيلسوف هانز جورج غادامير، والموسومة بـ التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية. والكتاب ترجمه عن اللغة الألمانية حسن ناظم، ونشرته مؤسسة دار الكتاب الجديد للنشر والتوزيع سنة 2013، في 332 صفحة، والعنوان الأصلي للكتاب في لغته الأصلية (Gadamer –Hans Georg, philosophische lehrjahre, vittorio klostermann GmBH. Frankfyrt am Main. 1997),، ومن الجدير بالذكر أنّ الكتاب قد أعيد طبعه سنة 1995.
ولد هانز جورج جادامير في ماربورغ بألمانيا، وعلى عكس رغبة أسرته اختار التخصص في الفلسفة، وقد تمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه سنة 1922 في موضوع جوهر المتعة في حوارات أفلاطون، وبعدها بفترة وجيزة التحق بدروس مارتن هايدغر Martin Heidegger بفرايبورغ، وقد أسهم هذا الأخير بشكل كبير في تشكُّل فكره الفلسفي، وجعله يبتعد بشكل تدريجي عن تيارات الكانطيين الجدد الذين تأثر بهم في بداية مساره، وقد اشتهر غادامير بعمله المميز الحقيقة والمنهج، وأيضاً بتجديده النظرية التأويلية (الهيرمونيطيقيا).
بدأ جورج غادامير مهمة التدريس في ماربورغ سنة 1930، وخلافاً لأستاذه هايدغر ظل بعيداً عن النازية، وهو ما أهّله بعد الحرب لشغل منصب رئيس جامعة لايبزيغ، وفي سنة 1949 شغر كرسي كارل ياسبرس Karl Jaspers بعد وفاته، فشغله. وظلّ في منصبه التدريسي هذا إلى أن وافته المنية عام 2002.
يلقي غادامير في سيرته الذاتية، موضوع القراءة، الضوءَ على أحوال الجامعة بألمانيا في ربيع عام 1933 زمن صعود النازية؛ ففي هذه المرحلة العصيبة التي كانت فيها الحياة عرضة للموت الاعتباطي والنفي، داهمت الجامعة المراسيم الأكاديمية الجديدة المتعلقة بتحية أدولف هتلر[4]، حيث أصبح رفض أداء التحية يعني الطرد من الجامعة، يقول غادامير: "ظهرت في المراسيم الأكاديمية مسألة تتعلق بتحية هتلر. وهي مسألة كانت حساسة لقادة الجامعة، فظهر إعلان غير واضح نوعاً ما يفيد بأنّ التحية غير ملزمة للذين يرتدون العباءة الجامعية لأسباب تتعلق بالشكل، وقد أطلق هذا الإعلان رسمياً ككلمة سر، وكان من اللافت مشاهدة بعض منا ممن كانوا مفرطي الحماسة، إذ ظلوا رغم ذلك يرفعون أيديهم للتحية، بعد نصف عام من ذلك صار رفض تحية هتلر سبباً للطرد من الوظيفة"[5].
ضمن هذا السياق العام ستطرح إحدى أهم القضايا في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، وهي علاقة الإبداع الفكري بالالتزام السياسي، ولأنّ الأمر يتعلق بمفكر بارز هو الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر؛ فإنّ هذه العلاقة ستكتسي أهمية كبرى في نقاش العديد من الفلاسفة والمفكرين[6]. فكيف تحددت العلاقة بين الفيلسوف هايدغر والنازية؟ وما مكانة الفكر الهايدغري في الفلسفة المعاصرة في ظل تصاعد الجدال بشأن التزامه السياسي؟ وما السر في حضور هذا الفيلسوف بشكل مستمر في الحياة الفلسفية والفكرية في حياته وبعد مماته؟ وكيف نظر غادامير إلى التزامه السياسي ومنعطفاته الفكرية؟ وكيف تناول باقي الفلاسفة وكتّاب البيوغرافيا في ألمانيا وخارجها مواقفه السياسية والإيديولوجية في علاقاتها بخطاباته ومساره الإبداعي كمفكر؟ وما حدود العلاقة بصفة عامة بين الشخص الفيلسوف وأعماله؟
استهل غادامير كتابه التلمذة الفلسفية بوعد ضمني: "من الأولى عدم الحديث عن الذات"[7]، وهذا الوعد يُعتبر واحداً من مفاتيح سيرة غادامير الذاتية؛ فهو ينبهنا بدءاً أنّ الخيار الأفضل هو الصمت إزاء الذات، وهو المبدأ الذي احترمه ونجح في تطبيقه غالباً في الكتاب، حيث الأولوية للفكر، فالتلمذة الفلسفية سيرة ذاتية غاداميرية بناها الآخرون بحيواتهم، إنها سيرة ذاتية آخرية، سيرة تكشفت عبر الفلاسفة الآخرين الذين عاش معهم، وإذا استثنينا جزءاً بسيطاً من هذه السيرة، وهو ما يتعلق بتفصيلات عن مراهقته وشبابه، فسنجد سيرة الآخرين ممن عاش معهم غادامير أكثر حضوراً، فكل عنوان من عناوين هذه السيرة إنما يتعلق بفيلسوف ألماني خبر سجيته وشخصه ودقائق حياته، ناهيك عن تفلسفه، يكتب غادامير سيرته مستحضراً عشرة فلاسفة ألمان، يتحدث عن تفاصيل حياتهم، وعن كيفية تفلسفهم، وحماسة كلامهم، وعن لفتات عيونهم، وحركات أيديهم، وأشكال ملابسهم، وأمكنة سكناهم، وحتى أحذيتهم[8].
ونقف في الكتاب على مدى الأثر الذي خلفه هايدغر في حياة غادامير، إذ كان الشخص الذي سلك به إلى التجربة الفلسفية التي شبهها بالصعقة الكهربائية[9]، وهو دين وفاه غادامير لأستاذه من خلال جهوده التي بذلها لإعادة دمجه في الحياة الفكرية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خلفت أفعال هايدغر في الثلاثينيات أعداء له خصوصاً في هايدلبيرغ، فبعد سقوط الرايخ الثالث، كان هايدغر ممنوعاً من مواصلة عمله كأستاذ في فرايبورغ جزاء تورطه مع النازية، حيث انعزل في كوخ متواضع جداً في شفاردتسفالد، وكان غادامير خلال هذه الحقبة يزوره كثيراً رفقة عدد من طلبته. وقد أفلح في الخمسينيات، رغم معارضة بعضهم، من أن يحصل على الموافقة على قبول هايدغر في أكاديمية هايدلبيرغ للعلوم، وكان هذا أمراً بالغ الصعوبة مثل الصعوبة التي واجهها أثناء تقديمه هايدغر بكتاب يحتفي به في عيد ميلاده الستين، فقد قوبل بحالات رفض صاعقة وحالات قبول فاترة، غير أنه نجح في الأخير بفضل شجاعة أصدقاء هايدغر وطلابه[10].
