الثّورة السياسية وإيديولوجيّة العُنف: موسى عليه السّلام أنموذجاً
فئة : مقالات
العنف في الضّمير العالمي:
تحظى ثنائية السّلام والعنف بالكثير منَ الاهتمام العالمي، رصداً وتتبّعاً وتحليلاً، حيث يمتدّ تأثيرهما إلى مساءلة الواقع الثَّقافي والدّيني والسّياسي الّذي يسهم بشكلٍ أو بآخر في إفرازهما وإخراجهما إلى حيّز الوجود. لعلّ المتتبّع لمسلسل الأحداث والصّراعات العالمية، يرى تجليّات التّأثير الدّيني والثّقافي على الواقع الإنساني، إذ يظلُّ السّؤال مطروحاً، ما دام هذا التّداخل ممكناً بين ما هو سياسي وديني، خاصّة بصعود تيّارات دينية، وحركات تعتمد على الدّين في التّأسيس لإيديولوجية العنف والعنف المضاد[1]. وما لمْ نجبْ عن سؤال المرجعيات التّي ينهل منها كل فكر، تبقى كلّ المقاربات التّي من شأنها وضع اليد على مكامن الخلل، مجرّد رؤى تبسيطية تصف أكثر مما تحلّل، وتنتقي أكثر مما تتعمّق في بلورة رؤية نقدية لمواضيع تمتدّ بحساسيتها إلى الواقع بمختلف تجليّاته.
إنّ النّاظر في تسلسل الأحداث العالمية، وكلّ ما يجري من وقائع هذا الصّراع الدّامي الذي يفوق كلّ التوقّعات والتكهّنات، ليرى حجم البنيات المؤسِّسة للعنف في ثقافتنا، واختلاف المنابع والمرجعيات التّي ينهل منها كلّ طرف لتبرير إيديولوجيته، سواء في شقِّها الفكري أو النفسي أو الثقافي أو الاجتماعي. وما دامت ثقافة العنف مثَّلت دعامة مجموعة من الإيديولوجيات الدّينية، فإنّ ثقافة السّلام تقف في الوجه المقابل، لتؤسِّس أيضا معالم نظرية إنسانية، تستفيد من هذا التّراكم الإنساني في مختلف جوانب الحياة.
لا يندرج حديثنا هنا عن ثقافة العنف أو السّلام في إطار الخطاب التعبوي والدِّعائي، كما يقول عبد الوهاب المسيري: "حيث ظهرت مؤخرا مصطلحات تعبوية أخلاقية، مثل ثقافة السّلام وثقافة الحرب" ليست لها قيمة تحليلية أو تفسيرية كبيرة؛ فهي مصطلحات تخلق الوهم بوجود شيء عملي أخلاقي مطلق اسمه "السّلام"، مقابل شيء آخر غير عملي لا أخلاقي مطلق يسمّى "الحرب"... ".[2]
ففي الخطاب الدّعائي التعبوي حقيقة واحدة وهي الإيهام والتّضليل، حيث تشحن المفاهيم بحمولات مناقضة للواقع الموضوعي، يضيع معها الباحث في أفق من قلْب الحقائق والمفاهيم؛ فحديثنا هنا كما أشرنا سابقا، يتطلّع إلى مقاربة الموضوع من زاوية معرفية بعيدا عن الشّعارات، في محاولة لخلق فضاء ينعم فيه الإنسان بالحقِّ في العيش بسلام، وخروجا من نسق الثّقافة والفكر الدّيني والسياسي المشحون بالصّراع والصّدام، كما تتنبّأ له الفلسفات المعاصرة، خاصة تلك الفلسفات الموسومة بالنّهايات، كمشاريع موت الإنسان، والأخلاق، ونهاية التّاريخ والإيديولوجيا.[3]
ينطلق البحث من معطيات الواقع التّاريخي للفكر الدّيني وبنياته المؤسِّسة، كما يرتبط بموضوع الدّراسة من زاوية الوجود الإنساني ذاته؛ فالسّلام ليس نقاشًا أكاديميًا فحسب، تتزيّن به أروقة السّاسة والمثقَّفين، ولكنّه موضوع يلامس الحقَّ الإنساني في العيش والوجود والاختيار والإرادة. وما الإسلام في أبعاده إلاّ أحد تجليات هذا الواقع، حيث حصر القرآن الكريم الإنسان بين فئتين، إمّا مسلمين أو مجرمين، حينما قال: "أَفنجعلُ المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون"[4]، ليجعل بذلك الحدّ الفاصل بين بني الإنسان، هو هذا الفارق بين الإسلام والإجرام. وما الإسلام إلاّ ذلك البعد الذي يعطي الانطباع بالسّلام، كما جاء في بعض الرّوايات: "المسلم من سلم النّاس من لسانه ويده".[5]
