"الثقافة والعولمة" للدكتور سعيد شبار
فئة : قراءات في كتب
في الجدل بين الثقافة والعولمة؛
قراءة في كتاب "الثقافة والعولمة" للدكتور سعيد شبار
عرف الدكتور سعيد شبار، أستاذ التعليم العالي بجامعة السلطان مولاي سليمان، في الأوساط العلمية والبحثية في العالم العربي باعتباره أحد أبرز المثقفين المغاربة المشتغلين بقضية الإصلاح والتغيير في الثقافة الإسلامية، جمع في ذلك بين التنظير والممارسة، فاجتهد في سبيل ذلك، وساهم الرجل في إرساء تقاليد بحثية جديدة في الجامعة المغربية عامة، وفي قسم الدراسات الإسلامية على وجه الخصوص، تنبي على أساس الوصل بين المعارف والتخصصات في وحدة الدراسات العليا إيمانًا منه بوحدة المعرفة وتكامل العلوم مدخلاً ضروريًا لا مناص منه في سبيل الإبداع والتحرر من الاتّباع، وهي تجربة تعد اليوم فريدة ورائدة في المغرب، كما لم يغب عنه الربط بين ذلك كله والتنزيل العملي في إطار مؤسسة المجلس العلمي.
وقد جاء الكتاب الذي بين أيدينا حاملاً لعنوان "الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية"، وهو الإصدار الثاني من سلسلة أبحاث ودراسات فكرية يصدرها مركز دراسات المعرفة والحضارة، ويعيد من خلاله سعيد شبار طرح مشكلة الثقافة الإسلامية وسؤال الإصلاح والتجديد في ضوء التحديات التي تطرحها العولمة، أو في ضوء إحراجاتها، بتعبير أدق. وإن ما يميز الكتاب هو ذلك الأنموذج التحليلي الذي اختطه صاحبه في تناول الجدل بين الثقافة والعولمة، وهي المقاربة التي تجاوز بها المنطق الحدي الذي يصدر عن محاكمات اختزالية لطرفي الجدل، فقد سلك سعيد مسلكًا معرفيًا يسبر أغوار الأنموذج الكامن، يسائل من خلاله رغبة الهيمنة في العولمة كما يسائل الخطاب الثقافي العربي المسكون بمقولات جامدة هوياتية ترفض منجزات الحداثة وأخرى مستلبة نحو بريق الأنموذج الثقافي الحداثي فتقبله دون تمحيص ونقد.
بسط الكتاب أطروحته عبر مجموعة من القضايا تشكل كل واحدة فصلاً من فصول الكتاب، وتختزن نقاشًا وتحليلاً لإشكاليات متعددة تنصب في القضية المركزية إلى جانب مقدمة وخاتمة، وهي على النحو التالي:
أولاً: الثقافة والعولمة قراءة في جدل المحلي والكوني:
رام الباحث في هذا الفصل تحليل العلاقة بين الثقافة والعولمة، وهو يعترف مسبقًا أنه أمام أخطر أشكال العلاقة، بالنظر إلى طبيعة الصراع الذي تختزنه؛ وهو الصراع بين ثقافة مهيمنة تلغي أشكال التعدد والتعايش المفترض، وتظهر تجلياتها في مجالات الاقتصاد والسياسة والإعلام، وثقافة تفتقر إلى عناصر الإبداع والتجدد. ويقدم الكاتب أطروحته التفسيرية ناحتًا مفاهيم من قبيل "ثقافة كامنة" و"ثقافة ظاهرة".
ويبذل الباحث جهدًا كبيرًا لكشف المرجعية العلمانية للبعد الثقافي الكامن الذي يراد تعميمه والتبشير به أنموذجًا كونيًا لا مناص من تعميمه والتمكين له، ومن ثم لا اعتبار للخصوصية الثقافية أو للاختلافات التاريخية والقومية والنفسية، غير أن الكاتب لا يتوانى في استحضار مرجعيات فكرية نقدية لتفكيك هذه المقولة، مقولة الكونية، للتأكيد على الحدود التداولية والدفاع عن التعددية الثقافية، وهو هنا في حالة تناصٍّ مع إدوارد سعيد ومالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري.
ثانيًا: مفهوم الإصلاح وتجديد الرؤية والمنهج لتجديد العلوم والتديّن
يفتتح الكاتب هذا الفصل بتتبع مفهوم الإصلاح في اللغة والشرع والاصطلاح؛ أي التداول التاريخي، ويخلص في هذا المقام إلى مسألتين أساسيتين؛ الأولى أن الشبكة العلائقية لمفهوم الإصلاح في أصول الشرع تجد لها امتدادات وارتباطات تؤكد أهمية ومركزية هذا المفهوم في الإسلام، والثانية أن الإصلاح ليس تنكرًا للقديم وقطيعة معه، ولا هو انكفاء على الذات دون الإفادة من الخبرات البشرية، وإنما هو بنائية شاملة ومستوعبة ومتكاملة.
