الجندر والدين
فئة : مقالات
إنّ وقع دراسات الجندر على فهم الدين قد تحوّل بسرعة لافتة إلى ورشة بحث عملاقة[1]تهدّد أغلب الادّعاءات التأويلية والأخلاقية وحتى السياسية التي بناها "المؤمنون" و"الملحدون" في كل الثقافات ليس فقط عن أنفسهم وعن هوياتهم الخاصة، بل خاصة عن نموذج العيش الذي أسّسوا عليه مجتمعاتهم. ويبدو أنّه لم يعد ممكنا أو مبرّرا أبدا مواصلة تأويل الدين أو حتى مواصلة أشكال التديّن التقليدي من دون الاصطدام بأسئلة الجندر التي أخذت أوّل الأمر معنى فضفاضا يشير إلى "النساء" أو أدوار المرأة بعامة، لكنّه تحوّل لاحقا إلى مصطلح متين ومركّب، يشمل كلّ ميدان الذكورة والأنوثة في كل سياسات الهوية والتمثّلات التي تبنيها المجتمعات عن سلوكيات الجنسين. وربما يمكن للباحث أن يعتبر نظرية "الكوير" (الكوير هو غريب الأطوار أو الشاذ ولكن من دون معنى ازدرائي هو "الجنس الحر") هي الورشة التي خرجت منها أكثر التساؤلات طرافة عن مفردات الدين اليهودي-المسيحي، ولاسيّما المسيح أو الله[2]. ومن ثمّ، فإنّ الخطر المعياري الأكثر طرافة (أو تطرّفا) ليس البحث في جندر الله، بل في طرح السؤال اللاهوتي عن الإله "الكوير" كما يمكن أن يؤمن به المثليون ما بعد المحدثين، وهم يحاولون الانتقال خارج أفق الدين التقليدي "من اللاهوت المثلي إلى اللاهوتيات الجنسية الحرة".[3]
بلا ريب قد يبدو التمييز التقليدي بين "الجنس البيولوجي" للمولود (ذكر/ أنثى) وبين "الجندر" أو النوع الثقافي" الذي يُفترض أن ينتمي إليه في حياته (رجل/ مرأة)، بديهيّا بل إنّه إجراء شكلي في أية ثقافة، فهو لا يحتوي لأوّل وهلة على أيّة خطورة معياريّة خاصة؛ نعني خطورة على أخلاقه أو سياسة هويتّه أو طبيعة السلطة التي تُمارس عليه أو يمارسها. لكنّ ما قد يبدو أبعد حقّا عن النقاش حول هوية الجندر هو نوع الإيمان الذي يمكن أن يعتنقه أو نوع الإله الذي يمكن أن يؤمن به هذا المولود في يوم ما. طبعا، نحن إلى حدّ الآن، قد تورّطنا سلفا في الحديث عن "مولود" وليس عن "مولودة". وهذا بحدّ ذاته لا يُحسّ من فرط الانصياع الصامت لتوزيع جندري لا نراه غالب الأحيان، لأنّه يستفيد من تواطؤ النحو واللغة معه، قبل تواطؤ المجتمع أو الدين.
لكنّ الباحث يصطدم هنا بظاهرتين تعمل الواحدة منهما على طمس الأخرى: إذ بقدر ما يعمل كلّ دين على توحيد ماهية النوع البشري بواسطة إيمان "غير مجنوس" و"غير مجندر" في آن، ينزع السؤال عن الجندر إلى تشقيق الهوية في ضوء الفرق المعياري الذي تحمله في "ذاتها" بين "الجنس" البيولوجي و"النوع" الثقافي، بين الهوية الموروثة وسياسات التذوّت الحرّ. إنّ الإيمان مجندَر سلفا، وذلك طالما هو يعتنق عقيدة "الإله"[4] الواحد (الذكر النحوي والأنطولوجي) الذي يحميه "الرجال" وتخضع له "النساء" باسم تشريع مقدّس حول التمييز الجنسي بين الذكر والأنثى.
