الحريّة ومدرستها انحراف مبدأ العلمانيّة

فئة :  ترجمات

الحريّة ومدرستها انحراف مبدأ العلمانيّة

الحريّة ومدرستها

انحراف مبدأ العلمانيّة

هنري بينا-رويز

ترجمة: منوبي غباش

مبدأ واحد ومقتضيات متمايزة. كذلك يمكن رؤية ترجمة المَثَل الأعلى العلماني بحسب سياقات استخدامه. تقترح كاترين كنتزلير (Catherine Kintzler)، بخصوص هذا الموضوع، «تفكيكاً عقليّاً» من شأنه أن يوضّح مبدأ العلمانيّة. والتأمّلات الآتية مستلهمة من كتابها الذي يحمل عنوان (الجمهورية موضع سؤال)[1]

في البداية، تعني علمانيّة المجتمع المدني أساساً أنّ قواعد الحياة المشتركة المصاغة في القوانين هي، قدر الإمكان، متحرّرة من كلّ المعتقدات الدينيّة ومن التقييمات الأخلاقيّة الجزئيّة المستلهَمَة منها. إنّ ذلك التحرّر في بلد موسوم بتأثير الدين هو مسار لا يستقيم بذاته نظراً لشدّة الممانعات التي تعترضه. ومثالاً على ذلك، يمكن التذكير بأنّ تنصيب الزوج «زعيماً للأسرة»، وهو إرث يهودي-مسيحي، قد استمرّ في قانون الزواج في فرنسا حتى عام (1984). (انظر النصّ التوراتي من سفر التكوين الذي يتضمّن اللعنة الإلهيّة الموجّهة إلى حوّاء: «وإلى رَجُلُك يكون اشتياقك، وهو يسُود عليك»، تكوين 3، 16).

لا تُختزَل علمَنة الوظائف المدنيّة الكبرى في مجرّد عصرنة (sécularisation) إداريّة شبيهة بما حصل في الدول التي وقعت تحت التأثير البروتستانتي. إنّها تتطلّب كذلك تحرّر الحقّ من التوجّهات الدينيّة التي استخدمته، على الأقلّ، في كلّ مرّة تناقض فيها تلك التوجّهات المبادئ الأساسيّة للحريّة والمساواة. هذا الجانب القانوني للعلمانيّة يعيد تأسيس أخلاق التسامح بتخليصها من الارتهان الذي يمثّله التمسّك بدين مرجعيّ: يستطيع الأفراد الذين يتبنَّون خيارات روحيّة مختلفة أن يتعايشوا ويتحاوروا في إطار السلام العلماني، ما دام لا وجود لأيّ عقيدة تتمتّع بأفضليّة مؤسّساتيّة. وما دام ثمّة مستوى كونيّة، حيث يمكن اتخاذ مسافة من الانتماءات، يمكّنهم من التواصل من دون قصد الهيمنة. حتى وإن بدا الأمر متناقضاً من زاوية الأفكار المتفق عليها، فإنّ الأديان تكون حرّة أكثر في البلدان العلمانيّة؛ لأنّ الحريّة لا تتمثّل في القدرة على توظيف السلطة العموميّة بل في التمتّع بالمساواة في الحقوق لتأكيد الذات من دون وصاية خارجيّة. يمكّن عدم منح أيّ امتياز لدين معيّن، بالفعل، من حماية وتعزيز حريّة التعبير الديني سواء اتخذت شكلاً فرديّاً أم جماعيّاً. يعاقب القانون اللّائيكي كلّ من يقوم بالتضييق على دين ما. ولكنّه لا يسمح لدين أو عبادة بأن يكتسح الفضاء العام بصفة غير قانونيّة، على الأقلّ من حيث المبدأ. يتمتّع احترام الدين التقليدي، كما يدلّ على ذلك وجود الإرشاد الديني في المعاهد، بوضع استثنائي مقبول بالنظر إلى الماضي، ولكنّه لا يمكن أن يشكّل مرجعاً ويحدّد القواعد لاستعادة النفوذ الإكليروسي: سيكون أمراً متناقضاً استعمال معنى العلمانيّة؛ أي المصالحة، ضدّها وذلك بتحويل «التقدير» إلى «حقوق». إنّ المعتقدات التي لا تتمتّع بالتقدير نفسه يمكنها أن تحاجج بوجود ضعف في العلمانيّة.

