"الجهاد وآخرته ما بعد الأسلمة" لعلي حرب
فئة : قراءات في كتب
تمهيد على سبيل الوصل:
لم يفترع "علي حرب" في تناوله لقضيّة الجماعات الأصوليّة وإرهابها مسالك جديدة في التأويل قياسا على كتبه السابقة، ولذلك فإنّه من اليسير على القارئ أن يلمس الصلة بين الحلقات المكوّنة لسلسلة الحفريّات التي قارب بها ظاهرة العنف والإرهاب في واقع معولم فتح آفاقا جديدة للتواصل بين بني البشر، ولكنّه زوّد الجماعات الجهاديّة بوسائل وتقنيات مكنتها من نشر فكرها وتهديد الإنسانيّة بإرهابها وعنفها.
كتاب "الجهاد وآخرته" موصول بالأطروحة التي عرضها "علي حرب" في كتابه "الإرهاب وصناعته"[1] الذي أصدره قبل ثلاث سنوات من هذا الكتاب.
ولئن أكّد "علي حرب" أطروحته التي تعتبر الإرهاب صنيعة إسلاميّة، فإنّه قدّ عمّقها بالبحث في تجارب الإسلاميين، سواء منهم من اعتبروا معتدلين كحركة النهضة في تونس أو من آثروا الجهاد سبيلا لتحقيق مشروع الأسلمة وغزا عنفهم العالم، فضلا عن تعميق الأطروحة بجدلها مع أطروحة "أوليفييه روا" الذي ينفي أن يكون النشاط الجهاديّ بسبب "راديكاليّة الإسلام"، وإنّما نتيجة "أسلمة الحركات الراديكاليّة". ومن الطبيعيّ أنّ الخلاف قائم على نتائج الأطروحتين؛ فرأي "علي حرب" يجعل من الفكر الإسلاميّ أرضيّة للإرهاب والجهاد، وهو ما يقود إلى إدانة التديّن ويطرح إمكانيات الإصلاح الفكريّ للإرهاب المتأسلم. أمّا "أوليفييه روا" فيسوق الظاهرة الجهاديّة بكلّ آثارها الإرهابيّة العنيفة في إطار العولمة وانتشار الحركات الراديكاليّة التي لا ترتبط بمرجعيّة واحدة، وإنّما تتخذ الأسلمة والجهاد أطرا لعنف موجود بالقوّة ويبحث عن قنوات لتصريفه وتبريره.
القسم التحليليّ:
تطلّبت إعادة تأسيس أطروحة "علي حرب" الانطلاق من الدّين مصنعا للعنف، لأنّه تأسّس على الإقصاء والاستئصال للمختلف والآخر. ولذلك "فمجاهدو" اليوم نسخة جديدة من "مجاهدي" الأمس ومرجعيّاتهم بالأساس دينيّة ما داموا يجدون مبرّرات فقهيّة وأحكاما إسلاميّة تبرّر عنفهم وقتلهم للمختلف دينيّا. أمّا منهج البحث، فقائم على المعالجة الجذريّة والراديكاليّة لظاهرة جذريّة راديكاليّة. ومبرّراته أنّ "قاعدة الاعتراف المتبادل لا تجدي، عندما يدّعي الواحد أنّه يصدر في قوله وعمله عن تعاليم منزّلة أو مقدّسة لا تقبل المساءلة أو الجدل."[2] فلا وجه للصّلح حسب هذا المنهج بين الإسلام العقديّ والفقهي والقيم الحديثة: قيم التسامح والأنسنة والحوار.