وقد عاد غادامير إلى الحديث مرة ثانية عن أستاذه في كتاب سماه طرق هايدغر، ونلاحظ أنّ هذا العنوان مقتبس من العبارة التي تتصدر الإنتاج الفكري لهايدغر "طرق وليست أعمالاً"، فعندما عزم هذا الأخير كتابة مدخل لأعماله الكاملة التي أشرف عليها بنفسه اختار لها هذا الشعار[11]. وفي الحقيقة نلمس عنده في أعماله اللاحقة دوماً طرقاً جديدة وخبرات فكرية جديدة، فقد بدأ العمل في هذه الطرق لسنوات قبل انغماسه في السياسة، وبعد فترة قصيرة من تخبطه السياسي استأنف من دون توقف يذكر الاتجاه الذي كان قد بدأه[12].
إنّ التأثير الكبير الذي تركه هايدغر تمّ خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، قبل أن تزري به السياسة، وبعد الحرب استعاد تأثيره ثانية، فقد حدث هذا بعد فترة من العزلة النسبية؛ ففي أثناء الحرب لم يكن قادراً على النشر، لأنه بعد سقوطه السياسي لم يرغب أحد في إعطائه أي مجال، ولكن رغم هذا كله كان لهايدغر حضور طاغ في فترة ما بعد الحرب[13].
انطلق غادامير في كتابه عن سيرة هايدغر الفكرية من تساؤل أساسي، وهو: ما سر حضور هذا الفيلسوف بشكل دائم في الفلسفة بعد وفاته؟
يبذل غادامير جهداً قوياً من أجل فهم مواطن جذرية تجربة هايدغر الفلسفية وأصالتها، فمن المعروف أنّ هايدغر ينحدر من عائلة كاثوليكية، ترعرع بين أحضانها، ودرس في مدينة كونستانز، وبعد تخرجه أمضى مع اليسوعيين فترة قصيرة في فيلدكرش، ثم انضم لاحقاً إلى حلقات دراسية لاهوتية في فرايبورغ لفصول قليلة، ويظهر خلال هذه المرحلة من شبابه انغماسه الديني الواضح، كما في سنواته المبكرة، إلا أنه كان مولعاً إلى جانب ذاك بالفلسفة[14].
إنّ موهبة هايدغر تفتقت في مرحلة مبكرة، وجلبت له النجاح السريع، فبإشراف ريكرت كتب أطروحته عن مبدأ الحكم في النزعة النفسانية، وذلك أهّله لأن يكون محاضراً جامعياً وهو في سن السابعة والعشرين، وأصبح مساعداً لأحد أتباع ريكرت في فريبورغ، وهو أدموند هوسرل Edmund Husserel، وظل لسنوات مساعداً لمؤسس الفينومينولوجيا Phénoménologie، وفيما بعد صار زميلاً له[15]، وكأستاذ مساعد كان هايدغر في تلك السنوات معلماً ذا نجاح غير اعتيادي، وسرعان ما نما تأثيره السحري على من كانوا أصغر منه وعلى من كانوا في سنه، فالطلبة الذين كانوا يأتون إلى فرايبورغ حتى في العام 1920-1921 كانوا يتحدثون عن هوسرل أقل مما يتحدثون عن هايدغر، وعن محاضراته الثورية العميقة، وطريقته غير المألوفة[16].
وبالطبع ازداد تأثير هايدغر الأكاديمي بصورة كبيرة خلال السنوات الخمس التي قضاها في التعليم في ماربورغ، وفجأة برز للعيان عام 1927 بكتابه الوجود والزمان واحداً من جبابرة الفلسفة في القرن العشرين، فبهذا الكتاب حصل على صيت عالمي، وأصبح بذلك المفكر الأشهر في زمانه بعد النجاح الفوري الذي حصده كتابه،[17] وبالطبع حقق ذلك في سنٍّ مبكرة من حياته.
كانت شهرة الشاب هايدغر العالمية الواسعة فريدة تماماً، واستمرت فرادته حتى بعد سقوط الرايخ الثالث، فعندما كان هايدغر ممنوعاً من مواصلة عمله أستاذاً في فرايبورغ جزاء تورطه مع هتلر، بدأت رحلة حقيقية لمحبيه نحو توتنابيرغ حيث قضى هايدغر الشطر الأكبر من أيامه في كوخه، وهو بيت صغير ومتواضع جداً. وقد كرّس هايدغر الجزء الأكبر من وقته خلال هذه الفترة العصيبة لشرح نيتشه شرحاً مكثفاً، فظهر ذلك لاحقاً في كتاب ذي مجلدين، وكان هذا الكتاب النظير الحقيقي لكتاب الوجود والزمان[18].
ويشكل عقد الخمسينيات نقطة أساسية في حضور هايدغر مجدداً، بالرغم من ندرة نشاطاته التعليمية، فما السر في هذا الحضور الثابت؟ يتساءل غادامير.
إنّ عودة هايدغر تمّت بطريقة مختلفة عن السابق؛ ففي الثلاثينيات وبواكير الأربعينيات اعتمد بشكل كبير على الإلقاء الأكاديمي من خلال محاضراته خاصة، قبل أن يعرفه جمهوره بشكل واسع، وهذا ما دعاه هايدغر بالمنعطف، ويربط غادامير ذلك بحماقة أستاذه السياسية التي حدثت نتيجة توقه إلى القوة وانخداعه بالرايخ الثالث، وبعد نشره رسالة في الإنسانية سنة 1946، وهي من أجمل مقالاته[19]، استمر بعدها في التواجد من خلال الخطوات التي قطعها في السنوات اللاحقة.
