"الحاكميّة" لمحمّد أبو القاسم حاج حمد
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب:
"الحاكميّة" لمحمّد أبو القاسم حاج حمد
صدر كتاب "الحاكميّة" في طبعته الأولى سنة 2010، أي بعد وفاة صاحبه محمّد أبي القاسم حاج حمد بستّ سنين. راجعه وحقّقه محمّد العاني بالتّعاون مع محمّد شحرور، بعد أن تبنّت مؤسّسة الدّراسات الفكريّة المعاصرة طبع أعمال هذا المفكّر السّودانيّ ونشرها بالتّعاون مع دار السّاقي.
فالكتاب إذن جزء من مشروع فكريّ لم يكتمل، لكن بدت معالمه واضحة ومعبّرة عن الحاجة إلى مراجعة العمق التّأويليّ الّذي بنى عليه تيّار الصّحوة مشروعه السّياسيّ. وقد تمّت تلك المراجعة فعلاً عبر إعادة قراءة النصّ التّأسيسيّ في الإسلام واسترجاع تاريخ الأديان الثّلاثة الكبرى: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.
يتكوّن الكتاب من مدخل ضمّ إشارات إلى الأطروحة المركزيّة وخمسة فصول هي عبارة عن نشر هذه الأطروحة وتوضيحها، وخلاصة أساسيّة ارتكزت على التّعدّديّة المنهجيّة القرآنيّة سبيلاً إلى إبراز مفارقة خطاب الحركات الإسلامويّة للخطاب القرآنيّ ولمنهجيّة السّماء في التّعامل مع أحكام الأرض ولحقائق تاريخ الشّعوب بدءاً من بني إسرائيل وصولاً إلى التّجربة المحمّديّة العربيّة، بما هي تدشين للمرحلة العالميّة.
المدخل: الحاكميّة في القرآن: منهج المقاربة
ارتكزت المقاربة السّياسيّة لتيّارات "الصّحوة" على تكفير النّظم الدّيمقراطيّة، لأنّها تقتحم مجالاً تحتكره الذّات الإلهيّة، وقد دشّن أبو الأعلى المودودي هذا المذهب في التّأويل عندما قرأ المشتقّات القرآنيّة لمادّة (ح، ك، م) الواردة في النصّ القرآنيّ في صيغ كثيرة أهمّها "الحكم" و"التّحكيم" و"الحاكم" و"يحكّمون". وينطلق المودوديّ من توحيد الألوهيّة والرّبوبيّة ليحصر الحاكميّة في دائرة الله مقصياً البشر كلّهم إقصاء كليّاً. يقول في كتابه نظريّة الإسلام السّياسيّة: "ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدّولة نصيب من الحاكميّة فإنّ الحاكم الحقيقيّ هو الله... وليس لأحد من دون الله شيء من أمر التّشريع، والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرّعوا قانوناً". وتوازياً مع حصر الحاكميّة في الله تُخرَج "الدّيمقراطيّة" ـ بما هي حكم الشّعب لنفسه- من دائرة الإسلام، "فلا يصحّ إطلاق كلمة الدّيمقراطيّة على نظام الدّولة الإسلاميّة، بل أصدق منها تعبيراً كلمة الحكومة الإلهيّة أو الثيقراطيّة (theo-cracy)" ينبني هذا الاستبدال المفهوميّ على سوء الظنّ بالإنسان، فهو ما ينفكّ يكرّر "أنّ العامّة لا يستطيعون أن يعرفوا مصالحهم".
يرى محمّد أبو القاسم حاج حمد أنّ الحاكميّة كما صاغها المودودي ثمّ سيّد قطب تقود إلى عطالة الإنسان وسلبيّته وتوقع في مقولة الجبر. من هنا عمد إلى استنطاق القرآن حول الحاكميّة لينتهي إلى أنّ "طرح المقابلة بين حاكميّة الله وحاكميّة البشر أمر لا يستقيم فلسفيّاً وفق منهجيّة القرآن المعرفيّة، وذلك للفارق الجوهريّ بين الطّبيعتين". ذلك أنّ مجال الحاكميّة الإلهيّة الوجود لا التّشريع، وهي خاصّة بالمرحلة الإسرائيليّة ولا علاقة للمسلمين بها.
