الحجاب بين ذهنية المحجّبة وخلفيّات التحجّب وعقلانيّة المواقف
فئة : مقالات
«قد يكون حجاب النّساء مشكلا زائفا، قد يكون علامة مرضيّة تظهر على السّطح أزمة عميقة وعطالة في مجتمعاتنا، قد يكون ظاهرة قديمة متجدّدة… المهمّ هو أن نفسح المجال للتّفكير بدل الوعظ والإرشاد، وللمعرفة الهادئة بدل الصّراخ؛ والمهمّ أيضا أن نفسح المجال لليوميّ وللخاصّ وللمحرِج من القضايا.
والمهمّ أخيرا، هو أن لا نعتبر ما يخصّ المرأة خانة خاصّة، من باب «للمرأة فقط»، فهذا وجه آخر من وجوه ثقافة اللائق سياسياً ودينياً…»([1])
رجاء بن سلامة
ما يزال الحجاب في مجتمعاتنا العربية أمرا حساسا ومثيرا للجدل، وهذا مرتبط بالحكم القيمي المرتبط به لدى كل من المحافظين والتحررين، حيث يرى فيه الإسلامي المحافظ شرطا لازما من شروط صحة إسلام المرأة وفرضا من فروضه، فيما يرى فيه التحرّري الراديكالي -على العكس من ذلك- دليلا على بقاء المرأة أسيرة في ذهنية الحريم، ويتلازم لديه التحرر من إسار هذه الذهنية مع السفور، هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى، وهي لا تقل أهمية عن سابقتها، فثمة أيضا رمزية ترتبط بالحجاب نشأت لدى كل من الطرفين المتناقضين، حيث أصبح الحجاب بالنسبة إلى الإسلامي التقليدي رمزا من رموز الأخلاقية الإسلامية السليمة، فيما هو بنظر التحرري المتطرف رمزا من رموز الذكورية والغيبية وتقاليد الحرملك.
وكمثال على الموقف الأول، يقول موقع إسلام ويب عن وجوب الحجاب ومعناه:
يجب التمييز بين خلفيات التحجب المختلفة، فحجاب يرتبط بذكورية مريضة أو تطرف ديني، ليس كحجاب مرتبط بإرث أو فولكلور أو هوية
«إذا بلغت الفتاة مبلغ النساء وجب عليها ارتداء الحجاب، كما يجب عليها القيام بفرائض الإسلام وواجبات الدين. فإنّ الحجاب من جملة أوامر الشرع. ومن بلغت سنّ التكليف أصبحت مأمورة منهية، تثاب على فعل الأوامر، وتعاقب على فعل ما نهى الله عنه أو مخالفة أمره تعالى، والحجاب شعار المسلمات، وهو تجسيد لحياء المرأة، وأمارة على عفافها وحشمتها »([2]).
كما يرِد على موقع "رابطة العلماء السوريين" الإسلامي بهذا الخصوص:
«ولئن بحثتِ عن أسرار هذا التكليف الذي هو لكِ تشريف، وعن فرض الحجاب الذي هو لكِ تاج، فتستطيعين إعمال عقلك المنير، ليتوافق مع تسليم قلبكِ الطاهر، فتقولين:
عنوان شخصيتي المميزة، وتعبير عن هويتي الإسلامية التي أتشرّف بالانتماء إليها، وهذا مما يحميني من الذوبان في الآخرين، فكل أمّة تحرص على ما يميزها في لغتها ومظهرها، فهذا مما يزدني تعلقا به، لأنّه يظهرني بلافتة الإسلام المحببة لقلبي»[3])).
أمّا في الجهة المقابلة، فقد صرّحت الكاتبة المصرية الشهيرة نوال السعداوى خلال انعقاد الملتقى الشهرى الثالث عشر لها بالمعهد الفرنسى بالقاهرة، برأيها فى الحجاب والنقاب اللذين اعتبرتهما ضد الأخلاق والأمن، وأنّ الحجاب من العبودية، وأنّ هناك مدارس فى الإسلام ضد الحجاب، وأنّ كل نظام سياسى يفسر الدين كما يشاء([4]).
