الثقافة والمجتمع والدولة: إشكالات في الواقع العربي الراهن
فئة : مقالات
الثقافة والمجتمع والدولة: إشكالات في الواقع العربي الراهن([1])
شكرًا لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث؛ والشكر موصول للدكتور أحمد صابر الذي رحب باقتراحي لهذا الموضوع؛ لطرح جملة من الأفكار لا أخفيكم أنني بصدد بلورتها على مراحل، وفيها ما هو مكتمل إلى حد ما، وفيها ما هو في طور التجريب والاختبار. ما سأقدّمه أضعه تحت عنوان "الثقافة والمجتمع والدولة: إشكالات في الراهن العربي": هو حول ثلاثية تثير الكثير من الأسئلة، والكثير من التفكير الإشكالي، الآن، ثلاثية؛ "الثقافة، والمجتمع، والدّولة".
في علم الاجتماع التقليدي، عادة، هناك نوع من الدمج بين هذه المفاهيم: الثقافة، المجتمع، الدولة، إلى حدّ ما، ويُعتقد في الكثير من البحوث؛ أن هذه المفاهيم مترادفة، وكأنها تشير إلى شيء واحد، أو على الأقل تشير إلى أشياء متطابقة ومتماثلة، فنتحدّث عن الدولة الفلانية، وكأنها تمثيل صادق يستغرق كل المجتمع المقصود، ونتحدّث، أيضًا، عن الثقافة العربية، وعن الثقافة الفرنسية، أو عن الثقافة الألمانية، وفي ضمنيات القول نوع من الوهم أو الإيهام، بأنها تطابق مجتمعها، وأن الدولة تعبر عنها أفضل تعبير. هذا تقليد موجود في علم الاجتماع، وخاصة في ما يسمى في تواريخ علم الاجتماع بــ (علم الاجتماع المعياري)؛ أي ذاك الذي يفكر بشكل معياري في هذه المكونات.
الدولة ليس بوصفها جهازًا فقط؛ بل نوعًا من التعبير السياسي عن روحٍ أو عن تشكّل ثقافي، يمكن أن يتخذ شكل الدولة الأمة؛ بل إن المثال الأبرز لتشكله هو الدولة- الأمة، والجمع بين فكرة الدولة أو مفهوم الدولة، وفكرة الأمة أو مفهوم الأمة، يدلّ على نوعية هذا التفكير، وكأن الدولة تمثل، أو بإمكانها أن تمثل الأمة، علمًا أننا، عندما نتحدث عن الدولة؛ فنحن نتحدث عن بناء سياسي، وإداري، وقانوني له شكله الخاص، وله قوانينه الخاصة، ...إلخ. في حين، أننا عندما نتحدث عن الأمة؛ فنحن نتحدث عن تشكل ثقافي، يمكن أن يكون أكثر ديمومة تاريخيًّا، وأكثر رسوخًا وعمقًا اجتماعيًّا، مما يجعل فكرة التطابق بين الدولة والأمة فكرة قابلة للمناقشة، إن لم تكن قابلة للدحض.
مدخلي لمناقشة هذا التطابق؛ الذي يمثل أساسًا من أسس ما أسميته علم الاجتماع المعياري، وهو محاولة للتمييز بين، ما أطلقت عليه، التشكل الثقافي باعتماد مفهوم التشكل، ومفهوم أو اصطلاح البناء، الذين أريد أن أبين الفارق الكبير جدًّا الموجود بينهما.
عندما نعود إلى كتابات في علم الاجتماع، كأن نعود إلى ماكس فيبير، مثلًا، في تناوله للدولة وجهازها، بوصفها تنظيمًا إداريًّا وسياسيًّا، أساسه احتكار ممارسة العنف الشرعي، أو نعود إلى كتابات أخرى أنثروبولوجية، كأن نعود، مثلًا، إلى "إيرنست كيلنر"، الذي ميّز، أو على الأقل، بدأ في التمييز بين التشكل القومي وبناء الدولة، وإن كان جمع بينهما باعتبارهما من مجال التخيل، ومن مجال البناء المخيالي، مستخدمًا كلمة (le mythe/الأسطورة)؛ أي باعتبارها نوعًا من التكوين الأسطوري. وكذا، عندما نعود، أيضًا، إلى بعض الملاحظات التي نجدها عند عالم الاجتماع الألماني "نوربار إلياس"؛ الذي تحدث عن البناء التوحيدي الأوروبي الحديث.... إلخ. نرى أن كل هذه البحوث، وغيرها، هي مجرد أمثلة تدلّ على أننا، عندما نكون في مجال التكوين القومي، نكون في مجال تشكل، ولذلك أنا أستخدم هذا التعبير، بمعنى؛ أن العناصر التي يمكن أن يتشكل منها هذا القومي، هي، أساسًا، عناصر ثقافية تتعلق باللغة، وبالعادات، وبالتقاليد، وبمكونات الثقافة بشكل عام، وخاصة في مفهومها الأنثروبولوجي، أو في معناها الأنثروبولوجي. ونكون، أيضًا، في سياق الهوية كما تتشكل، وانطلاقًا ممّا يجمع أفراد أمة ما من سمات ثقافية، تتعلق بما يرمزون به إلى وحدتهم في مستوى؛ روحي، وثقافي، ورمزي، .....إلى آخره. هذا التشكل القومي، إذن، هو من المجال الثقافي، أساسًا؛ ولذلك هو مستدام في الزمن، ويطول في التاريخ، ويمكن أن يأخذ تشكلات متعدّدة، ويمكن أن يعيش مراحل متعدّدة، ومتداخلة، فيها الكثير من التعرجات، وفيها الكثير من العناصر التي تتعلق بإسهامات مثقفين، أو ببناءات في ما هو ثقافي فكري، وفيها ما يتعلق بالفنون؛ التي ترتبط أكثر بالروح القومية لتلك الأمة التي نقصدها، وأيضًأ، نكون في مجال فيه جانب التركيب، وجانب التاريخية، وجانب التعقّد والتعرج الذي يمتد على مسارات طويلة جدًّا.