راهنية هايدغر في هذا الكتاب ترتبط بقوة نصوصه الفلسفية، والموضوعات الجديدة التي اشتغل عليها وهي: العمل الفني، والشيء، واللغة، والشعر[20]، كما تبرز أهميته في مفهوم الوجود الذي صاغه، وفي انعطافه الشديد نحو الشاعر الألماني هولدرلين، وأيضاً في محاولته تأويل نيتشه، وليس بانزلاقاته السياسية الخطرة خلال الثلاثينيات. هذا هو جوهر ما أراد أن يبلغه لنا غادامير، ونلمس في الكتاب أيضاً الأبعاد القوية للعلاقة الشخصية التي جمعت التلميذ بأستاذه، فغادامير يقدم قراءة لأستاذه هايدغر، الفيلسوف الألماني الأكثر تأثيراً وجدلاً في القرن العشرين، دون أن يتخلص من جاذبية أستاذه وعلاقته المتينة به، والتي امتدت لسنوات، فيصف لنا لحظة اللقاء الأول به في فرايبورغ، ويتحدث عن أسلوبه غير المألوف، ويصف لنا مشاهداته له في مناسبات عديدة.
دراسات هذا الكتاب تتناول هايدغر من خلال مقالات ومحاضرات وخطب تذكارية كتبت بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وقد نبه مترجم النسخة الإنجليزية دينس شميدت إلى أنّ غادامير أحجم عن الكتابة عن هايدغر لحقبة طويلة من الزمن، إذ لم يبدأ بالكتابة عن أستاذه إلا سنة 1960، أي بعد أربعة عقود من لقائهما الأول، وهذه المدة لافته للنظر، لا سيما أنّ عمل هايدغر أصبح خلالها بؤرة جدل ومناقشة حادة في العالم، لم يكن هذا الصمت حسب دينت شمدت مؤشراً على حقبة تجاهل غادامير لهايدغر، وإنما كان غادامير خلالها يبني استقلاليته عن أستاذه، فجاءت تلك السنوات حقبة وجد خلالها المسافة الضرورية التي يحتاجها للكتابة عن هايدغر[21]، ورغم هذه المسافة تحسّ أثناء القراءة بوجود تلك القرابة القوية.
خلاصة طرق هايدغر، تسجيل الصدى القوي لهذا الفيلسوف الذي بقي حاضراً، دون أدنى شك، عبر جميع تقلبات القرن العشرين، فليس بمقدور المرء حسب غادامير تجنب هايدغر، إنه سد منجرف يغمره تيار الفكر المندفع، وهو سد لا يمكن أن يزحزح من مكانه[22].
تُهم كثيرة لاحقت هايدغر في حياته وبعد وفاته، فهو لم يعدم الخصوم، وإن كان شهد في فترات محددة عدم اهتمام، وبالخصوص بين سنوات (1935- 1945) لارتباط ألمانيا آنذاك بالحزب النازي، إلا أنّ الإقبال على فلسفته زادت في مرحلة الخمسينيات وما تزال إلى اليوم. وقد اهتمّ غادامير في كتابه الكشف عن السر وراء الإقبال على هايدغر وفلسفته، ولم يتطرق بتاتاً إلى مواقفه السياسية خلال فترة صعود النازية، يقول غادامير متهرباً: "ليست لدي خبرة شخصية عن هايدغر في فترة فرايبورغ التي بدأت في العام 1933، ومع ذلك فقد كنت أرى عن بعد أنّ هايدغر كان يواصل شغفه الفكري بحماسة شديدة بعد فترته السياسية الفاصلة، فقاده هذا التفكير إلى ميادين جديدة غير مطروقة"[23]
وإن كان غادامير قد تجنّب الخوض في العلاقة بين أستاذه والنازية؛ فإنّ عدداً من الكتابات البيوغرافية عن حياة هايدغر ركزت بالخصوص على علاقته مع النازية، وتمحور النقاش والتساؤل بخصوص اتجاهه الفكري، هل هو الدافع وراء اقترابه من النازية أم أنّ هناك أسباباً أخرى تتعلق بالسياق العام؟
ولد هايدغر ونشأ في بلدة شفابن جنوب ألمانيا، وهي منطقة اشتهرت بتورطها في مسألة القومية الألمانية وكُره الأجانب ومعاداة السامية؛ ففي العقود التي تلت ذلك سوف تصبح هذه المنطقة واحدة من معاقل الدعم الرئيسية لهتلر.
ينحدر هايدغر من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وجاءت والدته من خلفية الفلاحين، وكان والده أحد الحرفيين. بدأ طالباً واعداً، وحصل على منحة دراسية للالتحاق بالمدارس الثانوية في كونستانز، وهناك التحق بمدرسة تحضيرية قضى فيها فترة التدريب، وهي مدرسة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، واشتهرت بكونها معقلاً للتيار المحافظ المعادي للّيبرالية. ولما حصل هايدغر على شهادة البكالوريا، شارك بشدة في الصراعات الحزبية وأصبح أحد زعماء الحركة الطلابية التي احتضنت المثل اليمينية الشعبوية الكاثوليكية، وخلال هذه الفترة المبكرة في حياته بدأ يعبّر عن أفكار متعاطفة مع الرؤية القومية لبلده ألمانيا، وهناك أدلة وثائقية اعتمدتها عدد من الكتابات البيوغرافية يُعرب فيها هايدغر عن تعاطفه مع النازيين في وقت مبكر من عام 1932، فقد دعم صعود النازية من خلال عبارات واضحة تربط بينها وبين مسيرة ومستقبل ألمانيا.