وبدوره توجه الكاتب الصحفي شريف الشوباشي بدعوة لفتيات مصر لخلع الحجاب في ميدان التحرير، قائلا إنّه يدعو إليها من أجل تصحيح المفاهيم الوافدة من الحركات الوهّابية، وقد رحّبت الدكتورة هدى بدران، رئيسة الاتحاد العام النساء مصر، بهذه الدعوة، وقالت إنّ هذه الدعوة هي "صحوة سياسية للمرأة المصرية"، و"صفعة" على وجه "الإخوان" والدعوات السلفية، وأكدت أنّ جماعات الإسلام السياسي منذ انتشارها في فترة السبعينيات والثمانينيات، وهي تحاول تغيير مفاهيم الهوية الثقافية للمجتمع المصري، كي يتلاءم مع حلم "دولة الخلافة"، الذي بدؤوه بفرض الحجاب على المرأة المصرية، وانتشار بعض الشعارات، مثل "الحجاب فريضة"([5])..
لكن بين من يقدّس الحجاب ومن يشيطنه من الطرفين المتناقضين، ثمة موقع وسطي يدعو أصحابه من العقلانيين المعتدلين إلى اعتبار الحجاب شأنا خاصا يدخل في نطاق حرية المعتقد وحرية الزي، ويطرحون وجوب المساواة بين السافرة والمحجبة والمنقبة.
وعن هذه المسألة، يقول مثلا الأستاذ حازم القصوري من تونس:
«الحجاب مسألة مرتبطة بالحرّية الشخصية، لا يحقّ لأيٍّ كان التدخّل فيها بالمنع أو الإلزام عن طريق الإكراه»([6]).
من المهمّ جوهريا أمام هذه المواقف، أن نسأل عن موقف المرأة نفسها من الحجاب، وأن نسعى إلى فهم السبب الذي يجعل المرأة نفسها تتحجّب أو تتنقّب.
وهنا يمكن عموما تقسيم المحجّبات إلى ثلاث فئات:
الأولى: تتحجّب تحت الضغط ، فترتدي الحجاب خوفا من زوجها أو أهلها أو مجتمعها، وهذه الفئة المقسورة، يمكنها عن طيب خاطر أن تخلع الحجاب أو النقاب عندما تكون في مأمن.
الثانية: تتحجب، إما لأن الجميع أو الأغلبية من حولها يتحجبن، وهذه الفئة يكون سلوكها اتباعا وتقليدا لما حولها، وهي لا تمتلك موقفا جذريا من الحجاب خاصا بها، فلا يكون حجابها قسريا ولا يكون من باب الاقتناع بوضعه، ولكنّها تسلك بحسب الظروف المحيطة، فإن تغيرت الظروف المحيطة تغيّرت هي معها أيضا بفعل التقليد، وهذه الفئة يمكن القول عنها إنّها متوافقة مع حجابها بشكل عفوي، ونسبتها في المجتمع ليست قليلة.
الثالثة: تتحجب لأنها نفسها مقتنعة بالحجاب أو النقاب ورافضة للسفور، وهذه القناعة تقوم لديها على أربعة أسس، إيماني، ورأيوي، وعملي، ونفسي.
فإيمانيا، هذه الفئة تعتقد أنّ الحجاب هو فرض فرضه الله على المسلمة، ولذا فعدم الالتزام به هو معصية لأمر الله ومخالفة لإرادته، وبذلك يصبح التحجّب سلوكا دينيا غايته طاعة وإرضاء الله.
ورأيويا، يأتي رأي هذه الفئة مطابقا لإيمانها، فبما أنّها تؤمن أنّ الحجاب فريضة أمر بها الله، فهي تعتبر الحجاب بناء على ذلك أمرا صحيحا، وترى فيها خيرا لها وتحقيقا لصالحها؛ فالله لا يفرض أو يحرم شيئا عبثا، وبالتالي تكون متصالحة من الناحية العقلية مع حجابها.