على غير ذلك، يكون بناء الدولة الذي يمكن أن يكون ناتجًا عن قرار سياسي، تتّخذه بعض المجموعات التي تمثل مصلحة سياسية معينة، أو تتبع مصلحة سياسية، يمكن أن تكون قوّة اجتماعية لها عمقها في المجتمع، ويمكن أن تكون طبقة، أو تحالفًا طبقيًّا، أو فئة اجتماعية لها موقعها الخاص في التنضيد الاجتماعي، ويمكن لهذه القوّة أو لممثليها السياسيين أن يتخذوا قرارًا ببناء الدّولة، وأتحدّث عن قرار؛ لأن تكوين الدّولة عملية أقرب إلى البناء السريع إلى حدّ ما، القانوني والإداري، والذي يرتبط بالجهاز؛ أي يرتبط بمؤسسات قانونية ودستورية، يمكن أن توضع على مستوى النصوص، ثم، بعد ذلك، تنتقل إلى مستوى الممارسة العملية، ...إلخ. إذن، بصفة عامة، نحن في مجال لا يتوافق بشكل كلي، على الأقل، مع المجال الثقافي الأول، الذي كنا نتحدّث عنه لدى محاولتنا وصف كيفية التشكل القومي. هذه بعض المناويل التحليلية، التي أصبحت ثابتة، إلى حدّ ما، في التحليلات السوسيولوجية، ونجد مرادفات لها حتى عندما نعود إلى العلوم السياسية، ويمكن لي، هنا، أن أستشهد بأعمال عالم السياسة الإسباني "خوسي خوان لينث": الذي ميّز، هو أيضًا، بين ما أسميته التشكل القومي، وبناء الدّولة.
إذن، الفكرة الأساسية الأولى التي أردت التأكيد عليها، هي: أن هناك فارق واضح بين ما نعيشه من أوضاع، وما تعيشه الدّول من أوضاع، من حيث التشكل القومي من جهة، وبناء الدولة من جهة أخرى.
هذا على مستوى أسس التفكير، وعندما نعود إلى سياقات عربية محدّدة، نجد بعض الإشارات التاريخية، التي تدل على إمكانية تطبيق هذا الأنموذج التحليلي على ما عشناه، فبإمكاننا أن ننطلق مما أسمّيه، بصفة تعميمية بعض الشيء (الدولة ما بعد الاستعمارية العربية) أقصد بذلك؛ الدّولة التي نتجت عن حركات تحريرية في بعض الأحيان، ونشأت، أيضًا، في الأحيان الأخرى، عن بعض المحاولات لاستعادة تشكيلات دولوية، أو تشكيلات دولة، كانت سابقة للمرحلة الاستعمارية.
المثال التونسي، فيه حديث عن دولة (باياتية؛ لأن ملك تونس كان يسمّى الباي)، الدّولة "الباياتية" سابقة للوجود الاستعماري، ولها بعض الإنجازات المتمثلة، مثلًا؛ في نص دستوري تأسيسي يعدّ بمثابة الدّستور، أو يعدّ في مرتبة الدّستور، يسمّى؛ عهد الأمان (1857م). لكن الدّستور، في حد ذاته، وجد عام 1861م، وهو من أوائل الدساتير العربية، هذه دلائل تشير إلى وجود بناء للدولة سابق حتى للمرحلة الاستعمارية، ويمكننا أن نستشهد ببعض الأمثلة الأخرى، ولكن، بصفة عامة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، تتم العودة إلى تواريخ قريبة من (1916م - 1917م)، للإشارة إلى حدثين كبيرين؛ الحدث الأول: ما يسمى عادة بالثورة العربية الكبرى (1916م)؛ التي كان فيها نوع من محاولة لبناء دولة أو كيان سياسي، ناتج عن تخطيط لاستغلال ظرفية ضعف المركزية للدّولة العثمانية في شكلها الإمبراطوري المعروف تاريخيًّا. أما الحدث الثاني: فيشير إلى اتفاقيات سياسية بين قوّتين استعماريتين كبيرتين، هما؛ فرنسا وإنجلترا، والحدث معروف والاتفاقات معروفة، تحت اسم شهير في التاريخ، وهو اتفاقيات (سايكس- بيكو) نسبة إلى موظفين لدى وزيري خارجية الدولتين، مارك سايكس الإنجليزي، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو. أنا أعتقد أن هذين التاريخين مهمين جدًّا، وهناك في سياقهما بدايات لتشكل نَوَايات الدّول العربية التي ستعرف بعد ذلك، خاصة في الخمسينات أو بداية منتصف الخمسينات، خمسينات القرن العشرين، بما أسميه الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية، دولة ما بعد استعمارية؛ لأنها أتت بعد مرحلة من الاستعمار دامت مددًا متقاربة، أطولها كانت بالنسبة إلى الجزائر مائة واثنين وثلاثين سنة. ولكن، كانت هناك مدد أقصر، فمثلًا، بالنسبة إلى تونس؛ دامت ثلاثة أرباع القرن تقريبًا. ومن ناحية أخرى، أشير بذلك التوصيف، إلى أن كل الرقعة العربية شهدت تشكل هذه الأجهزة، والتي نسميها دولة بمسارات مختلفة كانت كلها تالية للفترة الاستعمارية. ومن هذه الدول، ما كان ناتجًا عن حركة تحرر عربية فيها، حتى حرب تحريرية دامت، إلى حد مّا، ولكن كانت منها أيضًا بعض التكوينات الأخرى، نتجت عن تلك الهندسات الجغرافية السياسية التي وُضعت أسسها ضمن اتفاقيات (سايكس- بيكو). ما أقصده بالدّولة ما بعد الاستعمارية العربية، هو: هذه الدّول التي تشكلت، تقريبًا، على مقاس التقسيمات التي وردت في "سايكس- بيكو".
في سياق بناء هذه الدول، نضيف تعقيدًا إضافيًّا على ما أشرنا إليه في البدايات التقديمية لحديثي هذا، وهو: أن الفارق بين بناء الدّولة، بوصفه قرارًا سياسيًّا، يعتمد تكتيل الموارد الإدارية والسياسية لبناء كيان دولوي، مركزه الجهاز الذي يحتكر ممارسة العنف الشرعي، وبين التشكل القومي الذي يمكن أن يدوم. ومن التعقيدات الإضافية: أن هذه الدولة ما بعد الاستعمارية العربية هي دولة قطرية، بمعنى؛ أنها تتحكم في أجزاء من الرقعة الجغرافية، التي يفترض أن الأمة العربية تمتدّ عليها، ويتأتى هذا التعقيد الإضافي من كون التشكل القومي العربي، في معناه الهوياتي، مديد في التاريخ، في حين أن الدّولة العربية، التي أشرنا إليها، وجودها ضعيف بمعنى قصر المدة التاريخية. هي، على الأقل، ليست تمتد في التاريخ نفس امتداد هذا التشكل القومي، وأكثر من ذلك؛ هي عندما بنيت لم تتحكم، أو لم توجد، إلا في رقاع جغرافية لا تتوافق، أبدًا، مع الامتداد الجغرافي لتشكل الأمة. هذا تعقيد إضافي أول، وهو مهم؛ لأنه ينزع شرعية بناء الدولة، أكثر ممّا هو معتاد بالنسبة لدول أخرى، من منظور التباين بين التشكل القومي وبناء الدولة؛ لأن ذلك التباين في حالة هذه الدولة العربية ما بعد الاستعمارية، يجعلها تعيش قضية شرعية بالنسبة إلى حدودها، بوصفها حدودًا إدارية وسياسية على الأرض.
