الجدل العقائدي المسيحي الإسلامي خلال القرن الثامن الميلادي عند يوحنا الدمشقي
فئة : مقالات
يعد يوحنا الدمشقي من الرواد الأوائل الذين جادلوا ضد العقيدة الإسلامية وقد ساعده في ذلك تنشئته العربية وتكوينه اللاهوتي الذي تلقاه منذ صباه على يد معلّمه قزما الصقلى، فضلاً عن أنّ انتماءه الأرثوذكسي كان أحد عوامل تهييجه ضد مخالفيه داخل الديانة المسيحية، لمّا رأى ازدراء بعض التقاليد المسيحية، وظهور بعض البدع الجديدة. كل هذه العوامل وغيرها جعلت يوحنا الدمشقي يعتزل كل هموم الحياة، ويعتكف على التأليف والكتابة بغية الدفاع عن العقيدة المسيحية، فألف كتابه الموسوم بـ "المناظرة" (Disputatio)الذي يدور حول مجادلة بين شخصين: أحدهما مسيحي والآخر مسلم، تشتمل على مسائل كلامية وفلسفية، انتقد فيها يوحنا الدمشقي بعض قضايا الإسلام العقدية.
من خلال اطلاعنا على هذه "المناظرات" وقراءتنا لعناوينها الأساسية تبين أنّها تدور في مجملها حول ثلاث قضايا أساسية صارت فيما بعد أهم قضايا علم الكلام بعد أن استوي عوده وصار فنًّا وتكونت له فرق: القضية الأولى هي حرية الاختيار وقدرة الإنسان. والقضية الثانية هي طبيعة القرآن هل هو مخلوق؟ أم أزلي قديم؟. والقضية الثالثة هي طبيعة المسيح - كلمة الله عيسى - التي هي مخلوقة وفقاً للقرآن الكريم وهذا يعد هرطقة من المنظور اللاهوتي المسيحي.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار كتاب "المناظرة" هو بمثابة انعكاس لمجموعة من المسائل الكلامية التي شغلت أوساط المسلمين في زمن يوحنا الدمشقي، ومصدراً مهمًّا للمعلومات على هذا الصعيد، مع الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب يمثل، في حد ذاته، تعبيراً موضوعيًّا عن حقيقة المواقف المسيحية إزاء المسائل المطروحة، كما ينطوي هذا الكتاب على استجابة مسيحية للمسائل الكلامية والفلسفية، المتداولة في تلك الفترة، في قالب من حوارات مفترضة أو حقيقية مع المسلمين.
تغلب على هذا "المناظرات"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ثلاثة عناوين لثلاث قضايا كبرى أساسية، سنتطرق لكل واحدة منها على حدة، من خلال تتبعنا لمقتطفات الحوار والمناقشة بين مسلم ومسيحي:
1- القضية الأولى: قدرة الإنسان وحرية الاختيار:
عندما سأل المسلم المسيحيَّ قائلاً: من هو الخير والشر برأيك؟
المسيحيّ: نحن نقول بأنّ الله وحده خالق كلّ الخيرات، لكنه ليس خالق الشرّ.
أجابه المسلم قائلاً: من هو إذاً خالق الشرّ برأيك؟
المسيحيّ: أكيد هو ذاك الذي صار شيطانًا بملء رضاه، وكذلك نحن البشر.
المسلم: لأجل أيّ سبب؟
المسحيّ: بمقتضى حرّية الاختيار.
المسلم: ماذا إذاً؟ أو تملك حرية الاختيار، ويمكنك من ثمّ أن تفعل ما تريده وتفعله؟
المسيحيّ: لقد خلقني الله حرّاً في مجالين اثنين وحسب.
المسلم: لأيّهما؟
المسيحيّ: فعل الشر وفعل الخير، ما هو صالح وما هو سيء. وإذا ما فعلت الشرّ بالتالي فشريعة الله تعاقبني، أمّا إذا كنت أفعل الخير فلا أخشى الشريعة، بل أكافأ من الله وأنال رحمته على العكس من ذلك. وبالطريقة عينها خلق الله الشيطان حرّاً قبل الإنسان، لكنه خطئ فطرده الله من حالته الخاصّة. وقد تعترض عليّ قائلاً: "ما الذي تدعوه أشياء حسنة؛ وأشياء سيّئة؟ ها هي ذي الشمس والقمر والنجوم التي هي أشياء حسنة؛ فاصنع لك واحدةً منها" ما كلمتك به آنفًا لم يكن بهذا المعنى، فإني أفعل الخير والشرّ اللذين بمقدور الإنسان أن يفعلهما. مثلاً، الخير هو تمجيد الله والصلاة والإحسان وما يشابهها. أمّا الشر فهو الزنا والسرقة وكلّ عمل مماثل لهما"([1]).