في 30 يناير 1933 أدّى أدولف هتلر اليمين الدستورية مستشاراً لألمانيا، وفي فاتح ماي من السنة نفسها أعلنت الصحف الألمانية انضمام هايدغر للحزب القومي الاشتراكي المعروف بالحزب "النازي"، وذلك بعد عشرة أيام من توليه رئاسة جامعة فرايبورغ، وتمّ ذلك بناء على توصية من سلفه فون مولندورف، الذي أجبر على التخلي عن منصبه. وهذه اللحظة بالذات تمثل النقطة السوداء في تاريخه المهني، فقد تحوّل الفيلسوف هايدغر ذو الشهرة العالمية فجأة إلى هايدغر النازي، الذي يحمل بطاقة عضوية الحزب الحاكم. إنه الحدث الذي رافق هايدغر إلى الأبد، وذلك بالرغم من أنه توقف عن المشاركة في اجتماعات الحزب ابتداء من أواخر يونيو 1934، بعدما وقع في خلاف مع السلطات، حيث رفض طلبهم بشأن فصل اثنين من العمداء في جامعة فرايبورج، وهناك من يربط هذا الخلاف بحادث "ليلة السكاكين الطويلة"، التي انتهت بتصفية هتلر لكتيبة العاصفة، وزعيمها إيرنست روم (1887-1934) مؤيده في حملات تصفية الخصوم، وقد قام هايدغر بتقديم استقالته بعدها من منصبه، بعد أن تحطمت آماله في إنجاز إصلاح النظام الجامعي بمساعدة النازية باعتبارها تمثل حالة ثورة، ومن هنا صار هدفاً للمضايقات كما قيل، غير أنه بقي عضواً في الحزب حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، واظب على أداء المستحقات الشهرية خلال كامل الفترة ما بين 1933-1945، وبالرغم من فك ارتباطه بالنازية بعدها، إلا أنه عوقب جراء تورطه، ولم يعف من تهمة التواطؤ بصفته وكيلاً على تنفيذ المراسيم النازية ضد اليهود في الجامعة، مراسيم كان لها أثر مدمر على الأصدقاء والزملاء السابقين له، وعلى رأسهم أستاذه أدموند هوسرل، والفيلسوف الكبير ياسبرس.
وابتداءً من الخمسينيات بدأ تدريجياً فك الحظر عن أنشطة هايدغر الثقافية، لكنّ الجدل بشأن تورطه مع النازية والعلاقة بين فلسفته والاشتراكية القومية ظل مثار جدل ونقاش. خاصة أنه لم يقدّم أي اعتذار صريح، كما أنه لم يدافع عن نفسه ضد الافتراءات التي توجهت علناً ضده، إذ اختار من جانبه التزام الصمت بعد الحرب حول التهم المتعلقة بأنشطته لصالح النازيين. ومات سنة 1976 دون أن يقر بخطئه ولو بكلمة، ولم يعبّر يوماً عن ندمه، والتصريح الوحيد الذي ناقش فيه باستحياء هذه الفترة من حياته السياسية كانت في حوار نادر خصّ به مجلة دير شبيغل الألمانية سنة 1966، ولم ينشر نص المقابلة إلا في العام 1976، أي بعد سنة من وفاته، وذلك بناء على طلبه، وفي هذه المقابلة التي تحمل عنوان "لن ينقذنا سوى الله"، تناول بعبارات غامضة علاقته بالحزب النازي والرايخ خلال الثلاثينيات، لكنه لم يقدّم أي اعتذار، وهذا ما جعل الاتهامات تلاحقه من قبل كثير من الفلاسفة والمؤرخين، الذين اتهموه بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي. إذ ليس هناك ما يبرر تملص فيلسوف في حجم هايدغر من تأنيب الضمير على انتمائه إلى نظام يتحمل المسؤولية عن القتل.
ما تزال حدود العلاقة بين هايدغر والحزب النازي غامضة، فقد رفض مثل سلفه عرض ملصق يعادي اليهود في الجامعة التي كان يرأسها، كما أنه استقال من منصبه عام 1934، وفي سنوات 1936 و1937، ابتعد بشكل كبير عن مجال السياسة وكرّس حياته للفلسفة. ومن المعلوم أنّ علاقات متينة قد جمعته مع حنة أرندت Hannah Arendt، التي كانت تنتمي إلى الديانة اليهودية، وقد استمرت علاقتهما حتى عام 1933، ورغم انتمائه إلى الحزب النازي، فقد ظلت متعلقة به؛ ففي سنة 1950 وأثناء عودتها من المنفى قامت بزيارته، وعادت علاقتهما إلى سابق عهدها، وتعتقد أرندت أنّ هايدغر لم يكن نازياً أبداً، وإنما كان يتظاهر بذلك، وقد قامت بالتوسط لنشر أعماله في الولايات المتحدة[24]، بل وأجهدت نفسها من أجل إزاحة هذه "التهمة" عنه. ولم يكن هذا الموقف الوحيد المساند له، فقد جادل عدد من أتباعه بعد الحرب أنه انضم إلى الحزب لتجنب الطرد من الجامعة. ويؤكد ذلك تخلفه عن حضور تشييع جنازة أستاذه أدموند هوسرل الذي توفي سنة 1938 بعد مرض ألم به، وكان النظام النازي قد جرّده من مكانته ومزاياه الأكاديمية، فعلاقات المرء بأصدقائه اليهود آنذاك كانت دليلاً على الإدانة.
هل كانت علاقة هايدغر مع النازية علاقة عرضية؟ فهو استقال في 23 أبريل 1934، بعد اثني عشر شهراً من التعاون مع السلطة النازية، لكن بعد استقالته هناك عشر سنوات من الصمت السياسي. إذ لم يعط أيّة إشارة تؤكد معارضته للنظام الرسمي، فما سر صمت الفيلسوف بعد الحرب؟ إنها النقطة العمياء في كل القضايا كما عبّر دافيد رابوين، فما الذي جعله لا يقول أيّة كلمة عن المحرقة بشكل مباشر؟ ولماذا لم يتنكر بشكل واضح لماضيه؟ ولماذا رفض المصالحة التي قامت بها حنة آرندت بينه وبين ياسبرس[25]؟ إنها أسئلة تحرج من هُمْ تحت تأثير الهايدغريّة.
الروابط بين هايدغر والنازية أثارت الكثير من النقاش، فهي قضية متعددة، نطاقها التأويل والتفسير. فلا تكمن إشكالية علاقات هايدغر بالنازية في إقامة وجرد وقائع بقدر ما تتأتى المسألة في تأويل صلاتها بعمل الفيلسوف، صعوبة يغذيها صمت هايدغر[26]، ومازال البحث مستمراً عن الصلة المحتملة بين موضوعات عمله وإيديولوجية الاشتراكية القومية، وبالخصوص في فرنسا، حيث تستيقظ "حالة هايدغر" فيها بين الحين والآخر، ويحتد النقاش بين مناصريه من جهة، وبين مناهضيه من جهة ثانية؛ ففي كل مرّة يصدر فيها كتاب عن سيرته تعود القضية إلى الواجهة ويتأجج الانقسام. وتخلق "حالة هايدغر" في فرنسا معارك فكرية وسياسية ساخنة، فلفترة طويلة ظل ينظر إليه باعتباره من "أتباع النازية"، وقد رسخت المقالات التي نشرت عنه هذا الاتهام.
