الحرية في الفضاء العربي والإسلامي قراءة في كتاب: "مفهوم الحرية" للمفكر "عبد الله العروي"
فئة : قراءات في كتب
الحرية في الفضاء العربي والإسلامي قراءة في كتاب: "مفهوم الحرية" للمفكر "عبد الله العروي"
يحتل مفهوم الحرية مكانة بارزة في سلسلة المفاهيم التي بحث فيها عبد الله العروي، فلا دولة إلا دولة الحرية ولا عقل إلا العقل الحر، وقد حدد الحرية في كونها شعارًا ونظرية وممارسة، وهو يرى، أي العروي، أننا إذا تكلمنا عن الحرية بوصفها نظرية، فإنها غير متواجدة في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية. أما بوصفها ممارسة، فهي موجودة في المجتمع الإسلامي الكلاسيكي. أما شعارًا، فهو ما ظهرت به الحرية في سياق أيديولوجيات تنادي بالتحرر من الاستعمار مثلاً فيما بعد.
يعتمد عبد الله العروي المنهج التاريخي لرصد وتتبع مستويات ممارسة الحرية في المجتمع العربي الإسلامي، والكشف عن تعييناتها الإمبريقية. واعتمادًا على خبرته التاريخية، فإنه يقدم عددًا من الأدلة والرموز التي تكشف عن أشكال ممارسة هذه الحرية، متجاوزًا بذلك، تحديد مفهوم الحرية انطلاقًا من المنظور الفقهي الذي اعتمد عليه المستشرقون في بحثهم مشكلة الحرية في المجتمع العربي الإسلامي التقليدي، ليثبتوا فكرة انعدام الحرية بهذا المجتمع وسيادة الاستبداد داخله.
صحيح أن المنظور الكلامي يطرح مسألة الحرية من باب الرق، وكفالة المرأة والطفل، وغير ذلك، ويربطها بالعقل والمروءة والتكليف، إذ يقول العروي: "نلاحظ في كل الأحوال ترابطًا بين الحرية والعقل والتكليف والمروءة". وصحيح أن الفقه الإسلامي يعرف الحرية بأنها: "الاتفاق مع ما يوحي به الشرع والعقل."[1] ولكن هل يعني هذا أن المجتمع الإسلامي التقليدي لم يعرف الحرية؟ ألا يمكن أن نجد رموزًا للحرية خارج نطاق ما يمكن أن نسميه "الدولة الإسلامية"؟ يجيب العروي: "إن تجربة المجتمع الإسلامي في مجال حرية الفرد أوسع بكثير مما يشير إليه نظام الدولة الإسلامي."[2] لذلك يمكن القول، إنّه لا يمكن إثبات وجود الحرية داخل مجتمع من عدمه بالاعتماد على معيار واحد، وهو الفقه الإسلامي أو علم الكلام.
وفي تنقيبه عن الحرية ممارسةً داخل المجتمع العربي والإسلامي الكلاسيكي، يربط العروي بين القبيلة والحرية، من حيث إن القبيلة كانت تشكل حماية للفرد من أوامر السلطان، وبالتالي فإن القبيلة تصون الفرد من استبداد السلطان فتشعره بالحرية. كما نجده يربط بين البداوة والحرية التي ترتكز في نظره على الفطرة، وتشكل خروجًا على تقاليد الدولة السلطانية، ومن ثم فهي، حسب العروي، قد رمزت إلى شكل من أشكال الحرية، لكونها تعبر عن الرفض والتمرد، كما ربط العروي في المقام الثالث بين التقوى والحرية، فالتقوى تحرر وجدان الفرد وتشعره بمساحة واسعة من الحرية داخليًا، وتكسبه مكانة اجتماعية تمكنه من التصرف بشكل أوسع.[3]
لقد اتسع مجال الحرية في الدولة السلطانية التي كانت تتسم بضعف شمولية جهازها البيروقراطي، إذ تمارس الحرية، بوصفها حلمًا يصطدم بالدولة التي كانت تعمل على الحد من الحرية، لكن بعد التحولات التي طرأت على الدولة مع مجيء العثمانيين، أصبحت الحرية شعارًا يرفع في وجه الدولة.[4] فقد رفعت الحرية شعارًا للتحرر، إذ كانت أداة نضالية أو أيديولوجية، ولم يتم البحث في أصولها الفلسفية بوصفها نظرية. يقول العروي": "إذا كانت كلمة الحرية جارية على ألسنة عرب اليوم، فمفهومها غير واضح ولا راسخ في أذهانهم وواقعها غير محقق في سلوكهم."[5] وقد تحولت الحرية من شعار إلى نظرية مع مجيء "هيغل"، إذ انتقد الحرية الليبرالية ونعتها بأنها سطحية، وذهب إلى أن الحرية الحقيقية تتجلى في ''المطلق''؛ أي الله، لكن حسب "هيغل"، هذا المطلق ينبغي أن يتعين في الواقع؛ أي في ''الدولة''. وبعد ذلك صادرت الماركسية على مقولات هيغل، ولكنها نقدتها بشدة، لأن الحرية في نظرها ليست في الدولة، وإنما في طبقة البروليتاريا المتحررة من الاستغلال. وهكذا أصبحت نظرية الحرية هي الطبقة. ثم جاءت الوجودية، فقالت إنه لا شيء خارج الوجدان؛ فالحرية ليست في الخارج ولكنها في الداخل، فالحرية حرية الوجدان.
إن الحرية في العالم العربي الإسلاميّ إذن، حسب العروي، تابعة لتطور تاريخي عاشته الجماعات العربية الإسلامية، دون أن ينفي عوامل التأثر، ودليله على ذلك أن العرب رفعوا الحرية شعارًا، ولم يكونوا يعنون بفحص تناقضاتها كما هي في صورتها الليبرالية أو الكشف عن تطورها التاريخي أو البحث في أصولها الفكرية الفلسفية، فالعرب نزعوا إلى الليبرالية، لأنها تخدم تجربتهم في التحرر، وتخدم التغيرات التي حصلت في مجتمعاتهم. والحرية بوصفها دعوة، حسب العروي، كانت تشكل في الغالب شعارًا ترفعه الحركات السياسية، ولم تكن نظرية عند العرب، وما تزال حتى الآن خليطًا من أفكار ليبرالية وماركسية وفقهية، وبالتالي فإن مشروعيتها تكمن في كونها شكلت أيديولوجيا تحررية.
[1] عبد الله العروي، مفهوم الحرية، بيروت- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 6، 2002، ص 15
[2] المرجع نفسه، ص 24
[3] المرجع نفسه، ص ص 22-23
[4] المرجع نفسه، ص 12
[5] المرجع نفسه، ص 105