لكنَّ انتقال مفهوم الإسلام من دلالاته الشّاملة، إلى مصطلح يخصّ فئة من النّاس، وحصره في جانبه الطُّقوسي، هو ما ضيَّق رحابة المفهوم، وساهم في تشكيل عقلية طائفية مذهبية لا تتجاوز حدود الأنا، إذ أنّ تضييق المفهوم كان نتيجة هذا التّعاطي مع القرآن الكريم بصفته نصًّا يحتاج لبيان، وما ذلك البيان إلا تلك الروايات التاريخية التّي تؤكِّد على سقف ومشروع منْ أسّس لها، كما أشار الصّادق النيهوم، حيث اعتبر أنّ ما سمِّي حديث جبريل الذّي حصر الإسلام في الأركان الخمسة، هو صناعة أموية بامتياز، حينما قال: "بأنّ اعتماد هذا الحديث في نظام إقطاعي، من طراز النّظام الأموي، فكرةٌ لا يقبلها الرسول ذاتُه، ولا يجوز شرعاً أنْ تنسب إليه".[6] فكانت بذلك الرواية جزءًا من المشروع الأموي في الحكم، إضافة إلى السّيف.[7]
من هنا، تتجلّى أهمّية هذا الموضوع في كونه قضية وجودية يرتبط بها الوجود الإنساني ذاته، يتوقّف عليها بقاؤه واستمرار حياته. فلا يمكن أنْ نتحدَّث عن تواصل ثقافي وحضاري، ولا عن أفق إنساني ينعم فيه هذا الأخير بالكرامة والحرية والعدالة والأمن الاجتماعي، إلاّ في ظلّ ثقافة يكون السّلم ركيزتها الأساس؛ فالنّاظر في هرَم ماسلو Maslou للاحتياجات الإنسانية، يرى بأنَّ الأمن جانب من الجوانب في هذه الاحتياجات[8]، وليس مجرّد قضية هامشية يمكن التّلاعب بها أو الاستغناء عنها؛ فالذّي يميز رؤية الدِّين للأمن الاجتماعي، هو أنّه خالف تلك الرؤى الاختزالية للأمن الاجتماعي التي اقتصرت على العوامل المادية، مثل الفلسفات الوضعية والمادية والنّفعية. فكانت بذلك رؤية جامعة لمقوِّمات الأمن الاجتماعي الدّيني منها، والفكري والمادي والإنساني، كعوامل مستقلّة ومتفاعلة لتحقيق ضرورات العمران والأمن الاجتماعي.[9]
يرتبط أيضا موضوع السّلام والأمن بمنظومة التّنمية البشرية المستدامة، إذ لا يمكنُ الحديث عن أيّة تنمية دون إدراج هذا العنصر الأساس؛ فهي تحتاج كما هو متعارف عليه إلى مناخ من الاستقرار والأمن، من أجل تعبئة الموارد لتحقيق الهدف المنشود. فمن هذا المنطلق، كانت جهود الأمم المتّحدة تنصبُّ حول حفظ السّلام العالمي، وضمان جوٍّ ملائم يحقّق بالحدّ الأدنى ما تصبو إليه المجتمعات في مسيراتها التّنموية؛ فتحقيق هذا المبتغى، ظلّ رهين مجموعة من الاعتبارات، لعلّ أهمّها صيانة الحريات الثّقافية، بما في ذلك الحرية الدّينية. فأيُّ تصوّر يريد قمع الحريات، وقوْلبة الإنسان في قالب واحد دون احترام مكوِّنات هويّته، يكون مآله الفشل في تحقيق نهضة الأمم؛ فالتّنمية البشرية إلى جانب تحقيق الشّروط الأساسية لإنسانية الإنسان، تعترف بحرية النّاس وحقِّهم في الانتماء الديني، وتضع حدًّا لكثير من الاضطرابات السّياسية التي يكون فيها الجانب الثّقافي والديني عاملاً سلبياً، يعرقل عملية التنمية البشرية.[10]
