الجزائر ضمن الاستراتيجية الكولونيالية
فئة : قراءات في كتب
الجزائر ضمن الاستراتيجية الكولونيالية
قراءة في كتاب "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار"
للدكتور مختار بن قويدر
عنوان الكتاب: الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار.
المؤلف: الدكتور مختار بن قويدر، أستاذ محاضر - أ- بجامعة معسكر - الجزائر.
الناشر: دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت - لبنان.
الطبعة الأولى: 1434هـ/2013م.
عدد الصفحات: 164 صفحة.
بمثابة التقديم:
كان التاريخ على مدى الزمن ولا يزال مجالاً بحثيًّا يستقطب أقلامًا تتنوع اهتماماتها وتختلف مناهجها ومدارسها، ولنا في كتب التاريخ القديم منها والحديث نماذج بارزة اختص أصحابها في صنوف معينة من العلوم، لكن التاريخ كان حاضرًا في إنتاجها. الدكتور "مختار بن قويدر" أحد الأسماء الأكاديمية في مجال الأدب العربي، أستاذ محاضر بكلية الآداب واللغات جامعة معسكر غرب الجزائر، من الباحثين الذين اختاروا الخوض في الكتابة التاريخية بعد أن كانت له تجربة في تأليف مجموعة من الكتب:
* السبئية وأثرها في التاريخ الإسلامي، دار الأديب - وهران (2007).
* التراث العربي الإسلامي على أيام المماليك والعثمانيين (دراسة لعصر الموسوعات)، دار الرشاد - بلعباس (2009).
* فتيان حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (عمل مشترك)، دار الرشاد - بلعباس (2010).
* إنجيل برنابا والبشارة بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، دار الرشاد - بلعباس (2011).
تقلّد الباحث "مختار بن قويدر" العديد من المهام البيداغوجية والإدارية على مستوى جامعة معسكر، حيث ترأس دائرة الحقوق (2002) وقسم اللغة العربية وآدابها بين (2003-2006)، كما عُيِّنَ مديرًا للدراسات بمعهد الآداب واللغات وعضوًا بالمجلس العلمي للمعهد (2006-2008)، ليشغل منصب رئيس المجلس العلمي لكلية الآداب واللغات منذ (مارس 2013). وبالموازاة مع هذه المهام هو مكلف بتأطير طلبة الليسانس والماستر في مقياسي: "تحليل الخطاب الأدبي" و"الأدب العربي والاستشراق". وأسهم في مناقشة طلبة الدكتوراه داخل الوطن وخارجه (جامعة اليرموك بإربد، الأردن 2007)، فضلاً عن مشاركته في عدة تربصات في مختلف الجامعات العربية (مصر: جامعة القاهرة: كلية دار العلوم / الأردن: جامعة إربد / سوريا: جامعة دمشق: كلية الآداب واللغات / المملكة المغربية: جامعة وجدة، جامعة محمد الأول، جامعة الدار البيضاء، ...).
الأستاذ "مختار بن قويدر" المسكون بحب التاريخ، له انهمام كبير بإشكاليات تاريخية عميقة وشائكة لا يزال الكثير منها محل نقاش، وتحتاج المزيد من البحث والتقصي. في الكتاب الذي نحن بصدد وضع قراءة له والموسوم: "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار" حاول صاحبه أن يفسّر العلاقة القائمة بين الاستعمار والتنصير والاستشراق. هذا "الثالوث" الذي سار جنبًا إلى جنب كأحد أشكال فرض الهيمنة على المجتمعات العربية التي سجلت خروجًا استثنائيًّا من دائرة الفاعلية.
أول شيء تقع عليه عين القارئ وهو يتصفّح كتاب "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار" هو الغلاف؛ وإن كانت جل القراءات في الكتب لا تلتفت إلى تحليل الدلالات التي تشير إليها واجهة الكتاب، إلا أنّه وفي اعتقادنا فإنّ القراءة البصرية للغلاف جزء من قراءة المضمون، وعلى الرغم من أنّنا لن نغوص في هذا النوع من القراءات البصرية، إلا أننّا ندرك من نظرة أولية أنّ غلاف الطبعة المعتمدة من الكتاب ذو حمولة مشحونة بالدلالات والمؤشرات. وتوصيفًا لواجهة الكتاب الأمامية فقد جاءت مقسمة إلى جزءين: الجزء العلوي بخلفية خضراء عليها عنوان الكتاب باللون الأحمر، والجزء السفلي من الواجهة بالأبيض والأسود اشتمل صورة لفرسان من العصر الإسلامي الوسيط في وضع هجوم، وتعلوها صور لبعض الشخصيات البارزة في تاريخ الجزائر المعاصرة: كالأمير عبد القادر الجزائري (1808- 1882م)، الحاج أحمد باي (1786-1851). أما الواجهة الخلفية فتضمنت مقتطفات من مقدمة الكتاب.
