الحق في النسيان في زمن الأنترنيت نهاية النسيان: التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي

فئة :  قراءات في كتب

الحق في النسيان في زمن الأنترنيت نهاية النسيان: التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي

الحق في النسيان في زمن الأنترنيت

نهاية النسيان: التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي[1]

تأليف: كيت إيكورن

ترجمة: عبد النور خراقي

يعالج الكتاب إحدى الإشكاليات العويصة التي تثيرها وسائل التواصل الاجتماعي، ويتعلق الأمر بإشكالية التذكر والنسيان. وإذا كان العيش في فترة ما قبل هذه الوسائط يتيح إمكانيات متعددة للتخلص من الصور، لاسيما المزعجة منها، أو التي تؤرخ للحظة سيئة أو موقف غير مرغوب فيه، فبالتالي تتيح إمكانيات كبرى للنسيان، فإن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل التكنولوجية من هواتف نقالة ولوحات إلكترونية، وانتشار شبكات المعلوميات في مختلف أرجاء العالم وتزايد عدد مستخدميها، يجعل من التخلص من الماضي؛ من الصور والذكريات والمواقف أمر مستحيل لاسيما بالنسبة للأطفال والمراهقين.

استحالة التخلص من صور ومقاطع الفيديو المتعلقة بالماضي يطرح تأثيرا كبيرا وخطيرا على مستقبل الأطفال، فتدمير آثار الماضي التي لا يرغب الأطفال في العيش معها، من خلال التخلص من الصور المحرجة، لم يعد سهلا، أو ربما غير ممكن؛ فالصور قد تكون محفوظة هنا أو هناك؛ في الهواتف واللوحات الرقمية، وفي وسائط التواصل الاجتماعي، وفي أي لحظة قد تظهر لتدمر مستقبل الشخص أو تهدده في وظيفته أو عائلته.

وتذهب كيت إيكورن إلى أن آثار الماضي أصبحت متصلة بالشبكة، ولم تعد تحت سيطرتنا، فعلاقتنا بالماضي أصبحت خارجة عن سيطرتنا.

إن علاقة الإنسان بالصور عرفت تطورات مذهلة، فبداية من التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر، وصولا إلى عصر وسائط التواصل الاجتماعي مرورا بالأفلام والفيديوهات المنزلية، حيث انخفضت التكلفة المادية للتصوير والتسجيل، وتراجعت الرقابة على الأطفال والمراهقين والنساء. إن التحول الديمقراطي لتكنولوجيا التصوير والفيديو أفضى إلى ارتفاع مهول في عدد من الصور ومقاطع الفيديو التي يتم التقاطها يوميا، حيث أصبح إنتاج ذلك مجانا، فقد انتقل هذا الرقم من 80 مليار صورة حول العالم سنة 2000 إلى تريليون صورة في عام 2015، %75 منها صورت بهاتف محمول، كما أفضى إلى جعل الأطفال والمراهقين حاضرين ومؤثرين وفاعلين في هذا المجال.

غير أن هذا التطور المذهل بقدر ما يعبر عن تحرر الأطفال من رقابة العائلة والوالدين، فإنه يطرح الكثير من المخاطر، يمكن إجمالها فيما يأتي:

أولها: استحالة محو البيانات عبر الأنترنيت المتعلقة بالأطفال، والتي يمكن أن تكون مضرة لحاضرهم ومستقبلهم؛ ذلك أن تجربة أن ننسى وأن نُنسى والتي لا يخفى على أحد أهميتها وفائدتها النفسية، أصبحت مستحيلة في عصر الانترنيت، فالخروج من الأنترنيت لا يعني موت بصمتنا الرقمية؛ إذ إن البيانات التي تركناها تظل مستمرة. ونظراً لتأثير استمرارية البيانات الشخصية على الأفراد خصوصا الأطفال والمراهقين، فإن الكاتبة تشدد على ضرورة حماية المراهقين في فضاء الأنترنيت ليس فقط من المتربصين بهم، وإنما أساسا من أنفسهم، وذلك عبر إرساء آليات وقنوات تتيح للأطفال والمراهقين التخلص من ماضيهم الالكتروني، أو جزء منه. وتشيد الكاتبة في هذا الإطار بالمحاولات الأولى للتنظيم القانوني لهذه المسألة في كل من الاتحاد الأوروبي وبعض الولايات الأمريكية القليلة، ككاليفورنيا والتي تقر بحق القاصرين في حذف بياناتهم الشخصية.

وثانيها: شهرة الأطفال والمراهقين عبر الأنترنيت، ذلك أن الشبكة العنكبوتية أتاحت للمراهقين والأطفال إمكانيات عظمى للشهرة إما بفضل توظيفهم من طرف عائلاتهم، أو من تلقاء أنفسهم. وقد تزايد عددهم بشكل مهول في العقد الأخير، فعلى سبيل المثال في دراسة أجريت عام 2016 على 127 أمًّا، تم التوصل إلى أن %98 منهن حملن صورة لمولودهن الجديد على الفيسبوك، و%80 من الأمهات أظهرن الطفل في صورة صفحتهن الشخصية؛ وفي دراسة أخرى أجريت عام 2015 على 2000 أب بريطاني، تم التوصل إلى نشر كل والد، في المتوسط، ما يقرب من 200 صورة فوتوغرافية لأطفالهم عبر الأنترنيت. فنشر الصور ومقاطع الفيديو وتداولها بشكل كبير، وتحول عدد من الأطفال والمراهقين إلى مشاهير، ينتهك خصوصياتهم ويكشفها، لكونه لا يوثق اللحظات الشيقة فحسب، وإنما يوثق كذلك أخطاء المراهقين بشكل لا يمكن توقيف تداولها، كما قد يكون للشهرة آثارا مدمرة لمستقبل الأطفال والمراهقين، كالانحراف والانتحار والإفلاس، لاسيما أمام غياب قوانين تحمي معاملاتهم وأرباحهم.

وثالثها، خطر التنمر السيبراني، الذي يعتبر نتيجة لتزايد حضور الأطفال والمراهقين في الفضاء الإلكتروني وتزايد ظاهرة التشهير الجماهيري الجماعي، والذي تكون له آثارا وخيمة على حياة المراهقين ومستقبلهم تصل حد الانتحار؛ ذلك أن العار لا يمحيه تغيير المدارس ولا محل السكن. إن سلب الخصوصية يؤدي في الكثير من الأحيان إلى سلب الحياة.

ونظراً لهذه الخطورة، فإن الكاتبة تشدد على أهمية حماية الأطفال والمراهقين من التداول غير المنظم لبعض المقاطع والصور.

ورابع هذه المخاطر يتمثل في تزايد إمكانيات التتبع والمراقبة؛ فإذا كانت الهجرة في الماضي والخروج من المنزل يعني فقدان الصلة بالعديد من المعارف والأصدقاء، وما يعنى ذلك، من إمكانية التخلص من الاتصال والصلة بالماضي، الذي لا يكون دائما جيدا وماتعا، فإن اليوم وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجي الحديثة غيرت الزمان والمكان، وأصبح فقدان الاتصال بالماضي أمر صعب التحقق، ليس فقط لأن منصات التواصل الاجتماعي تُنْقل معنا المكان والزمان والماضي، حيث يسهل أمر التعرف على الأشخاص، وإحياء الصلات بالماضي بكل يسر، وإنما بسبب تزايد تقنيات التعرف على الوجه، وتقنيات التتبع والمراقبة، وتزايد عدد الهواتف المجهزة بالتتبع وانتشارها، لاسيما أمام انخفاض تكلفتها.

وقد أصبح تطبيق "العثور على أصدقائي" الذي يسمح للأشخاص بتحديد موقع الأصدقاء الذين وافقوا على مشاركة موقعهم، واستخدام أجهزة لتتبع الأطفال الصغار جدا غير القادرين على حمل هواتفهم.. ممارسات شائعة ومنتشرة بشكل متزايد. كما أصبحت تقنيات التعرف على الوجه أكثر ذكاء، بفضل تطبيق فيسبوك وغوغل وغيرهم من الفاعلين المعلوماتيين لبرامج تحسين تقنيات التعرف على الوجه، وبالرغم من أهميتها التواصلية، إلا أنها تحمل مخاطر كبيرة على الخصوصية، فعلى سبيل المثال أصبحت إمكانية التعرف على الشباب المشاركين في الاحتجاجات أكثر سهولة وأكثر دقة بفضل تقنية التعرف على الوجه وتحديد المكان والزمان.

وخامس هذه المحاطر، صعوبة الاختفاء الرقمي؛ إن البيانات التي يتركها الأشخاص في المنصات الرقمية، والتي تشكل جزءا من البصمة الرقمية للأفراد، ويمكن أن تؤثر على مستقبل الشباب الدراسي أو الوظيفي، يصعب حذفها؛ ذلك أن الاختفاء الرقمي أصبح صعبا إن لم نقل مستحيلا، ليس فقط لأننا نعيش ونحضر جميعا في الفضاء الرقمي، وإنما لأن الاختفاء يتعارض مع الأجندات التكنولوجية والاقتصادية للفاعلين في هذا المجال.

فالنسيان في اقتصاد القرن 21 أصبح متعارضا مع مصالح الشركات التكنولوجية؛ إذ إن البيانات اليوم أصبحت موردا مثلها مثل الموارد الاقتصادية الأخرى، والقيمة المالية لبعض المنصات تزايدت بفضل البيانات الكبرى التي تملكها. فعلى سبيل المثال منصة انستغرام يمكن أن تصل قيمتها إلى مليار دولار، فالبيانات المخزنة توظف من قبل الشركات لتحقيق أرباح اقتصادية وحتى سياسية.

إننا أمام ظاهرة جديدة تسميها المنظرة الإعلامية جودي دین Jodi Dean بالرأسمالية التواصلية، حيث تذهب إلى أنه في ظل هذه النسبة الاقتصادية المهيمنة في جميع أنحاء العالم المتقدم، فإن الشيء الوحيد المهم هو التداول، أما محتوى أي مساهمة فهو أمر ثانوي.

إن استمرار إنتاج البيانات، يعني مزيد من الازدهار للنظام الاقتصادي الحالي، فحتى الرسائل والفيديوهات التي يرسلها النشطاء عبر منصات التواصل من قبيل فيسبوك، وتويتر، وانستغرام، بالرغم من طابعها السياسي، فإن الشركات يمكن لها استرداد الكثير من العائدات؛ ذلك أن كل تغريدة وكل تحديث على فيسبوك، وكل صورة منشورة على انستغرام تنتج بيانات يمكن بدورها تشغيلها لأهداف وأغراض لا علاقة لها بمضمونها، أي بمضمون الصور والفيديوهات. والمنصات الكبرى مثل الفيسبوك وانستغرام وسناب شات تبتكر وتطور طرقا لضمان إنشاء المستخدمين مزيداً من البيانات.

وتبعا لذلك، فإن الانسحاب من الفضاء الالكتروني لم يعد سهلا، وأصبحت تكلفة النسيان باهظة، لأن الأمر لا يتعلق بالمعنيين الأفراد، وإنما الأمر أضحى مرتبطا بفاعلين تكنولوجيين وتجاريين يستثمرون البيانات، فللنسيان في الفضاء الإلكتروني عواقب اقتصادية كبيرة.

وتؤكد كيت إكورن أن النسيان مرتبط بالحرية، فأن تنسى وينساك الآخر مرادف لحرية الفرد في إعادة تخيل الذات في الحاضر والمستقبل، غير أن وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الكبرى، وضعت حدا للنسيان/موت النسيان، خاصة لدى الشباب، وهو ما سيؤثر تأثيرا عظيما في مستقبلهم.

[1]- منشورات: عالم المعرفة العدد 503.