الحداثة ومسألة القطيعة
فئة : مقالات
مفهوم القطيعة كما نعلم وليد فلسفة العلوم وتاريخها، وهو يُردّ عادة إلى المدّ الباشلاري الذي يَعتبر أن المعرفة العلمية لا تنشأ من فراغ معرفي، وأنها دائما معرفة-ضد تقام على أنقاض بادئ الرأي، وعلى رغمه. إنها تتولد تاريخيا بانفصالها عن ماضيها قبل العلمي، ما عبَّر عنه لوي آلتوسير بقوله "ما قبل تاريخ علم مّا هو تاريخ ايديولوجيته".
نفور التقليد الفكري من مفهومات العتبة والقطيعة والتحوّل تكريساً للفعالية التركيبية للذات
نعلم أن المفهوم لم يبق حبيس المجال الذي توَلد داخله، إذ سرعان ما انتقل إلى تواريخ أخرى، وتاريخ الأفكار على وجه الخصوص. فمقابل التاريخ الإتصالي الذي كان يحرص على وصل الأصول بالفروع، والبحث عن التأثيرات والامتلاءات والتناغمات والتشابهات، والتنقيب عن أسباب السكون والرتابة، والدّوام والثبات: ثبات الحقائق، ورسوخ المعارف، وركود المؤسسات، برزت محاولات لإقامة تواريخ مضادة تلح على القطائع والعتبات والإنفصالات. ونحن نعلم كم كان نفور التقليد الفكري من مفهومات العتبة والقطيعة والتحوّل تكريساًللفعالية التركيبية للذات، وحفاظاً على مفهوم مبسّط متناغم عن الهوية، وإبقاءً على الأنا كدوام ووحدة، وعلى التراث كتقليد واسترسال، وعلى التاريخ كامتداد وذاكرة. لذا ظل شغله الشاغل نفيَ القطائع، وصوْن الاتصال والدوام: دوام الهوية وخلودها، دوام الثوابت التي نركن إليها، واللغة التي نتكلمها، والعادات التي نألفها، والحقائق التي نعتنقها، والعبارات التي نلوكها، والآراء التي نتداولها. ظل الاتصال مستقرا للذات تخلد عن طريقه إلى الهدنة واليقين والتصالح والاسترخاء الفكري.
انفصالا عن هذا التقليد الفكري، انفصالا عن الفكر التقليدي، قامت الحداثة بالضبط لتعيد الاعتبار لمفهوم القطيعة والإنفصال، ليس فحسب كمفهوم إبيستيمولوجي، وليس كأداة منهجية تضبط تاريخ الأفكار، ليس كمفهوم وفكرة فحسب، وإنما كنمط وجود، ليتضح أن الوجود نسيجه شبكة من العلائق، وأن لا شيء تنشد أطرافه بعضها إلى بعض، وتتماسك أجزاءه تماسكا نهائيا، وليتبين أن «كل صلب لا بد أن يتبخّر».
قامت الحداثة بالضبط لتعيد الاعتبار لمفهوم القطيعة والانفصال، ليس فحسب كمفهوم إبستيمولوجي، وليس كأداة منهجية تضبط تاريخ الأفكار، ليس كمفهوم وفكرة فحسب، وإنما كنمط وجود
قامت الحداثة لإظهار الانشطار داخل المواقع التي اعتبرت ركائز كل ثقافة، مواقع التماسك والوحدة بلا منازع، وأعني الوعي والذاكرة والهوية. لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن الحداثة دعت إلى إلغاء التاريخ، ومحو الذاكرة، وتفتيت الهوية. فليس الهدف من إثبات القطيعة الوصول إلى حد نعجز فيه عن كل ضمّ وتوحيد، ولا نستطيع عنده قول أنا أو نحن. ليس الهدف الوقوف عند التنوّع الحسي، ولا الاقتصار على الاختلاف الاختباري. ليس الهدف نفي تجدرنا التاريخي، ولا إلغاء الشعور بالتمايز عما ليس إيانا. الهدف هو إقامة تاريخ آخر لا نتشبث فيه بإثبات نفس خالدة ترقد فينا، وإنما نتمكن من "إحياء ما نحمله من أنفس فانية بين جنبينا" على حد تعبير نيتشه. ولم لا نذهب حتى القول إن الهدف هو أن نصل إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية والوحدة مقابل التنوع الذي نكون عليه.
ذلك أن القول بالقطيعة يرمي إلى أن يغدو التفرد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقا أمام شساعة التنوُّع، والاقتصارُ على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والانطواءُ على الذات سدّاً أمام انفتاح الآفاق، والانغلاقُ على النفس حدا أمام لانهائية الأبعاد الممكنة، والاستقرارُ عند مقام بعينه ضياعا أمام رحابة التنقل، والاقتصارُ على الحاضر هزالا أمام كثافة الزمن.