لقد اقتضى المنهج الجامع بين عمق الرؤية الفلسفيّة والبراكسس الذي يقتضي النظر في المسائل السياسيّة ويومياتها العارضة أن ينفتح الكاتب على الأحداث اليوميّة والمشاكل العارضة. فقد تحوّلت الشعارات الفضفاضة المرتبطة بالثورة والممانعة والمقاومة إلى أقانيم إيديولوجيّة تدمّر التواصل وتحجب الحقيقة وتزيّفها. إنّ تلك التصوّرات قد قادت الفكر العربيّ إلى أروقة ضيّقة للهويّة وصراعات وهميّة ضدّ أشباح المفاهيم، وطرحت بدلا عنها مفاهيم إيديولوجيّة أفضت إلى عكس ما بشّرت به. فكانت نتيجة ما بشّر به شعار "الإسلام هو الحلّ" من نهضة وصحوة مزيدا من الركود والجهل والتعصّب، وتحوّلت الاشتراكيّة إلى مفاهيم لاهوتيّة. فكانت الحصيلة ركودا اقتصاديّا وتخلّفا اجتماعيّا. وبذلك، فالمسار الجديد للبحث هو بناء استراتيجيّة فكريّة جديدة في مواجهة التحوّلات والتحدّيات والأزمات، وتتلخّص هذه الاستراتيجيّة في "(1) الفكر المركّب في تشخيص الواقع المعقّد(2) والبعد المتعدّد في تناول الظواهر الملتبسة. (3) والعقل التداوليّ في إدارة المصالح العموميّة. (4) والانفتاح عل العالم للإفادة من تجاربه ومنجزاته. (5) وتنويع المصادر فيما يخصّ الموارد (6) والقوّة الناعمة للمشاركة في صناعة الحضارة. (7) والهويّة الهجينة والمعولمة، لأنّ الهويّة الغنيّة والقويّة هي اليوم عالميّة بقدر ما هي عابرة للحدود (8) وإتقان لغة الخلق، إذ لا تقدّم ولا ازدهار، من دون ابتكار أفكار تشكّل وقائع خارقة تشكّل خريطة الممكن ومشهد الواقع.
لقد كان محور الفصول الأولى من الكتاب نقد أطروحة "أوليفييه روا" حول الإرهاب؛ فهو حين يعيد أسباب الظاهرة الإرهابيّة إلى علل غير دينيّة يفوّت على المسلمين فرصة النظر النقديّ لهويّتهم المنغلقة، إذ تتحوّل الصفة الكونيّة التي يسم بها "أوليفييه روا" الإرهابيّ إلى مغالطة. أمّا تسمية الأشياء بمسمّياتها وإرجاع الظاهرة الإرهابيّة إلى أصولها الإسلاميّة، فوسيلة ناجعة لتحقيق تحوّلات كبرى للإسلام ينهي توظيفه، ليكون متراسا عقديّا ومعسكرا هويّاتيّا لشنّ الحرب على الآخر، فضلا عن كونه يخرج الإنسان العربي من وصاية السّلطات الإسلاميّة على العقول والأجساد والأرزاق؛ وذلك عبر إخضاع التراث الإسلاميّ إلى عمل نقديّ عقلانيّ تنويريّ مبدع يتخلّى عن وهم أسلمة الواقع ويسهم بفاعليّة في تنمية المعارف الإنسانيّة وتطويرها.
ليست العمليّات الإرهابيّة التي حدثت في مناطق مختلفة من العالم سوى أدلّة يتّخذها "علي حرب" للإقناع بأنّ الإرهاب هو حصيلة احتكار الحقيقة والمشروعيّة والسلطة. ونتيجة طبيعيّة لمحاولة استعادة الإسلام بوصفه معسكرا عقديّا اصطفائيّا يدار بثنائيّة الإيمان والكفر أو الحلال والحرام. ولذلك، يمكن لمفهوم الإرهاب أن يتوسّع ويصير وسما للفلسفات التي تدّعي احتكار الحقيقة وتتعامل مع الآخر على أساس النفي والإقصاء والهزء. فالعلّة كامنة في العقول وليست في الجيوب. ووجوه الإرهاب يمكن أن تتقنّع بالمرجعيّة السنيّة أو الشيعيّة أو الفلسفيّة أو السلطويّة. ومن الطبيعيّ أن تتواطأ الأضداد، فينتج التطرّف الإسلاميّ تطرّفا مقابلا في المعسكر الغربي يفضي إلى نجاح الأحزاب اليمينيّة، وظهور رؤساء من أمثال "ترامب". فالعقل الأيقوني القدسيّ الأصوليّ يمكن أن يتّخذ أقنعة كثيرة ولا حلّ لمعضلته سوى الإيمان بمعاني النسبيّة والاحتمال والرهان. ومن الطبيعي أن يتحوّل المفكّر ذاته إلى إرهابيّ متى اعتقد في امتلاكه الحقيقة المطلقة والنهائيّة، وإن اختلفت مرجعيّاته الإيديولوجيّة. "على هذا الصعيد يستوي اللاهوتيّ المتكلّم والفقيه الداعية والإرهابيّ الجهاديّ: الأوّل ينظّر، والثاني يكفّر، والثالث يقتل وينفّذ."[3]
ينتقل "علي حرب" من إطار التشخيص المفهوميّ لظاهرة الإرهاب إلى مستوى البحث في عيّنات يراوح فيها بين التخصيص والتعميم؛ أي من البحث في المثالين الفرنسيّ والتونسيّ وصولا إلى الحديث عن عولمة الإرهاب. ولكنّها في الحقيقة رحلة عود على بدء، لأنّ الفصول الأخيرة من الكتاب مخصّصة لإعادة النظر في الجهاز المفهومي الذي قام عليه الجهاد والإرهاب واستعادة للقراءة النقديّة الموجّهة إلى "أوليفييه روا" من أجل التأكيد أنّ أصل الإرهاب وفصله إسلاميّ. ولذلك، تكون نهاية المطاف استشرافا لما بعد الأسلمة وبحثا عن أصل المشكلة. فالإرهاب والجهاد ظاهرتان تهدّدان العالم بأسره ولذلك، فخاتمة الكتاب تقدّم حلولا للظاهرة وتشريحا للمفاهيم التي تؤسس كيانها.
