الجنسانية والعزلة(١)

فئة :  ترجمات

الجنسانية والعزلة(١)

الجنسانية والعزلة(١)

ميشيل فوكو، وريتشارد سينيت(٢)

ترجمة: حسام جاسم

ريتشارد سينيت:

قبل بضع سنوات، اكتشفت أنا وميشيل فوكو أننا مهتمان بنفس المشكلة، في حقب مختلفة تمامًا من التاريخ، حيث تكمن المشكلة في لماذا أصبحت الجنسانية (sexuality) مهمة جدًا للناس كتحديد لذواتهم؟! بالتأكيد، الجنس أساسي مثل الأكل أو النوم، لكن يتم التعامل معه في المجتمع الحديث على أنه شيء أكثر من ذلك. إنه الوسيلة التي يسعى الناس من خلالها إلى تحديد شخصياتهم وأذواقهم. وقبل كل شيء، فالجنس هو الوسيلة التي يسعى الناس من خلالها إلى أن يكونوا مدركين لذواتهم. أنه تلك العلاقة بين الوعي الذاتي (self-consciousness)، أو الذاتية (subjectivity) (٤)، والجنسانية التي نريد استكشافها. قلة من الناس اليوم قد تؤيد مقولة بريلات سافارين (Brillat-Savarin) (٥) "أخبرني ماذا تأكل، وسأخبرك من أنت"، لكن ترجمة هذا القول المأثور إلى مجال الجنس تتطلب الموافقة: اعرف كيف تحب، وستعرف من أنت.

نعمل أنا وميشيل فوكو، كما قلت، على فترتين تاريخيتين مختلفتين للغاية يظهر فيهما موضوع الوعي الذاتي عبر الجنسانية؛ فهو يركز على كيف أن المسيحية في مراحلها الأولى، من القرن الثالث إلى القرن السادس، أعطت قيمة جديدة للجنسانية، وأعادت تعريف الجنسانية نفسها، بينما أركز أنا على أواخر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وخلال تلك الفترة على كيفية اهتمام الأطباء والمعلمين والقضاة بالجنسانية من جديد. وعندما أصبح واضحًا لنا أننا نطرح أسئلة متشابهة إلى حد ما حول الفترتين، قررنا إقامة ندوة لمعرفة الروابط التي يمكننا القيام بها، حيث نأمل أن نحصل على بعض الأفكار الأولية والتقريبية حول التأثير المستمر للمسيحية على الثقافة الحديثة.

أنا شخصياً لم أخطط لدراسة الجنسانية على الإطلاق، بل شرعت في دراسة تاريخ العزلة في المجتمع الحديث. أردت أن أفهم تطور تجارب العزلة؛ لأنها بدت طريقة جيدة لدراسة الذات (subject) بشكل واسع ولكنه غير متبلور، ألا وهو تطور الذاتية في الثقافة المعاصرة. كيف تغير مفهوم "أنا" في القرنين الماضيين؟ لترويض هذه الذات العامة للغاية، سعيت إلى فهم الظروف المتغيرة التي يشعر فيها الناس بالوحدة مع أنفسهم، وظروف الأسرة والعمل والحياة السياسية التي دفعت الناس إلى اعتبار أنفسهم وحيدين.

في الأساس، كنت قد ركزت على أمور ملموسة مثل كيف يشعر الناس بالوحدة وسط حشود المدينة (فكرة غير مفهومة لشخص ما في منتصف القرن السابع عشر)، وكيف تغيرت ظروف المصنع بحيث شعر الناس بالعزلة أكثر أو أقل عن بعضهم البعض. ومع ذلك، فإن تاريخ الظروف التي شعر فيها الناس بالوحدة بدا لي بعد فترة من الزمن غير ملائم للذات. وعلى وجه الخصوص، لم يأخذ في الاعتبار الوسائل العقلية والنفسية التي يستخدمها الناس للتفكير في أنفسهم عندما يكونون بمفردهم. ففي القرن الماضي، أصبحت إحدى وسائل تعريف الذات التي أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى هي تصور المرء لحياته الجنسانية. على سبيل المثال، بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت هناك فكرة مفادها أنه عندما يترك الشخص العائلة ويخرج إلى الحشد، يكون حرًا في الحصول على جميع أنواع التجارب الجنسية التي قد يخجل المرء من الاعتراف بأنه قد يرغب فيها عندما كان معتقدًا نفسه كفرد من أفراد الأسرة. وهكذا ظهر نوعان من الرغبة: أحدهما للشخص السري مجهول الهوية، والآخر للشخص المنتمي للعائلة.

اسمحوا لي الآن أن أقول شيئًا عما تعنيه كلمة "العزلة". نحن نعرف ثلاث عزلات في المجتمع؛ نحن نعرف العزلة التي تفرضها السلطة، وهذه هي انعزال العزلة، العزلة اللامعيارية، ونحن نعرف العزلة التي تثير الخوف لدى أصحاب السلطة والنفوذ، وهذه هي عزلة الحالم، عزلة الإنسان المتمرد (homme révolté)، عزلة التمرد. وأخيرًا، هناك العزلة التي تتجاوز شروط السلطة، إنها العزلة المبنية على فكرة إبكتيتوس (Epictetus) القائلة بأن هناك فرقًا بين أن تكون معزولاً وأن تكون وحيدًا (٦)، هذه العزلة الثالثة هي الشعور بكونك واحدًا من بين كثيرين، وبأن لديك حياة داخلية هي أكثر من مجرد انعكاس لحياة الآخرين، إنها عزلة الاختلاف.

كل من هذه العزلات لها تاريخ. ففي العالم القديم، كانت العزلة التي تفرضها السلطة هي المنفى؛ وفي فرنسا في القرن السابع عشر، كانت العزلة التي تفرضها السلطة هي النفي إلى الريف. أما في العصر الحديث، العزلة التي تخلقها السلطة هي الشعور بالوحدة والانعزال وسط الجماهير. في العالم القديم، كان الحالم المنعزل الذي يخشاه أصحاب السلطة والنفوذ هو سقراط (Socrates)، الشخص الذي وضع خطاب القانون الأعلى ضد قوانين الدولة، وهو المثل الأعلى ضد نظام راسخ للسلطة. وإن الإنسان المعاصر، الإنسان المتمرد (homme révolté)، يضع حقيقة الفوضى ضد نظام السلطة. وإن عزلة الاختلاف في الحياة الداخلية أكثر من انعكاسات الحياة الأخرى فهي تاريخية مماثلة.

وفي معظم الكتابات المتعلقة بهذا الموضوع، ينصب التركيز على العزلتين الأوليتين؛ حيث يُنظر إلى الأشخاص المنعزلين إما على أنهم ضحايا أو متمردين. ربما يكون إميل دوركهايم (Emile Durkheim) هو المتحدث الأعظم عن المنعزل كضحية، وجان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) عن المنعزل بصفته متمردًا.

إن الشعور بالانفصال والاختلاف يتم إهماله بشكل أكبر؛ وذلك لسبب وجيه، حيث هذه التجربة مربكة ومشوشة للغاية في المجتمع الحديث، وأحد أسباب هذا الارتباك هو أن أفكارنا حول الجنس كمؤشر للوعي الذاتي تجعل من الصعب علينا أن نفهم كيف نتميز عن الأفراد الآخرين في المجتمع. هذه هي العزلة الثالثة التي ركزنا عليها أنا والسيد فوكو.

إن الارتباك بشأن الانفصال عن الآخرين بسبب ميولهم الجنسية ينشأ جزئيًا عن الخوف. يعتقد الباحثون المعاصرون الأوائل في تناولهم لموضوع الجنسانية أنهم كانوا يفتحون صندوق باندورا (s’box Pandora) (٧) المرعب من الشهوة الجامحة والانحراف والتدمير في النظر إلى الرغبات الجنسية للأشخاص المعزولين/ الوحيدين دون قيود المجتمع الحضارية. فعندما نأتي لتحليل نصوص تيسو (Tissot) وآخرين حول العادة السرية، آمل أن يصبح بعض الإحساس بهذا الرعب واضحًا. حيث يبدو أن الشخص المنفرد بحياته الجنسانية هو/هي شخص معزول/ وحيد يتمتع بقوة خطيرة للغاية.

سعينا في ندوتنا إلى فهم مخاوف عصر التنوير والعصر الفيكتوري المتأخر من صندوق باندورا داخل الشخص، حيث لا تكون مجرد تحيزات عمياء، أو انحرافات في البحث العلمي، حيث عبرت هذه المخاوف عن أفكار حول العلاقة بين العقل والجسد، والتعبير/الخطاب والرغبة، والتي لم يكن الأطباء الفيكتوريون أنفسهم على دراية بها. إن مواقفهم مدفونة في صيغ مسيحية أساسية حول العلاقة بين الرغبة والخطاب والسيطرة السياسية. بحيث ما يتم توريثه بشكل أعمى من المرجح أن يتم نقله بشكل أعمى.

