الحرب في ميزان الطبيعة البشرية

فئة :  مقالات

الحرب في ميزان الطبيعة البشرية

الحرب في ميزان الطبيعة البشرية

تُعدّ الحرب من "أروع الظواهر الاجتماعية" التي تصنع التاريخ، والتي تؤدي دوراً مركزياً في كل المنعطفات الاجتماعية والسياسية؛ وذلك وفقاً لما جاء به بوتول في مؤلفه "هذه هي الحرب". في الواقع، لا يمكننا إنكار ذلك، سواء كنا متفقين أم معارضين لذلك الطرح، فتاريخ البشرية يعج بالصراعات والحروب، وتكاد لا تخلو حقبة تاريخية أو زمنية من حربٍ أو صراعٍ؛ الأمر الذي أدى إلى اندثار أمم وظهور أخرى، وإلى موت الملايين بأبشع وأفظع أنواع العنف؛ إذ ما نظرنا إلى الحرب من الناحية العسكرية والسياسية، تبدو واضحة ولا تحتاج إلى تفسير. ويؤكد ذلك برودون بقوله: إنّه لا يوجد شخص بحاجة إلى توضيح ما تعنيه الحرب من الجانب الاختباري أو الطبيعة؛ وذلك لأن الغالبية، إما أنّهم شاركوا فيها أو عايشوها أو كانوا شهوداً عليها. ولكن ماذا عن فعل الحرب؟ ما الذي يدفع الإنسان ليمارس العنف بأبشع صوره وتجلياته التي تظهر في حالة الحرب؟ هل هو فعل ينم عن طبيعة بشرية عدوانية بالفطرة، أم إنّه فعل مكتسب؟

كثيرة هي التفسيرات والتأويلات السيوسيولوجية والنفسية التي تمكننا من تقديم قراءة لفعل الحرب. وأول ما يتبادر إلى الذهن، هو تفسير فرويد، الذي اكتشف في محاولته لتفسير الحرب العالمية الأولى الغريزة التدميرية والعدوانية، وأنّ الإنسان تحكمه غريزتان هما: غريزة الحياة والبقاء وغريزة الموت والعدوانية. وبالاستناد إلى نظريته في التحليل النفسي، والتي طبقها في تفسيره للحرب أو لفعل "العنف" كما يُسميها في مناظرته مع أنشتاين التي حملت عنوان "لماذا الحرب". من خلال هذه المناظرة وكتاباته القليلة حول الحرب توصل فرويد إلى أن الحرب أو العنف هو جزء من الطبيعة البشرية ومتأصل فيها، كما أنّ تاريخ البشرية ما هو إلّا تاريخ حروب وصراعات. فكل فعل إنساني بما فيها فعل العنف يقوم ويرتكز على هاتين الغريزتين معاً، ولا يمكن أن يقوم على إحديهما بمعزل عن الأخرى. ففي حالة الحرب أو حالة ممارسة العنف الفردي، يتم شحذ الغريزة التدميرية من خلال تعزيز الرّوابط العاطفية المشتركة الي تربط جماعية معينة، لحماية مصالح جماعية أو فردية من أطماع الآخر بها. فتحقيق أي جماعة لمصلحة ما لا يتم إلا من خلال اللجوء إلى العنف لاستعادة ما تراه حقاً لها، وللقضاء على الآخر الذي يهدد مصالحها، هذا الأخر الذي نطلق عليه العدو.

يُحيلنا هذا الطرح، إلى تأويل نيتشه لفعل الحرب، الذي يرى أنّ أصل العنف يكمن في الرّوابط العّاطفية، ولكن تحت مُسمى "الهوية". تلك الهوية التي تؤطر كل جماعة بسمات وخصائص معينة، مؤدية بذلك وظيفة تصنيفية بين الأفراد، وخلق مسافات بيننا وبين الآخر. إنّ تلك المسافة المتخلية بيننا وبين الآخر وفق المنظور النيتشوي هي المصدر الأساسي المصدر للعنف تجاه الآخر، وهي التي تخلق وتصنع العدو؛ ذلك العدو الذي نتفنن في إلصاق أبشع الصفات والتسميات به. هذا كله، يجعل للهوويات وظيفة معينة تؤديها تتمثل في إقصاء الآخر، وفي إطفاء شعور السمو والرفعة لطرف على طرف آخر، الأمر الذي يُعطي كامل الأريحية الأخلاقية والضميرية في ممارسة العنف وقتل الآخر. كثيرة هي الأمثلة على ذلك؛ ففي الإبادة الجماعية التي حصلت في إرواندا، في منتصف القرن العشرين، كان الهوتو يسمون التوتسي "بالصراصير"، وكذلك مقولة "شعب الله المختار" تستخدم كرمزية لتفوق الشعب اليهودي على باقي الشعوب أو على أقل تقدير على الشعب الفلسطيني. إنّ حيونة الإنسان أو دونيته هي الخطوة الأولى في منظور نيتشه لارتكاب الجرائم الوحشية.