- كان الدّرس الأخلاقي التقليدي يعتبر "الإنسانية" بمثابة الوحدة الأخلاقية العليا أو الأخيرة التي انطلاقا منها يبدأ الاتصال بالكائن المتعالي أو الله. قد يبدو أنّ التبذير الوحيد هنا هو التضحية بالكثرة البشرية المفردة في كل مرة وبأصالة كل شخص على حدة، وذلك من خلال المساواة الوجودية بين الناس كافة في "نفس" واحدة أو كلية هي الإنسانية جمعاء؛ أي مجموع الزرافات المؤمنة التي يمكن أن تنضوي تحت سلطة الإله الإبراهيمي دون سواه. لكنّ ما يسكت عنه الدرس الأخلاقي التقليدي هو أمر مضاعف: ليس فقط التوزيع الجنسي للمؤمنين، بل التنضيد الجندري لهوياتهم.
إنّ المشكل عندئذ هو: ما هو الدور الذي أدّاه الجندر في تنظيم لعبة المعنى الجنسي التي يقوم عليها الدين التوحيدي؟[5] الإيمان لعبة معنى مجنوسة ومعقّدة بلغت في كتابات كيركغارد أو نيتشه إلى طور المفارقة التي تدعو إلى التفكير من دون أيّة ضمانات لاهوتية جاهزة. إلاّ أنّه من الاستخفاف الكبير بتعقّد الطبيعة الإنسانية أن ننخرط في إلحاد جديد[6]، نعني قائم على محاججة تستند إلى نتائج العلوم الطبيعية الراهنة، من أجل دحض الإيمان أو مقاومته. كلّ إلحاد حجاجي هو ضجيج خارج أفق الدين؛ وذلك أنّ الأسئلة الأكثر خطرا عن هذا السلوك في العالم، إنّما توجد على مستوى آخر من البحث. وإنّ أفضل مثال راهن على هذا المستوى الآخر هو مسألة الجندر. لا أحد يمكنه التملّص من جندره؛ وذلك أنّه لا أحد على استعداد لأن يراجع جنسه. طبعا، ثمّة متحوّلون، نعني بذلك الجندر الذي ينتج عن الانتقال من جنس إلى جنس آخر، وذلك بإجراء عمليّة جراحية على الجسم. ولكن هل مجرّد تغيير أعضاء الرغبة أو التناسل يؤدي فعلاً إلى تغيير الهوية؟
على هذا المستوى يدخل الدين بأسئلة محرجة: إنّ الجندر لا يغيّر "الروح". طبعا، يمكن أن ندخل في نقاش معقّد حول الفرق بين "الروح" و"النفس" (كما فعل ذلك الفكر الوسيط) أو بين "النفس" و"الذات" أو بين الأنا والهو (كما يفعل المعاصرون)، إلاّ أنّ ذلك لا يمكن أن يغيّر طبيعة المشكل من دون أن يؤدّي إلى تدمير "الهوية" التي يدّعيها شخص ما عن "نفسه": أنّه "هو" وليس شخصا "غيره". وحسب ماكنتاير أو ريكور أو رورتي لا يصمد عندئذ من معنى الهوية إلاّ الرابط السردي. لا يحمي الفرد المعاصر من الانهيار سوى الهوية السردية التي ينجح في تنظيمها حول نفسه. لكنّ الجندر يطرح صعوبة تتجاوز نقاش الفلاسفة المحدثين حول الهوية/الذات المؤسِّسة.[7]
إنّ الدين التوحيدي قد وفّر هو أيضا سردية متماسكة حول أدوار الجنس (بين الذكر والأنثى) وأدوار الجندر (بين الرجال والنساء). لكنّ هذه السردية قد تبدو فقيرة من حيث الاقتراحات التي تقدّمها عندما نقف على سيطرة جندر على جندر آخر باسم الجنس. ولذلك، فإنّ الاجتهاد من أجل إنقاذ تأويلي عنيف للمقاصد الدينية المفترضة من قوامة الرجال على النساء أو من تفضيل الذكر على الأنثى هو موقف خطير، ويمكن أن يؤدّي إلى زعزعة سردية الإله التوحيدي.
من أجل ذلك انخرطت الدراسات النسوية بشكل حثيث في ما سمّاه بعض الباحثين "جندرة تاريخ الأديان"[8]، وذلك لأنّ الدين التوحيدي هو المدوّنة الأكثر تأثيرا على بناء الهوية الحديثة للإنسانية أكانت هوية مجنوسة (مذكّرة أو مؤنّثة) أو مجندرة (رجال/ نساء). وصار المشكل الحاسم هو: كيف ندرس الدين من منظور الجندر؟ بالطبع علينا الاحتراس من مجرّد الخلط بين الدراسات النسوية ودراسات الجندر. لكنّ ما وقع هو أنّ تطبيق الجندر على الدين قد جاء يشبه ضربا من الثأر النسوي من الجندر التوحيدي. وقد يبدو أنّ الجندر الذكوري لا يبذل احتجاجا صريحا حول التوزيع الجندري للكتب المقدسة، من حيث قد يُفترض أنّه في صالحه.
لكنّ بعض الدراسات الجندرية تشير إلى أنّ النساء أكثر ميلا للتديّن من الرجال[9]. هذا المعطى الإحصائي يبعث على التساؤل: إذا كان الدين هو مصدر التشريع الذي يستند إليه الرجال عادة في تبرير جندرة دور المرأة فكيف نفسّر أو حتى كيف نفهم ميل النساء لأن يكنّ أكثر تديّنا من الرجال؟ من اللافت أنّ التفسيرات المقدّمة غالبا قد كانت هي نفسها تفسيرات مجندرة: أنّ الأنثى تتماهى مع الإله بوصفه صورة عن الأب الذكر ومن ثمّ تجد الدين أكثر جاذبيّة على خلاف ما يفعله الذكور.[10] لا ريب أنّه توجد تفسيرات أخرى تحرص على اعتماد مفهوم التنشئة الاجتماعية، مثلا، حيث تفترض أنّ تجارب الطفولة المبكّرة للأنثى هي التي تهيّئها للقيم الدينية في دور المرأة مثل حلّ المشاكل والخضوع والرفق والحنان، وتعتبر في المقابل أنّ هذه القيم هي أقلّ تناغما مع دور الرجل. كذلك ثمّة من يتخطّى نطاق التفسيرين السابقين، ويعتمد معالجة بنيوية: إنّ الموقع البنيوي للأنثى داخل المجتمع، مثل الإنجاب أو قلة المشاركة في عالم الشغل أو القيم المنزلية، هو العامل الأنسب لفهم ميل النساء إلى التديّن. ومع ذلك، فإنّ السؤال لا يزال يطرح دوما: لماذا تكون النساء أكثر تديّناً؟ وهل هناك رابط بين الفيزيولوجيا والإيمان؟
لا يمكن تأويل الجندر النسوي بمعزل عن ثقافة الجندرة التي غزت كلّ الثقافات تقريبا وهيكلت الحضارات الكبرى التي نعرفها. وإنّ أعلى فكرة تواجهنا هنا هي فكرة الله المجندَر أو جندر الله. - ربما من المفيد أن نهتمّ ليس بانتقال الإنسانية من الشرك إلى التوحيد بقدر ما يجدر بنا أن نوجّه أسئلتنا نحو ظروف الانتقال من تأنيث الألوهية في عصر "الربّات" أو "الإلاهات" إلى عصر الأرباب أو الآلهة في صيغة المذكّر، وإن كان يمكننا دوما أن نحتفظ بالفرق الاستعاري بين الذكر والمذكّر هنا: إنّ الإله التوحيدي مذكّر دون أن يُتصوّر بوصفه ذكراً بالمعنى التناسلي. والتنبيه على أنّه "لم يلد ولم يولد" هو بالأساس تنبيه جندري، وليس لاهوتيا إلاّ عرضا. إنّ المرور من الواحد (يَهْوَه- YHWH) إلى الكثرة (إلُوهِيم- Elohim) ربما هو حدث لاهوتي داخلي لا يمسّ بجندر الإله في ثقافة التوحيديين. "الله"، إذا كان يرجع في جذره اللغوي السامي إلى "إلوهيم" اليهود، فهذا يعني أنّه إله الآلهة أو الإله الذي لا تعدو الآلهة الأخرى أن تكون سوى تعبيرات أو أسماء أو تجليات عنه. لكنّ ما لا يتغيّر هو جندر الإله/الأب[11]: إنّه المذكّر الواحد أو الوحيد من نوعه. وانطلاقا منه تبدأ سلسلة الجنادر في أدوار سردية تأسيسية: الله/المذكّر؛ الشيطان/ المذكّر؛ آدم /الذكر؛ النبي: الذكر. وذلك في تساوق صارم مع الأب/الذكر والملك/الذكر والنحو/الذكوري. وإنّ ثلاثية الإله/الملك/الأب ليست مجرد مدوّنة سلطة، بل هي وثيقة جندرية تأسيسية تحوّلت إلى سياسة للحقيقة. - وفي كل الأسماء الأخرى للإله لدى اليهود (مثل مولاي- Adonaï أو الاسم- HaShem) أو لدى المسيحيين (المنقذ- Yehoshua؛ ابن داوود؛ ابن الإنسان؛ المسيح-mashia'h ) أو لدى المسلمين (الله، الإله، الرب، وقائمة الأسماء الحسنى هي أسماء مذكّرة)، أو في الترجمات اللاحقة من يونانية (Kyrios) ولاتينية (Dominus)، ظلّ معنى الألوهية مجندرا بعناية شديدة.
وعلينا أن نسأل: ما هو أصل الجندرة بما هي كذلك؟
لا يوجد أصل آخر غير اللغة، نعني قوانين النحو.[12] وحسب نيتشه لولا النحو لما كان هناك "أنا أفكّر". إنّ ما نسمّيه "أنا" هو في أصله الصامت فخّ نحوي تحوّل بالثقافة إلى سلطة هووية. وبعد المنعرج اللغوي، أصبح يمكن اعتبار هذا التخريج بمثابة شكل نموذجي لكل تصوّر جندري للمفاهيم الدينية الأساسية من قبيل "الإله" و"الشيطان" و"آدم"، إلخ. علينا أن نتخيّل: كيف كان يكون معنى "الأنا" الإلهي أو الآدمي قبل ظهور اللغة؟ وخاصة: كيف كان يمكن التعبير عن قرارات التذكير والتأنيث من دون نحو؟ وهو ما يؤدّي توالياً إلى القول بأنّ جندرة الكائنات الاجتماعية إلى "نساء" و"رجال" هو غير ممكن من دون صيغ نحوية تمّ "بناؤها" بعناية سياسية مرعبة. إنّ تعليم اللغات في كل مكان هو إذن سياسة جندرية غير مباشرة ليس فقط تجاه الحيوانات العاقلة وغير العاقلة، بل حتى تجاه ميدان المقدّس بعامة. لا يمكن تصوّر ميدان مقدّس أو خطاب ديني من دون قرارات نحوية تؤنّث وتذكّر في نوع من السخرية السوداء. وحسبما تؤكّده لوسي إيريغاراي، في كتابها "الجنس الذي هو ليس واحدا"، فإنّه توجد على الدوام فروق ذات دلالة؛ أي جندرية، بين اللغة التي يتكلّمها الرجال واللغة التي تتكلمها النساء.
بلا ريب يمكننا أن نحتجّ بأنّ الإله "مذكّر" ولكن ليس "ذكرا". لكنّ هذا التمييز قائم على فراغ نحوي فظيع: المذكّر هو ما يصحّ أن تشير إليه بقولك "هذا". مثل رجل، حصان أو كتاب، بحر، وهو عندئذ، إمّا حقيقي (رجل، حصان) وله أنثى من جنسه، أو مجازي (كتاب، بحر) وليس له أنثى من جنسه. هذا يعني أنّ الإله مذكّر مجازي؛ أي لا يقابله أيّ نوع من الأنوثة. ومن ثمّ هو يقع خارج أفق الحيوانية بعامة. أيّ معنى عندئذ لتذكير الألوهية عند الإبراهيميين؟ هل هي مجرّد "هذيّة" نحوية أي مجرّد سياسة إشارة أو تخاطب تمّ تقديسها لاحقا لأسباب سلطوية؟ - إمّا أنّ هذا هو ما جناه النحو على هذه القطعة من الإنسانية؛ نعني أنّه أمر نابع من طبيعة اللغات السامية ولا دافع له؛ وإمّا أنّ هذا الأمر هو قرار ثقافي نتيجة نوع معيّن من سياسة الحقيقة قائم على استبداد الذكور على الإناث استبدادا تحوّل إلى تكريس هووي دخل في ميدان المقدّس وانقلب إلى حواسّ طويلة الأمد لشعوب بأكملها.
إنّ القراءة اللسانية للمفردات الدينية تحوّلها إلى استتباعات أخلاقية لبنى تداولية لا تراها. وحين ننجح في إضاءة المفردات النحوية بواسطة أسئلة جندرية، فإنّنا نرتعب من هشاشة ادّعاءات الصلاحية التي ينبني عليها القول الديني حول الجنسين. إنّها ادّعاءات ليس لها من وجاهة سوى شحنتها التداولية. وكلّ ما عدا ذلك هو تبريرات هووية لاحقة أو مفاعيل سردية تمّ بناؤها اجتماعيا وتمثيليا على مراحل متطاولة، وإنْ كان ذلك قد لا ينقص شيئا من جلالتها.
إنّ الخطابات النسوية التقليدية حول منزلة النساء في هذا الدين أو ذاك، - وهي تقريبا خطابات تنويرية تدافع عن حرية النساء ضدّ سلطة الرجال - لم تعد موقفا نقديا مناسبا منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما أخذت تتكوّن، خاصة بعد المنعرج اللساني، إضاءاتٌ ما بعد كولونيالية وما بعد بنيوية ودراسات جندرية حول الهشاشة الأنطولوجية لمفاهيم الذكر والأنثى التي أقامت عليها الأديان العالمية فقهها الهووي. لقد تبيّن أنّ مفردات الذكر والأنثى، مثل مصطلحات الرجل والمرأة، هي كلّها بناءات تداولية ليس لها من صلاحية سوى مفعولها الإنجازي داخل جماعة لغوية أو تواصلية مخصوصة. وعندئذ لم يعد المشكل هو فقه النساء أو البحث النسوي في منزلة المرأة في الدين، بل صار القطب الجديد للبحث هو الدين والجندر[13]في ضوء سياسات الهوية ومسألة السلطة باعتبارها مشكلا تداوليا. كان الرهان النسوي تنويريّا (تحرير المرأة) في حين أنّ البحوث الجندرية هي تفكيكية أو كما تقول جوديت بتلر "تخريبية": إنّها تتعلّق بمراجعة مقولات الذكورة والأنوثة وطبيعة دورها في تبرير الهوية أو السلطة. وحين نقول إنّ الدين لا يعيّن هوية النساء كما تقول سرديات الخلق، بل يجندرها فقط، فنحن نعني أنّه لا توجد أصلا هوية نسوية جاهزة للإناث، كما أنّه لا توجد هوية رجالية جاهزة للذكور. ما فعله الدين بخاصة هو "أقنمة" أو "شخصنة" وضعيات أو أدوار تداولية كانت موجودة في الجماعات البشرية التقليدية وحوّلها إلى مفاهيم عقدية ودافع عنها باعتبارها مقدّسات؛ أي مصادر تشريع روحي للهوية. وفجأة، ربما، لم يعد من معنى لدراسة الدين سوى التحوّل إلى ضرب من تأويلية الجندر. لكنّ هذا لا يعني أبدا تشريع الإلحاد، فهو كما نعلم مجرّد موقف ديني مقلوب، كما يمارسه اليوم "الملحدون الجدد" في الكتابات الأمريكية، مثل ريتشارد دوكينز أو سام هاريس، بل إنّ تخريب التصوّرات البالية للذكورة والأنوثة لا يعني التخلي عن استعمالها. إنّ اللغات هي إلى حدّ الآن، لغات مجندرة، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يكفّ عن الجندرة. إنّ الرهان هو تخريبها من الداخل حتى تكفّ عن ممارسة آليات تسلّطية لم تعد تتمتّع بأيّة حصانة روحية. إنّ الإيمان ليس مشكلا نحويّا. وحين نكفّ عن جندرة الله أو آدم أو النبي يكفّ الدين عن إنتاج ثقافة الملة وكأنّها رسالة سماوية، والحال أنّها مجرّد ظواهر تداولية.
إلاّ أنّ الفلسفة اليوم لم تعد مستعدّة لأنْ تماهي بين مراجعة الدين من وجهة نظر الجندر، وبين أطروحة العلمنة. إنّ ما أشار إليه هابرماس تحت عبارة "المجتمعات ما بعد العلمانية" هي أيضا مجتمعات "ما بعد-دينية"، وهذا يعني أنّه لم يعد من معنى لأن يدّعي أحد المواطنين أنّه ملحد جديد أو أنّه ديمقراطي. إنّ أخذ الجندر مأخذ الجدّ هو أخطر بأشواط كثيرة من موقف الإلحاد. لقد كان الفصل اللائكي الفرنسي نفسه بين الدولة والكنيسة قائما بشكل غير مباشر على فصل جندري أو تقسيم جنسي بين الفضاء العمومي (حيث الرجال والعقل والسلطة)، من جهة، والحياة الخاصة (حيث النساء والمشاعر والحدوس)، من جهة أخرى. إنّ طرح قضية المساواة في ضوء الجندر أخطر من مجرد النضال من أجل تحرير المرأة من السلطة الدينية. إنّ العلمنة - وهي في الغالب مجرد تدنيس معياري للقيم المسيحية - ليست بريئة من رواسب الجندرة التقليدية التي أنتجت الأديان[14].
ولذلك، فإنّ أطرف ما في دراسة الدين من وجهة نظر الجندر هو فتح المجال أمام وعود تأويلية جديدة حول أنفسنا العميقة. وقد ظهرت فعلا محاولات لتأصيل الجندر في نصوص المسلمين التأسيسية[15]. لكنّ الأهمّ في مفهوم الجندر هو، كما تقول أطروحة لوسي إيريغاراي، مناقشة "الفرق الجنسي" (باعتباره حسب رأيها مشكل الكينونة الخاص بعصرنا) بين الذكر والأنثى وذلك من دون أيّة معاداة مبدئية ضدّ الرجل؛ أي بالتمييز الصارم له عن "التراتبية الجنسية". ومن ثمّ، فإنّ المطلوب فلسفيّا هو إذن تطوير "إتيقا للفرق الجنسي"[16] من شأنها عندئذ أن تضيء في كل مرة بأيّ وجه تكون اللغة التي نتكلّمها جميعا مجندَرة سلفا، وأنّه لا توجد لغة محايدة جندريّاً.
[1]- Mrony Joy, « L’impact du genre sur l’étude des religions », in: Diogène, n° 1/ 2009, 113-125
[2]- Cf. Claudia Schippert, « Implications of Queer Theory for the Study of Religion and Gender: Entering the Third Decade”, in: Religion and Gender, vol. 1, no. 1 (2011), 66-84
[3]- Goss, Robert E. Queering Christ: Beyond Jesus Acted Up. Cleveland: Pilgrim Press, 2002
[4]- Børresen, Elisabeth, The Image of God: Gender Models in Judaeo-Christian Tradition. Minneapolis: Fortress Press, 1995; Goss, Robert E. Queering Christ: Beyond Jesus Acted Up. Cleveland: Pilgrim Press, 2002
[5]- Cf. F. Klopper, «Women, monotheism and the gender of God », in: In die Skriflig 36(3) 2002: 421-437
[6]- Cf. Victor J. Stenger, The New Atheism: Taking a Stand for Science and Reason, Prometheus Books, 2009
[7]- Cf. Butler, J. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1990
[8]- Lisbeth Mikaelsson, « Gendering the History of Religions », in: New Approaches to the Study of Religion. Vol. 1. Edited by P. Antes, A. W. Geertz, R. R. Warne. Walter de Gruyter, Berlin, New York, 2004, pp. 295 sqq.
[9]- Cf. David de Vaus and Ian McAllister, “Gender Differences in Religion: A Test of the Structural Location Theory”, American Sociological Review. Vol. 52, No. 4 (Aug., 1987), pp. 472-481
[10]- Cf. Morny Joy, “God and Gender: Some Reflections on Women's Invocation of the Divine”, in: Ursula King (Editor), Religion and Gender. Wiley, 1995, pp. 121-143
[11]- Cf. Deborah F. Sawyer, God, Gender and the Bible. Routeledge, London and New York, 2002, pp. 10-15; pp. 115 sqq.: “Fatherhood- divine and human”.
[12]- Cf. Kira Hall, Mary Bucholtz (Editors), Gender Articulated: Language and the Socially Constructed Self. Psychology Press, 1995.
[13]- Cf. Ursula King (Editor), Religion and Gender. Wiley, 1995
[14]- Cf. Alberta Giorgi, « Gender, Religion, and Political Agency: Mapping the Field », in: Revista Crítica de Ciências Sociais, 110, setembro 2016: 51‑72.
[15]- Cf. Ahmed, Leila, Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate. New Haven: Yale University Press, 1992.
[16]- Luce Irigaray, An Ethics of Sexual Difference. A &C Black, 2005, pp. 7 sqq; 99 sqq.