لا توفر الأخلاق الفيكتورية ببساطة الأساس الأخلاقي لهذا النوع من الصخب اليميني للقمع الاجتماعي الذي ظهر في الانتخابات الأمريكية الأخيرة: إنها أيضًا أساس الاعتقاد، في الدوائر الأكثر اعتدالًا، بأن التفكير في جنسانية الفرد هو هو تأمل في "مشكلة"، في أسرار داخل النفس يمكن أن تلحق ضررًا كبيرًا بالإنسان أثناء منحه المتعة. هذه القيمة النفسية المشحونة للغاية الموضوعة على الجنسانية هي إرث من الحكمة الفيكتورية، على الرغم من أننا نجامل أنفسنا؛ لأننا لم نعد نشاركهم تحيزاتهم القمعية. إن فكرة امتلاك هوية مكونة من جنسانية الفرد تضع عبئًا هائلًا على مشاعر الفرد الإيروتيكية، وهو عبء يصعب جدًا على شخص ما في القرن الثامن عشر فهمه.

الطريقة الثانية التي ركزت بها ندوتنا على توهانات الوعي الذاتي الجنساني تتعلق بعملية ربط العقل بالجسد. لقد استخدمنا في الندوة عبارة "تقنيات الذات" لوصف كيفية استخدام الجنسانية لقياس الشخصية الإنسانية، حيث يتمثل جزء من التقنيات الحديثة للذات في استخدام الرغبة الجسدية لقياس ما إذا كان الشخص صادقًا أم لا. "هل تقصد ذلك حقًا؟" "هل أنت صادق مع ذاتك؟" هذه أسئلة يجيب عنها الناس من خلال محاولة رسم ما يرغب فيه الجسد: إذا كان جسدك لا يرغب في ذلك، فأنت لست صادقًا مع ذاتك.

لقد أصبحت الذاتية (Subjectivity) مقيدة بالجنسانية: يتم تصور الحقيقة الذاتية للوعي الذاتي من حيث التحفيز الجسدي المقاس. إن الفكرة في الخطاب الأمريكي المتمثلة في التساؤل عما إذا كنت "تشعر حقًا بما أقوله"، وفكرة استخدام كلمة "شعور" كمقياس للحقيقة بين الناس، هي نتيجة لربط الجنس بالذاتية، وهي تحمل في طياتها دلالة أنه إذا لم يشعر بشيء، فهو غير صادق. ومرة أخرى، تعود أصول قول الحقيقة من خلال الرغبة الجسدية في عمل ندوتنا، إلى المصادر المسيحية.

والنتيجة الحديثة هي أن المسار الضال للرغبة الجنسية كان بمثابة أسيد على ثقة المرء في وعيه الذاتي: فمع تغير الرغبات الجسدية، يتعين على الناس أن يستمروا في إخبار أنفسهم بحقائق جديدة أو مختلفة أو متناقضة عن أنفسهم. إن الإيمان بالذات، وبنزاهة الوعي الذاتي، يتآكل عندما تصبح حقيقة الذات مقيدة بمعايير الجسد.

إذن، أدخلت الجنسانية عناصر من الخوف والشك في الذات إلى تجربة هذه العزلة الثالثة، وهي حالة معرفة الذات ككائن بشري متميز ومنفصل. إنها حقيقة بديهية نفسية أن ما هو مخيف أو غامض يصبح ملحّا بالنسبة إلى الشخص. إن الشكوك التي تخلقها الجنسانية للذاتية تضخم أهمية التجربة: أي إنه عندما تصبح الجنسانية أكثر إشكالية، فإنها تصبح أكثر أهمية بالنسبة لنا في تعريف أنفسنا.

أعتقد أن وجهة النظر البلاغية والسياسية التي نتقاسمها أنا والسيد فوكو هي أن الجنسانية أصبحت مهمة للغاية، وأنها أصبحت مشحونة بمهام تعريف الذات ومعرفة الذات التي لا يمكنها ولا ينبغي أن تؤديها.

واسمحوا لي أن أضيف ملاحظة تمهيدية أخيرة. إحدى الاستجابات المنطقية لمشكلة الجنسانية والعزلة هذه هو القول: "انس الأمر، استمتع بالجنس وتوقف عن التفكير في ذاتك". أود أن أقول لماذا لا أعتقد أنه يمكن التخلص من مسألة العزلة بهذه الطريقة.

هناك علاقة مباشرة بين العزلة والتواصل الاجتماعي: ما لم يتمكن الإنسان من الشعور بالراحة بمفرده، فلن يتمكن من الشعور بالراحة مع الآخرين. هناك تناغم بين عزلة الاختلاف والتواصل الاجتماعي الذي يجب الحصول عليه في المجتمع، وهو تناغم لا نشعر به، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن تجربة الوحدة مع أنفسنا مضطربة للغاية.

أود أيضًا أن أقول إن هذا التناغم من الممكن بالنسبة لنا أن نختبره بطريقة لم تكن موجودة في الماضي؛ لأنه قد أتيحت فرصة هائلة في المجتمع البرجوازي الغربي. إنها فرصة العيش في مجتمع مجزأ.

توجد اليوم فرصة للهروب من الروابط التنظيمية/ الطبيعية للدين والأسرة والعمل والمجتمع التي جمعت العديد من المجتمعات معًا من قبل - إن لم يكن في الواقع بالكامل، على الأقل كمثال مشترك -.

حب الروابط الطبيعية هو الحب الذي يمكننا أن نبدأ بالاستغناء عنه. لا تتماسك البيروقراطيات الكبيرة معًا بمبادئ التضامن التنظيمي/الطبيعي، كما كان دوركهايم أول من أشار؛ لم تعد الأسرة ومكان العمل مرتبطين، حتى جسديًا في نفس المنزل، كما كان الحال في مدينة القرن الثامن عشر أو في الريف. ولم يعد الدين يلعب الدور التكاملي الذي لعبه في الحياة الكاثوليكية أو اليهودية التقليدية. بدلاً من النحيب على هذه التغييرات، باعتبارها علامات تراجع وتدهور في المجتمع، أعتقد أنه يتعين علينا قبولها ومحاولة رؤية الفوائد التي تخدمها، حيث الخير الذي أراهم يخدمونه هو خلق فرصة جديدة للعزلة والتواصل الاجتماعي.

إن تخفيف الروابط التنظيمية/الطبيعية يعني أن العلاقات الاجتماعية يمكن أن تصبح مسألة اختيار أكثر فأكثر، حيث كلما كانت العلاقات الاجتماعية أقل ظهورًا ضمن مخطط الطبيعة، والقانون الإلهي، والضرورة التنظيمية /الطبيعية، كلما زاد عدد الناس القادرين على تخيل أنفسهم كمخلوقات لها حياة منفصلة عن أدوارها الاجتماعية.

عندما نختار الدخول في علاقات اجتماعية، كلما زادت أهميتها، لكن هذا الشعور باختيار أو عدم اختيار من يهتم به الشخص في مجتمع مجزأ يعتمد على معرفة كيف يرى المرء نفسه كإنسان منفصل ومتميز في حد ذاته. لقد أدى تضخيم الجنسانية لتكون مقياسًا للحقيقة النفسية إلى إرباك هذا النوع من معرفة الذات.

ميشيل فوكو:

في عمل مخصص للعلاج الأخلاقي للجنون، نُشر في عام 1840، تحكي الطبيبة النفسية الفرنسية لورين (Louren) عن الطريقة التي كانت تعالج بها أحد مرضاها - لقد عولج بالطبع، كما قد تتخيل، شفاؤه -. ففي صباح أحد الأيام، وضعت الطبيبة مريضها السيد (أ) في غرفة الاستحمام، وجعلته يروي بالتفصيل هذيانه.

قالت الطبيبة: ولكن كل ذلك ليس إلا جنونًا، عدني ألا تؤمن به بعد الآن. يتردد المريض، ثم يعدها. تجيب الطبيبة: هذا لا يكفي، لقد قطعت لي وعودًا مماثلة بالفعل ولم تف بها، وتفتح الدش البارد فوق رأس المريض. يبكي المريض، ويقول: 'نعم نعم! أنا مجنون! يتم إيقاف الدش؛ ويتم استئناف الاستجواب: نعم، أدرك أنني مجنون، يكررها المريض. ويضيف: لكنني أدرك ذلك لأنك تجبريني على القيام بذلك. تفتح الطبيبة الدش مرة أخرى، حينها يقول السيد (أ): حسنًا، حسنًا، أنا أعترف بذلك، أنا مجنون، وكل ذلك لم يكن سوى جنون.