يميّز الكاتب في هذا المستوى بين الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة الاستخلاف وحاكميّة البشر. واعتمد في تمييزه على مدخل تركيبيّ في قراءة القرآن، يقوم على اعتبار آيات الكتاب وحدة عضويّة تُقرأ على ضوء الاستخدام الإلهيّ للّغة وتجاوز الاستخدام البلاغيّ وحالة النّسخ والمترادف والمشترك والمتشابه للوصول إلى كونيّة القرآن. فمن الخطأ إحالة الكلمة القرآنيّة عند التّفسير على أمثلة شعريّة أو نثريّة لها سياقها، ممّا يعرّض المعنى إلى عوارض نفسيّة القائل/المفسّر والمخزون الثّقافيّ للمحيط. من هنا دعا الكاتب إلى إعادة ترتيب القرآن بكيفيّة مغايرة لترتيب نزوله، حتّى لا تحبس دلالات الكلمات بالشّروط الفكريّة والثّقافيّة لزمن التّنزيل. ولئن اختار الكاتب هذه المنهجيّة الخاصّة في قراءة القرآن بمعزل عن التّفاسير المأثورة فقد وجدنا في هذه التّفاسير القديمة ذاتها ما يدعم نظريّته في الحاكميّة. ولعلّ أكثر الآيات تواتراً في أدبيّات "الحاكميّة الإلهيّة" المائدة 4: 45: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ". غير أنّ مراجعةَ تفسير الطّبري تُخرجُ الآيةَ من محور السّياسة الإسلاميّة وتنزّلها في سياق عقائد أهل الكتاب، إذ ينقل: "حدّثني المثنى قال، حدّثنا إسحاق قال، حدّثنا محمّد بن القاسم قال، حدّثنا أبو حيّان، عن أبي صالح قال: الثّلاث الآيات الّتي في "المائدة"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (فأولئك هم الظّالمون) (فأولئك هم الفاسقون) ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفّار. حدّثنا ابن وكيع قال، حدّثنا أبي، عن أبي حيّان، عن الضحّاك قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب".
لقد أكّد الحاج حمد منذ مدخل كتابه أنّ تحويل حاكميّة الله إلى جبر خطأ وأنّ إلغاءها من العَلمانيّ الوضعيّ خطأ، وجاءت فصول الكتاب نشراً لهذه المعادلة.
الفصل الأوّل: الحاكميّة الإلهيّة: المجال والزّمان
مجال الحاكميّة الإلهيّة الوجود، وما هي مجرّد تشريع. بناء على ذلك يقول محمّد شحرور متبنّياً رؤية حاج حمد "لذا نرى أنّ حاكميّة الله بالمفهوم التّشريعيّ قد وُضعت مقابل العَلمانيّة بطريقة قسريّة تماماً". على أنّ الارتباط بين الحاكميّة الإلهيّة والتّشريع قد تحقّق في المراحل السّابقة على الإسلام واقترن بأربعة مظاهر: العطاء الخارق مقابل العقاب الصّارم، الأرض المقدّسة، خوارق العطاء هيمنة على الطّبيعة، تولّي الإله قيادة المجتمع بنفسه عبر الأنبياء لا الملوك. وقد مارس الله هذا النّوع من الحاكميّة طيلة أربعة قرون منذ أن أخرج بني إسرائيل من الأسر الفرعونيّ في القرن الثّالث قبل الميلاد.
فالحاكميّة الإلهيّة إذن مرحلة خاصّة بالحالة الإسرائيليّة، يقول الكاتب مجيباً عن سؤال ماذا تعني الحاكميّة الإلهيّة في القرآن؟: "إنّ الحاكميّة الإلهيّة تعني "حكم الله المباشر للنّاس" دون استخلاف بشريّ، وهو حكم يتميّز بـ "الهيمنة المباشرة" على البشر وعلى الطّبيعة في آن واحد، مع التّصرّف الإلهيّ فيهما تصرّفاً محسوساً ـ وراء حجاب- ولكن عبر حدثيّات منظورة". ومن هنا يتمّ تقديس الأرض وتفضيل القبائل الإسرائيليّة، بيد أنّ التّقديس والتّفضيل لا يعودان إلى ذات الأرض أو ذات الشّعب وإنّما هما فعلان لاحقان بالحاكميّة الإلهيّة، الّتي ترفق العطاء الخارق أو المعجزات بشريعة غليظة هي "شرعة الإصر والأغلال"، ولا وجاهة تبعاً للمماهاة بين الشّريعة اليهوديّة "الغليظة" والشّريعة الإسلاميّة الّتي ستتميّز بالتّيسير والتّخفيف والرّحمة.