ربما لم تكن الحداثة في نهاية الأمر إلا الوعي بهذه الحركة المتقطعة للذاكرة والوعي والهوية، ربما لم تكن إلا الوضعية التي فقدت فيها القطيعة عرَضيتها لتصبح من صميم الوجود، وتغدو نسيج الكائن ولحمته.
هذا الإنغراس للإنقطاع في صميم الكائن يحول بيننا وبين أن نرد التحديث إلى مجرد التجديد. ذلك أن التجديد يقوم على مفهوم «تخارجي» عن القطيعة.التجديد هو كل انسلاخ الجديد عن القديم. أما التحديث فهو «ظاهرة» متفردة بمقتضاها غدت القطيعة خاصية الكائن. في الحداثة لا تظل القطيعة علاقة بين طرفين، بين عاملين، بين مرحلتين، لا تبقى علاقة، وإنما تغدو خاصية: خاصية المعرفة، خاصية المجتمع، خاصية النص، خاصية الكائن. إنها ما يجعل الكائن في هروب عن ذاته، ما يجعل الكائن يتخلله الزمان. فليست الحداثة مجرد إثبات انتقال من حقبة لأخرى، ليست مجرد إثبات للتحولات الكبرى في مختلف المجالات، وإنما هي وعي بأن الكائن تحوّل.
ربما لم تكن الحداثة في نهاية الأمر إلا الوعي بهذه الحركة المتقطعة للذاكرة والوعي والهوية
من أجل ذلك علينا أن نميز بين مفهومين عن القطيعة: مفهوم وضعي يفصل فصلا نهائيا بين مرحلة وأخرى، بين عامل وآخر، أو كما يقول أصحاب الإبيستمولوجيا وتاريخ العلوم، بين إشكالية وأخرى،ومفهوم يريد أن يذهب أبعد من ذلك،فيجعل القطيعة انفصالا لا متناهيا ما يفتأ يتم. وما ذلك إلا لأنه ينطلق من نفي الـ«حضور» والتحقق النهائي. بهذا المعنى فإن «جوهر» القطيعة لا يكمن في الفصل، وإنما في لاتناهي الفصل ولا محدوديته. فليست القطيعة هي حلول حاضر يجب ما قبله. القطيعة هي انفصال لامتناه، أي أنها حركة دائبة دائمة لا تنفك تتم. ليست القطيعة انفصالا بين حاضرين، بين حضورين، وإنما هي خلخلة للحضور ذاته. إنها إقحام لللاتناهي «داخل» الكائن.
ليست القطيعة انفصالا بين حاضرين، بين حضورين، وإنما هي خلخلة للحضور ذاته. إنها إقحام للاتناهي «داخل» الكائن
هذا الطابع اللامتناهي للقطيعة يجعلها لا يمكن أن تكون إلا إعادة ربط، كما يجعل الفروع تعلق بأصولها، بحيث نصبح عاجزين عن اكتشاف الماضي من جديد ما لم نتمكن من قطع الحبل الذي يشدنا إليه. قطع الحبل، مثل قطع حبل السرة، لا يعني انفصالا مطلقا، وإنما هو العملية التي يتم عن طريقها ربط المولود بأمه من جديد. إنه العملية التي يرتبط عن طريقها الوليد بأمه عن طريق الانفصال. وهو العملية التي نتمكن عن طريقها من إقامة علاقة مغايرة للماضي بالمستقبل، ويصبح بفضلها الماضي حيا، ويغدو فيها التحديث شرطا لكل تأصيل.
مثلما أن التحديث ليس استنساخ نماذج مستوردة، فإن التأصيل ليس تكرار تقليد محنّط
ذلك أن التأصيل ليس هو التقليد. التقليد ليس مجرد مضمونات وأفكار بعينها وإنما هو موقف، وهو الموقف المضاد للتحديث، أي الموقف الذي تظل فيه القطيعة أمرا عرضيا. أما التأصيل فهو ليس استبدال تقليد بآخر. فمثلما أن التحديث ليس استنساخ نماذج مستوردة، فإن التأصيل ليس تكرار تقليد محنط. التأصيل، تماما كما يتم الأمر بالنسبة لتاريخ العلوم، هو أن نجعل من لحظة القطيعة مركزا ننطلق منه لنجعل تاريخنا ينتظم حوله. إنه ارتباط بالأصول عن طريق الانفصال. وهو بداية متجددة ونشأة مستأنفة تجعل من الهوية حركة لامتناهية للضم والتباعد، ومن الآخر مجالا مفتوحا للاختلاف والالتقاء، ومن الذاكرة حاضرا يمتد بعيدا حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي.