الجِهاد والشهادة: سؤال الحقيقة أو مدخل إلى المقدّسات "الشاردة"
فئة : مقالات
"رُئي أبو سفيان صخر بن حرب وقد وقف على قبر حمزة بن عبد المـطلب، وهو يقول: رحـمك الله يا أبا عمارة، لقد قاتلتنا على أمر صار إلينا".
تحدّث الشاعر الفلسطينيّ الفذّ محمود درويش عن الموت في واحدة من أخريات قصائده، فوجد نفسه يتساءل في ثنايا نصّه الشعريّ عن فحوى الحقيقة: "ما الحقيقة"؟ ولعلّه قد أدرك ببصيرة الشعراء وبملازمته ـ باعتبار هُويّته الفلسطينية ـ لتجربة الـ "القتل" المتكرّر أنّ موتَ المرء يحمل بيْن طيّاتِه بشكل ما مساءلة للحقيقة في أبرز معانيها: حقيقة الحياة وحقيقة ما بعد الحياة. وتزداد تلك المساءلة حدّة، كلما تقدّم بنا الخطوُ نحو دائرة "الموت المشتهَى"؛ أيْ الدائرة التي تضعنا أمام عتبات مفهوم جوهريّ يمثل في واقعنا الراهن حارقاً حادّاً، وهو مفهوم "الشهادة". والشهادة بالنسبة إلى طالبيها ـ وأعدادهم اليوم في تزايد يلفت الانتباه حقّاً ـ هي برزخ يصل بيْن فضاءين؛ أوّلهما دنيويّ معيش يكاد يُختزلُ في مفهوم "الجهاد"، وثانيهما أخرويّ مُتخيّل يزخر في أذهان أصحابه بشتى ألوان النعيم.
"الجهاد" و"الشهادة" مقولتان لسنا نرى من بين المقولات الفكرية والسياسية قديمِها وحديثِها ما يُماثلهما خطورةً ونفاذاً، ومردُّ هذه الخطورة وهذا النفاذ ما يُلاحظُ اليوم بمنتهى اليُسر من طاقات تجييشيّة لا محدودة تختزنها كلُّ مقولة منهما، إذ لا يكاد يخفى على أحد من الدارسين المهتمّين بقضايا الدّين وبتفاصيل الشأن السياسيّ القائم أنّ عشرات الآلاف من الشباب المسلم، إنّما أسلمَ نفسه للشبكات الجهادية المنتشرة هنا وهناك؛ لأنّه قد فشل في النهاية في مقاومة "سحر" الجهاد المقدٍّس و"جاذبية" الشهادة المنشودة. وبقدر ما تختزن المقولتان من خطورة وفاعليّة، فإنّ الباحث المعاصر الذي يروم مقاربتهما بالدرس والتحليل سرعان ما يجد نفسه وقد انغمس في كمّ هائل من المفاهيم والمعطيات والوقائع المتداخلة حدّ التشابُك. فحيثما يُولِّ نظرَه يلْـقَ حواليْه صعوبات جمّة تستدعي منه في كلّ حين مزيداً من الدقّة والضّبط والتّمحيص. لذلك، ارتأيْنا في هذه الدّراسة أن نوجّه جُلَّ اهتمامنا إلى بدايات تشكّل مقولتيْ "الجهاد" و"الشهادة" على الصيغة التي نراها الأقرب إلى التوظيف العقائديّ/السّياسيّ الرّاهن. فاخترنا من خطّ البدايات نقطة بعيْنها هي اللحظة التاريخيًة التي شهدتْ مقتلَ الخليفة عثمان بن عفان بعد حصار لدارِه بالمدينة دام ما يُناهزُ الأربعين يوماً.
اخترْنا هذه اللحظةَ دون غيرها بالنظر إلى جملة من العوامل التي يمكنُ توضيحُها في النقطتيْن التاليتيْن:
أوّلاً: دشّنتْ واقعة مقتل الخليفة الثالث مرحلة جديدة في تاريخ الدولة الإسلامية الفتيّة، أباح فيها مسلم لنفسه ـ تحت غطاء الجهاد ـ أن يقتُلَ مسلماً. وقدْ تمَّ هذا بعيداً عن الإطار التشريعيّ العامّ الذي يضبط فِعْلَ القتل[1] أيْ أنّ بوصلة "الجهاد" قد تغيّر مسارُها تغيّراً مصيرياً، فبعد أن كان منذ الفترة النبوية يسير في اتجاه واحد (مسلمون ـ غير مسلمين) اتّخذ له ابتداء من "يوم الدار"[2] اتجاهاً ثانياً (مسلمون ـ مسلمون). ونظرةٌ سريعةٌ إلى مُجريات الأحداث في تفاصيل واقعنا الراهن، ستؤكد لنا حتماً أنّ هذا الاتجاه الثاني قد غدا اليوم نهجاً رئيسيّاً يتحرك بين جانبيـْه فعلُ "الجهاد"، بما يعني أنّ واقعة مقتل عثمان بن عفّان كانت في عمقها حدثاً مثقلاً بمشاغل لحظته التاريخية الحاضنة، وبالقدر ذاته ستكون لحظة حُبلى بمشاغل الأجيال اللاحقة من المسلمين في مختلف الأمصار. إنها مثلما يرى المفكر هشام جعيّط "حدث كبيرٌ وخطيرٌ في تاريخ الإسلام الأولي له عواقبُ لا تُعدّ ولا تُحصى، الحدث المؤسّس لانشقاق الأمّة وانقسامِها النهائي"[3].