إن جعل شخص يعاني من مرض عقلي يعترف بأنه مجنون هو إجراء قديم جدًّا في العلاج التقليدي. في أعمال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يجد المرء العديد من الأمثلة على ما يمكن أن نسميه علاجات الحقيقة. لكن التقنية التي تستخدمها لورين مختلفة تمامًا، فهي لا تحاول إقناع مريضها بأن أفكاره خاطئة أو غير معقولة. فما يحدث في رأس السيد (أ) هو أمر لامبالاة تامة تجاه لورين، حيث ترغب الطبيبة في الحصول على فعل دقيق، والتأكيد الصريح: "أنا مجنون". منذ أن قرأت هذا المقطع من لورين لأول مرة، منذ حوالي عشرين عامًا، ظلت في ذهني لمشروع تحليل شكل وتاريخ هذه الممارسة الغريبة.

وتشعر لورين بالرضا عندما وفقط عندما يقول مريضها: "أنا مجنون"، أو: "كان ذلك جنونًا"، حيث تفترض لورين أن الجنون كواقع يختفي عندما يؤكد المريض الحقيقة، ويقول إنه مجنون.

لدينا إذن عكس فعل الكلام الأدائي؛ فالتأكيد/الإقرار يهدم في الذات المتكلمة الواقع الذي جعل نفس التأكيد حقيقة. ما هو مفهوم حقيقة الخطاب والذاتية الذي يعدّ أمرًا مسلّمًا به في هذه الممارسة الغريبة والمنتشرة على نطاق واسع؟ من أجل تبرير الاهتمام الذي أوليه للذات، والذي يبدو متخصصًا جدًا، اسمحوا لي أن أعود خطوة إلى الوراء للحظة.

في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وحتى بعد الحرب، سيطرت فلسفة الذات (subject) (٨) على الفلسفة في أوروبا القارية وفي فرنسا. أعني أن الفلسفة اتخذت مهمتها بامتياز أساس كل المعرفة ومبدأ كل دلالة، باعتبارها تنبع من ذات ذي معنى.

ترجع الأهمية المعطاة لهذا السؤال إلى تأثير هوسرل (Husserl)، لكن مركزية الذات كانت مرتبطة أيضًا بالسياق المؤسسي، فالجامعة الفرنسية، منذ أن بدأت الفلسفة مع ديكارت (Descartes)، لم تستطع التقدم إلا بطريقة ديكارتية. ولكن يجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الوضع السياسي. ونظرًا لعبثية الحروب والمذابح والاستبداد، بدا الأمر متروكًا للذات الفردية لإعطاء معنى لخياراتها الوجودية. ومع فترة الفراغ والفجوة التي أعقبت الحرب، لم يعد هذا التركيز على فلسفة الذات يبدو بديهيًا. لم يعد من الممكن تجنب المفارقات النظرية المخفية حتى الآن. لقد فشلت فلسفة الوعي هذه بشكل متناقض في تأسيس فلسفة المعرفة، وخاصة المعرفة العلمية. كما أن فلسفة المعنى فشلت في أن تأخذ بعين الاعتبار الآليات التكوينية للدلالة وبنية أنظمة المعنى.

مع الوضوح السهل للغاية للإدراك المتأخر - لما يسميه الأمريكيون لاعب الوسط لصباح الاثنين (٩) - اسمحوا لي أن أقول إن هناك طريقين محتملين يقودان إلى ما هو أبعد من فلسفة الذات هذه.

أول هذه النظريات كانت نظرية المعرفة الموضوعية كتحليل لأنظمة المعنى، مثل السيميولوجيا (semiology)، كان هذا هو طريق الوضعية المنطقية (logical positivism). والثانية هي مدرسة معينة للغويات والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا - تم تجميعها جميعًا تحت عنوان البنيوية (structuralism).

لم تكن هذه هي التوجهات التي أخذتها، واسمحوا لي أن أعلن مرة واحدة وإلى الأبد أنني لست بنيويًا، وأعترف، مع الاستياء اللازم، أنني لست فيلسوفًا تحليليًا. لا أحد كامل، لكنني حاولت استكشاف اتجاه آخر، لقد حاولت الخروج من فلسفة الذات، من خلال جينيالوجيا الذات المعاصرة كواقع تاريخي وثقافي. وهذا يعني أنه شيء يمكن أن يتغير في نهاية المطاف، وهو بالطبع مهم سياسيًا. يمكن للمرء المضي قدمًا في هذا المشروع العام بطريقتين. وفي التعامل مع البنى النظرية المعاصرة، فإننا نهتم بالذات بشكل عام.

بهذه الطريقة، حاولت تحليل نظريات الذات ككائن ناطق، حي، عامل في القرنين السابع عشر والثامن عشر. يمكن للمرء أيضًا أن يتعامل مع الفهم الأكثر عملية الموجود في تلك المؤسسات حيث أصبحت الذوات المعينة كموضوعات للمعرفة والسيطرة: مثل المصحات والسجون وما إلى ذلك.

كنت أرغب في دراسة أشكال الفهم التي تخلقها الذات عن نفسها، ولكن منذ أن بدأت مع هذا النوع الأخير من المشاكل، اضطررت إلى تغيير رأيي في عدة نقاط، حيث اسمحوا لي أن أقدم نوعًا من النقد الذاتي. يبدو، وفقًا لبعض اقتراحات هابرماس (Habermas)، أنه يمكن للمرء التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسة من التقنيات: التقنيات التي تسمح للمرء بإنتاج الأشياء وتحويلها والتلاعب بها، والتقنيات التي تسمح للمرء باستخدام نظم الإشارات، وأخيرًا، التقنيات التي تسمح للمرء بتحديد سلوك الأفراد، لفرض غايات أو أهداف معينة. وهذا يعني تقنيات الإنتاج، وتقنيات الدلالة أو الاتصال، وتقنيات الهيمنة. لكنني أصبحت أدرك أكثر فأكثر أنه يوجد في جميع المجتمعات نوع آخر من التقنيات: تقنيات تسمح للأفراد بإجراء عدد معين من العمليات، بوسائلهم الخاصة، على أجسادهم، وأرواحهم، وأفكارهم الخاصة، وعواطفهم، وسلوكهم، وذلك بطريقة تؤدي إلى تغيير أنفسهم وتعديل أنفسهم والوصول إلى حالة معينة من الكمال والسعادة والنقاء والقوة الخارقة للطبيعة. دعونا نسمي هذه التقنيات بتقنيات الذات.

إذا أراد المرء تحليل جينيالوجيا الذات في الحضارة الغربية، فيجب عليه أن يأخذ في الاعتبار، ليس فقط تقنيات الهيمنة، ولكن أيضًا تقنيات الذات. على المرء أن يظهر التفاعل بين هذه الأنواع من التقنيات.

عندما كنت أدرس المصحات والسجون وما إلى ذلك، ربما أصررت كثيرًا على تقنيات الهيمنة. وإن ما نسميه الانضباط هو شيء مهم حقًا في هذا النوع من المؤسسات. ولكنه ليس سوى جانب واحد من فن حكم الناس في مجتمعاتنا. وبعد أن درست مجال علاقات السلطة متخذًا تقنيات الهيمنة كنقطة انطلاق، أود في السنوات القادمة أن أدرس علاقات السلطة بدءًا من تقنيات الذات. أعتقد أنه في كل ثقافة، تتضمن هذه التكنولوجيا الذاتية مجموعة من التزامات الحقيقة: اكتشاف الحقيقة، والاستنارة بالحقيقة، وقول الحقيقة. كل هذه تعتبر مهمة سواء للبنية أو لتغيير الذات.

والآن ماذا عن الحقيقة كواجب في مجتمعاتنا المسيحية؟ وكما يعلم الجميع، المسيحية هي اعتراف. وهذا يعني أن المسيحية تنتمي إلى نوع خاص جدًا من الأديان – تلك التي تفرض التزامات الحقيقة والصدق على أولئك الذين يمارسونها.

مثل هذه الالتزامات في المسيحية عديدة. على سبيل المثال، هناك الالتزام باعتبار مجموعة من الافتراضات التي تشكل عقيدة كحقيقة، والالتزام بالاحتفاظ بكتب معينة كمصدر دائم للحقيقة، والالتزام بقبول قرارات بعض السلطات في مسائل الحقيقة. لكن المسيحية تتطلب شكلاً آخر من أشكال الالتزام بالحقيقة، فمن واجب كل شخص في المسيحية أن يستكشف من هو، وما يحدث داخل نفسه، والأخطاء التي قد يكون ارتكبها، والإغراءات التي يتعرض لها. علاوة على ذلك، يجب على الجميع أن يخبروا الآخرين بهذه الأشياء، وبالتالي أن يشهدوا ضد أنفسهم.