وإذا حاولنا النظر في الفصول التطبيقيّة التي قارب فيها علي حرب العينيتين الفرنسيّة والتونسيّة، لاحظنا أنّ النتيجة واحدة في الحالتين؛ فالأفكار وحدها هي المسؤولة عن إنتاج الإرهاب وليست الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ونقد تلك الأفكار يعدّ في نظر "علي حرب" نقدا للذات قبل إلقاء التهم على الآخر. فالنموذج الديني هو في أساسه وبنيته نموذج عدواني يختزن العنف. فالوحوش الإرهابيّة لم يأتوا من خارج الإسلام، بل ولدوا من رحمه وجوفه ومبرّراتهم في القتل والذبح هي العودة إلى الأصول وتطبيق أحكام الشريعة.
لقد استخلص "علي حرب" من بحثه في الظاهرة الإرهابيّة أربع خصائص تميّز التنظيمات الإرهابيّة عن غيرها، وهي: أوّلا، المعتقد الأصوليّ بأوامره المطلقة وأحكامه التكفيريّة وأساليبه الاستئصاليّة. وثانيا، المنزع الإيديولوجيّ الطوباويّ الذي يعد النّاس بالخلاص لإقامة الفردوس الذي يتحوّل على يدهم إلى جحيم. وثالثا، النظام الشموليّ الذي ينتج قطعانا بشريّة تنفّذ بصورة عمياء أوامر هذا القائد المرشد أو ذلك الداعية المشعوذ أو ذلك الأمير الجهاديّ المعربد. ورابعا، العقليّة المافيويّة (نسبة إلى المافيا) كما تشهد تعاملاتهم وتعهّداتهم ومقاولاتهم التجاريّة والماليّة والنفطيّة على أرض الدّولة الإسلاميّة المزعومة، حيث يلجأ تنظيم داعش إلى انتهاك كلّ المبادئ والقيم التي يدّعي الدفاع عنها في مواجهة الغرب الكافر.[4]
وبذلك، فتأسيس المشاريع الجهاديّة والإرهابيّة هو محاولة لإرباك الأنموذج الحداثيّ وتهديد للحضارة الغربيّة من أجل زعزعة ثقة الغربيّ بنفسه وبمؤسسّاته. ومثلما يسم الجهاديّون أعداءهم الذين لا يشتركون معهم في الفكر والمنهج بالردّة، فقد وسمهم "علي حرب" بنفس التهمة حين اعتبرهم مرتدّين عن الحضارة والثقافة والزمن والحداثة، بل حوّلهم إلى شياطين العصر الذين تجتمع فيهم كلّ شرور المجتمعات البشريّة ووسمهم بالعدميّة والبربريّة، وهي أسلحة عنف مفهوميّ تندرج في إطار المعالجة الراديكاليّة لظاهرة راديكاليّة فلا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع من لا يؤمنون بحقّ الاختلاف ويصادرون حقّ الإنسان في التفكير، ويوظّفون سلاح التكفير من أجل احتقار الآخر وإلغائه. وما فرنسا سوى ضحيّة الحريّة التي سمحت لأعداء الحريّة بأن يجدوا مجالا لنشر أفكارهم وخوض حربهم الدينيّة وهجماتهم البربريّة.