في سنة 1987، أصدر الباحث التشيلي الجذور فيكتور فيرياس Victor Farias كتاباً بعنوان هايدغر والنازية[27]، يحاول فيه الكشف عن الروابط بين الفيلسوف هايدغر والاشتراكية القومية من خلال تحقيق دام عشر سنوات اعتمد فيه جميع السجلات والوثائق ذات الصلة بأنشطة هايدغر في السنوات ما بين 1933-1945، والتي أتاحتها له آنذاك مراكز التوثيق بألمانيا الشرقية والغربية من صحافة الرايخ، ومجلات الحزب النازي، والجمعيات التابعة لها، والتقارير الداخلية للجامعات. وقد خلق الكتاب جدلاً واسعاً في عدد من البلدان ومن ضمنها: إيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، بل امتدّ النقاش إلى القارة الأمريكية، وأصبح موضوع كتاب النازية وهايدغر أحد أفضل المواضيع لعدد من صفحات المجلات العلمية، وأصبحت القضية الشغل الشاغل للصحافة الشعبية ووسائل الإعلام. غير أنّ صدى الكتاب في فرنسا كان له وقع القنبلة الموقوتة، وهو أمر لا يثير الدهشة، نظراً للانتشار الكبير الذي عرفته فلسفة هايدغر في الحياة الفكرية المعاصرة بعد الحرب، فقد ألهمت كتبه العديد من التيارات الفرنسية التي استمدت مباشرة من أعماله. ويمكن أن نذكر منها الوجودية، والتأويلية، والتفكيكية، وبعض الاتجاهات المختلفة في علم النفس واللاهوت والأدب. فقد تأثر به كل من الفيلسوف جون بول سارتر Jean-Paul Sartreالذي اعترف بالجميل تجاه هايدغر، إذ بعد قراءته للوجود والزمان نجده يكتب له: لأول مرة أصادف مفكراً مستقلاً دخل إلى عمق مجال التجربة التي أفكر انطلاقاً منها، يظهر كتابك فهماً مباشراً لفلسفتي، الأمر الذي لم أصادفه حتى الآن"[28]. وكتب بول ريكور "وشيئاً فشيئاً ركبت الموجة الهايدغرية، بسبب الملل الذي أصابني جراء الطابع التفخيمي، إلى حد ما، المكرّر والمطنب الذي اتسمت به الكتب الكبيرة التي ألفها يسبرز. لقد انبهرت بعبقرية هايدغر أكثر مما أبهرتني الموهبة العظيمة لياسبرس"[29]، وتأثر به باقي المثقفين الفرنسيين الذين قد وقعوا في حبال السحر الذي مارسه الفيلسوف الألماني عليهم؛ ونذكر منهم: هربرت ماركوز، وإيمانويل لوفيناس، وجاك لاكان، وبول سيلانكلهم، وميشل فوكو، وجاك دريدا.
تعرّض كتاب النازية وهايدغر للنقد من قبل العديد من الفلاسفة، إذ اعتبروه محاولة موجهة من المؤلف لهدم فكر هايدغر، فالصورة التي رسمها عنه قاتمة، ولا تخرج عن إطار التشويه، وتكرسه فيلسوفاً للنازية وهتلر، فالكتاب يظهر أنّ هذا الأخير آمن بأنّ الوطنية الاشتراكية هي السبيل المحدد لألمانيا، وأنه أيد الفوهرر، وساند سياساته العنصرية بشكل مطلق، وأنه ظل حتى نهاية الحرب واحداً من المثقفين الذين كانوا يحظون بتقدير كبير من قبل الحزب النازي.
ومنذ نشر فارياس كتابه الشهير، تناسلت المقالات والتعليقات التي خاضت في مسألة النازية وهايدغر[30]، وكلها تسعى إلى فكّ ما غمض في حياة هذا الفيلسوف، ومعرفة الحقائق عن حدود علاقاته الفعلية مع النازيين. هل كان هايدغر بالفعل معادياً للسامية؟ هل ساند سياسة "المجال الحيوي" و"الحل النهائي"؟ وهل كان يعلم شيئاً عن الإبادات الجماعية؟ هل من الصحيح أنّ هايدغر بدأ ينأى بنفسه عن النازية منذ سنة 1934؟ هل حطم علاقاته بشكل نهائي مع الأفكار النازية بعد سقوط الرايخ الثالث؟ وهل يمكن تفسير صمته المريب تجاه هذا الموضوع تحديداً بالتعالي الذي ميز شخصيته، أم أنّ هناك أسباباً خفية تتعلق بقناعات مترسخة خفية؟
ما كاد النقاش يفتر حتى تأجج النقاش بشكل أكثر حدة سنة 2005 مع صدور كتاب "هايدغر، إقحام النازية في الفلسفة"[31]، للمؤلف إيمانويل فاي Emmanuel Faye عن "دار ألبان ميشال"، فقد تجدد الصراع حول ماضي هايدغر، مع اتهام فاي صاحب "رسالة حول الإنسانية"، بالترويج للإيديولوجيا النازية في محاضراته قبل انخراطه في الحزب النازي. وبتأييده التطهير العرقي ضد اليهود، وبعمله على بث مثل هذه الأفكار بين مؤلفاته الفلسفية" جاعلاً منه "المرشد الروحي" للنازية، بل ذهب الى حد الزعم أنّ هايدغر كان يكتب خطب هتلر في السنة الأولى من اعتلائه السلطة. واستند المؤلف إلى عبارات واردة في محاضرات غير منشورة لهايدغر، قدمها أمام الطلبة في جامعة فريبورغ بين 1933 و1935، للادعاء بأنها ألهمت الحل النهائي، وأنها ساهمت في توقد الأفكار العنصرية، لذلك ينبغي في نظره تصنيف أعماله كجزء من تاريخ النازية بدلاً من اعتبارها فلسفة، ودعا الدولة الفرنسية إلى منع تداولها، باعتبارها تخفي الفكر النازي بين سطورها. وهو ما أثار خلافاً كبيراً في دائرة النقاش الثقافي في فرنسا وألمانيا، خصوصاً أنّ الكاتب شنّ هجوماً بالموازاة على جاك دريدا، الذي يعتبره متهماً لأنه ساهم في نشر أفكار شميت وهايدغر[32]، ولم يسلم من لذعته كل الفلاسفة الذين تأثروا به، ومنهم إيمانويل لوفيناس الذي اعتبر كتاب هايدغر الوجود والزمان من أهم المؤلفات العظيمة في تاريخ الفلسفة، ولم يسلم حتى هابرماس من انتقاداته، لأنه مجّد الكتاب السابق الذكر، إذ اعتبره الحدث الأكثر أهمية في الفلسفة منذ فينومينولوجيا فريديريك هيغل Friedrich Hegel.