وهاتان مجموعتا الالتزامات: تلك المتعلقة بالإيمان والكتاب والعقيدة، وتلك المتعلقة بالذات والنفس والقلب، مرتبطة ببعضها البعض، حيث يحتاج المسيحي إلى نور الإيمان عندما يريد أن يستكشف نفسه، وعلى العكس من ذلك، فإن وصوله إلى الحقيقة لا يمكن تصوره دون تطهير النفس. وعلى البوذي أيضًا أن يذهب إلى النور ويكتشف الحقيقة عن نفسه. لكن العلاقة بين هذين الالتزامين مختلفة تمامًا في البوذية وفي المسيحية.

ففي البوذية، نفس نوع التنوير هو الذي يقودك إلى اكتشاف ما أنت عليه وما هي الحقيقة. وفي هذا التنوير المتزامن لنفسك والحقيقة، تكتشف أن ذاتك لم تكن سوى وهم. أود أن أؤكد أن الاكتشاف المسيحي للذات لا يكشف عن الذات كوهم. إنه يفسح المجال لمهمة لا يمكن أن تكون أي شيء آخر غير أن تكون غير محددة. هذه المهمة لها هدفين: أولاً، هناك مهمة إزالة كل الأوهام والوساوس والإغراءات التي يمكن أن تحدث في العقل، واكتشاف حقيقة ما يجري داخل أنفسنا.

ثانيًا، يجب على المرء أن يتحرر من أي ارتباط بهذه الذات، ليس لأن الذات مجرد وهم، ولكن لأن الذات حقيقية للغاية. وكلما اكتشفنا الحقيقة عن أنفسنا، كلما اضطررنا إلى نبذ أنفسنا، وكلما أردنا أن ننكر أنفسنا، كلما زادت حاجتنا إلى تسليط الضوء على حقيقة أنفسنا. هذا ما يمكن أن نسميه دوامة صياغة الحقيقة ونبذ الواقع الذي يقع في مركز التقنيات المسيحية للذات.

صرح لي البروفيسور بيتر براون Peter Brown)) مؤخرًا أن ما يجب علينا أن نفهمه هو السبب وراء تحول الجنسانية، في الثقافات المسيحية، إلى جهاز قياس الزلازل لذاتنا.  إنها حقيقة، حقيقة غامضة، أنه في هذه الدوامة غير المحددة من الحقيقة والواقع في الذات، كانت الجنسانية ذات أهمية كبرى منذ القرون الأولى لعصرنا، ولقد أصبحت أكثر وأكثر أهمية. لماذا توجد مثل هذه العلاقة الأساسية بين الجنسانية والذاتية والالتزام بالحقيقة؟ وهذه هي النقطة التي التقيت فيها بعمل ريتشارد سينيت (Richard Sennett).

كانت نقطة انطلاقنا في الندوة هي إقرار القديس فرنسيس دي ساليس (St François de Sales)، إليكم النص في الترجمة التي تمت في بداية القرن السابع عشر: (سأخبرك بفائدة من صدق الفيل. فهو لا يغير رفيقته أبدًا، يحبها بحنان، لا يتزاوج معها، ولكن من ثلاث سنوات إلى ثلاث سنوات؛ وذلك لمدة خمسة أيام فقط، وبشكل سري للغاية، حيث لا تتم رؤيته على أرض الواقع مطلقًا. لكنه في اليوم السادس، يظهر في الخارج مرة أخرى، وأول شيء يفعله هو الذهاب مباشرة إلى أحد الأنهار وغسل جسده، غير راغب في العودة إلى مجموعة رفاقه حتى يتم تطهيره. أليست هذه الصفات الطيبة والصادقة في الوحش الذي يعلم بها المتزوجين ألا يبالغوا في الملذات الحسية والجسدية؟).

يمكن للجميع أن يتعرفوا هنا على نمط السلوك الجنسي اللائق: الزواج الأحادي، والإخلاص، والإنجاب بوصفه المبرر الرئيس، أو ربما الوحيد، للأفعال الجنسية – الأفعال الجنسية التي تظل، حتى في مثل هذه الظروف، نجسة في جوهرها –. أعتقد أن معظمنا يميل إلى إرجاع هذا النمط إما إلى المسيحية أو إلى المجتمع المسيحي الحديث الذي تطور تحت تأثير الأخلاق الرأسمالية أو ما يسمى بالأخلاق البرجوازية. لكن ما أدهشني عندما بدأت دراسة هذا النمط هو حقيقة أنه يمكن للمرء أن يجده أيضًا في الأدب اللاتيني وحتى الأدب الهلنستي.

ويجد المرء نفس الأفكار، ونفس الكلمات، وفي النهاية نفس الإشارة إلى الفيل. والحقيقة هي أن الفلاسفة الوثنيين في القرون التي سبقت المسيح وبعد موته اقترحوا إتيقا جنسية كانت جديدة جزئيًا ولكنها كانت مشابهة جدًا للإتيقا المسيحية المزعومة.

في ندوتنا، تم التأكيد بشكل مقنع للغاية على أن هذا النمط الفلسفي للسلوك الجنسي، نمط الفيل هذا، لم يكن في ذلك الوقت هو النمط الوحيد الذي تم التعرف عليه ووضعه موضع التنفيذ. وكان في منافسة مع الانماط العديدة من الآخرين. ولكن هذا النمط سرعان ما أصبح سائدا؛ لأنه كان مرتبطا بالتحول الاجتماعي الذي شمل تفكك دول المدن، وتطور البيروقراطية الإمبراطورية، والنفوذ المتزايد للطبقة المتوسطة المحافظة.

خلال هذه الفترة قد نشهد تطورًا نحو الأسرة النووية (nuclear family) (١٠)، والزواج الأحادي الحقيقي، والإخلاص بين المتزوجين والقلق بشأن الممارسات الجنسية. وكانت الحملة الفلسفية لصالح نمط الفيل تأثيرًا ومساعدًا لهذا التحول. إذا كانت هذه الافتراضات صحيحة، علينا أن نعترف بأن المسيحية لم تخترع قانون السلوك الجنسي هذا. بل قبلته المسيحية وعززته وأعطته قوة أكبر وأوسع بكثير مما كانت عليه من قبل. لكن ما يسمى بالأخلاق المسيحية ليس أكثر من قطعة من الأخلاق الوثنية تم إدخالها في المسيحية. فهل نقول إذن إن المسيحية لم تغير حال الأشياء؟ أدخل المسيحيون الأوائل تغييرات مهمة، إن لم يكن في القانون الجنسي نفسه، فعلى الأقل في علاقات كل فرد بنشاطه الجنسي. واقترحت المسيحية نوعًا جديدًا من تجربة الذات كوجود جنسي.

ولتوضيح الأمور أكثر، سأقارن بين نصين: أحدهما كتبه أرطميدورس الإفسي (Artemidorus)، وهو فيلسوف وثني من القرن الثالث، والآخر هو الكتاب الشهير الرابع عشر (مدينة الله) لأوغسطينوس (Augustine).

فقد ألف أرطميدورس كتابًا عن تفسير الأحلام في القرن الثالث بعد وفاة المسيح، ولكنه كان وثنيا. ثلاثة فصول من هذا الكتاب مخصصة للأحلام الجنسية. ما هو المعنى، أو بشكل أكثر دقة، ما هي القيمة التنبؤية للحلم الجنسي؟

ومن الجدير بالذكر أن أرطميدورس فسر الأحلام بطريقة مخالفة لفرويد (Freud)، فهو يعطي تفسيرًا للأحلام الجنسية من حيث الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والنجاح والانتكاسات في النشاط السياسي والحياة اليومية، على سبيل المثال، إذا حلمت أنك تمارس الجنس مع والدتك، فهذا يعني أنك ستنجح كقاضي او حاكم، حيث أن والدتك هي رمز مدينتك أو بلدك بشكل واضح.

ومن المهم أيضًا أن القيمة الاجتماعية للحلم لا تعتمد على طبيعة الفعل الجنسي، بل تعتمد بشكل أساسي على الوضع الاجتماعي للشركاء. على سبيل المثال، بالنسبة إلى إرطميدورس، ليس من المهم في حلمك ما إذا كنت قد مارست الجنس مع فتاة أو مع صبي، المشكلة هي معرفة ما إذا كان الشريك غنيًا أم فقيرًا، صغيرًا أم كبيرًا، عبدًا أم حرًا، متزوجًا أم لا. وبطبيعة الحال، يأخذ أرطميدورس في الاعتبار مسألة الفعل الجنسي، لكنه يرى ذلك فقط من وجهة نظر الذكر، حيث الفعل الوحيد الذي يعرفه أو يعترف به على أنه جنسي هو الإيلاج. فالإيلاج بالنسبة إليه ليس مجرد فعل جنسي، بل هو جزء من الدور الاجتماعي للرجل في المدينة.