من الطبيعيّ أن يستدعي النظر في الظاهرة الإرهابيّة على الأرض الفرنسيّة العودة إلى نقد أطروحة "أوليفييه روا" الذي نفى وجود طائفة إسلاميّة في فرنسا وجعل من تلك الحقيقة منطلق حكمه بأنّ الإرهاب ليس نتيجة راديكاليّة الإسلام، وإنّما هو أسلمة للحركات الراديكاليّة. فالإسلام بحسب وجهة نظره هو مجرّد مطيّة لاكتساب الشرعيّة. وقد اعتبر "علي حرب" أنّ هذه الأطروحة تخدع المسلمين وتجعلهم يتمسّكون بهويّتهم في الفضاء العام، وهو ما يفضي إلى صناعة الاستبداد والإرهاب أو الاقتتال والخراب تحت راية الدّفاع عن الثوابت والمقدّسات. فمن مصلحة الإسلام والمسلمين أن يتحوّل الدّين إلى مفهوم سائل لا تتكلّس مفاهيمه وتنغلق أحكامه على الماضي، بل ينفتح على التجارب الإنسانيّة ويُسهم بالخلق والإبداع في إطار القيم الكونيّة، وهو نفس المسار الذي اتبعه نقّاد أطروحة صدام الحضارات الذين بيّنوا أنّها تفضي إلى إقناع المسلمين بوجود هويّة ثابتة تؤدّي إلى الجمود والتخلّف وتُهدر إمكانات الصلح والاعتراف بين الهويّات.
العيّنة التونسيّة كان مركزها حزب النهضة. وقد حاول "علي حرب" البحث في مدى مصداقيّة الكلام عن الاعتدال الذي أعلنه الحزب وزعيمه. فيقف عند قوله "السلفيّون يسيئون للإسلام"، ثمّ يستنتج بعد تحليلها أنّ حزب النهضة يتستّر على أساسه السلفيّ الذي هو الجامع المشترك بينه وبين التنظيمات الإرهابيّة."[5] ويؤكّد أنّ اشتراكهما في أسلمة المجتمع هو الذي يوحّد بينهما وإن اختلفا في الوسيلة. فالمشكل ليس في الاعتدال أو التطرّف، وإنّما في الدعوة إلى مشروع جذريّ راديكاليّ لا يزال أصحابه يؤمنون بالاصطفائيّة ومن الطبيعيّ أن ينتج هذا الفكر أعدادا كبيرة من الإرهابيين. وقد اقترح "علي حرب" لعلاج هذا الدّاء الأصوليّ الانخراط في عمل نقديّ تنويريّ على الذات يتحوّل فيها الإسلام إلى مساحة تداوليّة وهويّة مفتوحة وعابرة تتيح المشاركة في صناعة الحضارة بدلا من الارتداد عليها.
لا يقف "علي حرب" عند نقد الحزب، وإنّما يتّخذ من مواقف زعيمه "الغنوشي" منطلقا لكشف ما اعتبره زيفا وشعوذة ومغالطة جعلته ينخرط في إطار سلوك سائد تمارسه جماعات الإسلام السياسيّ، فهم ينتقلون من تكفير المنظومة الحداثيّة إلى تبنّي العناوين والمفاهيم التي كانوا يهاجمونها بعد اكتشافهم خواء مقولاتهم وهشاشة أطروحاتهم، ولكن دون اعتراف بالفضل لهم. وقد تأثّرت مواقف زعيم الحركة بسقوط حكم الإخوان في مصر "فلولا سقوط مُرسي لما تراجع الغنّوشي." وبذلك، فإعلان حزبه الخروج من عباءة الإسلام السياسيّ يكشف أنّ الإسلام السياسيّ كان مجرّد سلاح ضدّ حكم "بن علي" الدكتاتوريّ وضدّ التطرّف العلمانيّ، وهي مغالطة تجعل من حزب النهضة وكأنّه نشأ على قيم الديمقراطيّة والتعدّد، والحال أنّه يتستّر على مشروع سلفيّ أصوليّ ينتج التطرّف والعنف، ويدعو إلى إقامة نظام شموليّ يؤسّس لعبوديّة البشر للبشر. وقد اضطرّه ذلك إلى ممارسة ضرب من التلفيق الإيديولوجي بين الإسلام والديمقراطيّة؛ وذلك لأسباب مختلفة من أهمّها أنّ "الغنّوشي" يتعامل مع الإسلام تعاملا براغماتيّا، فهو يستعمله متى شاء ويستغني عنه متى شاء. فالإسلام العقديّ لا يأتلف مع الديمقراطيّة ولا مع المواطنة بحسب وجهة نظر "علي حرب". وبافتراضه أنّ زعيم النهضة قد تغيّر، فأسهم في تحقيق الاستثناء التونسيّ يؤكّد أنّ التغيّر السياسيّ ليس وسيلة للوصول إلى السلطة، وإنّما لحلّ مشكلات الواقع وتحسين الأوضاع المتردّية. ولا يمكن لتلك المراجعة أن تكون ناجعة دون مراجعة نقديّة جذريّة. فليس كافيا إعلان الخروج من الإسلام السياسيّ؛ فهو مجرّد تلاعب بالكلمات. والأجدى أن يعامل الإسلام كشأن شخصيّ ورأسمال خلقي ورمزيّ. فتغلب الصفة الوطنيّة على الصّفة الدينيّة. ويتطلّب هذا المسار أيضا محاسبة النفس عمّا قدّمت. فالاستبداد مسألة هيكليّة راسخة في سلوك الحاكم ومشروع المعارضين على حدّ سواء. ولذلك، فلا يجب أن يكون سلوك زعيم النهضة محاولة للإقناع بأنّ الجميع أخطأوا وأنّه الوحيد الذي على صواب. وللاستثناء التونسي وجهان: وجه إيجابيّ يتمثّل في الثورة التي يعدّ "بورقيبة" وزعماء الإصلاح في تونس أهم أسبابها ببنائهم عقلا حديثا. ووجه سلبيّ جعل منها أكثر البلدان تصديرا للوحوش الإرهابيّة. ولا يمكن نتيجة ذلك، أن تتغيّر الأمور نحو الأفضل دون مراجعة نقديّة أو محاسبة ذاتيّة.
يخلص "علي حرب" إلى تناول ظاهرة الإرهاب في إطارها العولميّ الذي جعل من صفتها تلك دليلا واضحا على انتشار الفكر الذي يوحّد أسباب العنف ولكنّه ينوّع من وسائله. وفي هذا السياق، كانت الشبكة الرقميّة ميدانا خصبا للتواصل بين أنصار هذا التيّار ودعاته. فضلا عن دور الهجرة التي جعلت الجالية المسلمة في أوروبا تمثّل ثقلا ديمغرافيّا لا يستهان به.
ولا يختلف "علي حرب" عن غيره ممّن قاربوا الظاهرة الإرهابيّة. فأقرّوا بتعقّدها والتباسها وتداخل العوامل التي أسهمت في انتشارها. ولكنّه يصرّ على مقاربته الفكريّة الإيديولوجيّة للظّاهرة، ليكون كتابه عودا على بدء بحثا في المقومات الفكريّة المؤسّسة للفكر الجهادي والمسؤولة عن نشر الإرهاب. وأهمّها القول إنّ "الإسلام العقائديّ بالتعريف، منظومة إيديولوجيّة مغلقة، عنصريّة، بقدر ما هو استراتيجيّة، راديكاليّة، متطرّفة، تقوم التنظيمات الإرهابيّة التي هي فرع ناشئ من أصل بترجمتها في البلدان الإسلاميّة أو في خارجها غزوة بعد غزوة، ومجزرة بعد مجزرة."[6]
لعلّ ذلك ما يدعو إلى معالجة جذريّة للظاهرة تنظر في الأسس الفكريّة التي يقوم عليها وتغلّب مفهوم المواطنة على الانتماءات الهوويّة الضيّقة والقضاء على أشكال التمترس وراء الهويّة الفرعيّة. فالعقيدة تبتلع المواطنة ولا حلّ للإرهاب إلاّ بتحقيق العكس، وهو أن تبتلع المواطنة العقيدة. وتبدأ تلك المعالجة بتغليب لغة المواطنة على لغة العقيدة، وهو تغليب للنسبيّة على الإطلاق. فلا يمكن أن نتغافل عن كون الإرهاب هو وليد الإسلام السياسيّ ومشروعه مؤسسّ على قاعدة الحكومة الإسلاميّة وتطبيق أحكام الشريعة "من "حسن البنّا" إلى "روح الله الخميني" ومن "يوسف القرضاوي" إلى "راشد الغنوشي""[7]
يفضي هذا المسار التحليليّ في نهايته إلى التساؤل حول أصل المشكل. كيف يمكن تجديد الخطاب الديني؟ ولماذا فشلت مشاريعه الكثيرة؟
لقد أدّت تلك المشاريع بحسب ما بيّنه "علي حرب" إلى تصدير النماذج التكفيريّة والإرهابيّة في دول كثيرة. بسبب ما قامت عليه من نرجسيّة ثقافيّة وعقليّة أصوليّة ونجوم إرهاب إعلاميّ برعوا في نشر الخرافة والتهويمات الخلاصيّة وبرامج تعليم رسّخت الفكر الأصوليّ وكفّرت القراءات النقديّة الجريئة. وخلاصة القول إنّ نزع الأسلمة هو السبيل للخروج بالمجتمعات العربيّة من مأزقها الحضاريّ. وسبيل ذلك رفع وصاية المؤسسات الدينيّة على المجتمع والدولة. فيكون مشروع ما بعد الأسلمة قائما على تجاوز الصراع بين العقائد القديمة والمذاهب الحديثة، وتجاوز كثير من الثنائيّات الضديّة مثل الإيمان والإلحاد أو الاستشراق والاستغراب. وأخيرا كسر مقولة كون المبادئ صحيحة ولكن الترجمات والتطبيقات أو التأويلات هي سيئة وخاطئة. فمعنى "الما بعد" يعني التجاوز والجرأة في النقد والحاجة الدائمة إلى التجديد والتحديث. فيتحوّل التعامل مع الإسلام إلى تعامل على أساس كونه فاعليّة ثقافيّة من فعاليّات المجتمع تخضع للمحاسبة والمساءلة في ظلّ قوانين الدول وأنظمتها.
ولا يمكن "للما بعد" أن يتحقّق ما لم يتخلّص المسلم من عقدة الولاء للسّماء. فيحلّ الإنسان مركزا لكلّ مشروع. ويستغني الإنسان العربيّ عن تلك النرجسيّة التي زادتها بعض المقاربات الحديثة رسوخا. فكلّ من يحاول الإيهام بأنّ الأزمة كامنة في الآخر يؤدّي إلى الهروب من مواجهة مشاكل الهويّة المنغلقة والأصوليّات الثابتة التي تحتاج إلى نقد ومراجعة. لا يستثني "علي حرب" من هؤلاء "روجي غارودي" المتهم بتعزيز النرجسيّة الثقافيّة، أو "أوليفييه روا" الذي ينفي الصفة الإسلاميّة عن الحركات الجهاديّة أو "إدوارد سعيد" الذي يصب في طاحونة الحركات الأصوليّة من خلال حديثة عن الإسلام والإمبرياليّة. فكلّ تلك المشاريع لا توقف تيّارا مسؤولا عن النكوص الفكريّ والمتاريس العقديّة باسم الهويّة الإسلاميّة. ولا خروج من عصور الظلمات إلاّ بالنقد والخلق والتجديد.
إنّ من أهمّ النتائج التي يختم بها "علي حرب" كتابه هو تأكيده أنّ كل محاولة لتبرير العنف الإرهابي بردود الأفعال هو حجب للأسباب الفعليّة الكامنة في ثقافة الانغلاق وأساطير المؤسّسة الإيديولوجيّة. فالإرهاب فعل وليس ردّ فعل أي مشروع له أساسه ومنطلقه ووسائله وغاياته، وهو يجمع بين النرجسيّة الثقافيّة ودكتاتوريّة الحقيقة، وإنْ تعدّدت صيغه اللغويّة. ولا مخرج من هذا المأزق إلاّ بإعادة النظر في طريقة تفكيرنا وبتحمّلنا مسؤوليّة أفعالنا وعدم إلقائنا أعباء إخفاقنا على غيرنا. وسبيل ذلك التفكير بصورة حرّة مستقلّة لابتكار ما تحتاجه المجتمعات من أطر النظر ولغات الفهم أو من قواعد العمل وقيم التبادل. ولا يتاح تحقيق هذه المقاصد أيضا دون خروج من الفلك الديني وتحقيق تحويل جذريّ يطال علاقة المسلم بهويّته وكسر الوصاية من خلال استبعاد النصوص والأحكام والفتاوى التي تحضّ على إدانة الآخر. فيتحوّل المسلم إلى عنصر فاعل ومشارك في أعمال البناء حين "يتصرّف كوسيط يؤدّي خدمة لغيره، أو كمواطن يحسن نسج علاقة مع شركائه، بممارسة خصوصيّته بصورة عابرة."[8]
القسم النقديّ:
يدافع صاحب كتاب "الجهاد وآخرته" على أطروحة سبق وأن عرضها في مؤلّفاته: "أزمة الحداثة الفائقة: الإصلاح، الإرهاب، الشراكة" (2008)، "الأختام الأصوليّة والشعائر التقدّمية" (2001)، "أصنام النظريّة وأطياف الحريّة" (2011)، "ملاّك اللّه والأوطان" (2015) "الإرهاب وصناعته" (2015).[9] إلاّ أنّ الناظر في مسار تطوّر الأطروحة يلاحظ نوعا من الثبات في الجهاز الاصطلاحيّ وفي النتائج التي يستخلصها، حتّى صار الأمر وكأنّ الكتب قدّت على مقاس أطروحة مقرّرة سلفا، وهو ما يؤكّده "علي حرب" ذاته في هذا الكتاب بحديثه عن استعادة أطروحته قصد الإثراء والتوسّع.