التواصل والحجاج ضمن أفق إيتيقي عند مارتن بوبر

فئة :  مقالات

التواصل والحجاج ضمن أفق إيتيقي عند مارتن بوبر

التواصل والحجاج ضمن أفق إيتيقي عند مارتن بوبر

"خلقنا لنتواصل"

بول فاليري

استمع لصرخة الوليد لحظة الميلاد، ثم أصغ سمعك إلى حشرجة من يصارع الموت في لحظاته الأخيرة، ستدرك حينها أن الإنسان لم يميز فقط بالتعقل، بل بالتواصل أيضا، وأن هذا الأخير لصيق به منذ لحظة سقوطه في العالم إلى لحظة فنائه، بل إن الكائن البشري محتاج إلى التواصل لمواجهة الفراغ والجهل، وهي مواجهة تستوجب وجود أنا آخر؛ فالإنسان كائن اجتماعي تتحقق إنسانيته ضمن تفاعله مع الآخر. ولا يتأتى له فهم الوجود وسبر أغواره إلا من خلاله أيضا.

غير أن اعتقاد التفوق يوهم الإنسان أنه أعلى المخلوقات شأناً وأفضلها حتى يغالي في وهمه هذا، فيعتقد أنه ليس أفضل من الكائنات الأخرى وحسب، بل أسمى من بني جلدته أيضا، مما جعله يعامل الآخر معاملة دونية على أساس أنه مجرد وسيلة لبلوغ مصلحة، أو في أفضل الأحوال يسمه بالجحيم، على الرغم من أن الوجود الإنساني إنما فاض من أصل واحد: الأصل الإلهي.

إن هذا الوضع تفطن له مارتن بوبر، ليستنبط من خلاله رائعته حول العلاقات الإنسانية، حيث يفرق بين أن نتواصل كأنا وأنت، وأن أتعامل معك كأنا وذلك/هذا.

قد يتساءل متساءل: وما علاقة هذا بالحجاج؟ وهو سؤال مشروع لكنه سابق لأوانه؛ إذ إن هذا ما سنشرع في تحليله ضمن الأسطر القادمة.

1ـ في المعاني الثلاثة للتواصل:

التواصل لفظ شائع ومتداول، بيد أنه في الآن ذاته يكتنفه الالتباس والغموض، هذا ما يؤكده طه عبد الرحمن باستحضاره المعاني الثلاثة المتباينة للتواصل:

المعنى الأول: يكون فيه التواصل نقلا للخبر، ويسميه بالوصل؛

المعنى الثاني: حيث الغرض من التواصل نقل الخبر مع اعتبار مصدره (المتكلم)، ويصطلح عليه بالإيصال؛

المعنى الثالث: يتخذ فيه التواصل صيغة نقل الخبر مع اعتبار مصدره (المتكلم) ومقصده (المستمع)

ضمن كل نموذج تواصلي، تتخذ الحجة شكلا محددا يتوافق مع غاية التواصل، بيد أن النموذج التواصلي الذي يهمنا هنا هو النموذج الاتصالي، حيث الاشتغال بدور المتكلم والمستمع معا في الفعالية الخطابية، وحيث تكون الحجة مقومة لا تقتصر على مجرد الإقناع أو التأثير في المخاطب، بل تروم بناء تواصل وفق معايير أخلاقية يجملها طه عبد الرحمن في فعل الاعتبار، حيث اعتبار الغير واعتبار القول، غير أننا لن نقف عند الجانب القيمي للتواصل عند الفيلسوف المغربي؛ إذ سنحيد عن سبيله لنعرج على مارتن بوبر.

2ـ فلسفة التواصل عند مارتن بوبر:

إن حياة البشر لا تتمحور حول ما أريده كأنا وما أفكر فيه فحسب، ولا تخضع للنظرة الصوليبصية الأنانية التي يريد البعض الترسيخ لها؛ لأنه إلى جانب وجودي أنا، يقاسمني الوجود أشخاص آخرون وجب أن أعتبرهم كأنت، لا كذلك أو هذا، حسب تعبير مارتن بوبر.

إن النظرة التي ترى في الآخر "هذا"، نظرة متعالية ترى الآخر بنظرة دونية تحكمها غالبا المصلحة، وتختصره كشيء ووسيلة لتحقيق غاية، فتجرده بذلك من إنسانيته وكينونته، فيصير الآخر ضمن هاته العلاقة في حكم الجمادات (وجودك بالنسبة لي ينتهي حين أبلغ مرادي منك). ضمن هاته العلاقة ينتج قصور في التواصل، بل يمكننا القول إن التواصل في هذه الحال غائب ومنتف، وحتى وإن وجد، فإنه يتخذ طابعا يقوم على الصراع وتضارب المصالح.