وأود أن أقول إن الحياة الجنسية بالنسبة إلى إرطميدورس علائقية، وأن العلاقات الجنسية لا يمكن فصلها عن العلاقات الاجتماعية.

والآن لننتقل إلى نص أوغسطينوس، الذي معناه هو النقطة التي نريد أن نصل إليها في تحليلنا. ففي مدينة الله (The City of God)، وبعد ذلك في الرد على جوليان (Contra Julian)، يقدم أوغسطينوس وصفًا مرعبًا إلى حد ما للفعل الجنسي، حيث يرى في الفعل الجنسي نوعاً من التشنج، فيقول إن الجسد كله يهتز بسبب الهزات الرهيبة، فيفقد المرء السيطرة على نفسه تمامًا.

((إن هذا الفعل الجنسي يستولي بشكل كامل وعاطفي على الرجل بأكمله، جسديًا وعاطفيًا، بحيث ينتج عنه أشد المتع حرصًا على مستوى الأحاسيس، وفي أزمة الإثارة، فإنه يشل عمليًا كل قوة التفكير المتعمد)).

ومن الجدير بالذكر أن هذا الوصف ليس من اختراع أوغسطينوس: يمكنك أن تجد نفس الشيء في الأدبيات الطبية والوثنية في القرن السابق له. علاوة على ذلك، فإن نص أوغسطينوس يكاد يكون النسخ الدقيق لمقطع كتبه الفيلسوف الوثني، شيشرون في أوتنسيوس (Otensius).

النقطة المدهشة ليست أن أوغسطينوس قد يقدم مثل هذا الوصف الكلاسيكي للفعل الجنسي، ولكن حقيقة أنه، بعد أن قدم مثل هذا الوصف الرهيب، يعترف بعد ذلك بأن العلاقات الجنسية كان من الممكن أن تحدث في الجنة قبل السقوط. وهذا أمر رائع للغاية؛ لأن أوغسطينوس هو أحد الآباء المسيحيين الأوائل الذين اعترفوا بهذه الاحتمالية.

بالطبع، لا يمكن أن يكون للجنس في الفردوس الشكل الصرع الذي نعرفه الآن للأسف. فقبل السقوط، كان جسد آدم، بكل أجزائه، خاضعًا تمامًا للنفس والإرادة، فإذا أراد آدم أن يتناسل في الجنة، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك بنفس الطريقة وبنفس السيطرة التي تمكنه، على سبيل المثال، من زرع البذور في الأرض. لم يكن متحمسًا بشكل غير قسري. وكان كل جزء من جسده مثل الأصابع، التي يمكن التحكم بها في جميع حركاتها. حيث كان الجنس نوعًا من اليد التي تزرع البذور بلطف. ولكن ماذا حدث مع السقوط؟ لقد انتفض آدم على الله بالخطيئة الأولى. لقد حاول الهروب من إرادة الله والحصول على إرادة خاصة به، متجاهلاً حقيقة أن وجود إرادته يعتمد كليًا على إرادة الله. وكعقاب لهذا التمرد ونتيجة لهذه الإرادة المستقلة عن الله فقد آدم السيطرة على ذاته. لقد أراد أن يكتسب إرادة مستقلة، ففقد الدعم الوجودي لتلك الإرادة، ثم اختلط ذلك بطريقة لا يمكن فصلها مع الحركات اللاإرادية، وكان لهذا الضعف في إرادة آدم تأثير كارثي، فتوقف جسده، وأجزاء من جسده، عن طاعة أوامره، وثارت عليه، وكانت الأعضاء الجنسية في جسده أول من ثار في هذا العصيان.

إن إيماءة آدم الشهيرة التي قام فيها بتغطية أعضائه التناسلية بورقة تين، وفقًا لأوغسطينوس، لا ترجع إلى الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن آدم كان يخجل من وجودهم، ولكن إلى حقيقة أن أعضائه الجنسية كانت تتحرك من تلقاء نفسها دون موافقته. فالجنس في حالة الانتصاب هو صورة الإنسان المتمرد على الله. حيث غطرسة الجنس هي العقوبة ونتيجة لغطرسة الإنسان. فإن جنسه غير المنضبط هو تمامًا نفس ما كان عليه تجاه الله – متمردًا –.

لماذا أصررت كثيرًا على ما قد لا يكون أكثر من واحدة من تلك التخيلات التفسيرية التي أسرفت فيها الأدبيات المسيحية؟ أعتقد أن هذا النص يشهد على النوع الجديد من العلاقة التي أقامتها المسيحية بين الجنس والذاتية. لا يزال مفهوم أوغسطينوس يهيمن عليه موضوع ونمط الجنسانية الذكورية.

لكن السؤال الرئيس ليس مشكلة الإيلاج، كما كان الحال عند أرطميدورس: بل مشكلة الانتصاب. ونتيجة لذلك، فهي ليست مشكلة العلاقة مع الآخرين، ولكن مشكلة علاقة الذات مع ذاتها، أو بشكل أكثر دقة، العلاقة بين إرادة الفرد والتأكيدات اللاإرادية.

مبدأ الحركات المستقلة للأعضاء الجنسية تسمى الرغبة الجنسية/اللبيدو (libido) من قبل أوغسطينوس. وهكذا تصبح مشكلة الرغبة الجنسية، بقوتها وأصلها وتأثيرها، هي القضية الأساسية لإرادة الإنسان، وهي ليست عائقا خارجيا أمام الإرادة، بل إنها جزء، ومكون داخلي، للإرادة. وليست مظهرًا لرغبات تافهة، فالرغبة الجنسية هي نتيجة إرادة الإنسان عندما تتجاوز الحدود التي وضعها الله لها في الأصل. ونتيجة لذلك، فإن وسائل النضال الروحي ضد الرغبة الجنسية لا تتمثل، كما كان الحال مع أفلاطون (Plato)، في رفع أعيننا إلى الأعلى وحفظ الواقع الذي عرفناه ونسيناه من قبل، بل على العكس من ذلك، فإن النضال الروحي يتمثل في تحويل أعيننا باستمرار إلى الأسفل أو إلى الداخل لكي نفك رموز حركات النفس التي تأتي من الرغبة الجنسية. تكون المهمة في البداية غير محددة، حيث لا يمكن فصل الرغبة الجنسية والإرادة عن بعضهما البعض بشكل جوهري. وهذه المهمة ليست مسألة سيادة فحسب، بل هي أيضًا مسألة تشخيص الحقيقة والوهم، إنها تتطلب تأويلًا دائمًا للذات.

في مثل هذا المنظور، تنطوي الإتيقا الجنسية على التزامات صارمة للغاية بشأن الحقيقة. لا يقتصر هذا على تعلم قواعد السلوك الجنسي الأخلاقي فحسب، بل يشمل أيضًا التدقيق المستمر في أنفسنا ككائنات شهوانية. هل نقول إننا بعد أوغسطينوس نختبر جنسنا في العقل؟ دعنا نقول على الأقل أننا في تحليل أوغسطينوس نشهد شهوة حقيقية للجنس.  إن اللاهوت الأخلاقي عند أوغسطينوس هو، إلى حد ما، منهجًا لكثير من التكهنات السابقة، ولكنه أيضًا مجموعة من التقنيات الروحية.

عندما يقرأ المرء الأدبيات النسكية والرهبانية في القرنين الرابع والخامس، لا يسعه إلا أن يفاجأ بحقيقة أن هذه التقنيات ليست معنية بشكل مباشر بالتحكم الفعال في السلوك الجنسي، حيث هناك القليل من الحديث عن العلاقات الجنسية المثلية، على الرغم من أن معظم الزاهدين عاشوا في مجتمعات مستقرة وكبيرة. كانت التقنيات تهتم بشكل أساسي بتدفق الأفكار إلى الوعي، مما يزعج، بتعددها، وحدة التأمل الضرورية، وينقل سرًا صورًا أو اقتراحات من الشيطان. إن مهمة الراهب لم تكن مهمة الفيلسوف: اكتساب السيادة على الذات من خلال الانتصار النهائي للإرادة. كان الهدف هو السيطرة على أفكارنا بشكل دائم، وفحصها لمعرفة ما إذا كانت نقية وطاهرة، وما إذا كان هناك شيء خطير لا يختبئ فيها أو خلفها، وما إذا كانت لا تنقل شيئًا آخر غير ما ظهر في المقام الأول، وما إذا لم تكن شكلاً من أشكال الوهم والإغواء. ويجب دائمًا النظر إلى مثل هذه المعطيات بعين الشك. إنها بحاجة إلى التدقيق والاختبار.