ويعمد المؤلف، في السياق ذاته، إلى تشخيص واقع الثقافة الإسلامية وعلومها، وهو، أي المؤلف، مسكون بالدافع المنهجي الكلي الذي ينطلق عنده من إعادة أصول ومصادر المعرفة إلى ترتيبها العادي، وجعل القداسة للوحي المهيمن والمصدق ونزعها عن الفكر البشري، وهذه هي القاعدة الأساسية لاستئناف الإصلاح الشامل الكفيل بخلق ثقافة مستوعبة، وقادرة بالتالي على حيازة موضع لها في هذا السياق "العولمي"، ويراهن في ذات الوقت على إعادة الاعتبار للإنسان فاعليةً مركبةً، وتحريره من الاستلاب الذي فرضه الأنموذج الغربي المهيمن، ولا يتحقق هذا المنظور الإصلاحي في نظر الكاتب ما لم تنبنِ الرؤية المعرفية على العناصر التالية:
-التمييز بين الأصول المؤسسة للمعرفة وتلك التي أسستها المعرفة.
-فهم فكر الأزمة والانحطاط في سياقه التاريخي.
-الانطلاق من تكاملية الإصلاح ومجالاته.
ثالثًا: استئناف التجديد وبناء العلوم دفعًا لآفات الانفصال والتحيز وربطًا بواقع وتطلعات الأمة
بعد أن استغرقت تيمة الإصلاح صفحات عديدة من كتاب سعيد شبار، يعود في هذا الفصل من الكتاب نفسه إلى مفهوم آخر ضمن الحقل الدلالي نفسه، وهو مفهوم التجديد، مقدمًا رؤية نقدية لا تخلو من الجدة والدقة لامس من خلالها أزمة العلوم الإسلامية في مستويين اثنين:
الأول: في مشكلات العلوم مادة ومنهجًا، والحاجة إلى استئناف النظر التجديدي، وضح في هذا المستوى المجالات والموضوعات التي تحتاج إلى تناول تجديدي يرأب الصدع المتواجد في هذه العلوم، ويجعلها تستعيد أداءها الوظيفي، نوجز هذه المجالات فيما يلي:
-الثقافة خلاصة وجماع العلوم والمعارف.
-الوحي والعلوم بين الشهادة والشواهد.
-مصادر المعرفة وبناء العلوم.
-تصنيف العلوم والتقابل الثنائي بين المفاهيم.
-العلوم وآفة الجمود والتقليد.
-العلوم وآفة الصورية والتقليد.
-العلوم وآفة التكرار والاجترار.
الثاني: مظاهر التحيز في العلوم الإسلامية وتأثيرها على ثقافة الأمة وعطائها الكوني، عند هذا المستوى نحا الأستاذ إلى التركيز على ظاهرة التحيز في العلوم الإسلامية والتأثيرات السلبية لهذا التحيز على التطور والتفاعل الثقافي وعلى الإبداع الحضاري، غير أنه لم يقف عند هده النقطة بل قد بسط تصورًا للانعتاق من هذه الآفة مسترجعًا أصول الممارسة التواصلية النافية للتحيز، وعلى رأسها أصل التوحيد الذي يعكس وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة البشرية، وأصل العدل الذي أمر به الحق تعالى، ثم أصل الحرية الذي ميز به الله تعالى الإنسان.
ولم تكن مسألة القراءة الحداثية للقرآن الكريم لتمر دون الوقوف عند تحيزاتها الفكرية فقد ساءل المؤلف الخلفيات الفكرية الموجهة لهذه القراءات؛ أي تلك التي تتوسل بكل ما هو حداثي ينتمي إلى عالم الحداثة الغربية من علوم ومناهج وآداب وفنون وفلسفات ونظريات، وغير ذلك، وهي على وجه الدقة أطروحة التسوية بين الكتب المقدسة التي تناولها بالتفكيك والنقد، إذ يرى أن الخلل المنهجي لهذه الأطروحة إنما يرجع إلى عدم أخذها بعين الاعتبار الفوارق الأساسية بين المجال التداولي العربي الإسلامي والمجال التداولي الغربي، وبالتالي فإن التجربة التاريخية للنص اليهودي والمسيحي وحركة النقد العنيفة التي أطاحت بقدسية هذا النص، لا يمكن تعميمها على التجربة التاريخية للنص القرآني على غرار ما فعله محمد أركون وأوقعه في فخ الاختزال والرهان على التراث الغربي، رغم كل تلك الرغبة التي يعلنها للتخلص من قيود التراث.
يلمس القارئ لهذا الكتاب ربطًا فريدًا بين قضايا تحمل طابعًا إشكاليًا تحتاج كل واحدة منها إلى بحث مستقل، كما أنه يصادف في كل فصل من فصول الكتاب تلكم المزاوجة الممتعة بين التجريد النظري والنماذج الدالة، فلا يكاد الباحث يطرح قضية أو يدعي ادعاء إلا بحث له عن أمثلة سواء في التاريخ أو في الحاضر، وهذا ما يبرر ذلك الحضور الكثيف للمراجع الحديثة إلى جانب مصادر من التراث سواء منه العربي الإسلامي أو الأوروبي.