الفصل الثّاني: حاكميّة الاستخلاف:
مُورست حاكميّة الاستخلاف حسب حاج حمد في بني إسرائيل على عهديْ داود وسليمان، وامتدّت من نحو 1000 قبل الميلاد إلى حدود سنة 922 قبل الميلاد. وهي نتاج تمرّد الإسرائيليّين على الحاكميّة الإلهيّة، إذ طلبوا ملكاً يختاره الله فاختار طالوت ملكاً ثمّ داود وسليمان. وفي هذه المرحلة لم يعد الله يتدخّل مباشرة لنصرة الإسرائيليّين، لم يعد يفعل في دائرة المحسوسات والمنظورات وإنّما غيباً. ويظلّ التّرشيد الإلهيّ قائماً، وغالباً ما يجتمع المُلك والنّبوّة، وتُسخّر الطّبيعة بكائناتها المرئيّة وغير المرئيّة للنبيّ/الملِك. على أنّ الله هو الّذي يختار بنفسه الخليفة لا المجتمع البشريّ، هذا الاستمداد الإلهيّ يجعل الخليفة مطاعاً ولكنّه ليس مع ذلك معصوماً. و"الاستخلاف عن الله ليس مجرّد "سلطة سياسيّة" ولكنّه "استخلاف كونيّ" وهيمنة على البشر والطّبيعة بتفويض إلهيّ".
يبدو أنّ المفكّر السّودانيّ حريص على التّفريق بين حاكميّة الاستخلاف ونظريّة الخلافة كما استقرّت في الأدبيّات السّلطانيّة الإسلاميّة القديمة وفي أطروحات الإسلام السّياسيّ الحديث، ذلك أنّ الاستخلاف المتَحَدَّثَ عنه كونيّ لا سياسيّ، إلهيّ لا بشريّ، وقتيّ غير دائم، مطاع غير معصوم.
الفصول الثّالث والرّابع والخامس والسّادس: الحاكميّة البشريّة:
احتلّت مقاربة الحاكميّة البشريّة الحيّز الأكبر من الكتاب، ومثّلت محور أربعة فصول تدرّجت من تعريف الحاكميّة البشريّة وصولاً إلى علاقتها بأصناف المُخاطَبين في القرآن مروراً بضبط خصائصها وانفتاحها على مقدّمات الحضارة البديلة.
تمثّل الدّعوة المحمّديّة إعلاناً إلهيّاً عن نهاية الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة الاستخلاف وتدشين مرحلة حاكميّة الإنسان، نقرأ في الكتاب: "لقد جاء محمّد في أوّل المفترق بين مرحلتين تاريخيّتين في عمر البشريّة، بدأت الأولى بآدم وانتهت لديه، وبدأت الثّانية به وتنتهي بنهاية العالم".
ولهذه المرحلة خمس خصائص رئيسيّة:
- تنتفي المعجزات المعبّرة عن الحاكميّة الإلهيّة، وتحجب الخوارق إيذاناً بدخول البشريّة مرحلة حاكميّتها الخاصّة، "فالله قد تدرّج بالبشريّة لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق".
- شرعة المسلمين مخالفة لشرعة التّوراة، فلا خارق عطاء ولا خارق عقاب، وإنّما شرعة تخفيف.
- التحوّل من التّقديس إلى التّنزيه، فعلاقة الحاكميّة البشريّة بالله علاقة تنزيه مخالفة لعلاقة التّقديس الّتي طبعت المراحل السّابقة، من هنا وجدنا الخطاب القرآنيّ يصف مكّة بالحرم أو الأرض المحرّمة ويصف المسجد الأقصى بالأرض المقدّسة. ولئن كان التّقديس يتّجه إلى المتعلّقات الإلهيّة فإنّ التّنزيه/ التّحريم يتّجه إلى الذّات الإلهيّة المنزّهة.
- قيمة الحكمة والوعي والتّدبّر: إنّ أهمّ خاصيّة في هذه المرحلة هي أن يمارس الإنسان مسؤوليّته الوجوديّة بوعي وإدراك وأن تكون علاقته بالله غيبيّة، فالحكمة ترى فعل الله في حركة الطّبيعة والتّاريخ. والإسلام المحمّديّ هو مقدّمة البشريّة لتعرف طريقها إلى الله عبر التّعامل مع السّنن الوضعيّة دون حاجة إلى رؤية جهريّة، بينما لم يكن العقل البشريّ في المرحلتين السّابقتين قادراً على استيعاب فكرة المطلق /الله إلاّ عبر موجودات عينيّة أو فعل مباشر في الطّبيعة بل حلول مباشر. ويعتمد حاج حمد اعتماداً متكرّراً على الآية فاطر 35: 32: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ". ففيها تأسيس لمعنى وراثة الكتاب من البشر على أنّ هؤلاء الورثة ثلاثة أنماط.