في المقابل، تقف علاقة "أنا ـ أنت" كعلاقة صحية أكثر، حيث الإنسان ليس مجرد شيء بين الأشياء، وليس مجرد نقطة محددة في الزمان والمكان داخل شبكة العالم، وأيضا، ليس مجرد طبيعة يمكن تجربتها ووصفها بمجموعة من الصفات المحددة. في علاقة "انا -أنت" أعامل الآخر بوصفه ذاتا مستقلة، ولنقل "أنا أخرى" تختلف عني، لكنها تساويني في القيمة والكرامة، وبالتالي فلا أنا أزيد عنها بشيء، ولا هي تزيد عني بشيء. لذا، فإنني لا أعامل الآخر معاملة موضوع أو وسيلة، بل أعامله كغاية في ذاته، أخذا بمبدأ مارتن بوبر القائل إن جميع الذوات الإنسانية متساوية؛ إذ إنها تعود لأصل واحد هو الأصل الإلهي. وحاصل هذا التبادل القائم على احترام الآخر، أن التواصل يكون فعالا قائما على التفاعل والإصغاء، حيث أعترف بالآخر كإنسان، وهو أيضا يعترف بي كإنسان بغض النظر عن لوني أو جنسي أو أصلي.

إن كان بمكننتي وأنا أتأمل الشجرة أن أنظر إليها كصورة: عمود صلب في وهج الضوء، أو بقعة خضراء متشابكة مع الأزرق الفاتح في الخلفية، أو أن أصنفها ضمن نوع معين، وأخضع وجودها وشكلها لقوانين دقيقة، فإن الأمر لا يتساوى مع الكائن البشري.

3 ـ التواصل الحجاجي البوبري ضمن أفق إيتيقي:

إننا نسلم بأن التواصل سمة الإنسان ووصفه، وأن الإقناع مراده ومطلبه. وعليه، فإننا نوافق قول ديكرو القائل إن "كل تواصل هو قصد في الحجاج"، فهذا محام زاده الحجة، وذاك تاجر يتوسل بكل الحجج لإقناع المشتري، وقس على هذا المنوال في تحديد أصناف الناس وطبائعهم. بيد أننا، نسلم في الآن ذاته أن هذا الحجاج لا يجب أن يكون من أجل الغلبة أو تحقيق المصلحة فحسب، كما هو حال السفسطائيين الذين لا يخشون في تزييف الحقيقة، بل إن الحجاج هنا ينبغي أن يستحضر البعد الأخلاقي، قائما على نظرة تواصلية هي أنا/ أنت، لا أنا/ ذلك.

لنتأمل مثال تاجر ملابس:

في حال كان التاجر ينظر إلى الزبون كمجرد "ذاك"، فإن حجاجه سيكون قائما على التأثير والرغبة في إقناعه بالشراء حتى ولو لم تكن الملابس تناسبه؛ لأنه ببساطة يرى فيه وسيلة لجني المال، وقد يقسم في سبيل ذلك قسما كاذبا، يقنع من خلاله الزبون أن البذلة من نوعية ممتازة، أن صنعها محدود، وتلك هي آخر قطعة، بينما أكداس من مثيلاتها في المخزن تستمع لأباطيله.

في حال أخرى، كان التاجر ينظر إلى الزبون كأنا آخر، أو كأنت، فإن حجاجه سيتخذ صيغة إقناعية تنظر إلى العميل ككائن مستقل ذي إرادة ووجود منفصل. التاجر لا يراه فقط كأداة لزيادة الأرباح، بل كفرد ذي اهتمامات ورغبات قد تكون مختلفة. التواصل في هذا السياق، يهدف إلى بناء علاقة مع العميل، ويتم توجيه الحجة وفقًا لاحتياجاته أو رغباته الشخصية، مما يسمح بتفاعل أكثر إنسانية.

ختاما، ليتأمل الانسان في حاله وليتفطن إلى أنه ليس إلها، وأنه وإن لمس النجوم بهامته، فإنه لا يلبث أن ترتعش قدماه، وتعبث به السحب والرياح، فيهوي مجددا إلى عالمه. فإما أن يتمرد حتى يفنى، وإما أن يعرف حد نفسه بنفسه، فيحاول تحسين تواصله، فيتواصل مع العالم متعقل، أو مع الآخر محاججا.

 

 

*- المصادر:

طه عبد الرحمن: سلسلة الدروس الافتتاحية، الدرس العاشر: التواصل والحجاج. مطبعة المعارف الجديدة، الرباط.

MARTIN BUBER: I AND THOU, translated by RONALD GREGOR SMITH.Edinburgh: T.& T. CLARK, 38 George Street