[10] ويمكن أن نعيد أسباب الثبات إلى اعتماده منطلقات نظريّة تشتغل على المفاهيم أكثر من اشتغالها على الواقع. ولئن برّر الاختصاص الفلسفيّ نزوع الكاتب إلى المفهمة، فإنّه لا يمكن أن يبرّر نقده للمقاربات التي تحاول الربط بين الظاهرة الإرهابيّة وأزمات الواقع. فالاشتغال على المفاهيم لا يمكن أن ينفي صلة الظاهرة بواقع معولم توظّف فيه الدول الإرهاب لخدمة مصالحها وتوفّر له أدوات العنف ومعسكرات التدريب، فضلا عن أنّ تناول الظاهرة الإرهابيّة بمعزل عن أشكال العنف الأخرى يمكن أن يؤدّي إلى حصر التهمة في جماعات توظّف الخطاب الدينيّ في حروبها وعمليّاتها العسكريّة وتجاهل العنف بأشكاله الأخرى؛ ومن أهمّها العنف الاقتصاديّ والاجتماعيّ المسلّط على كثير من الطبقات نتيجة سياسات العولمة المتوحّشة والعنف الثقافيّ على الهويّات من خلال محاولة فرض لون واحد للثقافة والفنون والقضاء على التنوّع والاختلاف. فمشروع ما بعد الأسلمة بهذا المعنى، ينزع سلاح الهويّات المنغلقة من يد الجماعات الإسلاميّة المدانة بالإرهاب، وهو أمر ممكن، ولكنّه لا ينزع أسباب التوتّر لأنّه لا يستطيع الحدّ من النرجسيّة الحضاريّة التي يبديها الغرب المتفوّق ولا يحدّ من سياسات الهيمنة والاستغلال والاستيطان التي أسهمت بشكل كبير في نشر التطرّف والإرهاب. فعلي حرب ينظر من زاوية نقديّة واحدة، ويحاول الإقناع بأنّ قاطرة الحداثة متاحة لكلّ الراغبين في ركوبها. ولذلك، فهو يحاول إخلاء قاطرة الأسلمة من ركّابها متجاهلا الجماهير التي تحتاج إلى الشّعور بخصوصيتها وترفض أن تلقي بنفسها في يمّ وُسم في متخيّلها بأنّه ملك للآخر المتآمر الذي يكيد لها ولهويّتها.
لقد وسم "علي حرب" مقاربته بأنّها راديكاليّة، ولذلك فقد وقع في تطرّف مضاد نسي به ما بيّنه في أطروحة "تواطؤ الأضداد" التي قدّمها في كتب سابقة، إذ يمكن أن تكون معالجته تلك سببا في تقوية الحركات الجهاديّة بدل إضعافها ومثلما وسم تلك الجماعات بالتطرّف والإرهاب، فإنّه يمكن أن تردّ على أطروحته بأنّها قائمة على تطرّف علمانيّ يستأصل الدّين. ولذلك، فمسارات التحليل العقلانيّ تقتضي الحفر في أصول الإرهاب الإسلاميّ ولكنّها تتطلّب بالمقابل فهما أعمق للمجتمعات التي نشأت فيها الظاهرة ودراسة متأنّية للصراعات التي غذّت تلك النزعات، وجعلت فريقا من المسلمين يجدون في العنف سبيلا لتغيير واقعهم. فمقاربة "علي حرب" تتجاهل "الأسلمة"، باعتبارها قوّة تاريخيّة زوّدت الشعوب العربيّة بملامح هويّة مغايرة ووفّرت العدّة الإيديولوجيّة لمواجهة المستعمر، وهي مازالت توفّر تلك العدّة لكلّ من جعلوا الإسلام عنوانا لمشاريعهم الإصلاحيّة والسياسيّة. فكأنّ "علي حرب" يتجاهل فاعليّة اللاشعور الجمعي، ويكتفي بإدانة الدين، باعتباره مصنعا للعنف متجاهلا أنّ العلم والحداثة هما من وفّرا عدّة العنف النوويّ، ومكّنا الإنسان من وسائل القتل الفتّاكة فضلا عن الأطروحات الفلسفيّة والسياسيّة التي تبرّر للغرب عنفه وتسم مفاهيمه بالقداسة. فتاريخ الإنسانيّة القريب يقدّم حججا دامغة عن أنّ العنف هو أعدل الأشياء توزّعا بين الناس. وعنف الخلف أكثر تدميرا من عنف السلف. فقد وجد مبرّراته في الدّين مثلما وجدها في الفلسفات التي أسّست للإيديولوجيات الفاشيّة والشيوعيّة والليبراليّة. فقادت العالم إلى حروب فاقت في حجم دمارها وطاقة فتكها كلّ حروب دينيّة عرفها التاريخ الإنسانيّ.