أثار كتاب "إيمانويل فاي" موجة غضب شديدة في صفوف مجموعة من المتخصصين الفرنسيين في فلسفة هايدغر، الذين تجمعوا حول فرانسيس فيديي François Fédier، وقاموا بتأليف كتاب جماعي مضاد، بعنوان "هايدغر من باب أولى"[33]، وهو الكتاب الذي عرف طريقه إلى النشر بصعوبة، فقد بذلت جهود كبيرة من طرف "فاي" للحيلولة دون طبعه، حتى إنّ دار النشر غاليمار المتخصصة في نشر أعمال هايدغر في فرنسا قررت التراجع عن نشر الكتاب، إلا أنّ دار النشر فايار أنقذت الموقف، وبادرت بجرأة إلى نشر الكتاب، وبعد نشره انقسم المشهد الثقافي الفرنسي بين مؤيد ومنتقد لما جاء فيه.
إنّ هذا الكتاب الجماعي يدحض القراءة "النازية" لفلسفة هايدغر، ويسعى من خلاله فرانسوا فيديي المشرف على العمل ورفاقه إلى تبرئة فلسفة هايدغر من تهمة النازية، ومن تأثير ذلك عليه. وقد استهدفت محاولتهم أيضاً تغيير النظرة الأحادية التي يتمّ تداولها في الإعلام الفرنسي والمستقاة من الحملة العدائية التي يقودها فاي، والتي تستهدف اغتيال فكره وشخصه في فرنسا.
لم ينف المؤلف الجماعي انتماء هايدغر للحزب النازي خلال فترة معينة من حياته، وإنما قام بتقديم قراءة تستند إلى فهم هذا الانتماء، ضمن استحضار سياق فترة صعود النازية وتحكمها المطلق في الحياة الجامعية، أمّا بخصوص الإدانة التي تتعرض لها أعماله الفلسفية، إلى حد وصفها بالأعمال النازية؛ فهي في نظرهم كتابة سطحية تستند إلى تأويلات مشوهة في قراءة عمل الفيلسوف، فلا توجد أيّة إشارات حقيقية تشكل الدليل القاطع، فأي محاولة للربط بين فلسفة هايدغر والنازية إنما هي - في نظرهم- محاولة سخيفة، ولا تقوم على أي أساس متين سوى التأويل الموجّه لبعض نصوصه. فلا توجد في كتابات هايدغر الشهيرة أية أفكار واضحة بشأن معاداته للسامية.
إذا كان "فاي" قد فشل في تقديم أدلة دامغة على وجود عبارات تؤيد أطروحته بشأن معاداة هتلر للسامية، فإنّ مفاجأة من العيار الثقيل ستحصل مع قيام بيتر تراوني، Peter Trawny وهو أحد المختصين في دراسة هايدغر في ألمانيا، والمدير المؤسس لمعهد مارتن هايدغر في جامعة فوبرتال، ببعث النقاش من جديد حول هذه القضية، وذلك بعد إعلانه سنة 2013 في مؤتمر صحفي عن عزمه نشر الدفاتر السوداء، وهي نصوص مسودات مخطوطة لهايدغر، ألفها بين عامي 1931 وعام 1946، واحتفظ بها بشكل سرّي خلال حياته، وهي تحتوي على عبارات مناهضة لليهود، مما يكشف عن وجود جذور عميقة لمعاداة السامية عند هايدغر، وفي دراسة استباقية لبيتر تراوني عن هذه الدفاتر[34] اعتبر أنّ بعض المقاطع الواردة فيها تتضمن معاداة للسامية بوضوح، غير أنها ليست من النوع نفسه الذي روجت له الإيديولوجية النازية، وقد خلفت هذه الدراسة صدمة في فرنسا، فما تحتويه الدفاتر السوداء كافٍ لزعزعة أكثر مؤيديه ولاء، فما كان محط شك في السابق أصبح شيئاً مؤكداً، وهذا ما وضع أنصاره والمدافعين السابقين عن براءته في موقف حرج للغاية، لدرجة الارتباك الذي ميّز تصريحات أشد الموالين لهايدغر سابقاً أمثال فرانسوا فيديي وفرانسوا لانورد.
فهل ستُنهي الدفاتر السوداء جدلاً عمره أكثر من خمسة عقود؟ وهل يمكن القول إنّ اللغز المحير للصمت الطويل الذي اتخذه هايدغر طيلة حياته من هذه القضية قد كُشف؟ أم أنّ الحياة ستظل غامضة يلفها الضباب كما عبر في نص حواره مع مجلة ديل شبيغل قبل وفاته؟
خلاصة
هناك علاقة وطيدة تربط التاريخ الفكري بتاريخ الأفكار، حيث الأفكار لا تتطور بمعزل عن الأفراد الذين أنتجوها، ولذلك وجب دراسة الأفكار باستحضار السياقات الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي أفرزتها، ومن ثمّ تأتي أهمية البيوغرافيات الثقافية، فلا يمكن تناول التاريخ الثقافي والفكري دون معرفة المثقفين الذين أنتجوا هذه الأفكار.