الألوان الموظفة في الغلاف تشير إلى علم الوطني الجزائري (الأحمر، الأخضر، الأبيض)، أما الأبيض والأسود فهما إشارة إلى الجذور التاريخية للظواهر المدروسة في الكتاب (الاستشراق، التنصير، الاستعمار) وامتداداتها الراهنية. وعليه فاللون - في هذا الغلاف - عبّر عن جانب مهم من محتوى الكتاب، فكان وظيفيًّا إلى أبعد الحدود.
محتوى الكتاب:
لأنّ كتاب "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمِّر" يشير في عنوانه الفرعي إلى "التنصير والاستشراق والاستعمار"، فقد تركزت جهود مؤلفه "مختار بن قويدر" حول مقاربة هذه المفاهيم من خلال صفحات الكتاب المائة والأربعة وستين (164) وإسقاطها على الجزائر المُسْتعمَرة (1830-1962).
يرسم الباحث في بداية كتابه صورة درامية عن أوضاع الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الكولونيالية مدعّمًا هذا التوصيف بالترسانة القانونية التي أصدرتها السلطات الاستعمارية بغية السيطرة على الأرض والإنسان كائنًا وهوية. هذه السياسة الاستعمارية كانت تُسَوَّق من طرف بعض المستشرقين على أنّها تحضير وتمدين للمجتمع الجزائري وإحياء لعصر الرومان المزدهر، لأنّهم رأوا في التوسعات الإسلامية بالجزائر سبب التقهقر والاضطراب الذي عرفته البلاد في جميع الميادين الحياتية.
عاش الجزائريون تحديًا حضاريًّا فرضته عليهم السياسة الفرنسية القائمة في بعدها الضارب للهوية على التنصير والفرنسة والقضاء على معالم الشخصية الجزائرية المغاربية الإسلامية في الإنسان الجزائري، ما جعل العلماء العاملين ينتفضون ضد هذا الاختراق من خلال تبنيهم لإستراتيجية إصلاحية ترتكز على مبادئ الأمة الجزائرية.
أولاً: التنصير: فرنسا اللائكية تنشر المسيحية وتسير شؤون الإسلام في الجزائر؟
يرفض المؤلف استعمال مصطلح "التبشير" مفضلاً "التنصير"، للتعبير عن الحركة التي تستهدف نشر الديانة المسيحية، ويعترف أنّ الدين في أوروبا بوصفه معتقدًا روحيًّا لم يعد من منطلقاتها، لكنها في المقابل لم تتخل عن عصبيتها الصليبية تجاه الإسلام. ولأنّ الإسلام بمنظومته العقائدية والفكرية يشكّل عقبة في وجه التوسع الاستعماري فقد عمل الفرنسيون على محاولة إضعاف تأثيره ونشر المسيحية في أوساط الشعب الجزائري لأنّها بوابة إفريقيا التي كانت فرنسا تحمل لها مشروعًا ضخمًا لإدخالها في الدائرة المسيحية.
التنصير حسب المؤلف كان استراتيجية محسومة في أعلى هرم السلطة الفرنسية، فالملك "شارل العاشر" (1757-1836) صرّح في خطاب ملكي يوم 02 مارس 1830 قبل الحملة الفرنسية ضد الجزائر قائلاً: "إنّ العمل الذي سأقوم به ترضية للشرف الفرنسي سيكون بعون العلي القدير لفائدة المسيحية كلها"[1]، وهو ما يفسر اصطحاب الجنرال "دي بورمون" ((1773-1846 قائد الحملة العسكرية لستة عشر (16) قسيسًا. وعلى الرغم من التوجه العام نحو التنصير، إلا أنّ بعض القساوسة على غرار "صموئيل مارينوس زومير" "Zweimer, S. M" (1867-1952) كانوا يرون بأنّ إخراج المسلمين من دينهم وتركهم بلا معتقد أولى من تنصيرهم، لأنّ ذلك يسهّل اقتيادهم والسيطرة عليهم.