ثانياً: إنّ المتأمّلَ في وقائع "يوم الدار" وما حفّ بها من أعمال وأقوال، سيُلاحظ دون جُهد أنّ استحضار المؤرخين القدامى لهذه الوقائع - وإن تفاوت تفصيلاً وإجمالاً وتصريحاً وإضماراً - كان في مطلق الحالات استحضاراً قلّما كفّ عن الإحالة إلى فضاء "المقدّس". وليس من باب المبالغة في شيء، أنْ نقول إنّ "المقدّس" يكاد يخترق النصوص المؤرِّخةَ لحادثة مقتل عثمان من جميع أطرافها، وإنّه يوشكُ أنْ يثوي خلف كلّ سطر من سطورها. ومن أجل هذا رأينا أن نبني مقاربتنا لمفهوميْ "الجهاد" و"الشهادة" على استقصاء مختلف العلاقات القائمة بيْن هذيْن المفهوميْن المَرْكزيّيْن وما ارتبط بهما من مقولات ومفاهيم حافّة. وقدْ رسمْنا لهذه المقاربة هدفاً جوهريّاً هو ملامسة ما يطوف بحادثة مقتل عثمان من أسئلة وإشكاليات ملامسة نريدها أن تكون مدخلاً مُساعداً على إعادة النظر في جملة من المقولات التي ارتدتْ اليومَ لبُوسَ البديهيات، وغدتْ مغذّياً أساسيّاً لنزعة تكفيريّة ما انفكتْ تنجح في استقطاب آلاف العقول والزجّ بها في أتون العنف القاتل.
من بين جملة المقولات الحافّة بمفهوميْ "الجهاد" و"الشهادة" الماثلة مثولاً بيّناً في وقائع "يوم الدار" اخترنا تركيز الاهتمام على مقولتيْن أساسيتين: هما مقولتا "الدم" و"الصّحبة".
1 - الدّم المباح/ الدّم الحرام: هل كان "الناقمون على عثمان" والقادمون إلى المدينة من مصر والعراق لمناظرة خليفة المسلمين بدْءاً ولمواجهته وتصفيته جسدياً في مرحلة لاحقة ينظرون إلى أعمالهم تلك باعتبارها فعلاً جهادياً؟
يقول الطبري في تاريخه: "لمّا كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحابُ رسول الله، بعضهم إلى بعض: أن أقْدِموا إن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان ونِيلَ منه"[4]. ويمكننا أن نخرج من هذا القول بملاحظتيْن مهمّتيْن:
- أمّا الملاحظة الأولى، فهي استعمال مصطلح "الجهاد" في خضمّ التأريخ لواقعة مقتل عثمان. نعمْ، كان هذا الاستعمالُ محتشماً غير متواتر، لكنّه في الوقت ذاته قد سجَّلَ حضوره في مصنفات المؤرّخين القدامى. وهذا يعني إقراراً واعترافاً بشكل ما بمشروعية الحديث عن "جهاد" في مقام يكون فيه المتنازعان مسلميْن. وبمثل ذاك الاحتشام، نجد المصطلح ذاته وقد سيق على ألسنة بعض المفكرين المعاصرين[5] الذين اتخذوا "الفتنة الكبرى" مداراً لاهتماماتهم على غرار طه حسين وهشام جعيّط. ونلمسُ من خلال هذا التردّد في استعمال لفظة "الجهاد" ضرباً من الرفض الساكن في أعماق اللاشعور لدى النخبة المثقفة قديمها ومعاصرِها للانزياح الناشئ في مدلولات تلك اللفظة. إنّها الخشية من أن يكون الجهاد بالمدارات الجديدة التي يروم وُلوجَها مدخلاً لحروب أهلية يقتتلُ فيها المسلون، ويبيحُ فيها بعضهُم قتل بعض. ولا يفوتنا في هذا السياق، أن نشيرَ إلى أنّ دم عثمان بن عفان لن يكون أول دماء المسلمين المُراقة في ساحة صراع يكون فيها الغريمُ مسلماً. فذِكرَى حروب الردّة غيرُ بعيدة، وفيها أمَر خالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة، رغم إقامته الصلاةَ وإقرارِه بأركان الديانة الإسلامية مستثنًى منها ركنُ الزكاة. والسيرةُ النبويّة تحتفظ لنا بحادثة قتل أسامة بن زيد لرجل من بني جهينة، رغم إقراره بالتوحيد، وما تعرَّض له إثر هذه الحادثة من تأنيب شديد من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، غيْر أنّ ما يجعل مقتل الخليفة الثالث حدثاً مفارقاً لما سبقه متمايزاً عنه هو غيابُ كلّ لبْس من شأنه أن يجعل الصورة ضبابيّة غائمة، المشهدُ ههنا واضحٌ بَيّـِنٌ: عددٌ كبيرٌ من مسلمي الأطراف ومعظمُهم من ذوي السابقة في الإسلام والبلاء الحسن فيما سبق من معارك المسلمين ضد الرّوم والفرس يُترجِمون طعونهم الكثيرة على خليفة المسلمين إلى حركة منظّمة تنتهي بحصارٍ مشدّد فاغتيالٍ صريحِ لا أثرَ فيه لشُبْهة الخطأ أو الالتباس.