وفقًا لكاسيان (Cassian)، على سبيل المثال، يجب على المرء أن يتعامل مع نفسه باعتباره صرافًا عليه تجربة العملات المعدنية التي يتلقاها. فلا يتم الحصول على الطهارة الحقيقية، عندما يتمكن المرء من الاستلقاء مع صبي صغير وجميل دون أن يلمسه، كما فعل سقراط (Socrates) مع آلسيبايَديز (Alcibiades). لذا يكون الراهب عفيفًا حقًا، حيث لم تكن هناك صورة نجسة في ذهنه، حتى أثناء الليل، وحتى أثناء الأحلام.

إن معيار الطهر لا يتمثل في الحفاظ على السيطرة على الذات حتى في حضور أكثر الأشخاص المرغوب فيهم: بل يتمثل في اكتشاف الحقيقة في ذاتي وهزيمة الأوهام الموجودة في ذاتي، وفي قطع الصور والأفكار التي ينتجها ذهني باستمرار. ومن هنا محور الجهاد الروحي ضد النجاسة. لقد انتقل السؤال الأساسي للإتيقا الجنسية من العلاقات مع الناس، ومن نموذج الإيلاج إلى العلاقة مع الذات وإلى مشكلة الانتصاب:

أعني مجموعة الحركات الداخلية التي تتطور من الفكر الأول وغير المحسوس تقريبًا إلى الدنس النهائي ولكنه لا يزال منعزلاً.

ومهما كانت مختلفة ومتناقضة ففي نهاية المطاف، قد تم استنباط تأثير مشترك: كانت الجنسانية والذاتية والحقيقة مرتبطة ببعضها البعض بقوة. أعتقد أن هذا هو الإطار الديني الذي ظهرت فيه مشكلة العادة السرية - والتي تم تجاهلها تقريبًا أو على الأقل إهمالها من قبل اليونانيين، الذين اعتبروا أن العادة السرية كانت شيئًا للعبيد والساتير (satyr)، ولكن ليس للمواطنين الأحرار - ظهرت كواحدة من القضايا الرئيسة في الجنسانية.

ريتشارد سينيت:

في الختام، أود أن أوضح كيف أن بعض الأفكار المسيحية المتمثلة في مواجهة الذات من خلال مواجهة الجنسانية قد عادت إلى الظهور في المجتمع الحديث. سأفعل ذلك من خلال تتبع بعض تاريخ الأفكار حول العادة السرية من منتصف القرن الثامن عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر.

في تحديد هذا الموضوع، أستخدم كلمة "معاودة الظهور" عن قصد. ففي بداية القرن الثامن عشر، لم تكن الإيروتيكية الذاتية (auto-eroticism) (١١) محل اهتمام كبير للسلطات الطبية والتعليمية. بالطبع، كان الاستمناء (onanism) خطيئة، ولكن كانت هناك فجوة بين القاعدة المسيحية والتشخيص الطبي لها. تم تصنيف الإيروتيكية الذاتية التلقائية ببساطة، باعتبارها واحدة من عدد من الاضطرابات التي قد تحدث إذا كان الشخص متساهلا جنسيًا بشكل مفرط. ففي مؤسسة بورهافي (Boerhaave) للطب، التي نشرت عام 1708، تقديم التشخيص العام للإفراط الجنسي على النحو التالي: "إن إطلاق السائل المنوي بإفراط يسبب التعب والضعف وعدم القدرة على الحركة والتشنجات والهزال والجفاف والحرارة والألم في أغشية الدماغ، مع بلادة الحواس، وخاصة البصر، والتباس الظهري، والبلاهة والاضطرابات الأخرى من هذا النوع". وبحلول وقت نشر كرافت إيبنج (Krafft-Ebing) كتابه "علم نفس الأمراض للجنسانية" في عام 1887، كانت هذه الأعراض مقتصرة على العادة السرية. وبجانب ذلك، فإن سبب هذه الأعراض لم يعد "أداء الفعل الجنسي المسرف للغاية"، بل الرغبة الجنسية، حيث إن الرغبة الجنسية، عندما يتم تجربتها بمفردها وبشكل مستمر، ستؤدي إلى العادة السرية، ومن ثم إلى المثلية الجنسية (homosexuality)، وأخيرا إلى الجنون. فمنذ زمن بورهافي إلى كرافت إيبنج، انتقلت الجنسانية من كيفية تصرف الشخص وسلوكه إلى كيفية ما يشعر/تشعر به.

ولعل الوثيقة الطبية الأكثر أهمية في هذا التحول هي عمل الطبيب الفرنسي السويسري صموئيل تيسو (Samuel Tissot): "Onania، أو دراسة عن الاضطرابات الناجمة عن العادة السرية"، المنشورة في لوزان عام 1758.

لم يكن كتاب تيسو أول كتاب حول هذا الموضوع في عام 1758 في القرن الثامن عشر: كان هذا التكريم الملتبس يخص رجلًا إنجليزيًا مجهولًا نشر عملاً يسمى أيضًا (Onania) في عام 1716. وأكد الإنجليزي، لأول مرة، أن العادة السرية مرض خاص له صورة سريرية خاصة، لكن تأكيداته جاءت في هذا السياق غامضة وفضفاضة بطريقة أنه على الرغم من أن الكتاب حقق نجاحًا بين جامعي الأعمال المثيرة، إلا أنه لم يؤخذ على محمل الجد من قبل المجتمع العلمي، غير أن، كتاب تيسو: هو الذي شرع في شرح لماذا، من الناحية الفسيولوجية، يجب أن تؤدي العادة السرية إلى الجنون.

أكد تيسو أن العادة السرية هي أقوى تجربة جنسية يمكن أن يمر بها الشخص من الناحية الفسيولوجية، أكثر من أي فعل جنسي آخر، فهي تضخ الدم إلى الدماغ، حيث كتب: "إن هذه الزيادة في الدم تفسر كيف أن هذه التجاوزات تنتج الجنون... وكمية الدم التي تمدد الأعصاب تضعفها، وهي أقل قدرة على مقاومة مرات التكرار، مما يؤدي إلى إضعافها". وبالنظر إلى نظريات علاقات الدم والأعصاب السائدة في ذلك الوقت، بدا هذا منطقيًا تمامًا. وما كان جديدًا وصادمًا ومصدقًا علميًا على ما يبدو من خلال نظرية تيسو، هو أن المتعة التي يمكن أن يمنحها الشخص لنفسه هي أكثر قوة من الناحية الجنسية من المتعة التي يمكن أن يستمدها من الجماع مع فرد من الجنس الآخر. وبدون القيود الاجتماعية، وتركهم بمفردهم لاتباع أنقى ما تمليه عليهم اللذة، كان الجميع في خطر أن تستهلكهم الإيروتيكية الذاتية وبالتالي تقودهم في النهاية إلى الجنون.

في نصه، يجادل تيسو ضد الصورة السريرية التي وضعها بورهافي قبل نصف قرن، حيث يقدم ثمانية أسباب تجعل العادة السرية أكثر خطورة من الإفراط الجنسي المرتكب مع النساء، وآخرها وأقواها هو النفسي. يتم التغلب على الاستمناء بـ "الخجل والندم الصادم" كما هو الحال مع الدنْجُوان (Don Juan). هذا الإدراك النفسي الداخلي يضخ الكثير من الدم إلى الدماغ، مما يؤدي إلى حدوث فيضان حقيقي للأعصاب.

مرة أخرى، كان التفسير الفسيولوجي منطقيًا لمعاصريه، والحقيقة الصادمة التي بدا أنها تثبتها هي أن السايكي (psyche) [العقل والوعي واللاوعي] يمكن أن يدفع ذاته حرفيًا إلى الجنون من خلال الرغبة غير المقيدة. إن فكرة الاندفاع نحو الجنون من قبل الذات كعملية داخلية هي أمر يظهر مع تيسو، حيث يتم إنشاء نظام داخلي كامل من الرغبة والاعتراف والتدمير؛ حدد تيسو حدود الحياة الإيروتيكية الداخلية المقيدة، تكون أكثر عاطفية، وأكثر أهمية، وأكثر خطورة من أي شكل آخر من أشكال التجربة الإيروتيكية: حيث يقول تيسو، يجب علينا إنقاذ الإنسان من هذه العزلة.

من المهم في نص تيسو أنه يطبق الكالڤينيّة البيوريتانية (puritanism) (١٢) على هذه الفينومينن الجنسية sexual phenomenon)) بالذات. إنه يميز بين الموقف العلمي النزيه الذي يجب أن يتخذه الطبيب تجاه الأنماط الأخرى من الأمراض الجنسية، مثل الإفراط وتجاوز الحد في النزوات، والموقف الأخلاقي الذي يجب أن يتخذه الطبيب تجاه العادة السرية. فإن العادة السرية "جريمة"، "تقوم بشكل أكثر عدلاً" بكيفية المستمني "لازدراء زملائه من الناس بدلاً من الشفقة عليهم". ناضل بورهافي لتأسيس خطاب علمي حول الجنسانية خاليًا من الأخلاق المسيحية. لقد أعادها تيسو مرة أخرى، ولكن بشكل انتقائي: وحدها الإيروتيكية الذاتية هي التي تستحق الاستنكار المسيحي - إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة -.