- "بالحاكميّة البشريّة تحوّل الخطاب إلى خطاب عالميّ، لا إلى خطاب قبليّ كما في حال بني إسرائيل، وأصبح موجّهاً إلى النّاس كافّة". تتألّف نظرة حاج حمد إلى التّاريخ من ثلاث دورات: المرحلة العائليّة مع آدم، ثمّ المرحلة القبليّة من نوح إلى عيسى، ثمّ العالميّة المقترنة بمرحلة النّبوّة المحمّديّة وما بعدها. ويستدلّ الكاتب على أنّ مقصديّة الإسلام التوّجّه إلى النّاس كافّة بحجّة الوداع الّتي اقتصر فيها الرّسول على الخطاب الإنسانيّ، مردّداً "يا أيّها النّاس" فاتحة وخاتمة، ولم يأتِ فيها على تشريعات أو حدود.
المسألة السّياسيّة في ظلّ الحاكميّة البشريّة:
لم يَمنح الرّسول مؤسّسات للدّولة الإسلاميّة، ولم يقرّر نظم الحكم وأشكالها فيها ولم يورّث تفسيراً شاملاً للقرآن ولم يستخلف من يليه، لأنّه لو فعل ذلك لقضى على مفهوم الحاكميّة البشريّة حيث تعود السّلطة إلى الأمّة، يقول حاج حمد: "خاتم النّبيّين ليس مؤسّساً لدولة، وليس مفسّراً للقرآن، لأنّ ذلك من خصائص الحاكميّة البشريّة الّتي جاء خاتم النّبيّين ليحوّل التّاريخ الدّينيّ باتّجاهها، من بعد أن كانت هذه الحاكميّة حاكميّة إلهيّة ثمّ حاكميّة استخلاف". بهذا الشّكل يتمّ التّعامل مع ختم النّبوّة باعتباره عبوراً من سلطة النّبيّ إلى سلطة البشر، ويُفهم من العبارة القرآنيّة "أولي الأمر منكم" تأسيساً للاختيار الحرّ ولسلطة الأمّة، إذ "جعل الله الأمر من بعد النّبيّ بيد البشر وبالاختيار الحرّ (منكم) وأطلق للنّاس كيفيّة التّأسيس الدّستوريّ لهذا الاختيار الحرّ دون غلبة تسلّطيّة أولي الأمر (عليكم) ودون تميّز اجتماعيّ (أولي الأمر فيكم) سواء كان هذا التّميّز كهنوتيّاً أو سياسيّاً". و"على هذا يكون من مهمّة الحاكميّة البشريّة أن تبتدع الأنماط الدّستوريّة لأشكال الحكم الّتي تستجيب لمشكلاتها السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، على ضوء متغيّرات الواقع، وبمعزل عن ادّعاءات الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة الاستخلاف والإمامة المعصومة بعد ختم النّبوّة".
تمثّل مقاربة حاج حمد للمسألة السّياسيّة نموذجاً دالاّ على منهجيّته الفكريّة، وكيفيّة قراءته للنصّ الدّينيّ ولتاريخ النّوع الإنسانيّ. فقد انطلق من الآيتين 104و105 من سورة البقرة ليستخلص أنّ القرآن لا يفرّق بين خاصّة وعامّة، لذا ترفض الآيتان مناداة الرّسول بـ "راعنا" وتعوّضها بعبارة "انظرنا". وبناء على ذلك يرفض الحديث المبدوء بـ "كلّكم راع" لتعارض متنه مع القرآن، إذ ينتهي إلى تأسيس طبقيّة وتفاضل في حين ترفض منهجيّة القرآن كلّ أشكال التّفاضل بين البشر. وقد بنى الكاتب تصوّره للسّلطة السّياسيّة على النّموذج القرآنيّ ذاته، وهو نموذج يمرّر السّلطة إلى "أولي الأمر منكم" والمعرفة إلى "الّذين اصطفينا من عبادنا" ويأمر بالدّخول "في السّلم كافّة" ويبني الحكم على قاعدة "الشّورى".