يحتلُّ موضوع السّلام، وكلّ ما يرتبط به من إشكاليات، مكانة كبيرة في النِّقاش العالمي الدّائر بين كل القوى السّياسية والثقافية والإعلامية، بما في ذلك المستوى الشّعبي، باعتباره قضية رأي عام عالمي تجاوز في أبعاده ما هو محلّي. والمتتبّع لمجريات الأحداث التي يشهدها العالم المعاصر، يرى أنّ بؤرة الصّراع الدائر بين مختلف القوى يديرها الجانب الإيديولوجي في شقَّيه السّياسي والدّيني. كما أنّ التّاريخ الإنساني وذاكرته تختزن الكثير من الأحداث المأساوية التّي كانت شاهدة على هذا الصّراع. فقضية السّلام لم تكن وليدة اليوم أو الأمس، وإنمّا هي نتاج تراكم التجارب الإنسانية التي يرتبط بها الوجود الإنساني ذاته، ويتوقّف عليها بقاؤه واستمرار حياته. فلا يمكن أنْ نتحدّث عن تواصل ثقافي وحضاري، ونتطلّع إلى مجتمع إنساني ينعم فيه هذا الأخير بالكرامة والعدالة الاجتماعية، إلاّ في ظلّ ثقافة يكون السّلم والسّلام ركيزتيهما الأساسيتين. من أجل ذلك تتالت الجهود البشرية في ترسيخ هذه المبادئ العالمية، ووضع اللّبِنات الأساسية في هذا الصّرح المتعالي، وصولاً إلى العالم المعاصر، حيث تتبلور هذه القيم بشكل ظاهر عبْر منظَّمات حقوقية، وسياسات دولية، ومجتمعات مدنية.
1-ثورة موسى عليه السلام وإشكالية العنف:
في مجتمع يسودُه الاستبداد، ونموذج سياسي شمولي، كما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: "قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد"[11].تتّضح معالم ثورة سياسية يقودها النّبي موسى عليه السلام، من أجل تحرير الإنسان، ووضع حدّ نهائي لنظام طائفي ظالم. لم يكن موسى بدعًا من الرّسل أو المصلحين أو من يقود ثورات بأسماء مختلفة، سواء كانت دينية أو سياسية أو ثقافية؛ فالثّورة التي قادها موسى سياسية بامتياز، لكنْ مساراتها عرفت استراتيجيات تأرجحَت بين تبنّي العنف والسّلم لقلب الأسُس التي بنى عليها فرعون فكره ونموذجه في الحُكم. فكما ذكر غوستاف لوبون، فإنّ الثورة مهما كان مصدرها، لا تصبح ذات نتائج إلاّ بعد هبوطها إلى روح الجماعات؛ فالجماعة تُتِمُّ الثّورة، ولا تكُون مصدرها، وهي لا تقدِر على شيء ولا تريد شيئا، إنْ لم يكن عليها رئيس يقودها.[12]
إنّ مثال موسى في القرآن الكريم هو مثال القائد الثّوري الذي يستند على أطروحة التّحرير في مجابهة نظام يستند على إيديولوجية شمولية لا تترك مجالا للمعارضة السياسية. فقد حصرت الصّواب والحقَّ المطلق في إيديولوجيتها القمعية، فلم تعد ترى الصّواب إلاّ في ما تراه أو تخطّط له: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".[13]ففي ظلّ هذا النّظام الطّائفي التّقسيمي ينشأ موسى، وفي قلْب هذه البيئة ينفذ إلى عمق المجتمع، ويرى كيف حوّلت الإيديولوجية الشّمولية النّاس إلى قطيع وعبيد، ليس لهم من إنسانيتهم إلاّ اتّخاذ الفرعون والمستبدّ ربّاً وإلهاً، ووسيلته في ذلك الآلة القمعية أو الجهاز القمعي والإيديولوجي للدّولة، بتعبير لويس ألتوسير. كلّ هذه الظّروف والملابسات، تجعل من موسى الرّجل الّذي يتشكّل لديه الموقف الصّريح من كلّ من شايع النّظام الحاكم، أو ناصر أطروحاته القمعية، ليجد نفسه أمام تجربة نقرأ فيها رحلة البحث عن التحرّر.