التعقيد الإضافي الثاني، وهو أيضًا، تعقيد مهم، بمعنى؛ أنه مؤثر في التاريخ، وهو: أن هذه الكيانات الدولوية القطرية العربية، بنيت على أساس اختزال آخر؛ حيث إنها لم تأخذ بعين الاعتبار، مثلًا، وجود تعدد إثني، وتعدد لغوي، وتعدد ديني أحيانًا، وتعدد مذهبي وطائفي، .....إلخ. بإمكاننا أن نلاحظ ذلك بيسر مثلًا، وأستعير، هنا، بعض المعلومات والتحليلات من مقال لعالم الاجتماع العراقي (فالح عبد الجبار)، عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بعد فترة الانتداب البريطاني (1920م-1932م)، كان فيها بعضًا من التعقيدات الإثنية، في المعنى الأقوامي، أو في المعنى القومي (العرب، والأكراد، ...)، والتعقيدات الدينية (مسلمون، مسيحيون، فرق دينية أخرى، وحتى الصغيرة منها)، وتعقيدات أخرى على مستوى اللسان، وتعقيدات على مستوى الطائفة أو المذهب (السنة، الشيعية، ...إلخ)، ولكن هذا المثال، ليس مثالًا مستثنى أو استثناء؛ إذ نجد نفس التعقيدات، تقريبًا، في سورية، ونجد تعقيدات أخرى بأشكال أخرى، مثلًا، في الرقعة الجغرافية التي بنيت فيها الدّولة المصرية. أعود، هنا، إلى مقال ترجمته منذ أكثر من سنتين أو ثلاث لـ (ساتاني شامي)؛ رئيسة المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، بحثت فيه كيفية استخدام مفهوم الأقلية وفكرتها، في بدايات القرن العشرين في الصحافة المصرية، وفي المناقشات السياسية، وحتى في مناقشات الدستوريين، والخبراء القانونيين، ...إلخ، بينت الكاتبة في مقالها: أن مفهوم الأقلية، يندمج إلى حد ما مع مفهوم الطائفة، ويندمج إلى حدّ ما مع مفهوم الذّمة، ويجد الكثير من العسر في الانطباق على بعض المجموعات، ومن بينها (الأقباط) رئيسيًّا، ولذلك علاقة بمفاهيم الوطنية والقومية.
بإمكاننا أن نستمر في سرد الأمثلة، ولكن الأهم؛ هو أن نستنتج أن هذا التعقيد الإضافي في التباين المعتاد بين التشكل القومي العربي، وبناء الدولة في الحالة العربية، تعقيد مهم جدًّا وذو بال؛ إذ نحن نتحدث عن تعدد طائفي، وعن تعدد ديني، وعن تعدد لغوي، ...إلخ، بحيث كان من المفروض من هذا التشكل القومي في معناه الهوياتي الجامع، ضمن سياقات تشكيل الأمم الحديثة، أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التشكل المتنوع والمزركش في العمق الثقافي، لم يحدث هذا، كما لم يحدث عند بناء الدولة العربية الحديثة.
وفي ذلك تعقيد إضافي آخر، وهو لم يحدث، ليس فقط لأن هناك غيابًا للتطابق بين القومي في معناه الثقافي، والدولوي في معناه السياسي؛ بل، أيضًا، لأن الدولة، وحتى عندما بُنيت، تولت من منظور أعماقها الاجتماعية، حَسْم الخلافات القائمة بين المجموعات الاجتماعية في اتجاهات محددة؛ حيث إن الدولة لم تكتف، مثلًا، بأن تعلن أنّها مسلمة؛ بل هي تعلن أنّها مسلمة، في حين تستبطن فكرة أن الإسلام سنيٌّ رئيسيًّا، من دون أن تشير إلى إمكانية أن تكون هناك تأويلات أخرى لهذا المفهوم، طبعًا، هناك الإشكال المعروف، وهو؛ أن الدولة بوصفها بناء إداريًّا، وسياسيًّا، وقانونيًّا يجد عسرًا في التطابق مع مفاهيم واسعة، مثل؛ الإسلام بوصفه دينًا، هذا أمر مفروغ منه، ولكن حتى عندما نقبل بإمكانية التطابق، نحن نخفي حقيقة أن في داخل هذا البناء، يوجد اختزال اجتماعي؛ حيث إننا نضع الطائفة في موقع الممثل عن كل الدين، ونضع المذهب في موقع الممثل عن كل الدين الذي يحتمل اختلافات داخله.
بل أكثر من ذلك، وهذا تعقيد إضافي آخر، عندما نتثبت في القوى الاجتماعية الحاملة لمشروع الدّولة، نجد أنها ترتبط، مثلًا؛ ببعض البرجوازيات المنحصرة في بعض المدن، كأن تكون برجوازية دمشقية، أو بغدادية؛ أي كأن تكون ذات أصول مرتبطة ببعض الفئات الاجتماعية، وبعض المدن، ....إلخ.
إذن، نحن ضمن تعقيدات كبيرة جدًّا، تجعل المدى التاريخي لشرعية الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية مدى قصيرًا، ولذلك، أوجدت الدولة ما بعد الاستعمارية العربية جملة من الأدوات الإيديولوجية، التي عملت من خلالها على أن تحسم بعض هذه الإشكالات، وهي، كما رأينا، إشكالات عميقةً جدًّا، ومن بين تلك الإيديولوجيات ما يمكن أن يوضع تحت عنوان الإيديولوجيا الوطنية.
الدول ما بعد الاستعمارية العربية، بقطريتها، وبمحدوديتها، قدّمت نفسها على أساس أنها تمثل نتاجًا لمسار من البناء الوطني، يمكن العودة به إلى الفترة ما قبل الاستعمارية؛ حيث تقدم الدّولة نفسها على أنها تتجاوز هذه الفترة التاريخية الحديثة والمعاصرة التي تأسست فيها، في حين توضع الفترة الاستعمارية بين قوسين، وكأنّها نوع من الانقطاع المؤقت، في تاريخ وجود الدولة على تلك الرقعة الجغرافية، التي تمد نفوذها عليها؛ بل هناك بعض الإيديولوجيات الوطنية، وهنا، يمكن أن أستشهد بالمثال التونسي، تحاول القول: إن الدولة الوطنية، ما بعد الاستعمارية، في تونس نتاج ثلاثة آلاف عام من الحضارة، وتذكر بعض المحطات التاريخية التي تحاول أن تجسد من خلالها ذلك التواصل المزعوم، ...إلخ، وبذلك، تقدم على أساس أنها نوع من النتاج التاريخي الممتد جدًّا، طبعًا، هذه بناءات إيديولوجية تصطدم بجملة من الحقائق على الأرض.