أطلق تيسو ثلاثة مواقف حول الإيروتيكية الذاتية، والتي أثرت بشكل عميق على الرأي الطبي والتعليمي في وقت لاحق من القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر: الجنسانية في العزلة هي، أولاً، مثيرة للغاية؛ ثانيًا، الإيروتيكية الذاتية هي الحالة التي يكون فيها الشخص أكثر وعيًا بنفسه. ثالثًا، إن الإثارة الجنسية والوعي الذاتي وحدهما أمر خطير: فالجسد يكون على طريق الجنون والروح تكون على طريق الهلاك. الأمر المهم في إرث تيسو، وفي الفينومينن الإيروتيكية الذاتية بشكل عام في القرن التاسع عشر، هو أنه من خلال منظور الإيروتيكية الذاتية، حاولت السلطات فهم الإيروتيكية نفسها. مسلحين بهذه الافتراضات الثلاثة، شرع الباحثون في محاولة فهم الجنسانية. فبدلاً من اعتبار الأشخاص الذين يمارسون الحب معًا يشكلون مجالًا من المعرفة التي سيتعلمها الطبيب، كانت الفكرة هي فصل الفرد ودراسته بذاته؛ لأنه في العزلة سيشعر بجنسانيتة بقوة أكبر. لقد كان تطبيقًا لدراسة الجنس لأشكال أخرى من الفردانية (individualism) في القرن التاسع عشر، وهو الافتراض القائل إن الشخص يجب اعتباره فردانيًا منعزلاً.

أصبح نهج تيسو تجاه الإيروتيكية الذاتية وسيلة لتصور الجنسانية نفسها خلال القرن التاسع عشر بالطرق التالية: أولاً، بسبب معتقداتهم حول الإيروتيكية الذاتية، اعتاد الأطباء والمعلمون على الاعتقاد بأن الرغبة الجنسية كانت موجودة قبل الانجذاب الجنسي، ويمكن فصلها عنه، حيث كان يُعتقد أن الرغبة عادة ما تكون بمثابة سر؛ أي إذا كانت الرغبة ملكًا للجسد في حد ذاته، فهي شيء سابق لرغبة أي شخص آخر، وتكون أقوى عندما تبقى سرًا. وهذه الرغبة الجنسية ملك للفرد: يتم إشباعها وليس خلقها عن طريق الانجذاب إلى إنسان آخر. وكانت المشكلة بالنسبة إلى الطبيب أو المعلم أن يتعرف على هذه الرغبة، فهي مخفية داخل الفرد. نحن جميعًا ندرك الأعراض الغريبة التي كان الطب الفيكتوري يخترعها لممارسي لعادة السرية: نمو الشعر فجأة على راحتي اليد المستمنية، أو تورم اللسان، أو انتفاخ العينين، أو، في حالة النساء، انتفاخ البظر بشكل كبير، حيث كان لدى الأطباء الفيكتوريين سبب لاختراع هذه الأعراض: بما أن الرغبة الجنسية نفسها كانت سرية، ومخبأة داخل الفرد، فلا يمكن للطبيب أو أي سلطة أخرى السيطرة على الفرد إلا من خلال خلق أعراض من شأنها أن تجعله يتخلص من الرغبة الجنسية. وظهر أقصى هذا الاختراع الخيالي في عام 1876 في نص لبوييه (Pouillet) عن العادة السرية للإناث، وهو أحد النصوص الأولى في الأدبيات الطبية حول الذات. وكان تشخيص العادة السرية لدى الإناث هو الشراسة والفظاظة والتجهم تجاه الغرباء والكذب، هذه هي العلامات الثابتة التي تدل على أن المرأة تمارس العادة السرية.

وأخيرا، كما يقول بوييه، "هناك جانب معين، لا أعرف ما هو، أسهل في التعرف عليه من التعبير عنه بالكلمات". وقد أكد تيسو أن الإيروتيكية الذاتية تجتذب المقترف إلى عالم داخلي مكتف بذاته. وبحلول زمن بوييه، أصبحت فكرة الرغبة الجنسية مقيدة بشكل خاص وسري. ولا يمكن لشخص آخر أن يتغلب على هذه الرغبة إلا من خلال العثور على علامات على الجسد تكشف وجودها، يجب أن تكون شيئًا ملموسًا إذا أردنا ممارسة علاقة السلطة هذه.

الطريقة الثانية التي أصبحت بها الإيروتيكية الذاتية منظورًا لفهم الإيروتيكية تتعلق بالعلاقة بين الرغبة الجنسية والخيال. وتجدر الإشارة إلى أن تيسو كان يعتقد أن التجربة الجنسية الذاتية هي أقوى تجربة جنسية يمكن أن يمر بها أي شخص. وفي القرن التاسع عشر، امتد هذا إلى الخيال الجنسي.

في العزلة، كان يُعتقد أن الرغبات الجنسية للشخص قد تصبح جامحة، حيث كتب لاليماند (Lallemand) حول العزلة في عام 1842، أن الشخص يخترع حياة إيروتيكية لا يمكن للعالم أن يحققها بما فيه الكفاية. لذا يجب على الطبيب إخماد نيران تلك الرغبة الجنسية بإجراءات قمعية خارجية. وفقًا للاليماند، كان يُنظر إلى الجنس الزوجي على أنه المعاقب الأعظم للرغبة. فما تهدف إليه تقنيات التحكم الخارجية والاجتماعية هذه هو مواجهة تأثير الخيال، فهناك عداء أساسي بين الخيال والنظام الاجتماعي.

أخيرًا وبشكل حاسم، كان الدرس المستفاد من الإيروتيكية الذاتية هو أن الجنسانية ذاتها يمكن أن تكون مؤشرًا لقياس الشخصية الإنسانية. خلال القرن التاسع عشر، تراجعت النظرة الفسيولوجية لتيسو، لكن ارتباطه بالإيروتيكية الذاتية والشخصية الأخلاقية للفرد أصبحت أقوى. وإليكم كيف وصف دليل "النظافة الجنسية" الشهير للشباب الأمر في عام 1917 (وهو كتاب روبرت ويلسون (Robert Willson) لتعليم الشباب الصحة والنظافة الجنسية): "الصبي الذي يستطيع أن ينظر في عيون والده وأمه بشكل كامل ويضحك، من يستطيع أن يرمي كتفيه إلى الخلف ويتنفس بعمق؛ ذلك الصبي الذي يعتبر والده رفيقه وأمه أفضل صديق له، لا يستمني".

يمكن للصبي أن ينظر إلى والديه بشكل كامل ويضحك؛ لأنه ليس لديه ما يخفيه: ليس لديه سر خاص ومنعزل عن الجنس. وهذه الطريقة في التفكير هي التي اصبحت أكثر عمومية، حيث إن المصداقية مع الآخرين تعتمد على كيفية إدارة الشخص لحياته/حياتها الجنسانية. وما يجعل هذه الإدارة صعبة هو أن الجنسانية أصبحت يُنظر إليها على أنها تجربة داخلية قوية ومقيدة للرغبة، وبالتالي، فإن مشكلة قول الحقيقة حول الجنس تصبح متشابكة مع قول الحقيقة عن الذات التي تقاوم البوح والظهور.

يعتقد أوغسطينوس أن تعريف الجنسانية يدور حول مسألة الشعور، وليس، كما يعتقد أرطميدورس، حول مسألة الفعل أو الوضع الاجتماعي. وهذا ما ينطبق على هذه المسألة هنا أيضا، فالجنسانية هي هندسة عالم الرغبة الداخلية بأكمله. وتشترك النصوص الطبية والمسيحية في فكرة مفادها أن مواجهة ما يرغب فيه المرء وليس ما يفعله هو ما يشكل معرفة الذات حقًا.

هناك علاقة سلطة منطوية في هذه العقدة من المصداقية والجنسانية ومعرفة الذات الشخصية. العقدة مربوطة بطريقة معقدة للغاية لدرجة أن الشخص يحتاج إلى سلطة خارجية لحلها: فالمسيحي يعترف للكاهن، ونحن نذهب إلى الطبيب. لم يكن الطب الفيكتوري في دعوته للقمع الجنسي هو الذي أعاد الجذور المسيحية للتهذيب، ولكن في الأهمية النفسية المخصصة لمعرفة الذات من خلال مشورة ورقابة إنسان آخر أكثر معرفة.

قد يكون هذا التحليل لإرث تيسو مرتبطًا بمسألة الاختلاف التي أثرتها في البداية. فالجنسانية هي شيء يختبره كل إنسان، ومع ذلك فإن إرثنا من النظريات الطبية والتعليمية في القرن الماضي هو أنه من خلال فهم حياتنا الجنسانية، فإننا نعتقد أننا سنفهم ما هو مميز وفرداني ​​في ذواتنا، حيث يتم استخدام الكلي (universal) لتحديد الجزئي (particular).