وعمليا، ترى هذه الفئة أنّ الحجاب مفيد لها في واقعها الاجتماعي، فهو من ناحية يحقق لها توازنا سلوكيا اجتماعيا مع أعراف وتقاليد محيطها، فلا أحد يذمها علنا أو ضمنا بسبب عدم التحجب، كما أنّ الحجاب -مثلا- يريحها من بعض التحرّشات الذكورية الشهوانية، حتى وإن كانت عابرة، وفي بعض الحالات -مثلا- حتى النقاب يمكنه أن يحقق راحة إخفاء الهوية لمن لا تريد أن تظهر هويتها الشخصية في مكان عام لسبب ما.
ونفسيا أو سيكولوجيا، هذه الفئة ترى في حجابها أو نقابها حماية لها، ولا يمكنها بدونه أن تحس بالطمأنينة والأمان والتوازن، فبلا حجاب، أو بلا نقاب بالنسبة إلى البعض، ستشعر المرأة من هذه الفئة أنّها دوما محط اهتمام شهواني من قبل الذكور، أو محط إدانة اجتماعية مرتبطة بالأخلاق الجنسية، أكثر أشكال الأخلاق حراجة، وهذا يشكل ضغطا نفسيا كبيرا دائما عليها.
وهكذا، تكون علاقة المحجّبة من هذه الفئة مع حجابها على درجة كافية من الإيجابية والتصالح، ويتحقق فيها التوافق على المستويات الإيماني والعقلي والنفسي والنفعي.
وعلى الرغم من أنّه لا يمكن واقعيا تمييز حدود قطعيّة فاصلة بين هذه الفئات، فلاحقا سنركز أكثر على الفئة الثالثة، والسبب أنه أوّلا يمكن القول استقرائيا إنها تمثل نسبيا من الناحية الكمية الفئة الأكثر، وهذا ما يمكن أن نرجعه إلى حالة التدين السائدة في المجتمعات العربية، التي تسود وتتكامل فيها القناعات الدينية التقليدية والقيم الذكورية، التي تؤكد على وجوب تحجّب المرأة على أساس ديني، وثانيا، فهذه الفئة من الناحية الكيفية متوائمة ومتصالحة مع حجابها بشكل مدرك، وهذا سيضع سؤالا حادا في مواجهة مناهضي النقاب والحجاب ودعاة السفور ليقال لهم فيه: لماذا تريدون خلع الحجاب، طالما أنّ المحجّبة راضية به ومرتاحة فيه، فإن كنتم تريدون صالح المرأة، أفليس من الواجب عليكم هنا أن تدَعوها في حجابها طالما أنها هي نفسها مقتنعة أنّ مصلحتها في وضعه؟!
هذا يقودنا إلى مفارقة، فداعي السفور يكون على حق في مناهضته للحجاب، عندما يتعلق الأمر بالفئة الأولى التي تُحجّب قسريا، فيلعب هنا دور المدافع عن المرأة المضطهدة، فهذا القسر اعتداء على حرية المرأة، ولكن الحال لا يعود كذلك عندما يتعلق الأمر بالفئة الثانية، التي تتعامل فيها المرأة مع الحجاب كشيء عادي، ولا تشعر بأنّه يشكّل شكلا من أشكال الاضطهاد بالنسبة إليها.