تكمن علمانيّة الدولة أوّلاً في حيادها العقائدي، وتلك علامة ملموسة على وحدة اللاووس (Laos) وضمانة للنزاهة إزاء تعدّد الخيارات الروحيّة. ينتج عن ذلك واجب تحفّظ يمكّن ممثِّلي الدولة من تجسيد تلك الوحدة فعليّاً. ولكنّ ذلك الحياد لا يتضمّن أيّ نزعة نسبيّة فيما يتعلّق بالمبادئ الفلسفيّة التي تؤسّس الجمهوريّة. توجد، وقد رأينا ذلك، قيم خاصّة بالعلمانيّة في المستوى القانوني للأسس الدستوريّة، وهي متجانسة مع الحقوق الأساسيّة للإنسانيّة. تتكفل الدولة بها وتسعى لترقيتها بشكل إيجابي بواسطة المؤسّسات التي تجسّدها: حريّة مؤسّسة على الاستقلاليّة والحكم، مساواة مثبتة في السجلّات الكبرى للحقّ وفي شروط تطبيقها، انشغال بالكوني الذي يُنسِّب الانتماءات دون أن ينفيها. يرسم ذلك الأفق، وفي ما وراء تعريف القواعد التي يمكن أن تظهر عليها «الاختلافات»، شروط وِفاقٍ علماني حقيقي ليس له علاقة بتوافق الآراء، وذلك لأنّ مقتضى الحقيقة يجد مصدره في الحريّة التي تُكتسب بعمل العقل.

يجب أن تُفهم علمانيّة المدرسة بدورها انطلاقاً من الوظيفة التي تؤدّيها في الجمهوريّة. فهذه الأخيرة تتطلّب «مواطنين مزعجين» لا يطابقون بين الطاعة والعبوديّة، وقادرين على الجمع بين التمدّن -وهي فضيلة جمهوريّة يرسّخها حبّ القوانين والقانونيّة- والفطنة النقديّة تجاه أولئك الذين يمارسون السلطة. يتعلّم أولئك المواطنون في المدرسة ما يسمح لها يوماً ما بالاستغناء عن المعلّم[2]. من المهمّ، إذن، أن يكوّنوا فيها حُكمهم مستفيدين من المرجعيّات الثقافيّة والمعارف التي تُزوّدهم بالمَعَالِم النقديّة. تندرج علمانيّة المدرسة في هذا الأفق.

يترتّب على ذلك نتيجة أولى: أخذ التعليم في الاعتبار مساراً يقود إلى الاستقلاليّة الفعليّة للحكم، ولكنّه لا يفترضها إلّا كإمكانيّة للتحقيق. ذلك ما يُذكّر به مفهوم «تنشئة» التلاميذ الموجود عند مونتاني (Montaigne). تنشئة الذات الحرّة لدى الطفل، أو بالأحرى العمل على أن ينشئ نفسه بنفسه، يعني الاشتغال على تحقق عمل الفكر، الذي هو دائماً شخصي، بواسطة ثقافة تقصي كلّ رقابة، وكلّ خلط مع الترسيخ العقائدي أو الإيديولوجي.

يحصل من ذلك أيضاً نتيجة ثانية، وهي تتعلّق بالبرامج التعليميّة: هذه الأخيرة يجب أن تكون مستقلّة بصورة قطعيّة عن كلّ تبعيّة، وأن تعطي الأهميّة، دون تساهل، لمقتضيات المعرفة والتفكير النقدي الذي يمكن أن تنمّيه. ينقل التعليم العلماني آثار وإنجازات العقل الإنساني إلى المجال المدرسي، وليس له أن يتأثر بالعوائق التي كبحت في التاريخ الواقعي ذلك العقل في كلّ مرّة أرادت نظرة للعالم، دينيّة أو غيرها، أن تفرض نفسها. غاليلي (Galilée) ودارون (Darwin) واسبينوزا (Spinoza) وفرويد (Freud) وكوبرنيك (Copernic) وبودلير (Beaudelaire)، كلّ هؤلاء لهم حقّ المواطنة في المدرسة العلمانيّة، تماماً مثل أعمال القديس أوغسطين (saint-Augustin) وماركس (Marx) الموجودة في فرنسا على لائحة الكتّاب الذين من شأنهم أن يثروا المقاربة الفلسفيّة للمسائل الكبرى للإنسانيّة.

ثمّة نتيجة ثالثة يجب إبرازها: تجمع المدرسة «تلاميذ» و«معلمين» (أو «أساتذة»)؛ أي إنّ الكائنات التي تلتقي فيها لا توجد بطريقة اعتباطيّة، بل في إطار «وظيفة» يجب إنجازها. ينبغي أن تكون للجاهزيّة للدراسة، التي تُسمّى أيضاً نظاماً، قيمة بالنسبة إلى التلميذ الذي يتحكّم في حركاته العفويّة، وكذلك بالنسبة إلى المعلّم الذي عليه ألّا يخلط بين الوظيفة التي يؤدّيها وبين إثبات رؤيته الشخصيّة للعالم. إنّ علمانيّة التحفّظ شرط للانفتاح على عمل الثقافة وعلى الفكر.

إنّها ثلاثة استتباعات مرتبطة بحقيقة المدرسة مكاناً متميّزاً؛ حيث يتباعد المجتمع المدني عن نفسه بوساطة وعيه بمقتضيات تربية حقيقيّة على الحريّة. ويكون هذا الوعي قويّاً بقدر ما يتحرّر من الأحكام المسبقة الموجودة في تلك اللحظة.

