الحب العذري.. والطريق إلى الحب الإلهي


فئة :  أبحاث محكمة

الحب العذري.. والطريق إلى الحب الإلهي

الحب العذري.. والطريق إلى الحب الإلهي

الملخص

الإنسان العربي إنسان عاشق، مجنون حبّاً وتخيّلاً، سواء تعلق الجنون بامرأة أم بالحب الإلهي، كما في شعر التصوف الذي هو شكل من أشكال التسامي والتعويض عن حب دنيوي فان بابتداع عشق أبدي.

والجدير بالذكر، أن شعراء الصوفية لم يتأثروا بغرض من أغراض الشعر العربي كما تأثروا بالشعر العذري [العفيف]، وكان لهذا الغرض الشعري حضور قوي في الشعر الصوفي، حيث استخدم الصوفيون مصطلحات العذريين وأساليبهم، بل ألفاظهم وصورهم عينها. فلا يجد الشاعر أمامه إلا لغة المحبين المتيمين بكل أشكالها وقوالبها الفنية، فيصورون مشاعرهم وأخيلتهم، وقد أحالوها إلى مصطلحات رمزية صوفية عرفانية بعيدة عن عالم الحس لا يعرفها ولا يتذوقها إلا من خاض التجربة الصوفية.

وما المحب العذري إلا صوفي خالص، صوفي في ظمئه الذي لا ينتهي إلى رؤية الحبيب ولقائه، وصوفي في تغنيه بعشقه الجامح الذي يملك كل قلبه وكل أهوائه وعواطفه ومشاعره.

وعليه، فالعلاقة بين الشاعر الصوفي والشاعر العذري علاقة مشابهة في الإخلاص والتوق للمحبوب؛ فكلاهما يصل إلى درجة الفناء في محبوبه، وكلاهما نهج المنهج نفسه، منهج المتعففين من العشاق، ونعلم ما بين العفة في الحب وبين الزهد من تشابه، فكلاهما يترفع عن الغريزة الهابطة ويتسامى بشعوره؛ فالعذري يتعلق بمحبوبته تعلقاً مثالياً، والصوفي ترتقي نفسه تأملا، حتى إذا فاض عليها الإشراق، تحققت بأن الله هو المعشوق الأول.

مقدمة:

نتحدث كثيرًا عن الحب في حين أننا لا نعرف عنه شيئًا، ولا يشارك المحبَّ شعورَه إلَّا من ذاق مرارة الهوى وحلاوته، وجرَّبَ ويلاته ولذَّاته. وما الحب إلا شَرَك تنصبه الطبيعة للبشر؛ فلذا يجب على المرء أن يراعيَ جانب الاعتدال في الحب، فإن العاطفة العنيفة لا تدوم، والإسراف في الحب أقرب إلى الحماقة.

ولو نظرنا إلى العالم مَليًّا لألفَيْنا أنه لا شيء يدير عجلة الكون غير الحب؛ لأننا في الواقع نحيا في هذا العالم عندما نحب، ولولا الحب ما عُرف الخالق. فالحب إذن كلمة جميلة مغرية، محبوبة إلى السمع؛ فهو الذي يمنحنا في الأرض ما نطمح إليه في السماء([1]).

لا ريب في أن الكلام عن الحب لذيذ كطعم الحب نفسه، بيد أن الكلام عن الحب شيء، والوقوع فيه شيء آخر. ومن ذاقوا الحب يجاهرون بأن ألذَّ أنواعه أكثرُها ألمًا وتبريحًا. قد يكون هذا صحيحًا، وربما يكون العكس هو الصحيح؛ فالحبُّ يبدأ باختيار الإنسان، غير أنه ليس له يد في نهايته. إنه عَلاقة بين سيد وعبد، فالسيد يريد أن يكون عبدًا، والعبد يرغب في أن يُصبح سيدًا([2]).

وليس من ريب في أن الحب العفيف الذي يصور صفاء القلب وطهارة الضمير كما يصور احتمال الآلام والمشقات في صور رائعة من الوجد ليس من ريب في أنه هو الذي أعد فيما بعد لظهور الحب الصوفي، فقد وجد فيه الصوفية نبعا لا ينضب ولا يجف لمواجدهم إزاء الذات الإلهية، بل وجدوا فيه خير ما يعبر عن لواعج الشوق المستعرة في حنايا صدورهم وما قاسوا في حبهم من صنوف الآلام والبلايا والمحن([3]).

وما المحب العذري إلا صوفي خالص، صوفي في ظمئه الذي لا ينتهي إلى رؤية الحبيب ولقائه، وصوفي في تغنيه بعشقه الجامح الذي يملك كل قلبه وكل أهوائه وعواطفه ومشاعره، وصوفي تعييه الحيلة وتعوزه الوسيلة إلى لقاء بالمحبوب، وإنه ليسير في طريق لا نهاية لها ولا سبيل إلى الدنو من غايتها إلا بإسلام الروح، وصوفي في ارتفاعه عن كل صغائر الحياة، لعله يقرب من قدس الأقداس، وصوفي في ابتهاله وذله وضراعته، وما أشبه شعره بالتراتيل الدينية. لذلك كله لا نغلو إذا قلنا إن هذا الحب العذري هو الذي أتاح لنا هذه الثروة البديعة من الحب الصوفي السامي.

وقد دفعني إلى كتابة هذا البحث المتصل بأحاديث الحب والصبابة أني وجدت الشباب يقبلون ويندفعون على قراءة قصص الحب إقبالاً شديداً، برغبات شتى ودوافع متعددة، غير مفرقين في هذا الإقبال وهذا الاندفاع بين الجيد منه الذي يسمو بالأحاسيس والمشاعر السامية، وبين الرديء الذي تطغى فيه الغرائز الغليظة وتجمح الأهواء والعواطف في غير تردد ولا خجل ولا استحياء.

وشبابنا معذور في قراءة ومشاهدة أنواعاً من قصص الحب لا تسمن ولا تغني من جوع، بحكم رغبته في الاطلاع، ولما فيه من غرابة، وغرائب الأفعال. ومن هنا، رأيت ضرورة أن أعرض عليهم نوعاً من الحب الرفيع السامي وتجربة حية من تجارب الحب العذري العفيف. الحب الذي عاشه أسلافنا في عصورهم الإسلامية الأولى، حب ليس فيه إثم ولا جناح ولا فسوق ولا حرج ولا خيانة ولا عار ولا خطيئة ولا ريبة، إنما فيه الوفاء والصفاء والعفاف والطهر والنقاء. وفيه كان يحتفظ المحبون بكرامتهم مهما ألح عليهم الحب ومهما اصطلوا من نيرانه واحتملوا من خطوبه، حتى إنهم يموتون شهداء في سبيله، وفيه تحتفظ الفتاة بجلالها ووقارها مع رقة العواطف ورهافة المشاعر ومع البر والحنان والإشفاق، ومع العشق والصبابة والهيام.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] أمين سلامة: الحب في الميزان، مؤسسة هنداوي، 2022م، ص19

[2] المرجع السابق، ص20.

[3]شوقي ضيف: الحب العذري عند العرب، الدار المصرية اللبنانية، 1999م، ص23