هناك مسألة أساسية يجب أن ننتبه إليها، في سياق النظر إلى الإيديولوجيات المشرعة للدولة ما بعد الاستعمارية العربية، بالإضافة إلى التبرير الإيديولوجي السابق؛ فهناك نوع آخر من التبرير، أو التشريع، أو الشرعنة، يرتبط بالسياسات التي سلكتها تلك الدولة، وقدّمت دائمًا على أساس أنها سياسات تحديثية. وبالفعل، قدمت الدولة ما بعد الاستعمارية العربية نفسها، دائمًا، على أساس أنها دولة ذات برنامج تحديثي، وزعمت أنها هي التي تحدّث المجتمع عن طريق تحديث التعليم، وتحديث الاقتصاد، وعن طريق خوض بعض السياسات، التي توضع تحت عناوين من قبيل؛ تأميم الثروة الوطنية، وبناء الدولة الحديثة، والمدنية، ...إلخ. وطبعًا، هناك الإشكالية الكبرى؛ إشكالية الديمقراطية، التي سأعود إليها بعد حين، ولكن، وبصفة عامة، البرنامج الذي وضعت الدولة ما بعد الاستعمارية العربية نفسها تحت مظلته، هو برنامج التحديث؛ تحديث التعليم، وتحديث الاقتصاد، وتحديث لإدارة، ....إلخ، وتم الاشتغال على هذا البرنامج التحديثي، الذي اتخذ بعض الصبغات الخاصة في بعض المواقع، كأن يكون هناك تجديد في قوانين الأحوال الشخصية، أو يكون هناك تحديث لكيفيات التدبير المجتمعي، ...إلخ. وأنا هنا، أتفادى ذكر بعض الأمثلة القطرية المخصوصة، لكي أحافظ على الوجهة العامة للتحليل.
ولكن ما لا يذكر عادة في مثل هذه التحليلات، التي تؤيد وجاهة هذه التبريرات الإيديولوجية، أو هذا الادعاء بوجود برنامج سياسي تحديثي، هو: أن السياسات التحديثية، وفي حقيقة الأمر، تختزل عند تقديمها، كما أشرت، في بعض الإصلاحات القانونية التي تهم بعض الأجهزة، وتهم بعض السياسات العمومية. التحليلات المؤيدة لوجاهة هذه التبريرات، تتناسى أن سياسة الدّولة يفترض فيها أن تكون سياسة عامة، بمعنى تكونها من مكونات متعدّدة؛ حيث لا يكون التحديث القانوني، مثلًا، أو التحديث في مجال التعليم، ...إلخ، إلا وجهًا من أوجه هذه السياسة. لقد وضعت إدارة الثروة الوطنية ضمن سياسات الدولة ما بعد الاستعمارية العربية مثلًا، وبصفة عامة، تحت عناوين من قبيل؛ التأميم، أو حتى من قبيل الإصلاح الزراعي في بعض الأحيان، وإعادة توزيع الثروة في أحيان أخرى، في حين لا يشار إلى أن سياسة إدارة الثروة الوطنية، يفترض فيها أن توضع، بوصفها عنوانًا أكبر من هذا، وضمن العناوين الكبرى لسياسة الدّولة، يقرب أو يبعد عمّا برز في الحركات الاجتماعية، وضمن الحركات الوطنية العربية، مما يمكن وضعه تحت شعار كبير؛ هو العدالة الاجتماعية. فعندما نعود إلى تاريخ حركات التحرر الوطني، والحركات الاستقلالية العربية، نجد داخلها انقسامات حول قضايا العدالة الاجتماعية؛ حول قضايا المساواة، وحول قضايا الإنصاف، ...إلخ، ولكن يتفادى الخوض فيها، أو يعمى عليها، بحيث لا تمثل نقاطًا هامة، أو واضحة، أو بارزة، في برنامج الحركات الاستقلالية، والوطنية، والإصلاحية، والدستورية العربية. وترث سياسات الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية هذه التعمية، فتكثر في سياساتها الاجتماعية المناطق الرمادية، والغير واضحة، ....إلخ، وهو ما يمثل، في الحقيقة، انحيازًا لنمط معين من إدارة الثورة الوطنية، والتدبير الاقتصادي-السياسي، فضلًا عن علاقة كل ذلك بالسوق العالمية، وانقساماتها، واختيارات الدول ما بعد الاستعمارية العربية، في كيفية بناء العلاقة بين تلك السوق والسوق الوطنية.
نتج عن ذلك؛ أن المحاججة بأن سياسات الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية شرعية، وموافقة للتاريخ، وتقدّمية، بمعنى أنها (تحديثية)؛ حيث تريد أن تخرج بالمجتمع من حالاته التقليدية والقديمة، وحالاته المتخلفة، أو حالاته ما قبل الحديثة، ...إلخ، هي محاججة تتناسى بأنها سياسات، بهذا المعنى، غير جامعة وطنيًا؛ لأنها تمثل مصالح محدّدة إزاء مصالح أخرى لا تجد لها تمثيلًا فيها، فعندما نجمع شعار التحديث، بوصفه تمدينًا؛ أي بوصفه رئيسيًّا وبناء لدولة حديثة، توضع كل سياساتها تحت عنوان التحديث، نكون بصدد الفصل بين هذا وحقيقة السياسات غير العادلة اجتماعيًا، وعندها، لا نرى هذا التناقض بين شعار تمديني وتحديثي، ومحتواه الاجتماعي الذي لا يمكن أن يكون إلا مناقضًا للشعار.
لا يمكن أن تكون الدولة حديثة/مدنية، في حين أنها لا تمارس، على الأقل، مستوى أدنى من العدالة الاجتماعية، ولا تمارس، ضمن نظامها السياسي، مستوى أدنى من التداول الديمقراطي في السلطة، أو المشاركة الديمقراطية فيها، وفي حين لا تمارس حدًّا أدنى معينًا من وضع آليات المشاركة السياسية، بحيث تسمح للتعبيرات الاجتماعية المختلفة بالمشاركة في بناء الدولة.
إذن، وبهذا المعنى، لا تكون السياسات التحديثية إلا فئوية، بمعنى أنها؛ غير جامعة، وغير ميسرة لانبثاق آليات الانصهار الاجتماعي المطلوبة لبناء دولة حديثة وبالذات حديثة.
