الحضارة الإسلامية بين العصور والرؤية الجابرية لقراءة التراث؛ العودة من متاهة العصور الوسطى إلى الحاضر

فئة :  مقالات

الحضارة الإسلامية بين العصور والرؤية الجابرية لقراءة التراث؛ العودة من متاهة العصور الوسطى إلى الحاضر

الحضارة الإسلامية بين العصور والرؤية الجابرية لقراءة التراث؛

العودة من متاهة العصور الوسطى إلى الحاضر

إن التاريخ الإنساني يسير بخطى ثابتة ومتصلة بين العصور، وهذا ما نلاحظه في الانتقال من الفلسفة في العصور القديمة إلى العصر الوسيط الإسلامي وكذلك الغربي، ثم إلى العصر الحديث الغربي، وحتى الآن. وهكذا يمر التاريخ عبر سيرورة من الاكتشافات الفلسفية والعلمية، ويظل في تطور مستمر وفي سيرورة متتالية.

ولكن اللافت للنظر أن الفلسفة انتقلت إلى الغرب لتستقر هناك. أما الحضارة العربية الإسلامية فما زالت عالقة في العصور الوسطى، أو كما تلقب بالعصور المظلمة. وكما هو معلوم، فإن النهضة العربية الإسلامية سبقت النهضة الغربية الأوروبية؛ وذلك للاكتشافات العلمية والفلسفية التي شهدها العالم الإسلامي خلال فترة العصر الوسيط، بفضل الترجمة والمصادر التي نقلت منها الحضارة الإسلامية العلم والفلسفة. وقد اعتمدت في ذلك على الحضارات اليونانية والفارسية والهندية، لتنقل العلوم والمعارف من لغات مختلفة إلى اللغة العربية. وكما يشهد التاريخ، فإن أبرز مساهمة في نشر المعرفة هي بيت الحكمة، الذي أسسه هارون الرشيد وازدهر في عهد المأمون.

لكننا نلاحظ أن الحضارات تدور وتنتقل من مكان إلى آخر تبعًا للعصور والظروف والمنعطفات التاريخية. فالحضارة لا تدوم لأحد: "من سرّه زمن ساءته أزمان" (1).

والسؤال اللازم طرحه هو: ما السبيل لإعادة إحياء الحضارة العربية الإسلامية، لتعيش تراثها في العصر الحالي بعدما ضلت الطريق منذ القرن الرابع عشر حتى اللحظة الراهنة؟

1 - ذروة ازدهار الحضارة الإسلامية:

ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر ميلادي، عاشت الحضارة الإسلامية ذروة ازدهارها الثقافي والفكري. وبصريح العبارة، يمكن القول إنها كانت تعيش التنوير الذي عاشته الحضارة الغربية بعد الثورة الفرنسية. ومن أبرز ما حققه العالم العربي الإسلامي هو تأسيس مراكز لترجمة إرث الحضارات السالفة، اليونانية منها والهندية والفارسية.

وأبرز هذه المراكز التي تركت أثراً هو بيت الحكمة وكذلك قرطبة. وهل تعلمون أن مفكري العالم كانوا يحجون إلى بغداد أو قرطبة والأندلس عندما كانت لدينا حضارة، عندما كنا نعيش العصر الذهبي الذي أطل على العالم بكل أنواره؟ (2)

إن العالم الإسلامي وصل إلى ما وراء التنوير في العصر الوسيط، ووصل إلى مجد الحضارة، حيث أُسست عدة مدارس وفرق كلامية، ومن أكبر هذه الفرق الأشاعرة والمعتزلة. الأشاعرة كانوا يميلون إلى الانتصار للنقل على العقل، بينما المعتزلة كانوا عقلانيين أكثر ويميلون إلى العقل. وكان هناك خلاف بين العقل والنقل، حيث وصلوا إلى معالجة القضايا الدينية وتأويل النص القرآني من طرف الفرق المؤسسة لعلم الكلام.

وكذلك ظهر فلاسفة عرب مسلمون كبار، من أبرزهم في المشرق الفارابي وفي المغرب ابن رشد وغيرهم الكثير. وفي الجانب العلمي، تم تطوير علم الرياضيات وعلم الفلك عبر ترجمة المصادر وما توصل إليه العلماء والفلاسفة اليونانيون والهنديون والفارسيون القدامى.

ولكن هذا لم يدم طويلاً بل قرون معدودة فقط، وعادت المياه إلى مجاريها، وانتقل العلم والمعرفة من العالم العربي إلى العالم الغربي. "وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى، قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حفظ الأمانة العلمية الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة" (3).

وهذا قول المستشرقة يمنى طريف خولي أقرب للخطأ مما هو أقرب للصحيح؛ لأن العرب المسلمين أنتجوا الكثير من العلم والفلسفة، وهذا ما يشهد له التاريخ وليس مجرد نقل أمانة إلى الأحفاد الغربيين. وعلى سبيل المثال، الفارابي الذي يعتبر المعلم الثاني بعد أرسطو والذي قال بنظرية المعرفة. وكذلك أنتجوا الكثير في مجال العلم، حيث أُسست في العصر الوسيط مراصد فلكية تراقب حركة النجوم والكواكب، والكثير مما غفل عنه التيار الاستشراقي الكلاسيكي التقليدي.

وعبر فجوة، انتقل العلم والفلسفة وكل المعارف إلى الغرب وبقينا نحن تحت سيطرة النقل على العقل. وحتى الآن، ما زلنا نعيش ماضينا في العصر الوسيط. ونتساءل جميعًا: كيف انتقلت المعرفة من جهة لأخرى؟

2 - ذروة ازدهار الحضارة الغربية وكيفية انتقال الفكر إليها:

بعدما كانت أوروبا تعيش ظلامها تحت سيطرة الكنيسة والتأويلات الخرافية السائدة في تلك الفترة الزمنية، والتي لن تستمر طويلاً، عبر الترجمة التي لعبت دوراً مهمّاً ورئيساً في تقدم الحضارة الغربية، حيث بدأ لأول مرة ترجمة الترجمات القديمة التي مرت من اليونان إلى العرب ثم إليهم.

ترجموا أعلام العالم الإسلامي، وتعرف الغرب على الحضارة الإسلامية. تعرفوا على أرسطو بعدما كانت أوروبا تعيش تحت سيطرة الأفلاطونية المحدثة وتأويلات الكنيسة لها.

عبر الفجوة وعبر الصراع الفكري الذي كان سائداً في أوروبا بين أنصار أفلاطون وأنصار ابن رشد (أي أرسطو)، ظهر توما الأكويني الذي رفض الترجمات العربية، وبدأ بترجمة الإرث الأرسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وعبر الاستعانة بأحد أصدقائه ترجم الإرث الأرسطي في مدة تسع سنوات، ليقضي بعد ذلك على الترجمات العربية وعلى ابن رشد بالضبط.

وهكذا انتقلت المعرفة من العرب إلى الغرب ومن الحضارات القديمة إلى الغرب عبر العرب. وبعدما نقل هذا الإرث، تحركت أوروبا بالعلم والمعرفة لتعيش ذروتها، ثم انتقلت من العصر الوسيط الذي كانت تعيش فيه الظلام إلى العصر الحديث مع ديكارت وفرانسيس بيكون، وكذلك في المجال العلمي مع غاليليو وكوبرنيكوس، ثم مهدت للتنوير في زمن كانط وجان جاك روسو وكذلك فولتير، وفي الفكر المعاصر مع ميشيل فوكو وغيره، وعاشت التنوير إلى اللحظة الراهنة.

وجدوا منهجاً لهم وساروا عليه، ووجدوا أنفسهم على ما هم عليه اليوم، ونحن علقنا في القراءة التراثية لتراثنا، ما زلنا نعيد التراث القديم، نقرأ تراثنا بعيون القدماء واللازم أن نقرأه بعيون معاصرة.

هل تعلم أن مفكري أوروبا المسيحية كانوا يبحثون عن مخطوطاتنا، ويتعلمون لغتنا ويترجمون كتبنا بغية الاطلاع على العلم والفكر والفلسفة؟ بل وكانوا يفتخرون بأنهم قرأوا الفارابي والبيروني وابن سينا وابن رشد مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا قرأنا ديكارت أو كانط أو هيغل. هذه هي سنة الدنيا: يوم لك ويوم عليك (4). وهكذا كان تعبير هاشم صالح عن الأسى الذي يرافق العرب المسلمين، كان الحظ والعمل من أجل الوصول نصيبهم. وهل لنا نصيب أيضًا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية أن نعود إلى السكة بعدما غفلنا عن الطريق الصحيح في العصر الوسيط؟

إننا غفلنا عن تراثنا العربي الإسلامي، غفلنا عن ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم الكثير، وبدأنا في قراءة التراث قراءات متكررة، قراءات فاشلة. وللعودة إلى قراءة التراث وقراءة ما خلفه السلف لكي نعيد الحضارة الإسلامية لتعيش حاضرها، سوف نتطرق في ذلك لأحد مفكري الفكر المعاصر وقوله حول إعادة قراءة التراث بالطريقة الصحيحة.

3 - سبيل العودة لإحياء تراث الحضارة الإسلامية:

للإجابة عن عدة أسئلة، يجب علينا الخوض في رحلة إلى فكر المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010)، ابن النقد العربي، وكيفية دراسته للتراث وكيفية قراءة تراثنا العربي الإسلامي، لكي نعود إلى العيش بعقولنا في الحاضر.

لفهم الجابري يجب علينا نزع كل الأفكار وما خلفه السلف في أذهاننا؛ فالجابري قدم قراءات معاصرة نقدية للتراث العربي، وأعاد النظر في التراث وأعاد قراءته، لكي يتلاءم مع عصرنا الحالي وهذا بتجاوز الأفكار الكلاسيكية التقليدية وكل ما نسج حولها.

‏وطريقة نقد الجابري للتراث العربي ما هو إلا المنهج النقدي، وهذا النقد عبارة عن قراءة جديدة للنصوص القديمة أي نصوص سلفنا، لكن بمنهجية نقدية مبتكرة. والعقل العربي ذو ثلاث بنى أو أنظمة حسب الجابري، ‏والنظام الأول هو النظام البياني، والذي يتمثل في علوم الفقه واللغة وغير ذلك، وما يجعله محدودا وعقيما في تطوره هو القيود الذاتية التي تمنعه من التطور.

‏أما العقل العرفاني الذي يتمثل في التصوف مثلا وكل الأفكار الداخلية أو بلفظ أكثر دقة كل الأفكار الباطنية، وكما يصفه الجابري أي هذا العقل أنه يقع داخل دائرة اللا معقول.

‏أما العقل الثالث، فهو العقل البرهاني أو الفلسفي الأكثر تنويرا بين هذه العقول كما أنه كان لازما على العقل العربي أن يدافع عن نفسه بسبب الانحطاط الذي وصل إليه، وهذا باستعمال العقل البرهاني.

إن إشكالية قراءة التراث هي سبيلنا في هذا الموضوع للإجابة عنها، وعبر القراءة التي قال بها الجابري سوف نقوم بتوضيح هذه القراءة الجديدة وكيف تتم، من أجل الخروج من العصور الوسطى وعيش حاضرنا المعاصر وعبر خطوات، سوف نتطرق لها واحدةً تلو الأخرى.

وهنا سوف نطرح سؤالين أساسيين: ما الطرائق التي تم بها قراءة التراث؟ وما الطريقة التي اقترحها محمد عابد الجابري لقراءة التراث العربي الإسلامي؟

في الأول تم قراءة تراثنا من طرف مفكرين وتم قراءته حسب الجابري بثلاث قراءات سوف نتطرق لها واحد تلو الأخرى.

القراءة السلفية للتراث:

وهي قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو: الفهم التراثي للتراث، التراث يحتويها، وهي لا تستطيع أن تحتويه؛ لأنها: التراث يكرر نفسه (5). والواضح أن التيار السلفي تيار تجديدي ينادي بالتجديد والقطع مع التقليد وهذا التيار ظهر مع الأفغاني وغيره.

ومعنى ترك التقليد أنه القطيعة الكلية وإلغاء كل ما خلفه العصر القديم. أما التجديد، فيعني بناء فهم جديد للدين عقيدة وشريعة وإعادة تحيينه ليوافق فكرنا الحالي المعاصر (6). وهنا يقصد الجابري بالتجديد القطيعة الصغرى مع ما خلفه السلف، لكن هذه القراءة لم تنجح، فالماضي الذي أعيد بناؤه بسرعة قصد الارتكاز عليه لـ "النهوض" أصبح نفسه مشروع النهضة، هكذا أصبح المستقبل يقرأ بواسطة الماضي (7).

وهكذا التيار السلفي فشل في قراءة التراث، بل كرر التراث فقط؛ لأن السلفية الدينية تمسكت بجذورها وركزت على العامل الروحي فقط وألغت ما نادت به فالفكرة التي قال بها قد كانت مجرد وسيلة الافتخار وإعادة الثقة بالنفس.

القراءة الليبرالية للتراث:

ينظر الليبرالي العربي إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه، حاضر الغرب الأوروبي، فيقرأه قراءة أوروباوية النزعة؛ أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي. (8)

وهنا نلاحظ أن القراءة الليبرالية قراءة فاشلة هي كذلك؛ لأنها تسقط مفاهيم غربية على المفاهيم العربية وهنا يكمن الخطأ والفشل.

القراءة الاستشراقية للتراث:

إن هذه القراءة تقول بالحياد وتلتزم الموضوعية، ونظرتها لقراءة التراث أن نأخذ من المستشرقين منهجهم العلمي ونترك أيديولوجيتهم؛ أي نأخذ المنهج فقط، ولكن السؤال المطروح الذي يطرحه الجابري، هو هل يمكن الفصل بينهما؟ إن الرؤية الاستشراقية تعارض قراءة التراث بالتراث، ومن هنا فإن المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد "كل" شيء إلى "أصله" وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي، فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده إلى "أصوله" اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية…إلى آخره (9). ولكن هذه الرؤية رؤية تدعي الحياد فقط؛ لأنها تبين أن العرب كانوا مجرد سعاة بريد أعادوا الأمانة لذويها، وإن القراءة هذه تفشل كذلك؛ لأنها ليست قراءة موضوعية. إن تركيزها على أن الماضي العربي كان في استيعاب فكر ليس بفكره وهو الفكر اليوناني فقط.

4 - الرؤية الجابرية لقراءة التراث:

والآن سوف نتطرق إلى الطريقة التي اقترحها محمد عابد الجابري لقراءة التراث العربي الإسلامي؛ وذلك عبر خطوات تأتي كالآتي:

الخطوة الأولى: ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث

ويعني هنا الجابري القطع مع بنية العقل العربي منذ عصر الانحطاط، قطيعة إبستمولوجية وكسر بنيته.

أول ما يجب كسره هو ثابتها البنيوي، وهو القياس "قياس الغائب عن الشاهد" إن ما يعنيه الجابري بالقطيعة الإبستيمولوجية أن "القطيعة الإبستيمولوجية تتناول الفعل العقلي والفعل العقلي نشاط يتم بطريقة ما وبواسطة أدوات هي المفاهيم وداخل حقل معرفي معين. قد يظل موضوع المعرفة هو هو، ولكن طريقة معالجته والأدوات الذهنية التي تعتمدها هذه المعالجة الإشكالية التي توجهها والحقل المعرفي الذي تتم داخله، كل ذلك قد يختلف ويتغير وعندما يكون الاختلاف عميقا وجذريا؛ أي عندما يبلغ نقطة اللارجوع، النقطة التي لا يمكن الرجوع منها إلى الطريقة السابقة، نقول: إن هناك قطيعة إبستمولوجية".(10)

يركز على الدور الأساسي للمفاهيم في قراءة النصوص، وكذلك لا يدعو إلى القطيعة مع التراث، بل إلى التخلي عن الفهم التراثي له، وأهم ما يجب التخلي عنه هو "القياس" النحوي والفقهي وكذلك الكلامي، الذي يربط الذات بالموضوع، ويتداخل بين ما هو المرء والموضوع الذي يعالجه. إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث، بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث (11).

والجابري يركز على فصل الذات عن الموضوع عند دراسة موضوع شائك كالتراث، بينما يمكن استعمال أي منهج في قراءة مواضيع أخرى، لكن اللافت أن الذات مع التراث تتصل لذلك المنهج الذي يجب اتباعه يجب أن يفصل لنا بين الذات والموضوع لكي تبني على أساس جديد مجددا.

والمشكلة التي نواجهها، الآن هي فصل الذات عن الموضوع او مشكلة الموضوعية.

الخطوة الثانية: فصل المقروء عن القارئ…مشكلة الموضوعية

والموضوعية هي عدم إدخال الذات في الموضوع، والذات حسب الجابري هي الرغبات والميول، ويدعوا مفكرنا إلى الفصل التام بينهما؛ أي الذات والموضوع ولسبب أن القارئ العربي "مؤطر بتراثه ومثقل بحاضره".

ومؤطر بتراثه؛ بمعنى أن التراث يحتويه وأنه داخل التراث ولا يمكن أن يفكر أو ينقد بالطريقة الصحيحة.

وبالتالي، فعملية التفكير هنا ماهي إلا تذكر للماضي.

ويمكن دراسة التراث بالتراث لكن للحضارات الأخرى وليس للعربية؛ لأن لنا عائقا تاريخيا؛ لأننا عالقون في العصر الوسيط، وبين هذا الأخير إلى الآن هناك فجوة كبيرة؛ ومعنى مثقل بحاضره أي إنه مثقل بالرغبة في إشباع غريزته الفكرية، فالقارئ العربي يعيش تحت ضغط، مواكبة العصر والعصر يهرب منه (12).

إن القارئ العربي يحاول تلبية رغباته السابقة وأفكاره وتأويلها، لتكون ملائمة مع نص التراث الذي يدرسه.

ولفصل الذات عن الموضوع "يجب تجنب قراءة المعنى قبل قراءة اللفظ " (13)؛ أي تجنب الحكم السابق على النص، وكذلك تجنب التفكير في أشياء مسبقة وربطها مع التراث، ويجب قراءة النص بالنص والعلاقة الكامنة بين أطراف النص ككل.

بعدما تطرقنا إلى كيف نفصل الذات عن الموضوع، سوف نتطرق الآن لكي نفصل الموضوع عن الذات؛ وذلك من خلال ثلاث خطوات قال بها الجابري:

المعالجة البنيوية: وهذه الخطوة ذات أهمية بالغة؛ لأن بها نفهم متن صاحب النص الذي نحن بصدد قراءته ويجب معاملة فكر صاحب النص ككل، فيه ثوابت ويغتني بالتحولات التي يجريها عليها حول محور واحد. يتعلق الأمر أساسا بمحورة فكر صاحب النص حول إشكالية واضحة، قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص، حيث تجد كل فكرة من أفكاره مكانها الطبيعي (أي المبرر أو القابل للتبرير) داخل هذا الكل (14).

التحليل التاريخي: وهنا يجب الرد الاعتبار إلى الزمن الذي كتب فيه النص، وكذلك الأسباب التاريخية والسياسية والاجتماعية التي سمحت للنص أن يكتب أي رد الاعتبار لما قاله النص، وما كان لازما أن يسكت عنه وقراءة ما وراء السطور.

الطرح الإيديولوجي: يجب كشف المضمون الإيديولوجي للنص، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لجعله فعلا معاصرا لنفسه، مرتبطا بعالمه.

بعدما تطرقنا للموضوعية وفصلنا الذات عن الموضوع والموضوع عن الذات، نعيد وصل الموضوع "التراث" بنا.

الخطوة الثالثة: وصل القارئ بالمقروء…مشكل الاستمرارية

ليس التراث إنتاجا تاريخيا وحسب، إنتاج صنعه التاريخ والمجتمع، بل هو أيضا عطاء ذاتي إنساني لشخصيات دخلت التاريخ؛ لأنها استطاعت أن تتحرر، ولو نسبيا من قيود المجتمع والتاريخ (15).

إن الأمر بكل بساطة يتعلق هنا بقراءة ما وراء السطور، واختراق حدود اللغة والمنطق؛ لأن بعض الذوات من التراث لم تفصح عن أفكارها وذلك للظروف السياسية والاجتماعية وغير ذلك.

واختراق اللغة والمنطق يتم عبر الحدس، بالحدس تتلاقى الذات القارئة والذات المقروءة.

والحدس الذي يقول به الجابري ليس هو الحدس الصوفي ولا البرجسوني ولا الشخصاني… بل هو حدس أقرب للحدس الرياضي، أن به يقرأ القارئ "المقروء"، به تكتشف الأشياء التي سكت عنها الزمن.

‏هنا تقرأ المقدمات بنتائجها والماضي بمستقبله، وما كان بما "كان سيكون" فيندمج الموضوعي مع الأيديولوجي، ويتحول "المستقبل -الماضي" الذي كانت الذات المقروءة تتطلع إليه إلى "المستقبل- الآتي" الذي تجرى الذات القارئة وراءه…فيصبح المقروء المعاصر لنفسه، معاصرا لقارئه (16).

ونلجأ للحدس في قراءتنا للتراث؛ لأن التراث نفسه يقول بالقراءة بالحدس وعلى سبيل الذكر:

لقد تحدث الغزالي عن كتاب سماه "المضمون به على غير أهله" ولم يصلنا هذا الكتاب، والغالب أن الغزالي لم يكتبه أبدا … وتحدث ابن سينا عن كتاب بعنوان "الفلسفة المشرقية" قال عنه إنه أودع فيه آراءه الحقيقية، ولكن هذا الكتاب لم يصلنا هو الآخر، ولعل ابن سينا احتفظ به لنفسه "مضمونا به على غير أهله" (17).

ولمعرفة هذا المضمون به على غير أهله، يجب الخوض في تفاصيل فكر المقروء وقراءة ما وراء سطوره.

ولكن هل يمكن اليوم بما ضن به أسلافنا على غير أهله، بل على أنفسهم؟

هكذا طرح الجابري السؤال ليجيب عنه بأن وعي أبعاد هذا السؤال يجعلنا معاصرين لهم ويجعلهم معاصرين لنا على صعيد الوعي الواعي بتاريخيته…ومن خلال هذه "المعاصرة" المتبادلة تتحقق الاستمرارية: استمرارية تقدم الوعي من خلال البحث عن الحقيقة (18).

وهكذا لنصل إلى نتيجة واضحة، إنه للعودة للعيش في زمننا الحاضر بعقولنا لا بأجسادنا فقط، يجب المحو والقطيعة الصغرى مع التراث، والجابري نادى بالقطيعة الصغرى عكس من نادوا بالقطيعة الكبرى والمتوسطة. وعبر الخطوات الثلاث لقراءة التراث، يمكن فهم التراث فهماً موضوعياً يوصل بذلك القارئ مع المقروء، لنصل إلى فهم صحيح للتراث، والجابري لم يكتف بوضع منهج لدراسة نصوص التراث، بل درس التراث ودرس عدة مفاهيم، كمفهوم التراث نفسه، وقال بتبيئة المفاهيم أيضا أي إسقاط المفاهيم الغربية على مفاهيمنا للفهم القضايا العربية المعاصرة، وهكذا نصل إلى القول إن الحضارة الإسلامية يمكنها العودة إلى الحياة التي كانت تحياها في القرون الوسطى والازدهار الذي عايشته، وهذا بخطى ثابتة وبطيئة يمكننا أن نصل إلى تنوير عربي.

 

المصادر والمراجع:

هاشم صالح، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار ؟!، دار الطليعة، بيروت، 2016، ص 9 نفسه ص9 يمنى طريق خولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، الأصول _الحصاد_ الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، ديسمبر 2000، ص 34 هاشم صالح، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار ؟!، دار الطليعة، بيروت، 2016، ص 10 محمد عابد الجابري، نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993، ص 13 نفسه ص 13 نفسه ص 13 نفسه ص 14 نفسه، ص 14 نفسه، ص 20 نفسه، ص 21 نفسه، ص 23 نفسه، ص 23 نفسه، ص 24 نفسه، ص 25 نفسه، ص 25 نفسه، ص 26 نفسه، ص 26