لكن هذا الحق يختلف وضعه جذريا عندما يتعلق الأمر بالفئة الثالثة، التي عمليا يصبح "نزع الحجاب عنها" عملا مساويا لعملية "فرض الحجاب قسريا" على الفئة الأولى، فنزع الحجاب عن المرأة المقتنعة والراضية بحجابها والمريدة له هو أيضا عدوان على إرادتها، وموقف التحرري فيه يشبه حال القرد الذي رأى سمكة في نهر، فظنها تغرق، فسارع بإخراجها من الماء معتقدا بذلك أنه ينقذها، فألحق بها الأذى متوهما أنه يساعدها، وهذا الكلام ينطبق فقط على حالة النزع القسري للحجاب حصريا، كمنعه بقوة القانون. أما الدعوة الثقافية الديمقراطية للتخلي عنه، فهي من حق كل من يراه ظاهرة سلبية، وبالمقابل، يحقّ لمناصري الحجاب القيام بدور سلمي مماثل في الدفاع عنه والترويج له.
عند النظر من أقاصي الزوايا، تكون الصور عادة مشوّهة، وهنا سيرى المتشدد الإسلامي الفجور في السفور، ويرى التحرري التخلّف في الحجاب، مع أنّ الإسلامي المقصود يعرف أنّ الحجاب لا يقترن عمليا دوما بالفضيلة، فيما يعرف التحرري المعنيّ أيضا أن السفور ليس دليلا أكيدا على التحرر الحقيقي، ويمكنه بدوره أن يكون تقليدا اتباعيا كحجاب بعض المحجّبات في العديد من الأحوال.
إذن، أين يقع الموقف الصحيح؟
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الفهم الصحيح لظاهرة التحجب الإسلامي وأسبابه وغاياتها، ويمكن القول واقعيا إنّها ظاهرة دينية مقترنة بذهنية ذكورية، ما يعني أنه فيها يلتقي الديني بالذكوري، وينتجان نظاما سلوكيا غايته المبدئية هي الخير العام، لكن مفهوم هذا الخير بحدّ ذاته أيضا يقوم هنا على معيارية دينية ذكورية؛ أي إنه خير وفقا لما يراه الرجل المتديّن كرجل وكمتديّن خيرا، في وقت يتوافق ويتعاضد فيه تديّنه مع ذكوريته.
فالحجاب وفقا لما نراه اليوم على الساحة الواقعية بشكل حي ومباشر، لا يمكن فصله عن الشكل السائد الممارس من الإسلام، وهو شكل مأزوم، فهو غيبي، ذكوري، طائفي، سلفي، ويشكّل امتدادا لعصر الانحطاط الإسلامي، وصورة المرأة فيه متدنية، فهي عورة، وكلّها عورة، وناقصة عقل ودين، وهي قطعا ليست مساوية للرجل. وما يزال الحجاب، في الخطاب الإسلامي الراهن السائد، مرتبطا بثقافة ما تزال - بدورها- تقرن الجنس بالعيب والدنس. ولذا على المرأة أن تتحجّب، لكي لا تثير بسفورها شهوة الرجال الأجانب، وهذا ما يعتبر شرّا كبيرا بالنسبة إلى الرجل الذي سيقع في مثل هذه الغواية، فيضطر إلى مصارعة شهوة تقترن بالعيب والدنس، وشغل نفسه بها وصرف جهده ووقته عليها. وقد يحدث الأسوأ، حيث ينقاد لها، وهذا ما يمكنه أن يصرفه عن التقوى والعفة، ويعرّضه لخطر الضلال والرذيلة، كما أنّ هذه الشهوة هي أيضا شر كبير بالنسبة إلى المرأة نفسها، فالرجل يأبى أن تكون أية امرأة تخصه موضع لشهوة الرجال الآخرين، والمرأة نفسها تأبى ذلك، فهي في موقعها كمشتهاة تعتبر موضوعا يطبّق عليه نشاط مرتبط بالعيب والدنس، وهذا ما يأباه الشرف والفضيلة والكرامة، وهذا ما يعبّر عنه كلام محمد خلدون مخلوطة الذي يضعه على لسان المرأة المحجبة:
«..أنا ذات مبدأ وقيم، وصاحبة شأن واعتبار، فلست سلعة رخيصة ينظر إليها كل من هبّ ودبّ»[7])).