خاتمـة:
من الجليّ أنّ المخاطب الرّئيس في الكتاب "تيّار الصّحوة" الّذي وسّع دائرتي "التّكفير" و"الجهاد" وركّب للإسلام صورة عدائيّة لباقي شعوب الأرض. يفاجئ الكاتب ممثّلي هذا التيّار بأنّ المفهوم الكلاسيكيّ للشّرق والغرب لم يعد له وجود في الحضارة العالميّة وبانتفاء فكرة خصوصيّة الفكر، لقد أصبحت الحضارة منذ الدّعوة المحمّديّة تنزع نحو العالميّة، ولئن كانت عالميّة الأمس إسلاميّة فإنّ عالميّة اليوم غير ذلك بالضّرورة، يقول: "لقد اتّجه العالم إلى وحدة عضويّة كاملة، وكلّ عمل خارج هذه الوحدة العضويّة هو هروب يائس إلى محليّة ضيّقة وانغلاق عن فهم التّحوّل، ومعارضة لرسالة القرآن العالميّة في الوقت نفسه".
وانتهى الكاتب إلى "خلاصة أساسيّة" هي التّعدّديّة المنهجيّة القرآنيّة، وانتقد قادة الحركات الدّينيّة لأنّهم جهلوا "أصول الخطاب القرآنيّ الّذي يميز بين النّاس والمؤمنين والمسلمين، كما جهلوا الخطاب الإلهيّ التّاريخيّ الّذي يميّز بين حالات الأمم وتشريعاتها، فطبّقوا على المسلمين تشريعات التوراة التي تقوم على المماثلة بين خارق العطاء "كشقّ البحر" وخارق العقاب، كما زرعوا المفهوم التّوراتيّ حول "التّكفير" داخل المفهوم الإسلاميّ القائم على التّطهير، وحوّلوا عالميّة الإسلام إلى مجتمعات الانغلاق التّلموديّ غير القابلة للتّعايش مع غيرها برمي الآخرين بالجاهليّة".
لقد خلّص محمّد أبو القاسم حاج حمد مفهوم الحاكميّة ممّا علق به من تشويهات إيديولوجيّة وتوظيف سياسيّ، ونزّله في مجاليه العقديّ/الوجوديّ والتّاريخيّ، وألغى اقترانه بالتّشريع وبالإسلام، وقرأ متعلّقاته على ضوء الوحدة العضويّة القرآنيّة بحيث لم يتناول القرآن باعتباره مجرّد نصوص وأحكام وإنّما باعتباره منهجاً محيطاً بهذه الأحكام ودالاّ على خلفيّتها وضابطاً لمفهوميّتها. وفي القول بالوحدة العضويّة ردّ ضمنيّ على مشروع مفكّر سودانيّ آخر معاصر للكاتب وهو محمود محمّد طه صاحب "الرّسالة الثّانية من الإسلام"، ولعلّ كتاب حاج حمد "العالميّة الإسلاميّة الثّانية" معارضة له. ورغم تباين المنطلقات بين المفكّرين إلاّ أنّهما يتنزّلان في إطار واحد هو الوعي بحاجة المنظومة الإسلاميّة التّقليديّة إلى مراجعة قصد تجديدها وتخليصها من الوصاية الّتي فرضتها عليها تيّارات الإسلام السّياسيّ.
لكنّ مشروع حاج حمد لم يتخلّص من نزعة توفيقيّة ضبابيّة بين ما أسماه "لاهوت الغيب" و"لاهوت الطّبيعة" أو بين الإيمان السّلفيّ والمنهجيّة العلميّة رغم تأكيده مراراً على تعذّر الجمع، وأسقط علاقة اليهود بالمسلمين اليوم على قراءة آيات من الإسراء 17 على غرار الآيات 4 و8 و104. وعند تعرّضه إلى نماذج لقيس مدى حريّة التّصرّف للحاكميّة البشريّة ساير الفقهاء القدامى في الإقرار بالحكمة من تعدّد الزّوجات مثلاً، وهي "حكمة" تبريريّة تتعلّق بالخوف من طلاق الزّوجة الأولى أو وقوع الزّوج في ضرر أكبر هو الزّنى. على أنّ أجلى مظاهر التّناقض ـ إن لم نقل الخداع الفكريّ- أنّ الكاتب يدعو إلى اتّباع المنهجيّة القرآنيّة في التّعامل مع الآخر، المنهجيّة الّتي ثبّتهها خطبة الوداع والقائمة على التّعايش وتعدّديّة المجتمع الدّينيّة. بيد أنّ هذا التّسامح الدّينيّ وذاك الانفتاح السّلميّ ظرفيّان مرحليّان في مشروع صاحب "الحاكميّة" ينتظران توفّر شروط المثال وهي الدّولة الإسلاميّة القويّة ليفسحا المجال لشكل آخر في التّعامل مع "الآخر".