بالإضافة، إذن، إلى التعقيدات التي كنا نشير إليها أعلاه، هذه تعقيدات أخرى في التباين بين التشكل القومي، وبناء الدولة العربية ما بعد الاستعمارية، وهي تعقيدات ذات أعماق اجتماعية، ولها أبعاد تاريخية مهمّة جدًّا.
ما الذي حدث في السنوات الأخيرة حتى ننهي الحديث بهذه النقطة؟ ما حدث أن كل هذه التناقضات، التي كانت كامنة ومخفيّة، اندلعت وكأنها تنفجر دفعة واحدة.
بطبيعة الحال، قد يأتي هذا الاندلاع لأسباب خارجية؛ فهناك الضغوط الخارجية التي مورست وتمارس على الدّولة العربية ما بعد الاستعمارية، في محاولة لفرض سلوك سياسي عليها، ذلك الشعار الذي رفع لسنوات طويلة لفرض الديمقراطية على بعض الدّول العربية ما بعد الاستعمارية، وبشكل خاص، من الخارج وحتى بالقوة، وقد اتخذ ذلك شكل التدخل الخارجي، أحيانًا، وهو الذي كانت ذروته الهجوم على العراق، والذي آل إلى تفكيك الدولة العراقية، .....إلخ.
بإمكاننا أن نضرب أمثلة أخرى لهذه العوامل الخارجية، ولكن هناك عوامل داخلية، أيضًا، من بينها: ما برز من مطالب للحركات الاجتماعية، إذْ أصبحت أكثر فأكثر إلحاحًا، خاصة مع بداية القرن الواحد والعشرين الجديد، هذه المطالب لو تثبتنا فيها، لوجدنا أنها نوع من التعبير عن حالات التناقض الحاد، بين الإعلانات التي كانت تضع الدولة العربية ما بعد الاستعمارية نفسها في ظلها، وبين الوقائع التي كانت تجري على الأرض، في مستوى التشكل الثقافي المتجدد للأمة، من حيث هو ترتيب جديد للتراتب؛ ثقافة- مجتمع- دولة.
لنأخذ قضيّة الثقافي، مرّة أخرى، في علاقته بالدّولة، والمقصود بالثقافي، هنا، هو: ما يتعلق بالتشكل الثقافي، مجسدًا في استمرارية المشروع التحديثي، الذي قدّمت الدولة العربية ما بعد الاستعمارية نفسها على أساس أنها مواصلة له. المشروع التحديثي العربي، بوصفه مشروعًا نخبويًا لدى نخب فكرية سياسية، دينية وغير دينية؛ هو مشروع قديم، يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن الدّول ما بعد الاستعمارية العربية، عند نشأتها في منتصف القرن العشرين، استحوذت على هذا المشروع التحديثي المدني، والذي كان نابعًا من قيادات ونخب فكرية، وسياسية، واجتماعية، وأدبية، وفنية حوّلته إلى مشروع دولة، ولأنه تحوّل إلى مشروع دولة؛ فإن المشروع التحديثي، تحول إلى عامل من عوامل الانقسام الاجتماعي، على أساس الصدع التي تحدثه السياسات التحديثية بين المستفيدين والمتضررين منها، وبما يناقض ما أسميته منذ حين الانصهار الاجتماعي، بوصفه انصهارًا وطنيًا عامًّا.
ما نلاحظه في شعارات الحركات الاجتماعية العربية الجديدة، التي تعود إلى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، وفي مطالبها، ومضمون احتجاجاتها؛ هو استعادة، بشكل ما، لبعض شعارات المشروع التحديثي العربي، على ما صاغته النخب الفكرية والسياسية منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولكن بشكل مجدد ومستحدث.
ظهور شعارات من قبيل الكرامة، الكرامة الوطنية، والحرّية، والمشاركة السياسية والديمقراطية، هو؛ نوع من التشكيل الجديد، أو التعبير الجديد، عن مطالب اجتماعية، أساسها وشرعيتها التاريخية موجودان في عدم التطابق بين العناصر التي كنا بصددها؛ الثقافة، والدولة، والمجتمع. لقد جعل عدم التطابق بين التشكل القومي الثقافي، وبناء الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية، شعارات الحركات الاجتماعية العربية تعبيرات احتجاجية، وفي نفس الوقت مطلبية.
احتجاجية على ماذا؟ احتجاجية على هدر الكرامة الشخصية وهدر الكرامة الجماعية للناس مثلًا. تفقد الدّولة بمناسبة رفع مثل هذا الشعار، بما يعنيه، أساسًا آخر من أسس شرعيتها؛ أي تفقد أساسًا آخر من أسس إمكانية تصديق إدعائها أنها تمثل المجتمع، وتتطابق مع بناءاته الثقافية، كما اتجهت نحوها الحركة التحديثية العربية، قبل أن تتخذ صبغتها الاختزالية والمنحازة؛ لأنها صارت مُدولنة.
هذا أمر مهم جدًّا، لماذا؟ لأننا نجد أنفسنا إزاء دولة تكتشف، هي ذاتها، أكثر فأكثر عدم تطابقها مع موجبات الانصهار الاجتماعي الذي ورد ذكره. وبالفعل، كان واحد من إدّعاءات الشعارات التحديثية التي رفعتها الدولة ما بعد الاستعمارية العربية، يزعم أنها دولة صاهرة، تتجاوز الانقسامات أو الصدوع، بين ذوي الانتماءات إلى، ما أُسَمِّيهِ (ما دون الدولة)، عنيتُ انتماءهم؛ إلى القبيلة، إلى العشيرة، إلى الجهة، إلى القرية، ...إلخ. ما الذي حدث واقعًا؟ انطلاقًا من المثال التونسي، وانطلاقًا حتى من أمثلة أخرى، وفي سياق الحركات الاجتماعية العربية الجديدة، التي أشرنا إلى اندلاعها في آخر العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، تحولت أطر الانتساب الأولية هذه؛ أي القبلية، والعشائرية، والجهوية، ...إلخ، إلى أطر استناد تجيب عن عدم إيفاء الدولة ما بعد الاستعمارية العربية بوعدها، بأن تكون شاملة لكل المجتمع وصاهرة لمكوناته، ذلك هو سبب من أسباب ما نلاحظه ويسمى، ولست أوافق على التسمية، بالعودة إلى القبيلة وإلى العشيرة، ...إلخ؛ أي إلى ما دون الدولة.
بل أكثر من ذلك، أعادت سياسات الدولة ما بعد الاستعمارية العربية التحديثية بناء خطوط الانقسام والتصدع والانكسار الاجتماعي، التي ترسخ الانتماء إلى ما دون الدولة، بدل تعزيز الانتساب إليها. أريد، هنا، أن أستشهد ببعض البحوث التي وردت في العدد الذي خصصته (مجلة عمران؛ الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول القبيلة)، الكثير من البحوث التي ظهرت في هذا العدد، تشير إلى أن السياسات الاقتصادية التي اتخذتها الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية، أعادت إنتاج شروط رسوخ تشكيلات ما دون الدّولة، ويقصَد بها؛ التشكلات الاجتماعية القبلية.
هذا تعقيد إضافي آخر في ترابط الثقافة، والمجتمع، والدولة، في راهن ما يُشْكِلُ على التاريخ العربي، ويتأسس هذا التعقيد، على أننا نجد أنفسنا أمام ثلاث مستويات:
- مستوى ما دون الدّولة؛ ممثلًا بالقبيلة، والعشيرة، والجهة، ومختلف شبكات الانتماءات الأولية، وهي شبكات يمكن أن تتجدد تاريخيًّا، كلما أظهرت الدّولة عجزًا عن استيعاب كل المكونات الاجتماعية، والعناصر الثقافية، التي تقوم عليها، وتدّعي تمثيلها.
- مستوى الدولة؛ وفيه كل التعقيدات التي أشرت إليها.
- مستوى ما فوق الدولة ما بعد الاستعمارية العربية القطرية؛ معبرًا عنه بمفردات التشكل الثقافي القومي، وفضلًا عن ذلك المكون، يمكن لمستوى ما فوق الدولة، أن يتجسد في كل ما هو عابر للقوميات، والحدود، والتخوم الثقافية على المستوى الدولي، وما بين القومي.
نحن، إذن، إزاء تعقد متزايد الكبر للعلاقات التاريخية بين الثقافة، والمجتمع، والدولة. وفي اعتقادي، ما يحدث الآن، هو: إعادة تركيب للتوازنات بين المكونات الثلاثة، بما أننا بصدد الاقتراب، أو بلغنا، وبشكل ختامي، انتهاء صلوحية الدّولة ما بعد الاستعمارية العربية.
أفق هذه، كما كنت أصفه، منسدّ تاريخيًّا، وأصبح غير قادر على إنتاج تشكيل جديد للعلاقة بين الثقافة والمجتمع والدولة، ولا على إنتاج مسارات انصهار اجتماعي جديدة.
أفق الدولة ما بعد الاستعمارية العربية، منسد تاريخيًّا؛ لأنه بات غير قادر على الجمع بين ما يمكن أن يمثل تشكلًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا ومبتدعًا، تتطور فيه الصلات بين ما هو ثقافي، وما هو مجتمعي، وما هو من ضمن الدّولة، في اتجاه يسمح ببنائها (الصلات) ضمن نهج مدني، ومواطني، وديمقراطي، منصفٍ وعادلٍ اجتماعيًّا، وبأفق وطني وقومي متحرر، على ما يجب أن يراعى من ذلك في البناءات الدولوية الحديثة.
سأختم حديثي بالإشارة إلى أن هذا الأنموذج الكبير، الذي اقترحت عليكم خطوطه العامة، ممكن التطبيق حتى في مستويات دنيا، وسأكتفي بالإشارة إلى مفهومين ممكني الاستعمال في هذا السياق:
إذا أخذنا جانبًا مفهوم الثقافة، ليس بمعناه الأنثروبولوجي الواسع، على أنه نمط للمعيش، وعادات، وتقاليد، وأنظمة فكر، ...إلخ؛ بل بمعناه الضيق المرتبط بالفنون، والآداب، والتعبيرات الفنية والأدبية، والممارسات الثقافية، ...إلخ، نتبين أن في سياسات الدولة ما بعد الاستعمارية العربية، في هذا المجال، أعطاب تاريخية واجتماعية عميقة إزاء مطلبين أو شعارين؛ الشعار الأول: هو ديمقراطية الثقافة. والشعار الثاني: هو الديمقراطية الثقافية. وبينهما اختلاف.
- ديمقراطية الثقافة: بمعنى إتاحة الفرصة لمختلف الفئات الاجتماعية؛ لأن تتعاطى الفنون والآداب، والتعبيرات الأدبية والفنية، وحيازة الإمكانيات العملية والمادية، من حيث التجهيزات ...إلخ، المخولة للإبداع ولتلقي الإبداعات، ولذلك مستويات تتعلق بالانتماءات الاجتماعية، وبالطبقات، وبالفئات، والشرائح، وبالأصناف المهنية الاجتماعية، فيما تتعلق بعض مستوياته الأخرى، بالتوزيع الأفقي للمنتوجات والإبداعات الثقافية، بعيدًا عن مراكز المدن الكبرى، والعواصم؛ أي بعيدًا عن التمركز الاحتكاري حول مجموعات أو فئات اجتماعية محدّدة.
- الديمقراطية الثقافية؛ بمعنى أن تتوفر لكل الفئات والجماعات الاجتماعية، ومهما كانت انتماءاتها الثقافية العميقة، الإثنية، والمذهبية، والإيديولوجية، والدينية، إمكانية التعبير عن هويتها الثقافية تعبيرًا حرًّا، ومواطنيًّا، ومدنيًّا.
في هذا الباب، فشل الدولة ما بعد الاستعمارية العربية واضح، وإن لم يكن لي، الآن في الحيز الذي لا يزال مفتوحًا، متسع للتدقيق فيه مع الأسف.
في هذين المجالين؛ مجال الديمقراطية الثقافية، ومجال ديمقراطية الثقافة، كان للدولة ما بعد الاستعمارية العربية، عجز اجتماعي وعسر تاريخي، ومجموعهما ما أسمته فشلًا في إدارة التوازنات والارتباطات ذات العلاقة، وهذان المثالان الأخيران؛ هما نوع من التطبيق على حالات مخصوصة، أحاول من خلاله إثبات أن النموذج العام قابل للتطبيق، على حالات خصوصية، ويمكن أن ينفتح النقاش في هذا.
قلتُ، في بداية حديثي: إنني أريد أن أختبر بعض التحاليل، وبعض وجهاتها، وأختبر، كذلك، كيفيات قبولها أو تقبلها. من المهم، أن نفكر جماعيًّا، بما يغني الفكرة، وذلك، على الأقل، بإبراز حدودها ونقائصها، أو الإشارة إلى الاستتباعات التي يمكن أن تتجه إليها.
ينفتح التفكير، هاهنا، على العملي، ولكني، هاهنا، لست في مجال الينبغيات؛ أي ما ينبغي أن نفعل، هذا ليس مجالي الآن؛ إذ نحن في مجال التفكير، واختبار الفرضيات، واختبار صلاحية المفاهيم، ووجود التنظيرات أو المناويل التفسيرية، ...إلخ.
كما ينفتح التفكير على المفاهيم، وعلى الإطار البراديغمي أو الإبستيمي العام، ...إلخ، كان من الممكن أن نسهب في توضيح المفاهيم، ولكن هذا يخرج عن السياق الراهن، ولا يمنع ذلك أن نتناول، باختصار، نقطتين:
- الحداثة: من بين ما ننفتح عليه الآن فكرة تعدد الحداثات، وما أقترح تسميته الحداثات المتنافذة. إعادة قراءة التاريخ بالاقتراحات التي اقترحتها، وبغيرها من الاقتراحات القريبة وذات الصلة، التي تفيد أن ما يقدم على أن الحداثة معرفة بمعنى وحدانيتها؛ هو حداثة من بين حداثات أخرى، ليست ممكنة فقط؛ بل وجدت فكانت في التاريخ أصلًا؛ بل هناك قراءات مفيدة في هذا الاتجاه، يمكن أن نعود من بينها؛ إلى قراءة عالم الاجتماع والإناسة البرتغالي (بونافونتورا دي سوزا سانتوس) في اقتراحه ما يسميه سوسيولوجيا الغياب والحضور، أو التغييب والاستحضار؛ كلما استحضرنا أنموذجًا، مثلًا، في هذه الحال هو: أنموذج الحداثة الغربية، غيبنا حداثات أخرى ومسارات تاريخية أخرى، ممكنة للحداثة؛ بل أكثر من هذا، هو يقترح أن نفكر في الحداثة الأوروبية الأنوارية، على اعتبار أنها تقدم على أنها المنوال، وأنها تستبطن في ذاتها، وفي منطلقها قيامها على نفي إمكانيات حداثات أخرى. وبالفعل، من المكونات الأساس للحداثة؛ حركة الاستعمار العالمي: من غزو أمريكا، بداية، إلى حد قولبة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على امتداد العالم ضمن قوالب محدّدة، ولكن التثبت في المسارات التاريخية الحقيقية، والالتزام بسوسيولوجيا الاستحضار والتغييب، يدفعان إلى النظر إلى المسألة، لا كما اعتيد عليه إلى حد الآن، أكاد أقول: (من فوق)؛ أي من منظور ما استتب تاريخيًّا بوصفه أنموذجًا؛ بل (من تحت)، بحيث نتثبت في مسارات التدافع التي حدثت بين المشاريع التحديثية المختلفة، التي جالت في العصر الحديث في مختلف آراء العالم. على ذلك، تتسم ببالغ الأهمية كل تلك الإشارات المنهجية، من قبيل ضرورة إعادة النظر إلى التاريخ الكوني الحديث، من منظور المضطهدين، والمقموعين، والمستعمَرين، والمستلحَقين، والمستتبَعين، ومن منظور كيفيات تفاعلهم مع مشاريع التحديث الاستعماري، ومشاريع التحديث ما بعد الاستعمارية التي خَلَفَتْهَا، ومن دون أن نُغفل اشتمال هذه الجماعات ذاتها، وضمن صفوفها هي نفسها، على جماعات، هي ذاتها، مضطهِدة إزاء جماعات مضطهَدة، وجماعات مقموعة إزاء جماعات قامعة، وجماعة مستلحَقة إزاء جماعات مستلحِقة، وجماعات مستتبِعة إزاء جماعات مستتبَعة، طبعًا، ليس لدي الوقت للتدقيق في كل هذا، ولكن، بصفة عامة، أنا أقترح أن ننظر إلى كل هذا، على أساس أن التاريخ البشري، وعلى الأقل منذ غزو أمريكا: هو تاريخ حادثات متنافذة ومتداخلة تأخذ من بعضها البعض.
- التقليد: الاقتراح الذي قدّمته على خطى (بونافونتورا دي سوزا سانتوس) يمكن أن يعمم على قضايا أخرى، من بينها؛ قضية التقليد، البحوث السوسيولوجية والأنثروبولوجية المعاصرة، تدفع إلى تصور التقليد على أنه ليس شيئًا ثابتًا، على الرغم مما يدل عليه اسمه. التقليد: هو نوع من الابتداع، بمعنى شبيه بالمعنى الذي تحيل عليه الإشارات التي أشرت إليها بسرعة، إلى أن سياسات الدولة ما بعد الاستعمارية العربية، تعيد إنتاج التقليد بإعادة إنتاج؛ أنساقه، وأجهزته ومؤسساته (مثال القبيلة). ليس من الممكن، مثلًا، أن نفكر في التقليد الديني الإسلامي السني في مصر، دون أن نعتمد في عرض ذلك على مكون أساسي، هو مؤسسة الأزهر، والسؤال هنا، هل الأزهر مؤسسة تقليدية في معنى ثباتها على مرّ التاريخ؟ أم في معنى أنها تعيد تأسيس التقليد في كل مرّة تنتج فيها موقفًا أو توجهًا نحو منحى محدد في الإفتاء والفقه، أو طريقة في التدريس، أو طريقة في وضع الأفكار الأساسية الدينية؟ وبالإجمال، كانت السياسات العمومية التي اتخذتها الدول ما بعد الاستعمارية العربية، تجاه الحقل الديني، وتجاه المؤسسات الدينية: هي إعادة مأسسة هذا الحقل، أو إعادة بناء العلاقات فيه، بحيث أعيد إنتاج التقليدي من جديد. والدليل على ذلك؛ أنّها مؤسسات حديثة، بمعنى؛ أنها تتبع الدولة الحديثة، ولكنها تنتج التقليد في الأفكار وفي التوجهات.
التدقيق المفاهيمي الذي كنا بصدده في مثالي الحداثة والتقليد، يعتمد معطيات سوسيولوجية وتاريخية؛ إذ للمفاهيم تواريخ، كما لها أسس اجتماعية. وفي اعتقادي، يمكن في هذا السياق، اعتماد منهج أساسه مراعاة ما أُسمّيه جدليات متعدّدة التحديدات في كل الاتجاهات؛ من المجتمع إلى الدولة، ومن الثقافة إلى الدّين، ومن الدين إلى قواعده الاجتماعية، ومن المؤسسة إلى الفكر، ...إلخ. ويسمح ذلك، في اعتقادي، بأن نوسّع المناقشة على أساس مبدأ تتأسس عليه العلوم الاجتماعية الحديثة والمعاصرة؛ هو مبدأ النسبية الثقافية. يقتضي ذلك أن ننظر في كل مسألة باعتبار وجود سياقات متعدّدة لما يبدو أنه واحد، ويوضع تحت عنوان واحد، هذا أمر مهم؛ لأنه ينفتح، أيضًا، على قضية أخرى.
إزاء ما اقترحتُ من وجود مستويات دون الدولة، والدولة وما فوق الدّولة، يمكن أن يجاب بوجود مراحل ما قبل الدّولة، فالدولة، ...إلخ، الإشكال، هنا، حسب وجهة نظري، هو هذا التحقيب. هل من الممكن أن نتصور مسار الدولة، على أساس أنه مسار أحادي له غاية معلومة ينزع نحوها، طبعًا، لابدّ هاهنا، من التعريج على (هيغل)، وعلى كل التنويعات على الفكرة الهيغيلية للدولة، تجسيدًا للفكر المطلق أو للروح المطلقة، كما ورد في بعض الصياغات.
لقد اقترحتُ أن نفكر في مسارات الحداثة على أنها مسارات متعرجة، بحيث تحتمل، حتى ما يعتبر بين مزدوجتين نكوصًا إلى الوراء، واقترحت نفس الشيء بالنسبة إلى التقليد، بحيث نرى بوضوح إظهار أنماط من التشكلات الاجتماعية، مثل؛ القبيلة، أو العشيرة، أو ....إلخ، القدرة على الاستمرارية على امتداد هذا التاريخ العربي المعاصر، وعلى الرغم من وجود مؤسسات الدولة التحديثية، يقتضي أن لا يصح تصوير الأمر على أنه ما قبل، ثم ما بعد، ....إلخ. أرى أننا، مرة أخرى، في نطاق فعل جدليات متعددة التحديدات، وما يهم فيها؛ هو الذي يقوم به الفاعلون في الابتداعات التي يختلقونها ويخترعونها، بإقامة التوازنات في علاقة بما يشيدون من صلات بالسلطة السياسية، مثلًا، في ما يهم قضية المشاركة السياسية، أو قضية المواطنة، إلى آخره.
يصح اعتماد نفس المنهج، أيضًا، في قضايا أخرى، ومن بينها؛ هذه التي أختم بها ما تتفضلون بالاستماع إليه من حديثي هذا، على خلاف ما يقال في الكثير من التحاليل والصياغات، فأنا أعتقد: أن الإسلام السياسي، بوصفه صياغة خاصة لعلاقة الدّين بالثقافة، علمًا أن الدّين؛ هو جزء من الثقافة. ولعلاقة الثقافة مجسدة في الدين بالسياسة، ينتمي إلى حقبة، هي بصدد الانقضاء مع انقضاء الدولة، ما بعد الاستعمارية العربية؛ لأن ما ظهر من تجارب الآن، يثبت أن فكرة التغيير بوصفها انخراطًا في سياق التشكل المتجدد للأمة، وعلى قاعدة التوازنات الجديدة التي أشرنا إلى ضرورة تأسيسها بين الثقافي والمجتمعي، والسلطوي والدولوي، ...إلخ، ليست في وارد تفكير الإسلام السياسي، ولا برامجه السياسية؛ لأنّ قضيته قضية حكم، وقضية سلطة، وقضية الوصول إلى السلطة من أجل هندسة المجتمع. الأفق التاريخي، الذي تحدّثنا عنه، على أنه؛ أفقٌ منسدّ تاريخيًّا في وجه الدولة ما بعد الاستعمارية العربية، وأفقٌ ما بعد إسلامي، بهذا المعنى، بمعنى؛ أنه سيجترح حلوله وآفاقه من منظور ما بعد إسلامي. بمعنى؛ انسداد الأفق التاريخي لإمكانية هيكلة الإسلام السياسي للسلطة السياسية في علاقتها بالجمهور؛ ففي علاقتها بمجال نفوذها، بوصفه؛ مجالًا ترابيًّا جغرافيًّا، بالمعنى المادي أو الفيزيائي للكلمة. وبوصفه؛ مجالًا سياسيًّا لممارسة السلطة. وبوصفه؛ مجالًا ثقافيًّا، لتشكل الأمة ثقافيًّا وإعادة تشكلها.
الاحتمال الأقصى في أفق الإسلام السياسي، ورد في إعادة تشكيل للدولة تحت عنوان "الدولة الإسلامية" (بعد أن كانت (داعش)، بما يعني التوسيع في المعنى، في اتجاه المزيد من إطلاقيته)، بما هي دولة تبني سلطتها، ونظامها السياسي، وسياساتها العمومية، انطلاقًا من مبدأ هو، في نهاية الأمر؛ مبدأ ثقافي، ومبدأ ديني، وليس في هذا تجديد؛ بل هو مجرد قلب لما كان من علاقة السياسة الحاكمة بالدّين. الدولة الحديثة ما بعد الاستعمارية، كانت توجّه الدين انطلاقًا من مصالح الدولة، أو ما يقدم على كونه مصالح للدولة ولنظامها السياسي، في حين، نجد في هذا المشروع (الجديد) تصوّرًا دينيًّا، وهو بالضرورة تصور مخصوص مذهبيًّا وطائفيًّا، وفي تصوره لعلاقة الناس ببعضهم البعض، وعلاقتهم بالسلطة، يبني السياسة على أساس أنموذج ثقافي، بدلًا من الأنموذج السياسي الذي كان، فهذا ليس إلا قلبًا، والقلب لا يخرج المسألة من مأزقها، وهو مأزق تاريخي.
لقد أشرتُ إلى أن الأفق اللااستعماري لهيكلة متجددة للعلاقة بين الثقافة والمجتمع والدولة، أفق مدني مواطني، وفي ذلك أكثر مما هو مجرد قلب للعلاقات، مثلًا، بين زوج واحد من المكونات الثلاث جميعها. هذا جانب آخر من المناقشة لذات المسألة بذات المنهج الذي اقترحتُه، وفيه نوع من المجادلة والتوضيح لبعض الأفكار، وأخذ لأفكار أخرى بنظر الاعتبار.
أشكركم، مرّة أخرى، على تفضلكم بالتفاعل الكريم على ما قدّمت، وأشكر، مرّة أخرى، مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث التي تفضلت بتوفير فرصة لقائي بكم، وأدعوها بشدّة وحماس أن تواصل ما بدأت فيه من إثارة مثل هذه القضايا، وتنظيم مثل هذا التفكير المشترك.
([1]) نص المحاضرة التي نظمتها "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، وقدّمها: الدكتور منير سعيداني، بصالون جدل التابع للمؤسسة، في مدينة الرباط، بتاريخ السبت 24 ديسمبر 2016م.