لا شك في أنّ السعي للحفاظ على الشرف والفضيلة والكرامة هو أمر يستحق أكبر الاحترام من حيث المبدأ، ولكن لا يكفي أن تكون الغاية وحدها نبيلة، وهي منطقيا وأخلاقيا تفقد نبلها إن لم تقترن بوسيلة تحقيق هي الأخرى نبيلة بنفس القدر، والغايات النبيلة التي تم الحديث عنها أعلاه، لا تقترن فعليا في الواقع الإسلامي السائد بالوسيلة النبيلة المكافئة. وعلاوة على ذلك، فهي أيضا لا تنطلق من منطلقات صحيحة بالقدر الكافي، وفيها نجد المثالب التالية:
- صورة شديدة الانتقاص من قدر المرأة.
- نظرة متضخمة ومأزومة للجنس، تختزل تقريبا فيه علاقة الجنسين، ويقترن هو نفسه بالعيب والدنس.
- حلول ذكورية يتم فيها التعامل مع المرأة بشكل يكيّفها وفقا لما تقتضيه مصلحة الرجل.
- حماية ما تقدم بشرعية دينية تقوم على ذهنية دينية مأزومة هي الأخرى.
وفي سياق ما تقدم، يتمّ تقديم الحجاب كجزء من حل مشكلة الجنس، على أرضية مأزومة ذكوريا ودينيا، ما يجعل الحجاب منتَجا من منتجات هذه الأرضية، ومفعولا من مفاعليها، وهذا هو مكمن مشكلة الحجاب، وهو في انتمائه وتبعيّته لهذه الأرضية أو الخلفية المأزومة، التي تعتبر فيها "المرأة عورة" و"ناقصة عقل ودين" "ولهذا خُصّت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة، وترك التبرّج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل، لأنّ ظهورها للرجال سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن"([8])، فهنا يفرض الحجاب على المرأة، إما لأنها "عورة"، أو لأنّها "فتنة"، فيتفتن بها الرجال، لكن لا أحد يتحدث عن الرجل، وما يسبّبه بدوره من فتنة للنساء، وإن كان سبب اعتبار المرأة عورة وفتنة بسبب ما تسببه من إثارة جنسية للرجال، أفلا يجب عندها اعتبار الرجل عورة وفتنة وتحجيبه هو الآخر، وهو بدوره يسبّب فتنة أكبر للنساء كما تقول بعض الروايات:
«جُعِلَتِ الشَّهوةُ على عشَرةِ أجزاءٍ وجُعِلَتْ تسعةُ أجزاءٍ منها في النِّساءِ وواحدةٌ في الرِّجالِ ولولا ما أُلقي عليهنَّ مِن الحياءِ مع شهواتِهنَّ لكان لكلِّ رجُلٍ تِسعُ نسوةٍ مُغتلِماتٍ»([9])؟.
لكن هنا لا بدّ من طرح سؤال افتراضي حذر: ماذا لو لم يكن الحجاب مرتبطا بهذه الخلفية؟ أفسيكون عندها ثمة مشكلة فيه؟!
هذا السؤال يمكننا أن نجيب عليه بثقة منطقية بالنفي، فأين تكمن المشكلة في الحجاب بالضبط، وما هو الضرر الناجم عنه؟ وما المانع من التعامل معه كأيّ زيّ آخر وإدخاله في نطاق حرية الملبس؟ وحتى إن كان مرتبطا بالدين بشكل ما، فهذا لا يعتبر بحدّ ذاته مشكلة، لأنّ الدين نفسه يعتبر حقا من حقوق الإنسان، بشرط ألا يكون هو نفسه مأزوما ويلعب دورا معاكسا للصالح الإنساني.