إذا كان هناك عنصر واحد في التراث الفيكتوري يجعل هذه العملية مربكة، فهو تعريف الجنسانية من حيث الرغبة وليس النشاط، حيث يقول كرافت إيبنج في أحد موضوعاته: "الجميع يمارسون الحب، لكن كل شخص يفكر في شيء خاص ومميز عندما يفعل ذلك". ومن الصعب في الواقع، إن لم يكن من المستحيل، أن نستنتج من الرغبات الجنسية الخاصة والسرية قدرة الشخص على ذلك الولاء أو الشجاعة أو الصدق مع الآخرين. إن حقيقة هذه الأفكار، وهذه الرغبات، وهذه الأوهام يجب أن يُنظر إليها على أنها مميزة، باعتبارها ذات أهمية في تحديد الشخصية الفردانية بأكملها، وهو ما يخلق مثل هذا اللغز حول الاختلاف الفرداني. وإن الامتياز الممنوح للرغبة هو تراث مسيحي؛ فنحن اليوم بعيدون كل البعد عن القدرة على التكيف مع ما ورثناه.

 

هوامش المترجم:

١. المصدر الأصلي للترجمة:

Michel Foucault and Richard Sennett. (21, may, 1981). Sexuality and Solitude. London Review OF Books, (vol.3, No.9). Retrieved from https://www.lrb.co.uk/the-paper/v03/n09/michel-foucault/sexuality-and-solitude

٢. في عام 1979، ناقش كل من عالم الاجتماع ومؤسس معهد نيويورك للعلوم الإنسانية (NYIH)، ريتشارد سينيت، والفيلسوف ميشيل فوكو، الروابط بين تاريخ الجنسانية والوعي الذاتي. وناقش الاثنان بحثهما، حول أسس فكرة العزلة.

٣. حسام جاسم/ كاتب ومترجم مستقل من العراق.

٤. الذاتية (subjectivity)/ تتعلق بالذات ومنظورها، ومشاعرها، واعتقاداتها، ورغباتها الفردية الخاصة. هذا مصطلح شائع في الفلسفة الحديثة، يقابل عادة ب بالموضوعية، لكنه يقوم بأدوار متنوعة وأحيانًا غامضة في الإبستيمولوجيا، وفي الفلسفة القارية المعاصرة، وعلم الإدراك المعرفي. في النقاشات الفلسفية وغير الفلسفية غير المحكمة، يحيل المصطلح عادة على مشاعر وآراء لم يدافع عنها أو غير مبررة في مقابل المعرفة والاعتقاد المبرر. في الإبستيمولوجيا، خصوصا منذ ديكارت، يستخدم عادة للإحالة على مجال الخبرة، بصرف النظر عن تحديده أو تعريفه، وعادة ما يماهي مع الإشارة إلى منظور المتكلم. وفق ذلك، تعين كثير من المشروع الإبستيمولوجي الحديث في محاولة الركون إلى هذا المنظور المسلم بمحدوديته من أجل الوصول إلى معرفة موضوعية، إما عبر استنباط صريح (ديكارت)، أو ا استدلال سببي (لوك)، أو حجة الفلسفة ترانسندنتالية (كانط)، أو تطور ديالكتي (هيغل)، أو تحليل فينومينولوجي (هوسرل).

٥. بريلات سافارين (Brillat-Savarin)/ محامي وسياسي فرنسي، وقد اشتهر باعتباره مؤلف كتاب (فسيولوجيا الذوق) لذكرياته الطهوية وتأملاته حول حرفة وعلم الطبخ وفن الأكل.

٦. يقول في كتابه «المحادثات»: الوحدة هي حالة معيَّنة لإنسان مغلوب على أمره. فليس كل من ينفرد بذاته هو في وحدة، ولا كل من ينخرط بين الناس هو بمنأًى عن الوحدة. ليس كل اقتراب ينفي الوحدة، بل اقتراب الإنسان المخلص الودود السنَد. أمَّا اقتراب اللصوص مِنَّا في سفرنا فيزيد شعورنا بالوحشة وقلة الحيلة. يجب أن يتدرب المرءُ على أن يكون مكتفيًا بذاته ورفيق نفسه، يحاورها ويأتنس بها ولا يشعر بالحاجة إلى الآخرين وبالافتقار إلى وسائل لتزجية الوقت.

٧. صندوق باندورا (Pandora’s box)/في الميثولوجيا الإغريقية، هو صندوق حُمل بواسطة باندورا يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة ورجاء.

٨. الذات (subject)/ مصطلح يمكن إرجاع أصوله إلى فلسفة ديكارت، حيث سعى جاهداً في دحض دعاوى فلسفة الشك التي كان يذهب إليها معاصروه، زاعمين أنه لا يمكن أن يوجد أمر يقيني. وردّاً على هذا التصور أطلق ديكارت قولة الشهير: (أنا أفكر، إذن أنا موجود) كمثال على المعلومة الوحيدة المؤكدة التي يتحتم أن تكون لدى أي كائن مفكر. لذلك، فإن الذات هي التي تفكر وهي التي يكسبها هذا التفكير بعض الخصائص الجوهرية التي تساعد في التعريف بها. كذلك استخدم كانط مصطلح (الذات المتعالية) في فلسفته للدلالة على الشرط البنائي السابق على كل تفكير. وترتبط كلمة الذات بما طرحه لاكان من تصور خاص للتحليل النفسي (حيث توضع الذات مقابل الأنا). يضاف إلى ذلك، أن فكرة الذات تعرضت لمناقشات وانتقادات من قبل أنصار البنيوية (أمثال ألتوسير، الذي يرى الذات ثمرة من ثمار الإيديولوجيا) ومن قبل أصحاب نزعة ما بعد البنيوية (أمثال فوكو الذي يذهب أن الذات إنما هي نتيجة لعلاقات القوة، وهو تصور مستمد من أفكار نيتشه). وتشترك هاتان النزعتان في التصور الذي يرى الذاتية (أي صفة الذات) إنما تتكون بفعل القوى والعلاقات الاجتماعية وبتعبير آخر إن المفاهيم الخاصة بالذاتية تتوقف على العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية.

٩. كناية للشخص الذي يقول كيف كان يجب أن يتعامل الآخرون مع حدث أو مشكلة بعد أن تم التعامل معها بالفعل، والذي ينتقد أو يصدر الأحكام من موقف الإدراك المتأخر، تم تسجيله لأول مرة في عام 1932

١٠. الأسرة النووية (nuclear family)/ يطلق مصطلح الأسرة النوويّة أو الأسرة النواة على الأسرة المتكوّنة من الزوج والزوجة وأبنائهما فقط؛ فهي لا تشمل أيّ أقارب آخرين.

١١. الإيروتيكية الذاتية (auto-eroticism)/المعروفة أيضًا باسم الإثارة الجنسية الذاتية أو إشباع الذات هي نشاط جنسي يتضمن مشاركًا واحدًا فقط؛ أي ممارسة المتعة الجنسية مع الذات. انتشر هذا المصطلح في نهاية القرن التاسع عشر على يد عالم الجنس البريطاني هافلوك إليس، الذي عرّف الإثارة الجنسية الذاتية بأنها "ظاهرة العاطفة الجنسية العفوية التي تتولد في غياب حافز خارجي يأتي، بشكل مباشر أو غير مباشر، من شخص آخر". ومصطلح الاستمناء له معنى مشابه، ولكنه ليس مرادفًا؛ فالاستمناء هو مجرد تحفيز جسدي للأعضاء التناسلية من قبل الشخص، بينما تشمل الإيروتيكية الذاتية نطاقًا أوسع من الأنشطة مثل الاحتلام، والخيال الجنسي، والاستثارة الجنسية للمحفزات المحايدة جنسيًا (الموسيقى، والمناظر الطبيعية، والفن، والمخاطر، والخيال الروحي... إلخ)، والتي يمكن الاستمرار فيها مع الذات.

١٢. البيوريتانية (puritanism)/ هي مذهب مسيحي بروتستانتي يجمع خليطًا من الأفكار الاجتماعية، السياسية، اللاهوتية، والأخلاقية. ظهر هذا المذهب في إنجلترا في عهد الملكة اليزابيث الأولى وازدهر في القرنين السادس والسابع عشر، ونادى بإلغاء اللباس والرتب الكهنوتية. تأثرت الحركة التطهرية في نشأتها بمبادئ العقيدة البروتستانتية، ولاسيما بتعاليم كالفن وتسفنغلي وبولينغر حتى أطلق بعضهم على البيوريتانية اسم الكالفينية.