لعلّ سبيل المفاهيم سهلة، ولكنّ النظر في الواقع بكلّ تعقيداته وتناول عيّنات من المجتمعات التي ظهر فيها العنف الدينيّ يمكن أن يقدّم نتائج أكثر دقّة ونجاعة حول الظاهرة، فمن معايب التعميم استسهال النتائج وتبسيط الظواهر. وللوصول إلى نتائج دقيقة في مقاربة الإرهاب، لا بدّ من تناول العيّنات المختلفة وتشريحها في علاقتها ببيئتها والعوامل المساعدة على ظهورها داخليّا وخارجيّا، وهي مقاربة تتطلّب من "علي حرب" الاقتراب أكثر من الوقائع والتنازل عن المنطلقات النظريّة التي يسلّم بها لصالح الوقائع والوثائق، وهو ما يمكن أن يقرّب بين وجهات النظر المختلفة حول المسألة بدل السّجال الحاصل بينها. فظاهر الأمر خلاف بين أطروحة "علي حرب" و"أوليفييه روا" ولكنّ المتمعّن في الأطروحتين يجد أنّ الخلاف لا يمسّ جوهر الظاهرة فكلاهما يقرّ بالعنف، ولكنّ الخلاف حول المسمّيات أهو عنف إسلاميّ أم عنف عولميّ. وفي كلتا الحالتين تتعلّق الأحكام بتلقّي الظاهرة. ولكنّ أصحاب تلك الأطروحات يتجاهلون في كثير من الأحيان التفاعل بين الإيمان بالفكرة والعوامل الموضوعيّة التي تحوّلها إلى عمليّات إرهابيّة. ففائدة الأطروحتين مجتمعتين أفضل من أن تنسخ إحداهما الأخرى، إذ لا يتعارض تبرير العنف بالدين مع فكرة "أسلمة الحركات الراديكاليّة".
تظلّ قيمة الكتاب في كونه يمارس نقدا للفكر الأصوليّ وبحثا في جذور الإرهاب. ورغم اضطراب منهجه نتيجة جمعه بين مقالات يكرّر بعضها بعضا أحيانا، فإنّه يدور في فلك أطروحة نقديّة توظّف الأدوات الفلسفيّة لنقد التصّوّرات الدينيّة. ويمكن لهذه الأطروحة أن تتطوّر كلّما انفتحت أكثر على واقع تتغيّر فيه حقيقة الإرهاب وتتنوّع أشكاله من مظاهر العنف البدائيّة إلى تأسيس الدولة الإسلاميّة على الطريقة الداعشيّة.
[1] انظر: علي حرب، الإرهاب وصناعته، ط2، بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2015
[2] علي حرب، الجهاد وآخرته ما بعد الأسلمة، ط1، بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2018، ص 11
[3] المرجع نفسه، ص 54
[4] انظر المرجع نفسه، ص 75
[5] المرجع نفسه، ص 93
[6] المرجع نفسه، ص 116
[7] المرجع نفسه، ص 131
[8] المرجع نفسه، ص 174
[9] يقول علي حرب مثلا: "ما حاولته في الفصول الآتية، هو السير بعكس الاتّجاه لتبيان العلاقة البنيويّة بين الإسلام والإرهاب." الإرهاب وصناعته المرشد/ الطاغية/ المثقّف/، ط1، بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2015، ص8
[10] يقول علي حرب في مقدّمة كتابه: "أتابع في هذا الكتاب تناولي للظاهرة الإرهابيّة الجهاديّة، مستعيدا بذلك الأطروحة التي وجّهت مقاربتي للمسألة، وعنوانها أنّ الإرهاب هو صنيعة المؤسسة الدينيّة، وبالطبع فالاستعادة تتمّ هنا على سبيل التوسّع والإثراء، على وقع ما استجدّ من الأحداث والتطوّرات." الجهاد وآخرته، ص 9