يجد موسى في قلْب التحوّلات ومخاطر الثّورة التي يمكنُ أنْ يصادفها، منْ يحمل لواء التّغيير رجلين يقتتلان؛ فيبدأ المشهد الإنساني الّذي يرويه القرآن الكريم "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوه فوكَزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبين قال رب إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم قال ربِّ بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين"[14].فلعل التأمّل في هذا السّرد القَصصي يعطينا انطباعاً واضحاً على خطورة التعصّب الحزبي أو الطَّائفي أو المذهبي. فكلّ إنسان يحمل عقائدية سياسية أو دينية، ولم يرتقِ ليستحضر البعد الأخلاقي والإنساني، لا بدّ له أنْ يصطدم بهول الهوّة التي يمكن أنْ ينحدر إليها؛ فهكذا دخل موسى عليه السّلام في نفق الانتصار الحزبي والطّائفي، فأراد مناصرة الذي من شيعته، والحقد على المخالف له، إلى درجة القضاء عليه والبطش به.
قد يظنّ الإنسان، في لحظة من لحظات مسيرته، أنّ القتل مبرّر في حالة الاستعصاء التاريخي، أو المراحل الحسّاسة التي تمرّ منها المجتمعات، خاصّة إذا ما اقترن هذا القتل بالانتقام من السّلطة الحاكمة القمعية أو السّلطوية. لكنّ الأمر يأخذ مساراً آخر، حين يدرك موسى عليه السّلام خطورة منهج القتل. كما سينتبه له أيّ إنسان بعده، يريد أنْ يتّخذ مسلك موسى طريقاً للإصلاح والحوار؛ فأقرّ على نفسه بأنّ هذا العمل لا يمكن أنْ يكون إلاّ وهمًا شيطانيًا، وليس عملًا منبعثًا من قناعات نفسية: "قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدو مضلٌّ مبين "، بل ويزيد الأمر توضيحا أنّ ما قام به من قتل لتلك النّفس، ولو كانت مخالفة له في الفكر والرّأي، هو جريمة بكلّ المقاييس الإنسانية، ويردع نفسه أن يكون من صنَّاع ثقافة الموت:" قال ربِّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين".
بالرّغم من هذا الاعتراف الحاسم لموسى بجريمته، يكرّر الأمر نفسه في الظروف نفسها مع رجلين آخرين: "فأصبح في المدينة خائفا يترقّب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنّك لغويٌّ مبين فلمّا أنْ أراد أنْ يبطش بالذي هو عدوٌّ لهما قال يا موسى أتريد أنْ تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إنْ تريد إلاّ أنْ تكون جبّارا في الأرض وما تريد أنْ تكون من المصلحين"[15]. إنّها النّفس إذا اتخذت طريق القتل مسلكًا لها في حلّ مشاكلها وقضاياها. وموسى وإنْ أقرَّ بجريمته يسقط فيها مجدّدا، لولا أنْ تنبَّه إلى حجم الهوّة التي قد تسقطه فيها عصبيته، أو تصوّره لحل مثل هذه القضايا: "أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إنْ تريد إلا أنْ تكون جبارا في الأرض وما تريد أنْ تكون من المصلحين".
فعلى من يسلك نهج موسى في تعاطيه مع حلّ القضايا بعصبية، أن يتذكَّر أنّه اعترف إلى ربّه بأنَّ هذا مسلك المجرمين وليس مسلك المصلحين، مهمَا حاولوا أنْ يُلْبِسُوهُ من تبريرات، أو أوهام صنعتْها الثَّقافة الاحتكارية لهم.
إنَّ ما نحمله في ثقافتنا، ونكرِّسه عبْر ممارساتنا لمفهوم الثّورة بأبعادها الرّاديكالية، لا يمكنُ أنْ يكون منهجًا للإصلاح، بعيدا عن الثَّورة الثَّقافية المتزامنة مع أيّة حركة إصلاحية؛ فثقافتنا مليئة بالأحداث والبنيات والوقائع التي تؤكِّد حضور العنف بوصفه بنية متأصِّلة، وليست عرضية في بعض المشاريع الدّينية، خاصّة حركات الإسلام السّياسي، إنْ على مستوى الخطاب أو على مستوى الممارسة والتنزيل الفعلي؛ فيكفي أنْ نقف سويًّا على حجم ما تحويه هذه البنيات المؤسِّسة للخطاب الإسلامي في شقِّه الحركي، لندرك خطورة مآلات هذا الفكر من خلال رواية مروية في كتب الحديث.
لكن قبل ذلك، لا بدّ من التّذكير بقاعدة نقد المتن، إلى جانب نقد الإسناد؛ ففي هذا الصّدد يقول ابن الصلاح في المقدمة، كما نقله عنه ابن كثير: "أَمَّا اَلْحَدِيثُ اَلصَّحِيحُ، فَهُوَ اَلْحَدِيثُ اَلْمُسْنَدُ اَلَّذِي يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ اَلْعَدْلِ اَلضَّابِطِ عَنْ اَلْعَدْلِ اَلضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا"، وقال: "والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذا أو معللا ".[16]
إذن؛ فالمستفاد هو أنّ نقد متن الأحاديث يستلزم أنْ تكون حصيلة معانيها ومقاصدها موافقة موازين القرآن الكريم، والعقل والمنطق، بعدم تعارضها مع مضمون آيات الله في القرآن الكريم، أو مقاصد الخلق والقيم الإنسانية، أو ما توصَّل إليه العلم، وصار حقيقة علمية في الكون والمجتمع والتاريخ.
*- عن رسول الله: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".[17]
إذا أردنا تطبيق القواعد المتعلّقة بنقد المتن على هذه الرّواية، نجدها تحمل مجموعة من المخالفات، لعلّ أهمَّها هو أنّ حصر حرمة الدّم والمال والعرض متعلِّق بالأُخوَّة في الدّين أو العقيدة، وليست الحرمة متعلِّقة بالجانب الإنساني فينا؛ فكان أولى أنْ تكون الرِّواية بهذه الصّيغة: "كلّ الإنسان على الإنسان حرام، دمه وماله وعرضه"، لأنّ القرآن الكريم نفسه حرّم قتل النّفس بهذا العموم: "ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ"، دون تحديد ماهية هذه النّفس أو جنسها أو عقيدتها. ولكنّ الرواية تنشئ خطًّا مباينًا للقرآن الكريم، حيث تقرِّر بمفهوم النّص بأنّ الدّم والعرض والمال حلال، ما دام الأمر متعلِّق بالمخالف دينيا وعقديا.
[1]- تبنت العديد من التيارات الدينية مسألة العنف في الدعوة أو التغيير. لعل أكبر الدعاة لهذا الطرح هو أبو الأعلى المودودي، الذي كان له تأثير على سيد قطب، حيث آمن هذا التيار بجاهلية أنظمة الحكم غير المستمدة من الشرعية الإسلامية، وبالتالي وجب العمل على إسقاط الطاغوت المعبر عن هذه الحكومات. والحال كما يذكر عبد الوهاب المؤدب أن المودودي هو الوحيد الذي فسر كلمة حكم بمعنى السلطان، لينقل بهذا التحريف التفسيري مجمل الحقل السياسي إلى الحيز الإلهي ليخوض الحرب على جميع الأنظمة السياسية، انطلاقا من هذا التسويغ القرآني. انظر مثلا المؤدب، عبد الوهاب. (2002). ترجمة، بنيس محمد، والمؤلف. أوهام الإسلام السياسي، (ط1)، بيروت. دار النهار للنشر. ص: 124
نفس الفكرة طرحها علي عشماوي في مذكراته عن التاريخ السري للإخوان المسلمين، حيث يروي مجموعة من الأحداث تبين بوضوح استعمال العنف داخل تيار الإخوان، حيث يقول: "إنهم يستبيحون الآخرين كل من ليس في الإخوان حلال لهم دمه وماله، ولهذا قاموا باغتيال المهندس سيد فايز حين خرج عن النظام التابع لعبد الرحمن السندي...". انظر، عشماوي، علي، التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، ص:15
[2]- المسيري، عبد الوهاب. (2002). اليد الخفية. دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، (ط2). دار الشروق. ص:5
[3]- أسطورة نهاية الأيديولوجيا هي من ابتداع بعض مفكري النظام الرأسمالي، وهم يحاولون الترويج لهذه الأسطورة، من أجل إخفاء الصراع الأيديولوجي، وإخفاء التناقضات التي تنطوي عليها الأيديولوجيا البرجوازية. انظر، أنور، أحمد، النظرية والمنهج في علم الاجتماع. ملف word. .
http://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=8521
[4]- سورة القلم الآية 36/35
[5]- في بعض الروايات في مسند أحمد. رقم الحديث: 301(حديث مرفوع) 301 قَالَ: وَأَخْبَرَنِي 301 قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: "مَنْ سَلَّمَ النَّاسَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". انظر الرابط التالي:
http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=39&hid=301&pid=12559
[6]- النيهوم، الصادق. (1995). الإسلام في الأسر من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة، (ط3). دمشق. دار الريس للكتب والنشر. ص: 52
النيهوم، الصادق.(2000). إسلام ضد الإسلام. (ط3). دمشق. دار الريس للكتب والنشر. ص: 21
[7]- الورداني، صالح.( 1999). السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي. (ط1). دار الرأي للطباعة والنشر والتوزيع. ص 168
الورداني، صالح.(1996). أهل السنة شعب الله المختار. (ط1). مكتبة مدبولي الصغير. ص: 25
[8]- انظر هرم ماسلو للاحتياجات على الرابط التالي:
http://www.uobabylon.edu.iq/sustainabilty/files/uobabylon.edu.iq/sustainabilty/files/هرم ماسلو للحاجات الانسانية.pdf
[9]- عمارة، محمد.(1998). الإسلام والأمن الاجتماعي. (ط1). دار الشروق. ص: 25/24
[10]- هريمة، يوسف، حرية الإيمان مدخل للتنمية البشرية. على الرابط التالي:
www.mominoun.com/arabic/ar-sa/.../الإيمان/.../posts
[11]- سورة غافر، الآية 29
[12]- لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص:26/25
[13]- سورة غافر، الآية 29
[14]- سورة القصص الاية 17/16/15
[15]- سورة القصص، الآية 19/18
[16]- ابن كثير، إسماعيل الدمشقي، اختصار علوم الحديث، ص: 12، على الرابط التالي:
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=9&book=976
[17]- صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله. ح 2564 على الرابط التالي:
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=7550&idto=7553&bk_no=53&ID=1195