هكذا يصبح ممكنا القول إنّه من حيث المبدأ، المشكلة ليست في الحجاب نفسه، ولا حتى في النقاب، لو كان الأمر يقتصر على ذوق في الملبس، أو زي مرتبط بهوية أو بطقس عقيدي، ولكن المشكلة الجوهرية هي في الذهنية الكامنة وراء الحجاب، التي باختزالها للإنسانية في العلاقة بين الجنسين إلى جنسانية، وبتضخيمها لهذه الجنسانية، ومحاولة تأطيرها في الغايات الذكورية، تنتج حالة مستفحلة من الرهاب العلائقي بين الجنسين، ورهاب الرجل للرجل، ومن رهاب المرأة لنفسها، ورهاب الجنس ككل، وهذه الحالة الرهابية لا تنتج مجتمعا معافى قادرا على السير السليم على طريق التطور الإنساني المتكامل، ولن يكون فيها حال هذا المجتمع إلا كحال طفل يخشى دوما عند مشيه السقوط، فتسقطه خشيته هذه كثيرا، ومن السقطات الكبرى التي تنتج عن مثل هذا السير الأعرج في المجتمعات العربية حتى اليوم -مثلا- الجرائم المسماة "جرائم شرف"، وتزويج المغتصبة لمغتصبها بشكل يبرّئ الغاصب من جريمة الاغتصاب كما يبرّأ من يفسد بضاعة من مسؤوليتها إن هو اشتراها.
مع ذلك، فما يجب فهمه بشكل جيّد أنّ أسباب التحجّب اليوم تتعدّد، ذلك أنّ الظواهر عادة لا تبقى متأطرة في أصولها وحسب، وإلاّ لما أمكن للمجتمعات البشرية أن تتطور.
ما يزال الحجاب في مجتمعاتنا العربية أمرا حساسا ومثيرا للجدل، وهذا مرتبط بالحكم القيمي المرتبط به لدى كل من المحافظين والتحررين
صحيح أنّ الحجاب اليوم هو أمر مرتبط عموما بالدين بشكل وثيق، لكن ممارسته كثيرا ما تتم كتقليد مرتبط بالدين والتراث الديني والتقليد الشعبي، دون أن يكون لذلك خلفيات وثيقة الارتباط بعقدة الجنس وتعوير المرأة، وبذلك يتساوى حجاب المرأة مع عمامة رجل الدين، التي ليس هناك أيّ مبرر منطقي أو أخلاقي لاعتبارها شيئا سيئا.
ولذا يجب التمييز بين خلفيات التحجب المختلفة، فحجاب يرتبط بذكورية مريضة أو تطرف ديني، ليس كحجاب مرتبط بإرث أو فولكلور أو هوية.
وإذا ما أردنا أن نتعامل بشكل صحي مع الحجاب، فعلينا أن ننظر إلى ما وراء الحجاب، إلى خلفيات الحجاب، وليس إلى الحجاب نفسه، فإن كانت خلفياته ذكورية ودينية متخلفة، فهذه الخلفيات هي ما يجب أن يحارب لأنها مصدر الخطر والضرر، وليس الحجاب بحد ذاته.
منطقيا، وعندما نرفع كل القيود عن المنطق، فعندها يمكننا المساواة بشكل مجرّد بين كل أشكال اللباس، التي تختلف قيمتها واقعيا فقط حسب الظرف، وبالتالي يمكن القول إنّه ليس هناك زي نسائي أفضل بحد ذاته، سواء كان هذا اللباس حجابا أو نقابا أو فستانا عصريا أو حتى مايوها، فكل الأفضليات في هذا الشأن هي نسبية، وعلى مجتمع عقلاني سليم أن يفسح المجال بالتساوي لكل هذه الأشكال من الأزياء، باعتبارها حريات أزياء وتقاليد، وألا يمنع أي زي منها إلا إذا شكل مصدر خطر مباشر، كالخطر الذي يمكن أن يشكّله النقاب أحيانا عند إخفائه لشخصية المرأة مثلا.