هل كان الطبري، وهو يَـسمُ هؤلاء الثائرين بـ"المنحرفين عن عثمان" يستشعر بأنّ هناك انحرافاً خطيراً آخذاً في التشكّل؟ نميلُ إلى الإجابِة بـ"نعم"، فالمدقّق في تأْريخ الرّجل لوقائع سنتيْ 34 هـ و35 هـ لن يخطئَ بأيّة حال نبرة تعاطفه مع الخليفةِ المنكوب، الخليفةِ الذي بَـدَا مستنكراً بشدّة مجابهته بالقتل من قبل الناقمين عليه، والحالُ أنه مسلم لم يبدر منه ما يحلّ سفك دمه. يقول فيما رواه الطبري: "اللهمّ اكفني طلحة بن عبيْد الله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألّبهم، والله إنّي لَأرجو أن يكون منها صفراً، وأنْ يُسفك دمُه. إنه انتهك مني ما لا يحلّ له. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يحلّ دم امرئ إلا في ثلاث: رجل كَفَر بعد إسلامه فيُقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيُرجَم، أو رجل قتلَ نفساً بغير نفس". ففيمَ أقتلُ؟[6]
فيمَ أُقتلُ؟ هو سؤالُ الحقيقة الضائعة في دروب لطالما اختلط فيها العقائديّ بالسياسيّ، سؤالُ ما لا يُحصى من القتلى الذين فارقت أرواحُهم أجسادَهم دون أنْ يجدوا تفسيراً يبرّرُ سبب قتلهم، سؤالُ الدم المسفوك لمجرّد الاختلاف في المعتقد والتباين في فهم مقاصد الدين ومقتضياتهِ.
بكثيرٍ من الإطناب خاض المؤرخون القدامى في نقل الجزئيات الدّقيقة المرافقة لمقتل عثمان. ولئن اختلفت الروايات[7] بينهم اختلافاً بلغ حدّ التضارب في بعض الأحيان، فإنّها تضافرتْ في النهاية لترسم مشهداً قاتماً، كلُّ لحظة فيه تختزن طاقاتٍ عنفيّةً هائلةً ستنفجرُ تباعاً مع الأجيال اللاحقة من المسلمين وصولاً إلى لحظتنا الراهنة، إذْ لم يسلم الخليفة وأهله أثناء الحصار من التجويع كما مُنعوا الماءَ، وقبيْل القتل أحرقت أبواب الدار ورُجم عثمانُ بالحجارة حتى أُفقـِد الوعي. وساعةَ الاقتحام طعِن بالمشاقص حدّ الموت. ولم يكن الاغتيالُ خاتمةَ المشهد، بل تلتْه عمليّات نهب في محيط الدار، وأعقبَ ذلك امتناع عن الدفن، ربما تواصل حسب بعض الروايات ثلاثةَ أيام.
لسنا نستبعد في الحقيقة أن تكون الوقائع المرويّة قد أحيطت عن قصد بهالة من المبالغة قصد تكريس صورة الإمام/الضحية في المخيال الجماعيّ، غير أنّ الثابت لديْنا هو أنّ ما حصل لعثمان في أيامِه الأخيرة كان انتهاكاً حقيقيّاً للحرمة المقدّسة لدمِ المسلم. هذه الحرمة التي دافع عنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء حياته بضراوة؛ لأنّه كان يعلم بحكمة النبيّ وبفطنة السياسيّ أنّ استمرارية الدولة الفتيّة لا يمكن أنْ تُضمن إلا إذا ضُمِنتْ الأنفسُ والدماءُ. ومكمنُ الخطورة فيما وقع خلال السنة الخامسة والثلاثين للهجرة أنّ قتلةَ عثمان - أو لنقلْ جزءاً مهمّاً منهم - كانوا على يقين وهم يمارسون فعل القتل بأنهم يمارسون عملاً جهاديّاً، به ينقذون ما انفصم من أواصر الدين، ويفتقون الرّتق الذي أحدثه الخليفة بما خالف به الرسولَ والشيخيْن قبله، هي الحقيقة إذن تضيعُ مجدّداً بين قاتل يَقتلُ وقدْ ملأه يقين "المجاهد" يسْعى في سبيل إعلاء راية الدين، ومقتول يُقتلُ وقد ملأه يقينُ "الشهيد" الذي لا تفصله عن الجنّة سوى طعنة سهم يتلقّاها صدرُه.
2 - الصّحبة: صمتُ المستقيل: هل كان لدى صحابة رسول الله المستقرّين في المدينة أو الوافدين إليها مع الناقمين على الخليفة وعيٌ، ليس بدقّة اللحظة التاريخية التي يحيكون نسيج أحداثها فقط، بل أيضاً بفارقية تلك اللحظة ومصيريّتها بالنسبة إلى مستقبل الدولة الإسلامية الناشئة؟
قبل الشّروع في مقاربة هذه الإشكالية، يبدو من الضروريّ أن نوضّح أنّ الحديث عن الصحبة النبويّة في السياق الذي نحن بصدده يستدعي بالضرورة تمييزاً بين ثلاثة أضرب من الصحابة شاءت وقائع "يوم الدار" أنْ تجمعهم في فضاء طالما صُبغَ بلون القداسة، وهو مدينة رسول الله.
يضمّ الضربُ الأول صحابة من الرّعيل الأول كان لهم فضل السّبق في الإسلام من غير أنْ يتَمتعوا بسند قبليّ يشدّ أزرهم أيام المحنة في مكة. وتتبادر إلى الذهن ههنا أسماء كلٍّ من عبد الله بن مسعود وأبي ذر الغفاري (وكلاهما مات أثناء خلافة عثمان) وعمار بن ياسر. والمصادرُ تكاد تُجمع على دور هؤلاء في تأليب الناس على عثمان في المدينة أو خارجها تأليباً يُصور في معظم الأحيان، باعتباره صادراً عن أنفس لا همّ لها سوى إرضاء الله والذود عن صفاء دينه ونقاوته.
أمّا الضربُ الثاني، فيضمّ أيضاً صحابة من ذوي السابقة في الإسلام مع مجْد قبليٍّ تليد ومكانة اجتماعية مرموقة. نذكر في هذا السياق، عليّاً وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف. إننا نتحدث عن نخبة قريش المعنيّة بالشأن السياسيِّ العامٍّ والمعنيّة أكثر من ذلك بكرسيّ الخلافة ذاته.
ويضمّ الضرب الثالث من الصحابة، أولئك الذين طوّحتْ بهم الفتوحات في الآفاق والتخوم، فاستقرّوا في الكوفة والبصرة ومصر، وأعادتهم إلى المدينة معارضتُهم لسياسة الخليفة وثورتهم ضدّ ما رأوا فيه انحرافاً في مجريات تلك السياسة. إنهم صحابةٌ حَملهم "جهاد" الخارج إلى أطراف الدولة الإسلامية وأعادهم "جهاد" الداخل إلى مركزها. ومن بين هؤلاء، تذكر المصادر أسماء كثيرة من بينها صعصعة بن صوحان، وحكيم بن جبلة، وعبد الرحمن بن عديس البلوي.
نتحدّث إذن عن نسيج معقّد متشابك. ولا بدّ من الانتباه، إن نحن رُمْنا تفكيكَ خيوطِه، إلى أنّ ما يُعرضُ في واجهة الأحداث من وقائع وأقوال، إنّما يخفي خلف الستار تفاصيلَ ودقائق ومراكمات أثّرتْ بشكل مصيريّ في التطوّرات الحاصلة. نعم، ينبغي الانتباهُ إلى جزئيات من قبيل إساءة عثمان إلى عبد الله بن مسعود بالقوْل والإيذاء الجسدي مِن على منبر الرسول، وقريبٌ من هذا السلوك ما وقع مع عمار بن ياسر الذي دُعي به فضُرب حتى أغشيَ عليه. أهو باب الاعتداءِ على مقتضيات "الصحبة النبوية" وقدسيّتها وقد أشرعهُ الخليفة ذاتُه فلم يتأخر في أن يُطبق عليْه بأسوأ ما يكون الإطباق؟
ومن التفاصيل المهمّة أيضاً، القرارُ الجريء الذي اتخذه الخليفة بإحراق الصحف التي خُطّ فيها القرآن وحملِ الناس على مصحف واحد. دون أن ننسى ونحن بصدد استعراض بعض الجزئيات الفاعلة في المشهد أنْ نشير إلى أنّ عثمان قدْ أنقص عطاء عائشة مقارنة بما كان يعطيها عمر بن الخطاب، مثلما أنقص أعطية صحابة آخرين.
لسنا في الحقيقة نريد أن نتقصّى تفاصيل سياسة عثمان في إدارة الحكم، فالمصادر والدراسات تُغْنينا عن هذا الجهد، لكننّا على يقين من أنّه بمثل هذه التفاصيل الثاوية خلف الستار يزداد المشهدُ وضوحاً، وتزدادُ مقاربتنا له متانة ودقة. والحقّ أنّ تفكيكَ النسيج المتشابك الذي أشرنا إليه آنفاً يدعونا إلى الوقوف على النقاط الثلاث التالية:
أ ـ تُمثّل واقعةُ مقتل عثمان بن عفّان في اعتقادِنا الحدثَ المدشّن لانفجار مفهوم "الصحبة النبوية". إننا بإزاء انحدار حقيقي بهذا المفهوم من آفاق المقدّس التي وشّحتها آيات القرآن ووقائع السيرة المحمّدية إلى دائرة الدنيويّ التي رسمتْ حدودها أحداث دمويّة رُفع فيها السّلاحُ وسَفَـك خلالها الصحابةُ دماءَ بعضهم بعضاً. سنلاحظ بلا شكّ، أنّ نخبة قريش مِن أصحاب رسول الله قد التزموا الحياد وأسلموا بشكل ما "خليفتهم" و"أخاهم في السابقة" إلى الغاضبين، كي يمارسوا ضدّه ما كنا ذكرنا من أصناف التعذيب والدمويّة.
أمّا أن يكونَ عليّ وطلحة والزبيرُ وابنُ عوف وغيرُهم قد وقفوا موقف الحياد السلبيّ أمام رمز الخلافة وهو يتهاوى، فهذا بيّنٌ جليٌّ، وتحدّث فيه جلُّ الدّارسين الذين اهتموا بأحداث الفتنة، لكن ما لم يقع التركيزُ عليْه فيما مررنا به من قراءات هو أوّلاً صمتُ الصحابة على انتهاك قدسيّة المكان، فمدينةُ نبيّهم كانت تُحاصر واللغطُ قد بلغ حرمَ مسجدِه، وهو ثانياً سكوت ذوي السابقة على حدث خطير آخر تمثّل في إزاحة عثمان عن إمامة الصلاة وتعويضه بأحد الوافدين إلى المدينة من الغاضبين. إنّ رمزيّة إمامة المسلمين في الصلاة بقدر ما توهّجت وارتفع بريقها في حادثة مرض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفويضِه أبا بكر مهمة الإمامة، نراها في واقعة "يوم الدار" وقدْ خفتَ توهّجها وضاعتْ دلالاتها.
ب ـ لن يتأخّرَ كثيراً ظهورُ التداعيات الخطيرة لما وقع. والحقُّ أنّ هذه التداعيات سوف تسير في اتجاهات متعدّدة، وسوف تضعنا أمام جملة من المفارقات والتناقضات. فما أسرع أن نرى مَن كان مِن الصحابة مستقيلاً أو معارضاً صريحاً لعثمان، وقد تحوّل إلى مناصرٍ يطالبُ بدم القتيل ويرفع السلاح من أجل القصاص لذاك الدم المسفوك. بهذا المعْنى، ستكون واقعة الجمل (36هـ) حدثاً سياسيّاً يحملُ في عمقه انقلابا بيّناً في الأدوار التي اضطلع بأدائها عددٌ من الصحابة. فطلحةُ المناوئ لعثمان، والزبير المكتفي أثناء الحصار بإرسال ابنه عبد الله للمساهمة في حماية الخليفة المهدَّد، كلاهُما سيغدو زعيماً لحربٍ فاتكةٍ، بوصلتُها المطالبة بردّ الاعتبار إلى الدّم الذي أريق دون وجه حق. وبالمقابل، سيجد عليّ نفسه وقد تحوّل مِن أكثر الصحابة نصرة لعثمان إبّان محنته إلى أكثرهم دفاعاً عن قاتليه. ولسنا نملكُ لتفسير هذا الانقلاب في المواقف والأدوار[8] إلا التأكيدَ أنّ ما كان يُحرّك الأحداث حقاً هو خضوعها لمقتضيات السياسة ومنقلباتها. إنّه الدنيويّ بما يحمله من نسبيّة وتحوّل يتدخّل باعتباره الفاعلَ الرئيس ويصبغ على الوقائع ألواناً تزداد قتامة؛ لأنه لن يتوقف عن السّير بها نحو مزيد من القتل والدماء، قتل المسلمين بعضهم لبعض. وغيرُ بعيد عن هذا سنرى قَـتَلةَ عثمان[9] وهم يشكّلون لاحقاً نواة صلبةً لتوجّه عقائدي وسياسي لن يكفّ عن استقطاب عدد متزايد من المسلمين الذين يروْن في حدّ السيف سبيلاً إلى معالجة الاختلاف، وليس خوارجُ القرون الهجريّة الأولى إلا إحدى تعبيرات هذا التوجّه.