كان هوبز قد سبق نيتشه في حديثه عن وحشية الإنسان، أليس هو القائل إنّ "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، مقولة تنطوي على أنّ العدوانية متأصلة ومتجذرة في النفس البشرية. تُظهرها عملية التنافس التي تحتمها علينا طبيعتنا البشرية، مقتضيه بالضرورة حالة الصراع والحرب. فرغبتنا في السلطة وخوفنا من الموت بوحشية هما محركا الإنسان عند هوبز. وبما أنّ جميع البشر متساوون أولاً في القدرات الفكرية والبدنية، وثانياً، في امتلاكهم الغايات والأهداف ذاتها، الأمر الذي يحتم ظهور المنافسة بينهم ورغبتهم في السيطرة مدفوعين بحب البقاء والخوف من الموت؛ ذلك كله يفضي إلى دخول الجميع في "حرب الكل ضد الكل". وبما أن إشباع الحاجات الفرية متجددة باستمرار، فهذا يعني قيام الحروب بشكل دائم كنوع من الدفاع والحماية من التهديد والخطر اللذين يلاحقان الإنسان باستمرار.

على خلاف التيار الفرويدي الغرائزي في تفسيره للحرب ولممارسة العنف والعدوانية، نجد تياراً مغايراً له، شكك في كون الحرب متأصلة في الطبيعة البشرية، ويرى هذا التيار في العدوانية والعنف سلوكاً مكتسباً وليس فطرياً. وفي مقدمتهم فروم الذي يرى في كتابه "تشريح التدميرية البشرية" أنّ العنف هو فعل مكتسب، ويرفض أن يكون الإنسان عدواني بالفطرة. فجوهر الإنسان لديه ليس واحدا، وإنّما يتكون من ثلاثة أبعاد: الفردي والجماعي والإنساني. يُكتسب البعد الفردي من الحرية الداخلية وتفاعلها مع المحيط، على شرط ألا يتعارض ذلك النمو مع المجتمع، فهنا يأتي دور البعد الاجتماعي في تهذيب البعد الفردي الذي يمتد ليشكل البعد الإنساني في تعاطيه مع الآخرين. وبناءً على ذلك، فإنّ كل سلوك تدميري ليس نتاجاً عملياً لغريزة تدميرية في طبيعة البشر، بل هي محصلة لدوافع ولنزاعات لها علاقة وثيقة بالممارسات والطقوس والثقافة وليس بالضرورة أن تكون طبيعية. وفي هذا الصدد يذهب فروم للقول إن النكروفيليا ما هي إلا طبع وليست غريزة كما قال فرويد، وهي لا تعدو أن تكون حالة نفسية مرضية، تتمثل في الميل وحب كل ما هو تدميري، تنمو عندما يعاق نمو البيوفيليا التي يكون الإنسان موهوب فيها بيولوجيا. وبذلك تكون التدميرية عند فروم غير مساوية للبيوفيليا، وإنّما هي البديل عنها وفي محبة الحياة أو محبة الموت يكون الخيار الذي يواجهه كل إنسان.

كذلك شكك مايكل مان في كتابه المعنون "عن الحروب" في فطرية وغرائزية الحرب؛ فالحرب حسب قوله لها ثلاثة أسباب لقيامها، وهي: الشجع والمجد وأخيراً حب الهيمنة والسيطرة. ويدلل على ذلك بأنّ الحروب لم تكن موجودة قبل عهد الاستيطان الزراعي والاستقرار ونشوء المجتمعات المستقرة وتقسيمها إلى طبقات، كما أنّ مان يميل إلى الاعتراف بأنّ الحضارة جعلت من الحروب أكثر سهولة وأكثر وحشية بسبب التطور العلمي الكبير في صناعة الأسلحة، وهو بذلك يخالف ستفين بينكر، الذي رأى أنّ الحروب في تناقص مستمر وعلى وجه الخصوص في العصر الحديث. ولقد أوضح بينكر فكرته تلك في كتابه "فضل الملائكة في جوهر الطبيعة البشريّة"، ودافع عن رأيه أنّ العنف والحروب في العالم في تناقص مستمر، مستنداً في ذلك إلى الإحصائيات التي جمعها عن فترات تاريخية مختلفة، ليشكل قناعته ونظريته حول تناقص أعمال العنف والحروب في العالم، وهو بذلك ينضم إلى جون مولر الذي استند كذلك إلى المعطيات الإحصائية في البرهنة إلى أن العالم اليوم يتجه نحو السلمية. لا يتحدث بينكر عن تغيرات تطال الطبيعة البشرية في محاولته لإثبات وتفسير نظريته بتناقص العنف في العالم، بل هو ينفي تلك الطبيعة، ولكنه بالمقابل يقر بوجود ميول تدفع بالإنسان إلى ممارسة العدوانية، وهي تتمثل وفي الهيمنة والإيديولوجية والرغبة في الانتقام والسادية. تلك الدوافع يتم كبحها من خلال الطبيعة الخيرة للإنسان المتمثلة في التعاطف والحس الأخلاقي والعقل.

خلاصة القول، سواء كانت الحرب والعدوانية جزءا من الطبيعة الإنسانية أم إنّها مكتسبة، فهي تبقى حقيقة راسخة في تاريخ البشرية؛ فهي على حد تعبير موس "حقيقة اجتماعية كلية"، لا يوجد مجال من مجالات النشاط البشري لا تنطبق عليه الحرب، كما أنّ جميع محاولات أنسنة الحرب منذ عهد الجنرال الصيني صن تسي بينغ، وإلى اليوم، المتمثلة في محاولة وضع قواعد وضوابط للحرب من أجل تجنيب النساء والأطفال وكذلك المنشآت الحيوية من كوارث الحرب قد أخفقت. فما يجري اليوم في العالم وفي قطاع غزة على وجه التخصيص من إبادة جماعية في قطاع غزة إلا دليل على ذلك الإخفاق.