وهكذا على أي تعامل عقلاني من الحجاب أن يترك الحجاب وشأنه كظاهرة، ويعتبره بحد ذاته حقا من حقوق الإنسان في التزيي بما يريد، دون أي حكم مسبق على خلفيات التحجب، لكن على هذا التعامل العقلاني ألا يغفل الخلفيات الخطيرة والمؤذية، التي يمكن أن تكون كامنة وراء الحجاب، والتي سبق الحديث عنها، ولذا لا بد لهذه العقلانية من التوجه إلى هذه الخلفيات ومواجهتها الحازمة بالعلم والثقافة والنقد والقانون، وبهذا الشكل تكون العقلانية قد حافظت على حق وحرية الإنسان في المعتقد والملبس من ناحية، وحاربت بنفس الوقت التطرفين الذكوري والديني ومفاعيلهما الضارة من ناحية أخرى.
وخلاصة الموقف العقلاني السليم من الحجاب هي أنّه كالموقف من الدين عموما، ويجب اعتباره حقا للمرأة مثل حق الإنسان بالمعتقد، لكن الاعتراف بهذا الحق لا يعني قطعا السكوت عن أية عقدة ذكورية أو حريمية أو تطرّف ديني، فكما أنّ الاعتراف بحرية المعتقد لا يتناقض بتاتا مع نشر العلم والثقافة العقلانية ونقد الخرافات والأوهام، دون أي هجوم على أحد أو معاداة مباشرة له بسبب معتقده، فالاعتراف بالحجاب وبالمساواة التامة بين المحجّبات والسافرات، لا بد وأن يترافق بالتصدي العقلاني الصارم لكل انتقاص من قيمة المرأة، ولأي طرح تعتبر فيه عورة أو كائنا أدنى من الرجل، ولكل تهجّم أو اعتداء على السافرات كسافرات أو المحجّات كمحجّبات، ولأيّة إساءة للمرأة، سواء كانت سافرة أو متحجّبة.
[1]- مجموعة من الباحثين والكتّاب، المرأة وحجابها، رابطة العقلانيين العرب، دار بترا، دمشق، 2009، ط، ص8
[2]- إسلام ويب، الحجاب فرض على البنت عندما تبلغ:
https://www.islamweb.net/ar/fatwa/5413/الحجاب-فرض-على-البنت-عندما-تبلغ
[3]- محمد خلدون مخلوطة، الحجاب تكليف وتشريف، وعنوان عبودية وهوية، رابطة العلماء السوريين، 2 ديسمبر 2013:
https://islamsyria.com/site/show_articles/4813
[4]- موقع برلمانى، الكاتبة نوال السعداوى الحجاب والنقاب من العبودية وضد الأخلاق والأمن، 17 مارس 2016:
http://parlmany.youm7.com/News/4/53221/الكاتبة-نوال-السعداوى-الحجاب-والنقاب-من-العبودية-وضد-الأخلاق-والأمن
[5]- رهام عبد الحافظ، نساء مصر: دعوات خلع الحجاب صحوة سياسية.. وصفعة على وجه الإخوان، صحيفة الوطن، 14 أبريل 2015:
https://www.elwatannews.com/news/details/709279
[6]- الثريا رمضان، حرية اللباس في تونس، جمعية تونس الحرة، 22/08/2013:
http://tounesalhurra.blogspot.com/2013/08/blog-post_22.html
[7]- محمد خلدون مخلوطة، الحجاب تكليف وتشريف، وعنوان عبودية وهوية، رابطة العلماء السوريين، 2 ديسمبر 2013:
https://islamsyria.com/site/show_articles/4813
[8]- ابن تيمية، الفتاوى: 15/ 297، موقع الشيخ سالم بن سعد الطويل:
http://www.saltaweel.com/articles/175
[9]- الراوي: جدّ عمرو بن شعيب، المحدث: الألباني، المصدر: السلسلة الضعيفة، الجزء أو الصفحة: 6668، حكم المحدث: ضعيف جدا؛ وفقا لموقع "تحقق من صحة الحديث بسهولة":
http://hdith.com/