ج - نختم هذا العنصر بالإشارة إلى أنّ الصراع الدمويّ الذي قام بين المسلمين عقب مقتلِ عثمان قدْ اختُزلَ رمزيّاً من خلال مشاركة أبناء الرّعيل الأول من الصحابة في مُجريات أحْداث "يوم الدار"، ففيما رأينا عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر والحسن والحسيْن يذودون عن خليفتهم، وجدنا محمد بن أبي بكر ومحمد بن حُذيفة يشاركان بشكل فعّال في عمليّة القتل ذاتها. إنّ هذا الانقسام في صلب الجيل الثاني من صحابة الرسولِ ينبئ بشكل مبكّر عن انقسام أكبر سرعان ما سيطال جسد الدولة الإسلامية الناشئة فيُشتتها فرقاً وشيعاً متصارعة يحكم بينها حدّ السّيف.
نروم في خاتمة هذا العمل، أن نتناول بالنظر جزئية دقيقة أخرى نراها تحتلّ مكانة مهمة في سياق ما نحن بصدده من تحليل للدّلالات الحافّة بمقولتيْ "الجهاد" و"الشهادة". يتعلّق الأمر بأخبار متناثرة في عدد غير قليل من مصنّفات القدامى ما يجمعُ بيْنها هو تركيزُها من جهة على ما ستؤول إليه روحُ عثمان بعد ما تعرَّضَ إليه الجسدُ من تنكيل وقتل، وسعْيُها من جهة ثانية إلى إيجاد ضرْب من المصالحة بيْن الأجيال اللاحقة من علماء السنّة وخليفتِهم الذي سُفِكَتْ دماؤُه وسط حالة من الصمت المتواطئ. ولنبدأ بذكر مثاليْن لهذا الضرب من الأخبار:
ـ الخبر الأول: رَوَى ابن الخيّاط في تاريخه: "حدّثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو يعقوب الخاقاني قال: حدّثنا الجُريري عن أبي الورد بن ثمامة قال: أشْرَف عثمانُ فقال: أنشدكم الله هل تعْلمون أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كان على ثبير (جبلٌ يقع بين مكة وعرفة) ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرَّك بهم حتّى همّتْ حجارته أنْ تسّاقط، فقال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: اثبُتْ فإنّما عليك نبيّ وصِدّيق وشهيد. قالوا اللهمّ نعم. قال: شهدوا لي وربّ الكعبة".[10]
ـ الخبر الثاني: حدّثني أحمد بن هشام بن بهرام، حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا فرج بن فضالة عن مروان بن أبي أميّة عن عبد الله بن سلام قال: "أتيتُ عثمان، وهو محصو، فقال حين دخلتُ عليْه: مرحباً بأخي، رأيتُ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في هذه اللّيلة فقال لي: يا عثمان حصروك؟ قُلتُ: نعمْ. قال: أعْطشوك؟ قلتُ: نعم، فأدلى لي دلواً فشربْتُ منها حتّى روَيْتُ فإنّي لأجدُ برْدَ الماء بيْن ثدْييَّ وكتفيّ. ثمّ قال: إنْ شئتَ أفطرْتَ عندنا، وإنْ شئتَ نُصرتَ عليهم؟ فاخترْتُ أنْ أفطرَ عنده. "فقُتلَ ذلك اليوم.[11]
إنّ هذيْن الخبريْن - وأمثالُهما في كتب المناقب لا يكادُ يحصيها العَدُّ - تَصْدر في اعتقادنا عن رؤية متكاملة عبّر من خلالها عددٌ مهمّ ٌمن المصنّفين القدامى بمختلف مشاربهم وتوجّهاتهم(*) عمّا يشبه الاعتذار للخليفة عثمان؛ لأنه في النهاية وعلى أرض الواقع وجدَ نفسه وحيداً معزولاً(**) في مواجهة قاتليه. هناك صورة أخرى أريد لها أن تنشأ عن ثالث الخلفاء، صورتُه في حضرة النبيّ الذي بَدا وكأنّه لم يتخلَّ - حتّى وهو ميّت - عن "صاحبه"، فنراه يمدُّ إليه من خلال الرّؤيا عوْناً من الثابت في اعتقادنا أنه انتظره طويلاً في داره المحاصرة دون أن يناله. ولعلّنا نميل إلى الاعتقاد بأنّ الروايات والأخبار التي نسَجَ بها المؤرّخون القدامى واقعة مقتل عثمان من بدايتها إلى نهايتها كانت في جوهرها روايات وأخباراً تُضمرُ فكرتيْن في غاية الأهميّة:
- الفكرةُ الأولى مفادُها أنّ الشهادة بما هي تكريمُ إلهيّ لا يمكن إلا أن تكون من نصيب عثمان؛ لأنّه جاهدَ وصابرَ طيلةَ حصاره، ولأنّه كذلك - وربما هذا ما سعى الأسلاف إلى تبليغه - آثَر أنْ يضحّي بنفسه وحيداً على أن يرى المدينةَ حوله وهي تشتعل بنيران حرب بيْن أنصاره والنّاقمينَ عليه. أوَلسنا نلامسُ في العمق تعاطفاً مع القتيل ونبذاً للقتَلة ورفضاً قاطعاً لفعل القتل؟ إنها الرسالة العميقة التي نرى أنّ النخبة العالِمة من القدامى قد حاولوا أن يواجهوا بها موجات العنف المتكرّرة على أرض واقع قلّما خلا من الاضطرابات والفتن. والسؤال الذي ليس بإمكاننا في هذا السياق أنْ نردّه هو: أين الشبابُ المنساقُ اليوم خلْفَ دعوات التكفير والقتل مِنْ هذه الرسالة التي تشكّل فيما نرى ترجمة حقيقيةّ لجوهر الدين الإسلاميّ الذي يرفض منذ البدء جميع أشكال الاقتتال الداخليّ؟
- وأمّا الفكرة الثانيةُ التي نراها ثاوية وراء ظاهر الأخبار والرّوايات، فهي العمل على تنزيه صحابة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من شُبهة التقصير والتخاذل. فنحن نلمس لدى معظم مؤرّخي "يوم الدار" سعياً خفيّاً إلى إخراج الأحداث والوقائع إخراجاً يبدو من خلاله عثمان، وكأنّه ليس فقط راضياً بمصيره، بل إنّه ساعٍ إليْه قدْرَ جهده؛ لأنّه بمسعاه إلى الموت إنّما يسْعى إلى الشهادة التي وُعد بها من قِبَل النبيّ. ولمّا كان الموت مقصدَ الخليفة ومبتغاه فإنّ صمت الصحابة سيغدو بشكل ما فصلاً حتميّاً لا تكتملُ رواية الأقدارِ إلا به، إنّه صمتُ المصغي إلى حكمة الله، والمتيقّن من أنّ الخليفةَ يُساقُ إلى قدرِه، حيثُ جنة الخلد.
حاولنا على مدار الفقرات السّابقة، أنْ نرصدَ بتأنٍّ ورويّة لحظة تاريخيّة شائكة تضرب في أعماق تاريخنا، وتتراءى لنا غير معزولة عن مشاغل واقعنا الرّاهن الذي تتنامى فيه يوماً بعد يوم نزعات تكفيريّة وجهاديّة تتخذ من فهم مخصوص للماضي التليد مبرّراً يسوّغ العنف والقتل. فكانتْ قراءتُنا فيما أردناه لها مساءلة إشكاليّة لبعض المقولات الحافّة بمفهوميْ "الجهاد" و"الشهادة". من أجل هذا لم نسعَ إلى إطلاق الأحكام ومطاردة الأجوبة بقدر ما عملنا على إثارة جملة من الإشكاليّات التي أردنا مِن خلالها الدّفع إلى إعادة قراءة المنعرجات الحاسمة في تاريخ حضارتنا العربيّة الإسلامية قراءةً تنأى بنا قدْر المستطاع عن منطق العُنف، وتضع جداراً سميكاً بيننا وبين سياسة التقتيل.
لقد جعَلَنا البحْثُ والتقصّي نواجه جملة من المفارقات لعلّ أهمّها أنّ مشهد قتل الخليفة الثالث وضع وجهاً لوجه ثائرين يملؤهم يقين المجاهد بأنّه يدافع عن راية الحق وشيْخاً أعزل يتمسّكُ إلى آخر رمق بعدم التخلّي عنْ "قميصِ" الخلافة المقدّس، ويجاهدُ بطريقته وصولاً إلى موته المشتهَى. ومِن المفارقات أيـضاً أن نرى "الخاذلين" لعثمان في محنته وقد انقلبوا عقبَ موته إلى مطالبين بدمه رافعين بضراوة راية الدّفاع عنه. ومثلُ هذه المفارقات لا يُمكنُ أنْ تُقرأ في اعتقادنا خارجَ إطار "السياسيّ" المتلبّس على الدوام بالتغيّر والتقلّب. ولأنّ الخلاف في عمقه خلاف سياسيّ، فإنّنا وجدنا البحث قد أفضى بنا في أكثر من موضع إلى سؤال الحقيقة الضائعة بينَ طلّابها المتنازعين، وسؤال المقدّس "الشاردِ" في ثنايا الصّراعات الدنيويّة. وهنا يكمنُ السؤال الأهمّ في نظرنا: هلْ مِن سبيل إلى فهم المفارقة القائمة بين مقام "الشهادة" وما يقتضيه مِن انفتاح على المطلَق وانجذاب نحو الفردوْس المنشود، ومقام "الجهاد" وما يقتضيه من تلبّسٍ بالنسبيّ وانغماسٍ في "جحيم" الدماء المسفوكة؟
قائمة المصادر والمراجع
المصادر:
- ابن خياط خليفة، تاريخ ابن خياط، تحـــــقيق أكرم ضـياء العمري، دار طيبة للــــنشر والتوزيع، 1985
- البلاذري أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، ج6، دار الفكر للطباعة والنشر بيروت، 1996
- الطبري محمد بن جرير، تاريخ الطبري، بيت الأفكار الدولية الأردن، د ت.