عندما سأل المسلم المسيحي من هو خالق الخير والشر، أجاب المسيحي بأنّ الله وحده خالق لكل الخيرات، مؤكداً أنّ مصدر الشر هو الشيطان، والإنسان، وذلك بمقتضى المظاهر السلبية للإرادة الحرة أو حرية الاختيار. ومن المهم أنّ الرد المسيحي في المناظرة موجه بالضبط إلى المسيحيين البيزنطيين([2])، مع العلم أنّ هذه القضية المشكلة واجهها المسلمون حينما حاولوا التوفيق بين قدرة الله المطلقة وحرية الاختيار لدى الإنسان.
والمسيحي في المناظرة يؤكد للمسلم أنّ الله أعطى الإنسان القدرة على الاختيار بين عملين اثنين: أحدهما صالح، والآخر سيء، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ الله مصدر كل خير، وأنّه يجازي على فعل الخير، ويعاقب كل من اقترف الشر.
تدور هذه المسألة حسب يوحنا الدمشقي حول مفهوم أساسي مفاده، أنّه إذا كان الله خالق الأشياء جميعًا، فإنّ للإنسان قدرته، أيضاً على خلق أفعاله، ومن ثم قدرته على الاختيار ومسؤوليته المطلقة لمعرفة الخير من الشر. وهذا القول نفسه تقول به القدرية، وهذا ما جعل دانييل ساهاس (Daniel Sahas) يعتقد أنّ يوحنا الدمشقي مارس تأثيرًا مباشراً على هذه الحركة حيال هذه المسألة على وجه التحديد([3])؛ ومن المهم أيضًا أنّ الحسن البصري (توفي 728 للميلاد) الذي تعزى إليه هذه الحركة، كان معاصراً ليوحنا الدمشقي وزاهداً مثله في آن معاً. ومهما يكن، فقد اعتبر الحسن البصري قضاء الله هو نفسه ذلك الأمر الذي يوجّهه الله إلى الإنسان ليفعل أشياء محدّدة ويتجنب أشياء أخرى. وكونه زاهداً، فقد أصرّ البصري على أهمية التشدّد الذاتي مع النفس لتتسنّى للإنسان القدرة والإرادة اللتان تمكّنانه من تجنب كل ما يتعارض مع إرادة الله([4]).
ومن هذا المنطلق اتفق يوحنا الدمشقي والحسن البصري على أنّ حرية الاختيار ليست مسألة ينبغي الخلاف حولها، بل ما يستوقفهما على الأرجح، هو ما إذا كان لدى الإنسان سلطة ذاتية أو قدرة على ممارسة أفعاله.([5]) ومن الواضح أيضًا أنّ عقيدة "قدرة" الإنسان على خلق أفعاله ومسؤوليته عنها من ثم. كانت قد قوبلت بالرفض من جانب السلطة الأموية. ولذلك نجد الجدل الإسلامي المسيحي حول هذه العقيدة يتركز في دفاع المسلم عن مطلق القدرة الإلهية وفي نفي المسيحي لمسؤولية الله عن أفعال البشر([6]). وفي رد هذا الأخير على المسلم يقول:
"فإذا كان الخير والشر من الله كما تدّعي، فيبدو الله من ثمّ ظالماً؛ وهو ليس كذلك، إذا كان الله هو الذي أوصى الزاني بالزنى والسارق بالسرقة والقاتل بالقتل كما تدّعي، فهؤلاء الرجال يستحقون من ثمّ المكافأة على طاعتهم لمشيئته. وهذا يبرهن أنّ مشترعيك كاذبون وأنّ كتبك أكاذب، لأنّهم بتشويه الزاني والسارق اللذين لم يفعلا إلا الطاعة لمشيئة الله، وبقتل القاتل الذي كان ينبغي إكرامه لأنّه طبّق مشيئة الله!"([7]).
لكن المسلم أراد أن يورّط المسيحي حين يثير قضية أنّ الله هو الذي يخلق ويصور ما في الأرحام، وهو بذلك يسعى إلى تأكيد أنّ طفل الخطيئة مخلوق لله، ويسعى من ثم إلى تأكيد أنّ الفعل الإنساني لا يتم دون القدرة والإرادة الإلهيتين، فكان الجواب المسيحي على ذلك بما يلي:
"لا أجد قطعًا ما يثبت في الكتاب المقدس أنّ الله كوّن أو خلق أيّ شيء بعد الأسبوع الأوّل لخلق العالم. وإذا كنت تعترض على ذلك فأظهر لي خليقة ما أو صُنعة ما خلقها الله بعد هذا الأسبوع الأوّل. ولكنّك لن تقدر على ذلك لأنّ كلّ الكائنات المنظورة قد خلقت في أثناء الأسبوع الأوّل. وهكذا كوّن الله الإنسان إبان هذا الأسبوع الأوّل وأوصاه بأن يلد وأن يكون مولدًا، عندما قال: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض". وبما أنّ الإنسان كان كائنًا حياً يملك زرعًا حيّاً، فهذا الزرع قد نبت في امرأته الخاصّة. وهكذا يلد الإنسانُ الإنسانَ كما يقول الكتاب المقدس: "وولد آدم شيتا، وشيت ولد أنوش، وأنوش ولد قينان، وقينان ولد مهللئيل، ومهللئيل ولد بارد، وبارد ولد أخنوخ. لكنّه لا يقول بأنّ الله كوّن شيتا أو أخنوخ أو أيّ أحد آخر. ومن هنا نعلم بأنّ آدم كان الوحيد الذي كوّنه الله حتماً، أمّا أعقابه فقد ولدوا، وهم يلدون إلى الآن. وهكذا حُفظ العالم بنعمة الله، لأنّ كلّ نبات وكلّ عشب يُنتِج ويُنتَج عنه بموجب أمر الله منذ ذلك الحين، إذ قال الله: "لتنبِت الأرض عشباً وبقلاً". وبناء على أمره نمت الأشجار؛ وكلّ أنواع النباتات والأعشاب لها في ذاتها القدرة على التكاثر إذ هو حيٌّ بذار كلّ نبات وكلّ عشب. فإذا ما سقطت من ذاتها على الأرض، أو إذا ما غُرست فيها، فهي تنبت ثانية. لم يكوِّنُها أحد، بل هي تطيع أمر الله منذ البدء. وهكذا، كوني أمتلك حريّة اختياري في النطاق المذكور آنفاً وهو وحده كما سبق فقلت، فإذا ما أودعت زرعي سواء في امرأتي الخاصّة أو في امرأة باستعمال حريّتي، فهذا الزرع ينمو مطيعاً أمر الله منذ البدء وليس لأنّه يكوِّن ويعمل كلّ يوم والآن أيضاً؛ "فالله قد صنع السماء والأرض وكلّ الكون في الأيام الستة من الأسبوع الأول، وفي اليوم السابع استراح من كلّ أعماله التي عملها، كما يؤكِّد لي الكتاب المقدس"([8]).
يقول نصر حامد أبو زيد ملاحظاً من خلال هذا الكلام إنّ النقاش دخل منطقة لم يكن اللاهوتيون المسلمون قد طرقوها بعد، ذلك أنّ مسألة تدخّل الله في العالم بالخلق المستمر منبثة في القرآن بطريقة لافتة، ولم تكن مسألة "التّولُّد"، "تولُّد الأفعال" والأشياء بعضها من بعض قد أصبحت بعدُ جزءًا من النقاش حول "خلق الأفعال" حتى تمّت صياغة المفاهيم الاعتزالية صياغةً مترابطةً بعد هذه الفترة التي نحن بصددها، ومن هذا المنطلق قرر نصر حامد أبو زيد بدرجة من اليقين أنّ هذا النقاش كان مؤثرًا في بلورة فكر المعتزلة؛ على اعتبار أنّ الأشاعرة ـ أتباع "أبي الحسن الأشعري" ظلوا مدافعين عن "القدرة الإلهية" المطلقة، التي توهموا أنّ عقيدة "خلق" الإنسان لأفعاله، وأنّ قانون "السببية" في تفسير العالم، تمسان من إطلاقية القدرة الإلهية([9]). من هنا ينهي المسيحي النقاش مع المسلم بالرجوع به إلى القضية الرئيسية، قضية خلق الإنسان لأفعاله بالقول:
"الحمد لله! لأنّك توافقني بقولك ما أريد أنا قوله. ها إنّك قد وافقتني بأنّ ما من أحد منّا يستطيع أن ينهض ولا أن يتحرّك لطالما أنّ الله لا يريد ذلك، وبأنّ الله يحرّم علينا السرقة والزنى من جهة أخرى. فإذا ما نهضت الآن ومضيت لكي أسرق أو لكي أزني، فماذا تدعو ذلك: مشيئة الله أم قبولاً وسماحًا وحلمًا منه؟"([10]).
2- القضية الثانية: طبيعة القرآن الكريم
إنّ مفهوم الكلمة المخلوقة يفترض وجود الكلمة والروح بحسب القرآن خارج الرب، هذا ما ألمح إليه يوحنّا الدمشقي لما قال موجهًا الخطاب للمسلمين: "إذا كان الكلمة والروح مخلوقين فمعنى ذلك أنّ الله كان قبل خلقهما بلا كلمة ولا روح"([11]). ومن المحتمل أن تكون مسألة طبيعة القرآن الكريم كونه مخلوقاً أم غير مخلوق تعود بأصلها إلى مسألة "الكلمة". ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم يقول في عيسى: إنّه "كلمة الله وروح منه". وما كان ليشقّ على مسيحي تأويل هذه التسميات.
ومن هنا نشأ الاعتراض الذي وجهه أهل الجدل من المسيحيين إلى المسلمين: من هو المسيح؟ "إنّه كلمة الله وروح منه" فهل هذه "الكلمة" مخلوقة أم غير مخلوقة؟ إن كانت غير مخلوقة كان المسيح هو الله. وإن كانت مخلوقة كان الله قبل خلقهما بدون روح وبدون كلمة. ومعنى هذا بكلام آخر: أنّ المسيحيين يستخدمون البرهان بالكلمة المخلوقة أو غير المخلوقة ليرغموا المسلمين على الاعتراف بلاهوت المسيح وقدمه. ومما يؤكد احتمال الإيجاب أنّ الربط بين عيسى ـ كلمة الله ـ وبين "كلام الله" بمعنى "الوحي" يبرز في الجدل الذي يثيره يوحنا الدمشقي:
عندما يسألك المسلم قائلاً: "أقوال الله، هل هي مخلوقة أم غير مخلوقة"؟ - المسلمون يطرحون علينا هذا السؤال الصعب جدّاً حتّى يبرهنوا أنّ "كلمة الله" مخلوق، وهذا خطأ- فإذا قلت: "مخلوق"، يقول لك: "ها إنّك تثبت بأنّ كلمة الله مخلوق". أمّا إذا قلت: "غير مخلوقة"، يقول: "كلّ أقوال الله الموجودة إنّما هي غير مخلوقة، ولكنّها ليست آلهة مع ذلك. ها إنّك توافقني على أنَّ المسيح الذي هو كلمة الله ليس هو الله". لأجل هذا السبب لن تجيبه بأنّها مخلوقة كما لن تجيبه بأنّها غير مخلوقة، بل ستجيبه بهذا: "إنّني أعترف بأنّ في الله "كلمة" واحدة أقنوميّة غير مخلوقة، كما اعترفت أنت بذلك. ولكنّني لا أدعو كتابي بجملته أقوالاً أو كلمات إلهية، بل أفعالاً أو إبلاغات إلهية"([12]).
ومن خلال هذا الجدل يتبين أنّ يوحنا الدمشقي حاول أن يميز بين "كلمة الله" - المسيح - المخلوق. وكلام الله -الخطاب- المخلوق، ولكن هذا التمييز لا يقنع المسلم. ففي كل القرآن والكتاب المقدس لا يوجد تمييز بين "كلمة" غير مخلوقة، و"كلمات" مخلوقة. ومن هنا لا يلجأ المسلم في جدله مع المسيحي إلى القرآن بل يعتمد على الاستشهاد بقول النبي داود:
"فإذا قال لك المسلم: كيف حصل إذاً أن قال داود: "كلام الربّ كلام نقي"، ولم يقل: "فعل الربّ فعل نقي"، فقل له إنّ النبي قد تكلم بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي"([13]).
ومن الواضح أنّ المسيحي حاول أن يميز بين الحقيقة والمجاز من أجل إزالة التناقض والاختلاف في الكتاب المقدس. ومحاولة منه كذلك لإيجاد حلّ للإشكال الذي يثيره المسلم، وربما يكون هذا حسب نصر حامد أبي زيد([14]) علامة على عمليات التأثر والتأثير الذي ينتجه الجدل بين الطرفين. وهذا ما سيتبدى لنا بشكل واضح مع القضية التالية: وهي قضية ألوهية المسيح، التي هي نتيجة من نتائج مفهوم "الكلمة" غير المخلوقة.
3- القضية الثالثة: طبيعة المسيح
اختتم يوحنا الدمشقي كتابه "المناظرات" بمسألة تتعلق. جوهريًّا، بتلك المناقشة حول المسيح الإله، وفي هذه المسألة يتبدى التحدي واضحاً من جهة المسلم، في المقابل يكون المسيحي في موقف الدفاع، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل في الجدل المسيحي الإسلامي في هذه الفترة المبكرة. وهنا يسأل المسلم المسيحي قائلاً:
"وإذا قال لك المسلم: كيف نزل الله في رحم امرأة"؟ فيجيب المسيحي مستدلاًّ بالقرآن والإنجيل معاً:
"لنستعمل كتابك وكتابي في هذا الشأن! كتابك يقول بأنّ الله قد طهّر العذراء مريم أكثر من كلّ جسد نسائي وأنّ روح الله والكلمة قد نزلا فيها. وإنجيلي يقول: "الروح القدس يأتي عليك وقدرة العليّ تظلّلك. وهكذا يتحدث الاثنان باللهجة عينها، يتضمنان الفحوى عينها. ولكن اعلم أنّ الكتاب المقدس يتكلم عن صعود الله ونزوله بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي نظراً إلى طبيعتنا الخاصّة، لأنّ الصعود والنزول إنّما يُستعملان للجسد بالمعنى الحقيقي حسب الفلاسفة، في حين أنّ الله يحوي كلّ شيء ولا يحويه أيّ مكان. وقد قال أحد الأنبياء في الواقع: "من كال بكفّه مياه البحر وقاس السماوات بالشبر وكال بيده كلّ البرّ". وباختصار إنّ كل المياه بيد الله وكلّ السماء بشبره وكلّ الأرض في قبضته. فكيف يمكنه أن ينزل ويصعد ذاك الذي يحوي كلّ الأشياء في يده"؟([15])
ومن الواضح أنّ المسيحي في الحوار يلجأ إلى التأويل المجازي نفيًا للمعنى الحرفي الحقيقي، وهذا معناه حسب نصر حامد أبي زيد أنّ آلية التأويل المجازي نفيًا للتعارضات المتوهمة في النصوص المقدسة أصبحت قاعدة مطبقة من جانب المسلمين والمسيحيين على السواء([16]). وبعد هذا يسأل المسلم المسيحي قائلاً:
"إذا سألك المسلم قائلاً: لو كان المسيح هو الله كما تقول أنت، فكيف كان يأكل ويشرب وينام إلخ. فقل له: "إنّ كلمة الله الأزليَّ الذي خلق كلّ الأشياء حسب شهادة كتابي وكتابك، قد خلق له من جسد العذراء القدّيسة مريم إنساناً كاملاً ذا نفس عاقلة. وهذا هو الذي أكل وشرب ونام؛ أمّا كلمة الله فلم يأكل ولم يشرب ولم ينم بالمقابل، ولم يصلب ولم يمت. واعلم أنّ جسده المقدّس الذي اتخذه من العذراء القدّيسة هو الذي صُلب. واعلم أنّ المسيح معروف بطبيعتين، ولكن في أقنوم واحد. واحد هو كلمة الله الأزلي فعلاً، في الشخص لا في الطبيعة، وحتى بعد أن اتخذ جسداً؛ لأنّ شخصاً رابعًا لم ينضمّ إلى الثالوث بعد اتحاد الكلمة غير الموصوف بالجسد"([17]).
فيجيب المسيحي مميزاً بين كلمة الله الأزلية، وبين الكلمة المتجسدة في الدم واللحم، الذي خلق من جسد العذراء القديسة. ومن منطلق هذا التمييز بين وجهي الكلمة يدخل يوحنا الدمشقي في قضية "الطبيعة المزدوجة" للمسيح بقوله "واعلم أنّ المسيح معروف بطبيعتين". الأمر الذي يثير تساؤلاً ثالثاً من المسلم على الوجه الآتي:
"وإذا ما سألك المسلم قائلاً: تلك التي تدعوها أنت والدة الإله، هل هي ميتة أم حيّة"؟ فقل له متيقناً ممّا يثبته الكتاب: "إنّها ليست ميتة؛ فالكتاب يقول فعلاً في هذا الشأن: "لقد وافاها هي أيضاً موت البشر الطبيعيّ، ولكن دونما إرغامٍ أو إخضاعٍ، كما بالنسبة إلينا - فهي أبعد من أن ينالها ذلك! - بل كما قيل: "نام الإنسان الأول فانتزع الضلع منه"([18]).
وخلاصة لما سبقت الإشارة إليه من خلال كتاب "المناظرات" ليوحنا الدمشقي الذي يدور حول مجادلة بين شخصين: أحدهما مسيحي والآخر مسلم، لمناقشة بعض القضايا الأساسية، باعتبارها مسائل تتعلق باللاهوت المسيحي، نستطيع أن نتبين أنّ الخلاف العقائدي بين المسيحيين والمسلمين حول هذه القضايا يتمثل فيما يلي:
القضية الأولى: هي قضية قدرة الإنسان وحرية الاختيار، تدور هذه المسألة عند يوحنا الدمشقي حول فكرة مفادها، أنّه إذا كان الله خالق الأشياء جميعاً فإنّ للإنسان قدرته، أيضاً، وما يترتب عليها من مسؤولية مطلقة لمعرفة الخير من الشر؛ وهذا يعني أنّ يوحنا الدمشقي ينفي مسؤولية الله عن أفعال البشر، في الوقت نفسه يؤكد أنّ القدرة لدى الإنسان ينبغي أن يغلب عليها الجانب الأخلاقي أكثر منه العقلاني.
القضية الثانية: هي مسألة طبيعة القرآن الكريم (كلام الله)، وفي هذه المسألة اعتمد يوحنا الدمشقي على منهج ميز فيه بين "كلمة الله" ـ المسيح ـ غير المخلوقة، وبين "كلام الله" - الخطاب - المخلوق، ليثبت في النهاية قدم المسيح وتأليهه.
القضية الثالثة: هي قضية طبيعة المسيح عليه السلام، التي تعتبر مخلوقة طبقاً للقرآن الكريم، وهذا يعد "هرطقة" من منظور اللاهوتي المسيحي يوحنا الدمشقي الذي اعتبر "كلمة الله" - المسيح - كلمةً أزليةً قديمةً، مميزاً بينها وبين الكلمة المتجسدة من دم ولحم، التي خلقت من جسد مريم العذراء، وهذا يعني أنّ المسيح عند يوحنا الدمشقي ذو طبيعتين؛ لاهوتية، وبشرية، لكن في أقنوم واحد.
([1])Daniel j. Sahas, John of Damascus on Islam The “Heresy of The ishmaelites” (leiden, 1972), p 143.
([2])Daniel Janosik, John of Damascus Response to the Islamic View of Justification by Works, Columbia International University, 2010, p 11.
([3]) دانييل ساهاس، الشخصية العربية في الجدل المسيحي مع الإسلام، ص 130
([6]) نصر حامد أبو زيد، قراءة القرآن من منظور لاهوتي مسيحي، وأثره في انبثاق اللاهوت الإسلامي، ص 26
([7])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 143.
([8])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 145.
([9]) نصر حامد أبو زيد، قراءة القرآن من منظور لاهوتي مسيحي، وأثره في انبثاق اللاهوت الإسلامي، ص 28
([10])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 149.
([12])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 149/151.
([14]) نصر حامد أبو زيد، قراءة القرآن من منظور لاهوتي مسيحي، وأثره في انبثاق اللاهوت الإسلامي، ص 22
([15])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 151/153.
([16]) نصر حامد أبو زيد، قراءة القرآن من منظور لاهوتي مسيحي، وأثره في انبثاق اللاهوت الإسلامي، ص 23
([17])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 153.
([18])Daniel, Sahas, John of Damascus, p 153.