القوانين المؤسِّسة للمدرسة العلمانيّة

إنّ واجب الدولة، المتمثل في توفير تعليم علماني على كامل تراب الجمهوريّة، وفي كلّ المستويات، من مستوى الحضانة إلى مستوى الجامعة، مُوضّح في نصٍّ له قيمة دستوريّة هو ديباجة دستور (27) تشرين الأول/أكتوبر (1947)، الذي تمّ تأكيده مرجعاً ساري المفعول في دستور الجمهوريّة الخامسة: «تنظيم التعليم العمومي المجّاني واللائيكي في كلّ المستويات هو واجب الدولة».

تُقرّ المادّة الثانية من هذا الدستور، تحت العنوان الأوّل في «السيادة»، بوضوح: «فرنسا هي جمهوريّة موحّدة، علمانيّة، ديمقراطيّة واجتماعيّة. وهي تضمن المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز بحسب الأصل أو العرق أو الدين. وهي تحترم كلّ المعتقدات». عندما نقارن بين هذه النصوص والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في (26) آب/أغسطس (1789)، الذي تمّ التأكيد أنّه جزء أساسي من المرجعيّات المؤسِّسة للدستور، يتبيّن أنّ تلك النصوص توضح المادّة الأولى منه: «يولد الناس ويعيشون أحراراً ومتساوين في الحقوق، ولا يمكن أن تقوم التمييزات الاجتماعيّة إلّا على المنفعة المشترَكة». تستبعد هذه المادّة كلّ نزعة تفاضليّة قائمة على الدين أو اللغة أو العادات الخاصّة، يمكن بدورها أن تُدخل معايير تمييز أخرى غير معيار الجماعة القانونيّة والعلاقة بالحياة المشترَكة بحسب الاستحقاق والكفاءات.

المادّة الحادية عشرة ليست أقلّ وضوحاً، فهي تؤكّد حريّة نشر الأفكار: «إنّ النشر الحرّ للأفكار والآراء هو أحد الحقوق الأكثر أهميّة بالنسبة إلى الإنسان، يستطيع إذن كلّ مواطن أن يتكلّم، ويكتب، وينشر بحريّة، ويستثنى الإفراط في الحريّة بحسب ما يضبطه القانون».

يجب ملاحظة استتباعات تلك الإعلانات المبدئيّة فيما يخصّ العلاقة بين الحريّة والمساواة، تقصي حريّة التعبير الإلزام بالتعبير عن فكرة ما. كلّ إجراء يُجبر المواطن على التصريح بخياره الروحي يتعارض، إذن، مع حقوق الإنسان ومع الدستور. ذلك ما يحصل عندما تُطالَب العائلات، التي لا ترغب في أن يتلقّى أبناؤها دروساً في الدين، بالتصريح بذلك من خلال تقديم مطلب إعفاء: تقديم دروس في الأديان في المدارس العموميّة بالألزاس-موزال (Alsace-Moselle) هو، في الآن نفسه، إنكار للحريّة وللمساواة. تتضمّن المساواة، بعنوان الحقّ المفتَرَض للعائلات في إعطاء أبنائها التربية التي تختارها، أن يتمّ أيضاً الإعفاء من دروس موضوعها الإلحاد أو اللّاأدريّة. هل بإمكان العائلات المؤمنة أن تتخيّل الوضعيّة المعاكسة، التي تكون فيها هذه المرّة ضحيّة؛ أي أن يكون هناك درسٌ في الإنسانويّة الملحدة مدرَج في التوقيت العادي للمؤسّسات التعليميّة، وأن تُمنح هي إمكانيّة طلب الإعفاء؟ إنّ طريقة لتوضيح كيف أنّ خياراً روحيّاً يشكّل المعيار وآخر يشكّل خرقاً له، لهي طريقة مشينة، ومن ثم غير عادلة. إنّ «واجب الدولة» هو توفير تعليم لائيكي: هذا يعني أنّ التعليم ليس مجرّد أداء ولا أهميّة لمحتواه، بل عليه أن يستجيب لمقتضيات معيّنة. لذلك، إنّ لائيكيّة التعليم تقصي كلّ دعوة دينيّة أو تبشيريّة (prosélytisme)، كلّ تقدير لمعتقد ديني، أو لشكل معتقد ديني، كما تقصي كلّ ترسيخ لإلحاد رسمي. لا مكان، إذن، لدرس في الدين أو في الاعتقاد الملحد في المدرسة العموميّة. وهكذا تقترن المساواة بين الجميع بحريّة الضمير.

الاختلاف المنسَّب

تجمع المدرسة، على خلاف المجتمع المدني، أفرادا قصّراً لا يمكن افتراض أنّهم متمتّعون باستقلاليّة التفكير والفعل، بل يتعلّق الأمر تحديداً بإيجادها. إنّ تطبيق القواعد نفسها، التي تلائم المجتمع المدني فيها، ليس أمراً بديهيّاً. على المدرسة العلمانيّة، من أجل أن يكون التعليم فيها هادفاً للحريّة، أن تُثمّن مقتضياتها الخاصّة، ولاسيّما أنّها تتوجّه إلى كائنات في طور التكوين، قُصّرا من الناحية المدنيّة، وليسوا بعدُ ذواتاً قانونيّة في وضعيّة المواطنين نفسها. إنّ التعبير عن القناعات الدينيّة أو السياسيّة من خلال شكل العلامات التفاخريّة قليلاً أو كثيراً، مثلاً، هو بهذا الصدد أمر إشكالي بصورة مضاعفة، فبحكم ارتباطه بعوائق هي، في الأغلب، وليدة الأوساط العائليّة، يتّجه ذلك التعبير إلى أن يجعل من المكان المدرسي مجالاً مغلقاً لمواجهات تعيد إنتاج مواجهات الكبار، إلى عزل تلك أو ذاك الذي يعتقد أنّه بتلك الطريقة إنّما يثبت حرّيته في اختلافها، وفي ذلك أكبر إضرار بالتربية العقليّة على الكوني التي يجب، بالعكس، أن تعلّمه تنسيب حرّيته دون نفيها بالضرورة. وبحكم كونه يكرّس من أجل الكائن القاصر من الناحية المدنيّة حريّة المواطن الراشد، فإنّه يشوّه فكرة كون التمرّن على الحكم المتبصّر شيئاً يُكتَسب، وأنّ الحريّة لا تتطابق مع خِدع العفويّة. ومن ثم إنّه يثبّت بشكل خفي في داخل المدرسة وصاية يجب أن تبقى غير ظاهرة، وذلك لمصلحة تحرّر التلاميذ الذين تحتضنهم.

إنّ عرض أو إظهار لباس موحّد يعني معرفة ما يجب اعتقاده، ورفض كلّ إسهام خارجي من شأنه أن يشكّك فيها. إنّ من يتقدّم إلى المدرسة هو طفل تلك العائلة أو تلك الجماعة، والمدرسة «تنسى»، وهو أمر مستغرب، أن تُعلِمه بأنّه يجب أن يأتي إليها تلميذاً، وأنّ تلك الوضعيّة تخضع لقواعد. من المشكوك فيه أن يكون ذلك التخلّي مُولّداً للحريّة، لمّا كان في اللحظة ذاتها يأسره في وجوده طفلاً منتمياً إلى أسرة، ومتكلّماً باسم القناعات التي رسّختها تلك الأخيرة فيه. في هذا المستوى تحديداً يمكن أن تُحطَّمَ العلمانيّة بتعلّة الانفتاح أو الانطواء على مجرّد «علمانيّة استقبال»؛ لأنّها تترك المجال مفتوحاً للضغوطات الجماعويّة، والأسوأ أنّها تعطيها مشروعيّة في مكان لا يمكن أن يكون لها فيه حقّ المواطنة من دون أن تدمّر سريعاً مبرّر وجوده الأساسي.

لم توجد المدرسة من أجل الإعلاء من شأن الخصوصيّات، بل من أجل التعليم والتحرير: إنّ الانفصال عن الانتماءات يجعل الحوار ممكناً انطلاقاً من تجربة عالم مشترك بين الناس، عالم الثقافة ومقتضياتها. وتلك التجربة تُيسّر الانفصال ما دامت شروطها متوافرة. إنّه لجدل خصب يُجيب بشكل جيّد، على الأقلّ في ما يتعلّق بالمدرسة، على اضطرابات عالم يدفع فيه القلق المتفاقم إلى الانطواء الهُوَوي وخطر انقطاع الصلة الاجتماعيّة الذي يصاحبه.

إنّ رهان انشغال التفكير النقدي المتحرّر من كلّ تحديد عقائدي هو تبصّر الوعي، حيث يكون في مستوى عدم الخلط بين انعدام العدالة الاجتماعيّة والاضطهاد الثقافي. من دون ذلك يوشك «الحقّ في الاختلاف» أن يفضي إلى الاختلاف في الحقوق. إنّ خصوصيّة المكان المدرسي، بالنسبة إلى المجتمع المدني، تتحدّد هنا بنوع من حركيّة التحرير الأخلاقي والفكري في الوقت نفسه. يجب أن يسبق التكوين الحقيقي للحكم السويّ، في كلّ الحالات، شكل الحوار العفوي للآراء الذي لا تستطيع فيه العقول أن ترى بوضوح ما دامت غير واثقة من ذواتها.

مسألة الحجاب: حريّة أم تكريس للوصاية؟

يمكن أن نستعمل هنا مثال ارتداء الحجاب، الذي يدعو إليه من يتبنّى تصوّراً متطرّفاً للإسلام. يجعل المتطرّفون من مجرّد دعوة إلى التعفّف إلزاماً هُوَويّاً مندمجاً في المنطق القانوني لقانون الأحوال الشخصيّة؛ ذلك يعني أنّ ارتداء الحجاب يمثّل شيئاً آخر وليس مجرّد تعبير فردي قابل للعزل. إنّه يندرج في مجموع كامل يتماشى مع مكانة المرأة الدونيّة في المجتمع. وقد استعملته حركة طالبان في أفغانستان إلى أقصى حدّ عندما فرضت إخفاء جسد المرأة تحت البرقع، وهو زيّ لا يوجد فيه إلّا فتحة واحدة هي قطعة قماش مشبّكة تسمح بالنظر. الحرمان من الدراسة، الإقصاء من كلّ نشاط مدني أو سياسي، الطلاق من جانب واحد، استحالة اختيار القرين، من بين أشياء أخرى، جميعها تشكّل نسقاً في العالم المتطرّف. سيكون، إذن، من السذاجة فصل ارتداء الحجاب عن ذلك الكلّ واعتباره مظهراً للحريّة الفرديّة، وباختصار ابتذاله بالتقليل من أهمّيته. وهي سذاجة تقارب عدم المسؤوليّة عندما تمنح في الواقع، وبتعلّة التسامح، للجماعة وزعمائها الدينيين نفوذاً على أعضائها فتُحَدّ الحريّة الفرديّة بشكل تام. في هذا الأفق، تنتمي المشاعر الحسنة، التي تفضي إلى القبول بالحجاب وقتيّاً حتى تتّخذ البنت المتمدرسة من دون شروط في النهاية المسافة (اللازمة لفهم وضعيتها)، إلى نوع من النزعة الملائكيّة (angélisme). وذلك أوّلاً، لأنّ الحجاب المفروض، في أغلب الأحيان، وليس المرغوب فيه، يأخذ مكانته ضمن سلسلة من أفعال الخضوع لا تنفصل فيما بينها؛ لأنّها مُرتّبة داخل قانون الأحوال الشخصيّة الذي يُخضع المرأة: الحدّ من الدراسة، عدم اختيار القرين، حياة جنسيّة وشخصيّة مراقَبة من سلطة خارجيّة، إمكانيّة تطليقها من جانب واحد... إلخ. ثانياً، لأنّ ثمّة استراتيجيا كاملة، مدعومة من منظمة دوليّة، تهدف إلى تحطيم العلمانيّة التي تُعدُّ رافعة خطرة للتحرّر وشرطاً للمسافة النقديّة إزاء النزعة الإيمانيّة الدينيّة. إنّه لأمر مستغرب أن يراد الاعتراف بالتلميذة ذاتاً قانونيّة مثل المواطن الراشد، في الوقت الذي يراد تكريس وضعيتها حاملةً للواء تصوّر ديني ليس لها أبداً الحريّة في أن تنفصل عنه. من الذي يُعد ذاتاً قانونيّة؟ التلميذ أم العائلة أم الجماعة الخاصّة؟ إنّ الجواب المقترح، من خلال تعليمات مجلس الدولة (الفرنسي) التي أقرّت بأنّ ارتداء الحجاب لا يتناقض مع العلمانيّة، هو، في هذه النقطة، غامض جداً وملتبس كي لا يقال إنّه غير منسجم. يبقى أنّ التعليم إلزامي، والدولةَ مدينةٌ به لكلّ طفل. هل هي مدينةٌ له به وفقَ أيّ شرط اتفق؟ هذا هو السؤال الأساسي. يتناغم الإلزام بالتمدرس عادة مع مقتضيات لا يكون العمل المدرسي ممكناً في غيابها، أو على الأقل يفقد الاطمئنان الذي هو شرط نجاحه. كيف ستكون وضعيّة مؤسّسة عموميّة لا يكون بإمكانها أن تفرض أيّ مقتضى لازم لاشتغالها الجيّد؟ إنّ الإقرار قبليّاً (a priori) بأنّه لا مجال لمعاقبة من يخرق القواعد يعني الاستقالة مباشرة، وجعل تلك القواعد، في الوقت نفسه، ضعيفة وبلا جدوى.

إنّ قاعة القسم، في هذا النظام، يمكن أن تصبح مكاناً لتجلّيات لازمنيّة لكلّ الاختلافات التي تمزّق المجتمع المدني، فتصبح مكاناً مبتذلاً مثل أيّ مكان آخر، وتسقط في النسيان التام لوِجْهَتها وشروط إمكانها. إنّ الاعتقاد باتّباع التسامح وممارسة بيداغوجيا تَحرّر ليّنة بداية بالقبول بالحجاب، ليس إلّا تكريساً لوصاية طائفيّة أو عائليّة سرعان ما تتناسب مع وصايات أخرى. إنّ عدم حضور درس البيولوجيا، ورفض التربية البدنيّة، بل الانقطاع عن الدراسة بسبب الزواج بقرين لم يتمّ اختياره، سَتُقبل فيما بعدُ بشكل طبيعي باسم قانون أحوال شخصيّة مُطالَبٍ به بوصفه حقاً ثقافياً. سيكون من السذاجة نسيان أنّه أمام الإرادة الفرديّة الطيّبة للأستاذ أو لمدير المؤسّسة، يوجد مشروع منهجي، مُوجّه على المستوى الوطني، لتحريف العلمانيّة المدرسيّة، التي تُعد خطيرة بالنسبة إلى الهيمنة الطائفيّة. من المفيد، على سبيل المثال، معرفة أنّ كتاباً موثّقاً ومنهجيّاً بشكل جيّد يفسّر للعائلات وللمجموعات الدينيّة كيف يمكن استغلال الإمكانات القانونيّة لفرض الحجاب في المدارس دون عقاب: «الخمار الإسلامي والجمهوريّة الفرنسيّة: برنامج عمل»[3]. إنّ العنوان يغني عن التعليق.

من الغريب أنّ مجلس الدولة عندما يطرح رأيه، بخصوص معرفة ما إذا كان ارتداء الخمار يتلاءم مع العلمانيّة، لا يقوم بأيّ إحالة إلى الفرق بين القاصر والراشد متظاهراً بالاعتقاد بأنّ نظام الحريّة نفسه ينبغي أن يسود في المجتمع المدني وفي المدرسة. والأمر كذلك أيضاً بالنسبة إلى الأدبيّات القانونيّة الضخمة المخصّصة للإجابة عن السؤال بالإيجاب، فهي لا تنتقي إلّا النصوص التي تذهب في هذا الاتجاه، على حساب الاقتطاع العشوائي لإعلانات الحقوق والحذف المهم. وهكذا، فالاتفاقيّة الدوليّة لحقوق المرأة، التي وقّعتها فرنسا عام (1984)، ليست مذكورة مطلقاً بالرغم من أنّها تشترط التزاماً محدّداً (المادة 5): «تغيير صور ونماذج السلوك الاجتماعيّة-الثقافيّة للرجل والمرأة بهدف الوصول إلى استبعاد الأحكام المسبقة والممارسات التقليديّة أو من أيّ نوع آخر، التي تقوم على فكرة دونيّة أو علويّة أحد الجنسين على الآخر أو على دور نمطي للرجال والنساء»[4].

من أجل تحليل نقدي معمّق لالتباسات رأي مجلس الدولة وامتداداته، التي أدّت اليوم إلى علمانيّة ذات هندسة متغيّرة لأنّها خاضعة لعلاقات القوى المحليّة، يمكن العودة إلى كتابنا (الله وماريان: فلسفة العلمانيّة)[5].

خلال قضيّة الحجاب الأولى في فرنسا، في مقاطعة كراي (Creil) (تشرين الأول/أكتوبر 1989) بدأت جريدة «المنقذ» التابعة لجبهة الإنقاذ الإسلاميّة الجزائريّة (FIS) حرباً على تحرّر النساء بعبارات لا لُبس فيها: «يذكر مقال بالفرنسيّة 'لا للمرأة المتحرّرة': [...] كلّ ما يتعلق بتحرّر المرأة ويرمي إلى تغيير قانون الأسرة الجزائريّة لعام 1984 المؤسّس على الشريعة يصوَّر على أنّه فتنة، ذلك الشقاق الداخلي الذي يقود إلى تدمير الجماعة المسلمة»[6]. لا يمكن تجاهل، مع أخذ ذلك السياق في الاعتبار، أنّنا بصدد سياسة حقيقيّة شاملة لإدانة العلمانيّة. هذه الأخيرة هي بالفعل العائق الرئيس أمام إعادة بناء علاقات تبعيّة بين الأشخاص في الأمّة، الجماعة الدينيّة التي تريد اختطاف الجماعة الإنسانيّة الخاصّة والتحدّث باسمها؛ وذلك بوساطة خطاب موجّه يزوّدها بتباهٍ هُووي متصوّر كمقاومة وتعويض بالنظر إلى عالم خارجي عدواني. بطبيعة الحال ترتدي بعض الفتيات الحجاب بإرادتهنّ، ولكن في أغلب الحالات يرتدينه ملزَمات ومكرهات. يتعلق الأمر إذن بمعرفة ما إذا كان قانون الأب أو الأخ الأكبر أو الزعيم الديني للجماعة هو الذي سيسود مستقبلاً في المدرسة.

من خلال الإجابة الموجبة، يُعتقد تكريس حريّة ذاتٍ لها سيادة على قراراتها إلّا أنّه يجري تثبيت خضوع شخصٍ مُحتقَر. فتح المدرسة بهذا الشكل يعني أنّها قائمة على مبدأ انغلاق واغتراب. أمّا فيما يتعلّق بالقلق الاجتماعي، الذي يمكن أن يثير أوضاع أو هيئات تحريض تعويضيّة، فهي تتطلّب معالجة مناسبة، ولا يمكن للجانب المدرسي منها أن يُبرِّر الحلّ الوهمي المتمثل في الهروب نحو هُويّة متخَيَّلة: في فرضيّة كهذه يكون الاغتراب، بصورة مفارقة، مُعزّزاً في قلب المؤسّسة التي عليها أن تُدين تكريسه الذهني.

أمّا بخصوص التأكيد أحادي الجانب على الأخطار الناتجة عن استبعاد الفتيات المحجبات، فيجب التذكير بأنّ الإقصاء لمدّة محدودة هو عقوبة مستعملة في المؤسّسات المدرسيّة حتى وإنّ كان اللجوء إليها لا يتم إلا في حالات استثنائيّة. وبالنظر إلى ذلك لا يستهدف الإقصاء مجرّد ارتداء الحجاب بما هو كذلك، بل عدم احترام قاعدة داخليّة تشتمل على متطلبات أخرى. وفي المحصّلة، ليست الفتاة هي المقصيّة بل الحجاب. وعلاوة على ذلك فإنّ الواجب المدرسي، خلال مدّة الاستبعاد، يكون مضموناً بوساطة «المركز الوطني للتعليم عن بُعد» (CNED) ليس صحيحاً، إذن، ادّعاء أنّ عقوبة الإقصاء تحرم التلميذ من التعلّم الذي هو في أمسّ الحاجة إليه. يتعلّق الأمر ببساطة بمعرفة ما إذا كان للمدرسة العلمانيّة إمكانيّة فرض احترام القواعد التي ليست اعتباطيّة؛ لأنّها ترتبط بوظيفتها ذاتها. يجب أن نلاحظ أنّ تذبذب المؤسّسة، التي تخلت عنها السلطات الرئاسيّة والوزاريّة لتواجه وحدها الضغوطات المحليّة، يشجّع المجموعات الإسلاميّة على فرض الأحجبة؛ أي زيادة فرص تراجع العلمانيّة في المدارس.

العقل والأخلاق والمدنيّة

تُعدّ المكانة المعطاة للعقل في المثَل الأعلى العلماني أساسيّة. يهدف العقل، وهو غير قابل للردّ إلى ملكة حساب، إلى الحقيقي والعادل في ممارسة الحكم، من حيث إنّه ينطبق على غايات الوجود الإنساني. ولذلك هو يُعد ملكة نقديّة بامتياز، ويحيا كمقتضى تبصّر يُعاد توجيهه باستمرار أكثر ممّا هو مِلكيّة نتمتّع بها دون جهد. يُمكّن الوعيُ المتبصّر كلّ واحد بوساطة الثقافة، التي هي تفكير وليست مجرّد ذاكرة معلومات، من تهذيب إنسانيته واستكمالها بقوّة الفكر الحيّة. وهكذا يرتقي إلى بُعده الأخلاقي بوساطة العقل وليس ضدّه؛ لأنّه يتعلّم تدعيم الشعور بالتضامن بالمبادئ التي تؤسّسه. بهذا الصدد توجد إنسانويّة علمانيّة حقيقيّة قابلة للتصوّر بطريقة نقديّة، وبعيداً عن الأوهام الإيديولوجيّة، التي كثيراً ما غيّبت معنى النزعات الإنسانيّة التقليديّة. بطبيعة الحال، يمكن للإنسان أن يعرف بصورة عفويّة ما هو واجبه، ولكنّ كثيراً من الأكاذيب والأحكام المسبقة تنزع إلى تضليل العقل الطبيعي. لذلك تتطلّب تلك الأحكام وتلك الحيل الفكر النقدي، الذي يفكّك قوّتها الخادعة، ويحرّر الوعي ممّا يفصله عن ذاته.

تسخر الأخلاق الحقيقيّة من الأخلاقويّة (moralisme)، وتُنكر كلّ تعليم ديني (catéchisme) -ولو كان جمهوريّاً- يستبعد مقتضيات العقل مفهوماً كحضور للفكر المتبصّر أمام ذاته. ليست المدرسة العلمانيّة هي المدرسة من دون الله(l'école sans Dieu)، التي اعتقد المونسنيور فربّل (Mgr Freppel) الخصم الكهنوتي العنيد لجول فيري (Jules Ferry) عام (1883)، أنّ من واجبه إدانتها، وليست المدرسة مع الله (L'école avec Dieu) التي يحلم بها أنصار «العلمانيّة المنفتحة»، بل هي مدرسة الحريّة؛ حيث يتعلّم الرجل الصغير كيف يصبح سيّد أحكامه لكي يكون أيضاً سيّد أفعاله. إنّها استقلاليّة أخلاقيّة بأتمّ معنى الكلمة، تحيل على طريقة الوجود كما على مبادئ السلوك الأخلاقي.

راهن كندورسي (Condorcet) على التعليم العقلاني بشرط عدم الفصل بين السلوك القويم والمعرفة المتبصّرة المعاضدة المدعمة في الدائرة العقليّة للمعرفة (أي فكرة الموسوعة التي غالباً ما تُحقّر اليوم). هل يوجد تعارض بين نسبيّة المعايير الأخلاقيّة والقانونيّة المفتَرضة وكونيّة المعارف التي يمكن، بالنظر إلى ذلك، تعليمها هي وحدها في المدرسة العلمانيّة؟ إنّه سؤال صعب، وقد كان في السابق موضوع جدال. يبدو أنّ جول فيري نفسه كان يخشى أن يرى المدرسة العلمانيّة تَخْرقُ كونيّة قولها بالقبول بمقتضيات العقل النقديّة في مقاربة الأخلاق. لقد نصح بتربية أخلاقيّة قائمة على المثال والموافقة المفترَضة لكلّ «إنسان نزيه» (انظر: رسالة إلى المعلمين Lettre aux instituteurs بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 1883). هل كان يرمي إلى كونيّة الحقّ التي يكون العقل قادراً على التفكير فيها سواء بالنسبة إلى المبادئ الأخلاقيّة أو إلى مبادئ العدالة السياسيّة حينما تتمكّن من التخلّص من التحديدات الإيديولوجيّة المرتبطة بالمصالح الخاصّة، أم كان يراهن على اتفاق واقعي، نوع من التوافق الأدنى يؤسّس لأخلاق «من دون صفة»، لا دينيّة ولا ملحدة؟ قد تسمح تلك الأخلاق المقبولة بصورة كليّة لكلّ «رب أسرة جيد» بأن يتقبّل الدروس المصوَّرَة المتعلّقة بالفضيلة والنزاهة المعروضة في القسم، بشرط واحد هو ألّا تصدم الأحكام المسبقة السائدة آنذاك؟ يمكن أن يترك السؤال مفتوحاً مع التذكير، على الرغم من كلّ شيء، بالطابع الاستثنائي التاريخي لذلك الاختيار التناوبي. كانت المعارضة الكهنوتيّة في ذلك العصر تخلط بين المدرسة العلمانيّة والمدرسة اللّاأخلاقيّة، وقد كانت تترصّد كلّ خطاب يمكنها أن تتبنّاه حول الأخلاق، فتسرع إلى مآخذتها على خرق الحياد العلماني! يبدو أنّ جول فيرّي فضّل، من أجل الخروج من هذه الدائرة المغلقة لسوء النيّة في سياق كانت فيه علاقة القوّة غير مؤكّدة، البُعدَ التوفيقي لأخلاق ساكتة عن أسسها النظريّة، ربّما على حساب القيمة النقديّة لتفكير بلا تعقيدات؛ لأنّه مدفوع بمقتضيات العقل فحسب. يقود التجاسر على استعمال كلّ القوّة التحريريّة للعلمانيّة إلى التخلّي عن تسهيلات النزعة الامتثاليّة؛ لأنّ تلك التسهيلات تؤدّي إلى الخلط بين توافق اللحظة، المحدّد إيديولوجيّاً، مع الكونيّة الحقيقيّة التي هي مصدر كلّ وفاق دائم. بهذا المعنى تسير العلمانيّة والروح النقديّة على المستوى نفسه.

إنّ البحث العقلاني عن الكوني مقترن بالمدنيّة، وهي فضيلة سياسيّة قائمة، بحسب مونتسكيو (Montesquieu)، على «حبّ القوانين والمساواة». وعندما لا يخيب ذلك الحبّ، بسبب انعدام العدالة الاجتماعيّة الفعليّة الذي يكذّب وعوده، فإنّه يفضي إلى معنى الخير العام الذي يروي الفضائل الخاصّة. يمكن الإعداد للمدنيّة بمقاربة عقلانيّة لمبادئ الدولة والحقّ، وبتطعيم الفضائل الخاصّة بإظهار الرابط بين المصلحة العامّة والاستكمال الذاتي. لا يتعلّق الأمر بإقامة سياسة على أخلاق المشاعر النبيلة التي غالباً ما تترك جانباً بواعث الحرمان الاجتماعي، بل بالجمع بين المدنيّة والمواطنيّة المستنيرة. وهكذا يعيّن للمقتضى الأخلاقي مكانته الحقيقيّة بفضل التفكير النقدي. في هذا المستوى يمكن أن تتشكّل بوضوح نقطة الالتقاء بين المؤمن الذي يحترم في كلّ إنسان ابنَ الله الذي يؤمن به، والملحد الذي يحترم في كلّ إنسان الإنسانيّةَ ذاتها، مختبَرَة كأخوّة من حيث الوضعيّة ومن حيث المبدأ: تمكّن كونيّة كانط الأخلاقيّة، في الوقت نفسه، من التفكير في الموقفين وتبريرهما من دون تجريدهما من أصالتهما؛ ذلك، بلا شكّ، هو السبب الذي جعل فرديناند بويسّون (Ferdinand Buisson)، أحد أهمّ مفكّري العلمانيّة، يرى فيها إمكانيّة تأسيس علماني للتربية الأخلاقيّة التي تربط، من خلال الوعي الواضح بتمايزها، المجالات الخاصّة بكلٍّ من العقل والإيمان.

[1] - Catherine Kintzler, La République en question, Paris, Minerve, 1996

[2] - Jacques Muglioni, L'école ou le loisir de penser, éd. Du CNDP, Paris, 1993, p. 23 et suiv.

[3] -Docteur Abdellah, Le foulard islamique et la République française: mode d'emploi, éd. Intégrité, Bobigny, 1995, p. 66

[4] -Journal officiel de la République française, 20 mars 1984

[5] - Henri Péna-Ruiz, Dieu et Marianne. Philosophie de la laïcité, PUF, coll. «Fondement de la politique», 2éd., 2001

[6] -Voir Gilles Kepel, l’ouest d'Allah, Seuil, 1994, p.233