- العسقلاني ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث القاهرة، 1987
- القاضي عبد الجبّار أبو الحسن، المُغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق محمود محمّد قاسم، دار الكتب المصريّة، د ت.
- الكندي محمد بن يوسف، ولاة مصر، تحقيق حسين نصار، دار صادر بيروت. د ت.
المراجع:
- جعيّط هشام، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة بيروت، 2000.
- حسين طه، الفتنة الكبرى، ج1، عثمان، دار المعارف مصر، د ت
- ملحم عدنان محمد، المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، دار الطليعة بيروت، 2001
[1]- جاء في صحيح البخاري: "قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفسُ بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة." انظر، البخاري، أبو عبد الله، صحيح البخاري، دار ابن كثير، دمشق بيروت، 2002، ص 1701. ولمزيد من التوسّع في موجبات القتل وضوابطه انظرْ: العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث القاهرة، 1987، ج 12، ص 209، 213
[2]- أُطلق هذا الاسم على طول الفترة التي حوصر فيها عثمان بن عفان، والتي انتهتْ بمقتله
[3]- انظرْ، جعيّط هشام، الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، 2000، ص 119
[4]- انظرْ، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، بيت الأفكار الدولية، الأردن، ص 757
[5]- انظرْ، جعيّط هشام، المصدر نفسه، ص 109. وانظرْ أيضاً، حسين طه، الفتنة الكبرى، ج1، عثمان، دار المعارف مصر، ص 141
[6]- انظرْ، الطبري، المصدر نفسه، ص 773
[7]- للاطلاع على مختلف الروايات المتصلة بـ"يوم الدار" انظرْ، ملحم عدنان محمد، المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، دار الطليعة بيروت، 2001، ص 83، 175
[8]- ممّا وجدناه يُعبّر تعبيراً دقيقاً عن الانقلاب في المواقف ما ساقه البلاذري في أنساب الأشراف: "وخرجتْ عائشة رضي الله تعالى عنها باكيةً تقول: قُتل عثمانُ ـ رحمه الله ـ فقال لها عمّار بن ياسر: أنتِ بالأمس تُحرّضين عليْه ثمّ أنت اليوم تبكينه". انظرْ، البلاذري أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، ج6، دار الفكر للطباعة والنشر بيروت، 1996، ص187
[9]- نشير في هذا السياق إلى أنّ بعض المساهمين في قتل عثمان سيتحوّلون سريعاً إلى مطالبين بدمه. يقول محمد بن يوسف الكندي: "قال يزيد بن أبي حبيب: فلمّا دخلوا المسجد صاحوا: إنّا لسنا قتلة عثمان ولكنّ الله قتلَه. فلما رأى ذلك شيعةُ عثمان قاموا وعقدوا لمعاوية بن حديج. فكان أوّلَ مَن بايع على الطلب بدم عثمان". انظرْ، الكندي، محمد بن يوسف، ولاة مصر، تحقيق حسين نصار، دار صادر بيروت، ص 42
[10]- انظرْ، ابن خياط خليفة، تاريخ ابن خياط، تحقيق أكرم ضـياء العمري، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1985، ص ص172، 173
[11]- انظرْ، البلاذري، المصدر نفسه، ج 6، ص 201
* سنرى القاضي عبد الجبار المعتزلي يقول بعد أربعة قرون من موت عثمان: "وقدْ رُوي عن أصحاب الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: ستكون فتنة واختلاف، وإنّ عثمان وأصحابه على الهدى". انظرْ القاضي عبد الجبّار أبو الحسن، المُغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق محمود محمّد قاسم، دار الكتب المصريّة، ج 20، القسم الثاني، ص 44
** يمكنُ استشعارُ شدّة وقع تخلّي الصحابة عن عثمان من خلال سياقات نصية كثيرة في مصنّفات القدامى، ونذكُرُ على سبيل المثال ما جاء في أنساب الأشراف من قول البلاذري: "كتبَ عثمانُ إلى معاوية أنْ أمدّني. فأمدّهُ بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كُرْز البَجَلي فتلقّاه النّاسُ بمقتل عثمان، فرجَع من الطريق، وقال: لو دخلتُ المدينة وعثمان حيّ ما تركتُ بها مُحتلِماً إلا قتلْته لأنّ الخاذلَ والقاتلَ سواء". انظرْ، البلاذري، المصدر نفسه، ج 6، ص 201