استحق "الكاردينال لافيجري" "Le cardinale La vigirie" (1825-1892) لقب زعيم الحركة التنصيرية في الجزائر من خلال تأسيسه لجمعية الآباء البيض سنة 1868، وكانت أهم مراكز نشاطها في الجنوب الجزائري لأنّ الحركة التنصيرية كانت موجهة نحو الجنوب إلى عمق الساحل الإفريقي فضلاً عن منطقة القبائل، وإلى جانب جهود "لافيجري" نسجل النشاط التنصيري الكبير الذي قام به الأب "شارل دي فوكو" (1858-1916).
ودعمًا لقراءته التاريخية حول الظاهرة بشواهد تثبت تركيز السلطات الاستعمارية بمختلف أجهزتها على تنصير الجزائريين، أورد الكاتب الظروف التي رافقت تحويل مسجد كتشاوة بالعاصمة إلى كاتدرائية، إضافة إلى تكفل الدولة على الرغم من لائكيتها بتعيين أئمة المساجد ورجال الإفتاء وموظفي السلك الديني وإشرافها على عقد مؤتمر قسنطينة سنة 1905 الذي درس أساليب استقطاب المرأة وتحبيبها في المسيحية لما لها من تأثير قوي في المجتمع.
اعتقد الفرنسيون أنّ الجزائر ستكون مسيحية بعد سنوات قليلة من احتلالها، ويعبّر عن هذا التمني سكرتير الجنرال بيجو وبتفاؤل كبير قائلاً: "آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح...".[2] غير أنّ المشاريع الفرنسية اصطدمت بقوة تعلق الجزائريين بدينهم وارتباطهم بمعتقدهم، إلى جانب الجهود الإصلاحية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يرأسها العلامة "عبد الحميد بن باديس" (1889-1940).
ثانيًا: الاستشراق:[3] استهداف اللغة والتاريخ والنبش في التراث.
الاستشراق والتنصير حسب الكاتب سياستان تتبادلان الأدوار لخدمة الآلة الاستعمارية، فهو يُدين الاستشراق باعتباره نبشًا بِنِيَّة سَيِّئَة في التراث الإسلامي من خلال جعله متهمًا، حيث نصّب المستشرقون أنفسهم قضاة أو مدّعين عامين يحاولون إثبات التهمة لا باحثين عن الحقيقة، لذلك فالاستشراق هو محاولة للنيل من مقومات الجزائريين. وإن كان الاستشراق يستند إلى دوافع دينية وتجارية وسياسية وعلمية، فإنّ الدافع الاستعماري كان له توجيه كبير للاستشراق الفرنسي خاصة.
جاءت محاربة اللغة العربية بمثابة ترجمة لروح الفكر الاستشراقي وخطوة أولى لمحاربة الإسلام، لأنّ العربية هي اللغة التي كتب بها التراث العربي الإسلامي وبها صنفّت الكثير من الآداب ونظمت القصائد والأشعار ودوّنت المخطوطات التي تكتنزها الزوايا والبيوتات الكبرى، وفي إطار الحرب المعلنة على اللغة العربية يشير باحثنا إلى منشور 31 جويلية 1913 تحت رقم: 15 H 7الذي وجّهه المكلف بالشؤون الأهلية بالولاية العامة "ميرانت" "Mirante" إلى الوالي العام "شارل ليطو" "Lutaud" من أجل توقيعه وتوجيهه إلى ولاة الأقاليم الثلاثة (العاصمة، قسنطينة، وهران) يطلب منهم إجراء تحقيق دقيق وعاجل عن مدى انتشار الكتاب العربي بين الجزائريين.
في خطة نوعية لتضييق الخناق على اللغة العربية يذكِّر الأستاذ "مختار بن قويدر" بالقانون الذي يجعل اللغة الفرنسية إجبارية في المدارس خلال كل الأطوار التعليمية إلى جانب كونها لغة الدوائر الحكومية، مقابل إهمال اللغة العربية والتنفير منها بإثارة عبارات الاستهزاء والاستهانة بها.
لم تكن اللغة العربية المقوم الوحيد الذي طالته يد الاستعمار، فحتى المساس بالتاريخ كان هدفًا لسياسته لأنّه "مساس بقدسية الأمة وتمايزها وتزايلها عن الأغيار".[4] وكان الهدف من ذلك حسب مؤلف الكتاب إفراغ التاريخ من خصائصه الوطنية ومغالطة الجغرافيا، عندما اعتبر الفرنسيون البحر الأبيض المتوسط يشق الأراضي الفرنسية كما يشق السين باريس.
منذ دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر، حاول توظيف التاريخ لتبرير وجوده وسياسته المسلّطة، ففي المرحلة الممتدة بين (1880/1962) ظهرت كتابات تاريخية من طرف أساتذة جامعيين وباحثين أكاديميين وجدوا التشجيع من الإدارة الفرنسية.[5] لكن جل هذه الدراسات تميزت بالانتقائية للفترات التاريخية التي تمت معالجتها، كالتاريخ القديم وعلاقة إنسان شمال إفريقيا بإنسان نياندرتال وفترة الاحتلال الروماني للجزائر، في محاولة لإبراز السياسة الرومانية فيها على أنّها تمدينية، [6] تمامًا كما حاولت فرنسا إبراز سياستها التدميرية، فالدراسات التاريخية الفرنسية كانت موجهة لخدمة السياسة الاستعمارية، حيث نسجل في هذه الفترة اهتمامًا كبيرًا للمستشرقين بالتاريخ والتراث الجزائري.
تميزت هذه الكتابات في أغلبها ببعدها عن الموضوعية وخدمتها للأغراض الكولونيالية والأهداف السياسية، إلى جانب اقتصارها على المصادر الغربية والتقارير الفرنسية مغفلة المصادر المحلية والعثمانية، فضلاً عن أنّها لم تغط كل الفترات التاريخية، وعلى الرغم من كل هذه المآخذ إلا أنّ الكتابات الفرنسية - مقارنة بالكثير بالكتابات الجزائرية - تتصف بغزارة مادتها وقربها إلى المنهج الحديث في كتابة التاريخ، وللاعتماد عليها يجب إخضاعها للتمحيص والنقد.
وموازاة مع البحث التاريخي نشط البحث الأركيولوجي في التنقيب عن الآثار وأُسِّست لذلك عدة جمعيات، غير أنّ كل هذه الجهود ركّزت على الآثار الرومانية دون الآثار الإسلامية التي تعود للدول التي حكمت أديم المغرب الأوسط خلال العصر الوسيط، وقد أشار الكاتب إلى الدراسات الأنثربولوجية والاجتماعية واللسانية التي أعدّها المختصون الفرنسيون وخصوا بها المجتمع الأمازيغي. حيث يؤكد أنّ أغلب هذه البحوث ذات خلفية كولونيالية بحتة. لكننا في المقابل نشير إلى أنّ بعض هذه المجهودات كان لها الأثر الإيجابي في المحافظة على جزء من تراثنا وخدمته والإسهام في الدفع بعلم الأنثروبولوجيا لاحقًا.
لتقريب حقيقة الاستشراق من القارئ ارتأى الباحث أن يضعه في لب المدونة الاستشراقية من خلال استعراض بعض النصوص النموذجية لمستشرقين معروفين، أمثال: الفرنسي "إميل درمنغم" "E. Dermenghem" صاحب كتاب "حياة محمد"، ومواطنه "لويس ماسينيون" "Massignon L" (1883-1962)، و"آشيل" "Achille" و"ريجس بلاشير" "R. Blachere" (1900-1973).
عرض المؤلف جملة من المواضيع التي خاض فيها المستشرقون، منها ما تعلق بالتفسير ومنها ما ارتبط بالسيرة النبوية والمعجزات، وبالتالي فهي لا ترتبط بالسياق التاريخي لموضوع الكتاب بقدر ما ارتبطت بالتراث العربي الإسلامي، وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الأدوار التي قام بها المستشرقون لخدمة الاستعمار الفرنسي بالجزائر، فعلى سبيل المثال لا الحصر قام المستشرق الكبير "أنطوان إسحاق سيلفستر دي ساسي" (1758-1838) الذي أوفد إلى الجزائر سنة 1835 بتطبيق طريقته لتعليم اللغة العربية وإعداد طاقم من المترجمين العسكريين[7]، وتولى ترجمة بعض البيانات الموجهة للجزائريين عشية الاحتلال وكان يستشار في مختلف المسائل المتعلقة بالشرق في وزارة الخارجية.[8]
إلى جانب المواضيع التي تناولها الباحث الذي خاض غمار موضوع تاريخي شاق ومضن، حاول إثبات الدور التاريخي لليهود في التمكين للاستشراق، حيث اختاروا الانخراط في الحركة الاستشراقية الأوروبية بوصفهم أوروبيين لا يهودًا، ويفسر الكاتب هذه الاستراتيجية بحرصهم على عدم عزل أنفسهم ومن ثمّ التقليل من تأثيرهم.
تمكن الأستاذ "مختار بن قويدر" من رصد الكثير من المآخذ على الاستشراق باعتباره أداة استعمارية وُظّفت لتحقيق غايات مشبوهة، غير أنّه لا يمكن إنكار الجهود التي بذلها بعض المستشرقين في نفض الغبار عن جواهر من تراثنا المهمل، حيث يعود لبعضهم الفضل في تحقيق مصادر قيّمة والكشف عن الكثير من المواقع الأثرية التي كان من الصعب الوصول إليها دون خبرة هؤلاء، كما أنّ الدراسات التي مسّت تاريخنا العربي الإسلامي تحفّزنا على وضع تاريخنا على محك النقد دون خوف من الحقائق التاريخية.
ثالثًا: الاستدمار: ممارسات لا إنسانية في عصر شعارات الأخوة والحرية والمساواة
عاد المؤلف في هذا الفصل إلى عمليات التقتيل والتخريب التي قام بها الفرنسيون في الجزائر العاصمة خلال جويلية 1830، لتتوسع فيما بعد إلى المدن والمناطق المجاورة وتتنوع معها أساليب الترويع والتخويف بغية إخضاع الشعب، مذكّرًا ببعض الجرائم الاستعمارية التي بقيت محفورة في تاريخ الجزائر، وكلها جرائم تتنافى وتعاليم المسيح عليه السلام.
وفي كل هذه السياسة - حسب الكاتب - تهيئة لأرض الجزائر من أجل استقبال صنوف من ساكنة أوروبا وتوطينهم في أخصب الأراضي ومنحهم القروض والامتيازات لخلق طبقة أوروبية جديدة، ذلك أنّ الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان استيطانيًّا منذ بدايته. وازدادت حدّة التوافد الاستيطاني بعد حرب 1870 الفرنسية البروسية حيث قامت فرنسا بترحيل أعداد كبيرة من سكان الألزاس واللورين إلى الجزائر[9]، وتحفيزًا لقدومهم إلى هذه الوجهة يدعو الكاردينال لافيجري مواطنيه قائلاً: "أيها المسيحيون، سكان الألزاس واللورين، التائهون في هذه اللحظة بشوارع فرنسا، سويسرا وبلجيكا، أفرغوا منازلكم المحروقة، حقولكم المتلفة، فإنّ الجزائر، فرنسا الإفريقية، تفتح لكم أبوابها".[10]
وإلى جانب الاستيطان شكّلت التجارب النووية في الصحراء الجزائرية واحدًا من أهم المواضيع التي استقطبت اهتمام مؤلف الكتاب، لأنّها في نظره من "مخازي فرنسا المتمدنة"، فعمليات التجريب التي تمت في صحراء الجزائر - (مثل: عملية اليربوع الأزرق "Gerboise blue"، اليربوع الأبيض "Gerboise blanche"، واليربوع الأحمر "Gerboise rouge") - كانت لها آثار وخيمة على الإنسان والبيئة.
ضمن توصيفه لمآسي الإنسان والبيئة جرّاء الممارسات الاستعمارية، وانطلاقًا من ميوله للشعر وتخصصه في الأدب اختار الباحث "مختار بن قويدر" أن يعرض في كتابه نماذج مما كتبه شعراء الجزائر عن هذه التجارب كالشاعر "صالح خباشة" (بابا بكير) (و1930)، و"صالح خرفي" (1932-1999)، وصاحب "إلياذة الجزائر" "مفدي زكريا" (1913-1977) الذي كتب قصيدة (وليد القنبلة الذرية) المفعمة بالحسرة والتوجع والأسى وهو يصف تضرر طفل من هذا التفجير، ومما جاء فيها:[11]
ما دهاه..؟ ويل أمه ما دهاه؟؟ ويلتاه، من جيله ويلتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهُ؟؟
ما له في الحياة، يولد أعمـــــــــــــــى؟ لم ترَ الكونَ، باسمًا مقلتــــــــــــــــــــاه؟
ما له مقعدًا، يدحرجُ رجليـــــــــــــــــــــــــهِ؟.. وما ذا جنى، فشُلَّت يداه؟
ما له، لم تزل تهدهـــــــــــــــده الأ... مُّ، ولم تستمع لها، أذنــــــــــــــــــــــــــاه؟
ما له أخرسًا، تناجيه في المهـــــــــــــــد، ولم تبتسم لها، شفتـــــــــــــــــــــــــاه؟
ولماذا لم يبك، بين ذراعيــــــــــــــــــــــــــــــــــها دلالاً، ... ولم يقل: أمـــــــاه؟
ألهذا الوجود، جاء وحيـــــــــــــــــــــــــــــداً؟ أم له في زمانه أشبــــــــــــــــــاه؟
ويلتاه من جيله ويلتاه؟
ما نصيب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من الاستقلال؟، سؤال جوهري طرحه صاحب الكتاب ليحاول من خلاله إبراز البعد التحرري الاستقلالي في التيار الإصلاحي الذي مثّلته الجمعية بفترتيها: الفترة الباديسية (1931- 1940) ثم الفترة الإبراهيمية (1940-1956)، فهدف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جامع لكل الأهداف الإصلاحية والتربوية والوعظية والسياسية الرامية إلى تحقيق الاستقلال. فمبدأ جمعية العلماء هو العلم وغايتها هو تحرير الشعب الجزائري الذي يمرّ بمرحلتين - حسب الإبراهيمي -: "تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل للثاني".[12]
المطّلع على الكتابات التي تناولت دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تهيئة أرضية الثورة التحريرية من خلال عملها الإصلاحي الذي شمل شتى الميادين ومساهمتها في الثورة عند اندلاعها يدرك الحضور الفعّال لهذا الفصيل في المسيرة التحررية للجزائر الذي يندرج نضاله ضمن الوطنية الثقافية Nationalisme culturel)) ذات البعد السياسي[13] حسب تعبير الدكتور مولود عويمر.
في نهاية الفصل الثالث من كتابه "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر"، أورد المؤلف ما اصطلح على تسميتها "الصيحات الخمس التي أطلقها الغربيون تجاه العالم الإسلامي"، وهي مواقف تبنتها شخصيات غربية بهدف إخضاع العالم الإسلامي بأقل المجهودات وأبسط الوسائل من خلال بحث نقاط قوته ومحاولة استهدافها.
في خاتمة للكتاب حاول الباحث "مختار بن قويدر" أن يفسّر ارتباط الاستشراق والتنصير بالأهداف الاستعمارية، فالاستشراق وظّف معطياته في رسم السياسات الطّامسة للهوية الجزائرية، وهو ما سعى لتنفيذه في الجانب الديني أساطين التنصير. لكن كل السياسات الاستعمارية فشلت نتيجة المقاومات الشعبية التي لم تكد تهدأ طوال الحضور الفرنسي في الجزائر إلى جانب نشاط الحركة الوطنية ورجال الإصلاح، لتختتم هذه المسيرة النضالية والبطولية بثورة تحريرية انتهت آخر فصولها باستقلال الجزائر.
أهمية الكتاب:
على الرغم من أنّ الأستاذ "مختار بن قويدر" باحث مختص في الأدب العربي إلا أنّه اكتسب شجاعة علمية تنم عن حبّه وميوله للتاريخ ليطرق موضوعًا تاريخيًّا بامتياز، ويعمل على مقاربة مفاهيم شائكة في قاموس السياسة الاستعمارية. ونحن نقرأ كتابه القيّم نُدرك بأنّه مخطوط بأنامل لغوي لكن بعقل باحث في التاريخ يحاول الالتزام بالمنهج العلمي في كتابته لتاريخ وطنه.
عندما تستمع للدكتور "مختار بن قويدر" وهو ينقلك من عالم الأدب العربي الفسيح إلى خبايا التاريخ، تعلم حينها سرّ ولوجه الكتابة التاريخية بما تفرضه هذه العملية من صبر وجهد ومسؤولية، لأنّ كتابة التاريخ هي كتابة الحقيقة. ومن يكتب التاريخ ليس متماهيًا في الماضوية بقدر ما هو إنسان تقدمي على حد تعبير "إرنست رينان" (1823-1892) عندما يقول: "إنّ رجال التقدّم بأتم معنى الكلمة، هم أولئك الذين يُجِلُّون الماضي كثيرًا".[14]
ولأنّ "نسيان الماضي هو خسران للمستقبل" كما كُتِبَ على جدارية متحف الميز العنصري في جوهانسبورغ، أبى الباحث "مختار بن قويدر" إلا أن يسهم في كتابة تاريخ بلده وتدوين معاناة شعبه وتخليد نضاله من أجل نيل حريته واستقلاله، ليس بكاءً على الماضي ونكباته ولا تساميًا إلى فضاء التعاظم، إنّما للنظر إلى المستقبل انطلاقًا من تجربة تاريخية مدروسة الظروف والأسباب والنتائج.
ما يُحسب للكاتب اعتماده مكتبة بحث ثرية دعم من خلالها رؤيته وتحليله لمختلف الأحداث التاريخية والمواضيع التي تناولها، فتنوعت المصادر والمراجع المعتمدة بين الكتب التاريخية والأدبية باللغة العربية، إضافة إلى المجلات والدواوين، ومراجع أخرى باللغة الفرنسية والإنجليزية.
جاءت هوامش الكتاب ثرية بتعريف الشخصيات والمصطلحات المذكورة في المتن، وبعض الأبيات الشعرية، فضلاً عن التوثيق الدقيق والإحالات، وبذلك فقد حاول الكاتب الالتزام بتقنيات البحث العلمي وهو ما جعل كتابه مرجعًا أكاديميًّا يُعتدّ به في الدراسات التاريخية التي تتناول التنصير والاستشراق في الجزائر بين 1830 و1962.
كتاب الدكتور "مختار بن قويدر": "الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمِّر: التنصير والاستشراق والاستعمار" كتاب يستحق القراءة لما اشتمل عليه من تحليل تاريخي لسياسات ارتبطت بالتواجد الاستعماري في الجزائر، وبذلك فهو يندرج ضمن المقاربات التاريخية التي تحاول رسم صورة عن حقيقة ممارسات الاحتلال الفرنسي من مختلف الزوايا.
[1] مختار بن قويدر: الجزائر ومعركتها مع الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، لبنان، ط01، 2013م، ص 13
[2] مختار بن قويدر: المرجع نفسه، ص 23
[3] الاستشراق لغة مشتقة من جهة شروق الشمس، وشرّق: أخذ في ناحية الشرق، والسين في كلمة الاستشراق تفيد طلب دراسة ما في الشرق. أما اصطلاحًا فهو علم يدرس لغات شعوب الشرق وتراثهم وحضاراتهم ومجتمعاتهم وماضيهم وحاضرهم؛ فالدراسات التي تعنى بالعالم الشرقي تسمى الاستشراق والذين يقومون بهذه الدراسات من مؤرخين وكتّاب ... يطلق عليهم: "المستشرقون"؛ فاروق عمر فوزي: التاريخ والاستشراق الاسلامي (القرون الإسلامية الأولى)، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1998، ص 30
[4] مختار بن قويدر: المرجع السابق، ص 75
[5] من أشهر هؤلاء الأساتذة: ستيفان غزال (S. Gzell)، غوتي (Gauthier)، مرسي (E. Mercier)، إميري (M. Emerit)، لوتورنو (Le Tourneau)، وجوليان (Ch. A. Julien)؛ أنظر: ناصر الدين سعيدوني: ورقات جزائرية دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني، دار البصائر، الجزائر، ط02، 2009م، ص 17
[6] عميراوي أحميده: من تاريخ الجزائر الحديث، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ط02، 1425هـ/2004م، ص 11
[7] يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين)، ترجمة: عمر لطفي العالم، دار المدار الإسلامي، بنغازي، ليبيا، 2001، ص 152
[8] محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المعارف، القاهرة، 1997، ص 49
[9] يحي بوعزيز: سياسة التسلط الاستعماري والحركة الوطنية الجزائرية من 1830 إلى 1954، دار البصائر، الجزائر، 2009، ص 39
[10] مختار بن قويدر: المرجع السابق، ص 116
[11] مفدي زكريا: اللهب المقدس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط02، 1991، ص ص 161-162؛ مختار بين قويدر: المرجع السابق، ص ص 129-130
[12] محمد بن ساعو: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والثورة التحريرية 1954-1962، دار الأمة، الجزائر، 2015، ص 76
[13] مولود عويمر: عبد الحميد بن باديس مسار وأفكار، جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، 2012، ص 78
[14] الهادي التيمومي: المدارس التاريخية الحديثة، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط01، 2013، ص 13