استطاع جورج غادامير في سيرته الثقافية تبيان أهمّ تحولاته الفكرية موازاة مع سِيَر حياة أساتذته وزملائه، مستحضراً الأمكنة والتقلبات السياسية والاجتماعية لتاريخ بلده، بدءاً من الحرب العالمية الأولى إلى غاية انهيار جدار برلين، إذ يمضي بنا الكتاب معرجاً على تاريخ ألمانيا خلال القرن العشرين من خلال سيرته التي تعتبر وثيقة تاريخية فكرية، تفصل لنا المناخ الفكري السائد آنذاك، وهي أيضاً وثيقة اجتماعية بامتياز، وثيقة كتبها مفكر كبير، تعيننا على فهم مجتمعه الذي عانى من القهر والتسلط وخراب النفوس والعقول في ظلّ هيمنة الفكر النازي المتطرف، يقول غادامير عن التوازن في الحقبة النازية: "كان من الصعب آنذاك الحفاظ على توازن صحيح بين ألا يقبل المرء بتسوية فيفقد عمله، ويظل مع ذلك معترفاً به من زملائه وطلبته، أمّا نحن الذين وجدنا توازناً صحيحاً، فلقد قيل عنا ذات يوم إننا كان لدينا تعاطف مهلهل مع اليقظة الجديدة"[35].
يبدو البحث في السيرة أحياناً وكأنه ثانوي بالنسبة لقضايا عصره، غير أنه يندرج تحت كنف ما هو أعمق من الشخصيات، وهو التفكير في القضايا والإشكاليات، ومحاولة الخروج بإجابات عملية عن قضايا العصر والوقوف عندها، ففهم هايدغر يعتبر أحد أهمّ مفاتيح فهم البنية الثقافية والسياسية لألمانيا؛ فحياته وكتاباته تسلط الضوء على بعض الجوانب الخفية من مواقف السلطة، وعلاقة السلطة بالأفراد، كما يمكن من خلاله تتبع سيرة حياته وتلمس الفروقات الفردية بين الفلاسفة خلال الفترة المدروسة.
إنّ البيوغرافيا الثقافية تقتضي إعادة الصلة للقطيعة التي سادت طويلاً بين الفكر والوجود؛ فالفهم العميق لأفكار الفلاسفة ينطلق من تتبع حياتهم، والتقييم النقدي لأعمالهم لا بدّ أن يمرّ من العلاقة المعقدة بين ما هو من صميم عمل المفكر وبين واقعه اليومي، من هنا تأتي أهمية حياة الفلاسفة، إذ لا بدّ من مقارنة الفكر والتصور بالواقع المعاش، لأنّ القارئ يطالب بنوع من الانسجام بين الفكر والعمل[36]. لذلك فمن المفيد جداً المطابقة بين السيرة الاجتماعية والسيرة الفكرية، حتى لا ننسى الفكرة التي تؤكد أنّ الوقائع لا توجد خارج سياق نشوئها، ولا خارج المعنى الذي نضفيه عليها، كما ينبغي أن نتذكر الإطار السوسيو- تاريخي الذي عاش في كنفه الفيلسوف أو المثقف، لنعرف دقة ارتباط الأسئلة التي طرحها بزمانه، ولنحدد عوامل التأثر الفكري الأساسية، ومدى الجرأة والأصالة التي ميزت فكره.[37]
مسرد المراجع والهوامش:
- جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم محمد الطاهر المنصوري، مراجعة عبد الحميد هنية، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2007
- خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2004
- حوار مع بول ريكور: من فالانس إلى نانتير، أنجزه فرانسوا أزوفي، ومارك دولوني، ترجمة حسن العمراني، مجلة يتفكرون، فصلية ثقافية، فكرية، العدد الثالث، شتاء 2014
- جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية، ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، الكتاب الجديد، الطبعة الأولى 2013
- يورغن هابرماس، هايدغر والنازية، التأويل الفلسفي والالتزام السياسي، ترجمة عز الدين الخطابي، تقديم، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، 2005
- هانز جورج غادامير، طرق هايدغر، ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، 2007
- محمد مطواع، شعرية هايدغر- مقاربة أنطولوجية لمفهوم الشعر-، تقديم عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2010
- دافيد رابوين، هايدغر والنازية: أية قضية؟، ترجمة سعيد بوخليط، مجلة فكر ونقد، شهرية، العدد 98، مايو، يونيو، 2008
- آني كوهن سولال، جان بول سارتر، ترجمة جورج كتورة، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 2008
- لوران فلوري. ماكس فيبر. ترجمة محمد علي مقلد، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2008
- François Fédier: Heidegger, à plus forte raison, Fayard, Paris, 2007
- Peter Trawny Heidegger et l’antisémitisme, Sur les "cahiers noirs" Editeur Seuil, France
- Emmanuel Faye Heidegger, l'introduction du nazisme dans la philosophie: Autour des séminaires iné Victor Farias, Heidegger et le nazisme, Verdier (1987)
- dits de 1933-1935 Albin Michel; Achève D'imprimer édition, France, (April 1, 2005)
- L'Histoire en miettes. Des "Annales" à la "nouvelle histoire", Paris, la découverte, 1987 (2e édition Presses Pocket, "Agora", 1997
[1]ـ جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم محمد الطاهر المنصوري، مراجعة عبد الحميد هنية، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2007، ص 41
[2]ـ وذلك من خلال كتبه: مسيرة الأفكار: التاريخ الفكري وتاريخ المفكرين، وتاريخ البنيوية، وأيضاً أطروحته التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، وهي تاريخ نقدي لتاريخ الحوليات. راجع:
La marche des idées. Histoire des intellectuels, histoire intellectuelle, Paris, La Découverte, 2003
L'Histoire en miettes. Des "Annales" à la "nouvelle histoire", Paris, la découverte, 1987 (2e édition: Presses Pocket, "Agora", 1997
[3]ـ عن بيوغرافيات المثقفين، يراجع: خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2004، من ص 96 إلى ص 102
[4]ـ التحية الهتلرية كانت إلزامية، ذلك ما أكده بول ريكور في شهادته عندما كان رفقة زوجته بألمانيا في فترة صعود النازية، حوار مع بول ريكور: من فالانس إلى نانتير، أنجزه فرانسوا أزوفي، ومارك دولوني، ترجمة حسن العمراني، مجلة يتفكرون، فصلية ثقافية، فكرية، العدد الثالث، شتاء 2014، ص 244
[5]ـ جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية، ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، الكتاب الجديد، الطبعة الأولى 2013،، ص 151
[6]ـ يورغن هابرماس، هايدغر والنازية، التأويل الفلسفي والالتزام السياسي، ترجمة عز الدين الخطابي، تقديم، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، 2005، ص3 من تقديم عبد الكريم غريب.
[7]ـ نجد الرأي نفسه عند رولان بارط، فالظاهر أنه مستعد لأن يفعل المستحيل حتى لا يحتويه تعريف، إنه لا يحتمل أن تتشكل له صورة، ويتعذب لدى ذكر اسمه. ونجد في الحوار الذي أجراه الفيلسوف المثير للجدل السلوفيني سيلافوي جيجيك حجاجاً غير عادي بخصوص الأمور المتعلقة بالحياة الشخصية، فهي لا تغذي أي اهتمام حقيقي بالنسبة إليه، بل اعتبر من الخطأ أن يتحدث الآخرون عن شخصه، لأنّ المهم هو النظرية، أما الأنا فليس موجوداً. راجع: خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، م. س، ص 94
[8]ـ جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية، م. س، ص ص 8-9 من تقديم المترجم.
[9]ـ هانز جورج غادامير، طرق هايدغر، ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، 2007، ص 27
[10]ـ هانز جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية، م. س، ص 270
[11]ـ هانز جورج غادامير، طرق هايدغر، م. س، ص 287
[12]ـ المرجع نفسه، ص 58
[13]ـ نفسه، ص 59
[14]ـ نفسه، ص 344
[15]ـ نفسه ص 262
[16]ـ نفسه، ص 346
[17]ـ نفسه، ص 123
[18]ـ نفسه، ص 254
[19]ـ هانز جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، م. س، ص 76
[20]ـ فكر هايدغر ناتج عن ثمرات محاوراته لعباقرة الشعر والفن واللغة، وربط ذلك بماهية الحقيقة والوجود، وهو يحاور العصر بوصفه عصر التقنية. وفي مواجهته للغة التقنية التي أصبحت تتكلمها مختلف الآلات، وأمام خطر ذلك على مستقبل الإنسان المهدد بالاختراق والتحكم في لغته، اشتغل بسؤال الشعر الذي يسكنه، واستدعى لغته. راجع: محمد مطواع، شعرية هايدغر- مقاربة انطولوجية لمفهوم الشعر-، تقديم عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2010، ص 9، 44، 45، 73
[21]ـ غادامير، طرق هايدغر، ص ص 28-29. وعلى سبيل المثال نلمس في هذه السيرة نقدا شديداً من قبل غادامير للقراءة الهيدغيرية لأفلاطون. راجع من ص191 إلى ص 212
[22]ـ المرجع نفسه، ص 92
[23]ـ نفسه، ص 253
[24]ـ في نص شهير لها بعنوان: "هايدغر في عيد ميلاده الثمانين" أشارت حنا آرندت إلى أنّ هايدغر قد استسلم لإغراء استبدال مقامه كمفكر والانخراط في عالم الشؤون الإنسانية وذلك بقبوله تقلد منصب رئاسة جامعة فيورباخ ما بين سنتي 1933 و1934، فهذا الانخراط على مدى عشرة شهور قصيرة ومحمومة، أدى به إلى مناصرة الحزب النازي وإلى تقديم مبررات فكرية وإيديولوجية، تزكي استحواذ هذا الحزب على السلطة، وعبر مقارنة طريفة بين لجوء أفلاطون إلى طاغية سراكوزة..خلصت إلى القول: نحن الذين نريد تكريم المفكرين، رغم أنّ مقامنا يوجد وسط العالم، لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من الإقرار بالطابع المدهش، بل ربما الفاضح لواقع كون أفلاطون كما هايدغر، قد لجآ إلى المستبدين حينما انخرطا في الشؤون الإنسانية"، راجع يورغن هابرماس، هايدغر والنازية: التأويل الفلسفي والالتزام السياسي، م. س، ص 6
[25]ـ تحدث بول ريكور في حواره أنّ حنا أرندت "حاولت التدخل للمصالحة بينه وبين هايدغر، وقد توفقت في إقناع ياسبرز، الذي أبدى كرماً كبيراً لكنها اصطدمت بمقاومة شرسة من هايدغر. حوار مع بول ريكور: من فالانس إلى نانتير، م. س، ص 250
[26]ـ دافيد رابوين، هيدغر والنازية: أية قضية؟، ترجمة سعيد بوخليط، مجلة فكر ونقد، شهرية، العدد 98، مايو، يونيو، 2008، ص 116
[27]- Victor Farias, Heidegger et le nazisme, Verdier (1987)
[28]ـ آني كوهن سولال، جان بول سارتر، ترجمة جورج كتورة، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص 69
[29]ـ حوار مع بول ريكور: من فالانس إلى نانتير، م. س، ص 251
[30]ـ من أشهر الذين ساندوا كتاب هايدغر والنازية الفيلسوف بيار بورديو الذي شن في العام 1988 هجوماً عنيفاً على هايدغر، معتبراً إياه هتلرياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
[31]- Emmanuel Faye Heidegger, l'introduction du nazisme dans la philosophie: Autour des séminaires inédits de 1933-1935 Albin Michel; Achève D'imprimer édition, France, (April 1, 2005)
[32]ـ سبق أن قام جان بيار فاي والد إيمانويل بنشر سلسلة من المقالات الهجومية ضد الفيلسوف جاك دريدا متهماً إياه بالترويج لفلسفة هايدغر في الجامعات الفرنسية دون الأخذ بعين الاعتبار ماضيه النّازي، إنّ الاتهام شمل المنهج التفكيكي الذي اشتهر به دريدا، إذ اعتبره فاي مستوحى من فلسفة هايدغر ذات الجذور النازية.
[33]- François Fédier: Heidegger, à plus forte raison, Fayard, Paris, 2007
[34] - Peter Trawny Heidegger et l’antisémitisme, Sur les "cahiers noirs" Editeur Seuil, France. 11 /9/ 2014.
[35]ـ هانز جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، سيرة ذاتية، م، س، من تقديم المترجم، ص 9
[36]ـ خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، م، س، ص 96
[37]ـ لوران فلوري. ماكس فيبر. ترجمة محمد علي مقلد، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2008م، ص 15