الحقل الديني المغربي وتحدي التدين السلفي الوهابي قراءة في كتاب "في نقد العقل السلفي" لمنتصر حمادة
فئة : قراءات في كتب
الحقل الديني المغربي وتحدي التدين السلفي الوهابي
قراءة في كتاب "في نقد العقل السلفي" لمنتصر حمادة[1]
شكلت موجات ما سمي إعلاميا بـ "الربيع العربي" فرصة تاريخية لصعود الإسلاميين إلى الركح السياسي والاجتماعي بشكل قوي وغير مسبوق في تاريخ المنطقة العربية؛ وذلك بعد أن تمكنوا من الفوز في انتخابات رئاسية وتشريعية والانتقال إلى موقع السلطة في كل من تونس ومصر والمغرب. فهذا التحول السياسي جعل من الحركات والتيارات الإسلامية (الإخوان المسلمين والسلفيين) المستفيد الأساسي من رياح التغيير التي هبت على الدول العربية، وأعاد مجددا إلى أروقة النقاش السياسي إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، وقضايا الدولة والدين والسياسة والهوية، نظرا إلى البروز اللافت لقوى "الإسلام السياسي" بمختلف أجنحتها على الساحة العربية بعد أحداث "الربيع العربي".[2]
لم يكن الإسلاميون المغاربة بعيدين عن مجريات هذا التحول الاستراتيجي في العالم العربي بفضل الدينامية الاحتجاجية التي أطلقتها حركة 20 فبراير في وقت مبكر من الحراك العربي، والتي مكنت حزب العدالة والتنمية من الوصول إلى مسؤولية تدبير الشأن الحكومي بعد حصوله على أكبر عدد من مقاعد البرلمان المغربي. أما التيار الثاني من الإسلاميين المغاربة، وهو التيار السلفي، فقد وجد نفسه على محك الاختبار وطرأت تحولات جذرية وغير مسبوقة على بيته الداخلي وخلطت أوراقه بالكامل.[3]
لقد مثل الحراك السياسي والاجتماعي العربي نقطة تحول تاريخية في المسار المعاصر للتيارات السلفية، إذ قررت جماعات وتوجهات سلفية ولوج بوابة العمل السياسي والحزبي والمشاركة في النقاشات السياسية والإعلامية والثقافية في المجال العام ابتداء من المشهد المصري مرورا بالمشهدين التونسي والمغربي بدرجة أقل. فالمرحلة الجديدة لم تكن بلا تكاليف؛ ففي مقابل المكاسب السياسية والظهور على العلن والبروز الإعلامي والنفوذ الجديد في المجال العام بصورة خاصة في دول "الربيع العربي"[4]، فإن هذه التحولات وضعت السلفيين تحت مجهر البحث الأكاديمي في حقل العلوم الاجتماعية من أجل دراسة الأسباب العميقة وراء الصعود الملفت للتيارات السلفية، وفهم أنماط تفكيرها وتوجهاتها وخلافاتها ومواقفها من القضايا السياسية والدينية البارزة في المجتمعات العربية.
وفي هذا السياق، تأتي أهمية كتاب "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجا" للباحث المغربي في الفكر الإسلامي "منتصر حمادة"، باعتباره محاولة علمية لفهم السياقات التاريخية لظهور التيار السلفي في المغرب، وتفكيك خطابه وأدبياته ومراجعاته الفكرية بشكل نقدي، ودراسة العوامل التي ساهمت في بروز المرجعيات السلفية الوهابية في العالم العربي بشكل عام، وفي المغرب بشكل خاص، إبان الحراك "الثوري" العربي، وأهم معالم تفاعلها النظري والعملي مع أحداث وتمثلات هذا الحراك.
صدر هذا العمل سنة 2014 عن "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" ونشره المركز الثقافي العربي، ويمكن اعتباره تتمة للأبحاث التي اشتغل فيها الباحث المغربي منتصر حمادة منذ سنوات حول "الظاهرة الإسلامية الحركية"، حيث ألف كتابات عديدة في الموضوع أبرزها:
- الإسلاميون المغاربة واللعبة السياسية: إكراهات المقاطعة وإغراءات المشاركة، سنة 2003.
- قراءة في نقد الحركات الإسلامية: بين الأصولية الجديدة وما بعد الإسلام السياسي، سنة 2007.
- نحن وتنظيم القاعدة، سنة 2007.
- في نقد تنظيم القاعدة: مساهمة في دحض أطروحات الحركات الإسلامية الجهادية، سنة 2010.
- زمن الصراع على الإسلام: التدافع الكوني على أنماط التدين الإسلامي بين الشرق والغرب، سنة 2011.
- الوهابية في المغرب، سنة 2012.
يحاول الباحث منتصر حمادة في كتابه "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجا" دراسة التدين الإسلامي الحركي في شقه السلفي الوهابي من خلال نموذج تطبيقي يهم المجال التداولي الإسلامي المغربي بالتحديد، وقد برر الباحث هذا الاختيار باستبعاد التفاصيل والسياقات التي تقتضيها دراسة "طبائع التدين في باقي الدول العربية والإسلامية"، مع وعيه بأن التحولات الجارية على مستوى طبائع التدين في الساحة المغربية "تنطبق بشكل أو بآخر على تحولات تطال أنماط تدين في العديد من الدول الإسلامية، وحتى في أوساط الأقليات الإسلامية وبخاصة في القارة الأوروبية"[5]، وبذلك يمكن اعتبار عمله جامعا بين الشق النظري والشق التطبيقي في قراءة معالم الخطاب السلفي الوهابي في العقدين الأخيرين بالمغرب.
يفتتح الباحث كتابه بسؤال جوهري "ما طبيعة التدين الذي نريد؟"، وهو السؤال الذي جاء كنتيجة للصدمات التاريخية التي عاشها العالم العربي، وأبرزها اعتداءات 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، وصدمة اندلاع أحداث "الربيع العربي" سنة 2011[6]. وانطلاقا من هذا السؤال، يوضح الباحث السياق العام الذي جاء فيه كتابه، وهو الصعود الملفت للمرجعيات السلفية الوهابية، باعتبارها إفرازا للصدمات السالفة الذكر، سواء تجسد ذلك في تيارات سلفية أو حركات وأحزاب إسلامية تنهل من مرجعية سلفية في خطابها وأدائها الميداني، وأصبحت تراهن على الإمساك بزمام السلطة الزمنية الحاكمة أو تسهم في التدبير الحكومي.[7].
يطرح الباحث في مقدمة عمله الاعتبارات التي دفعته إلى الانخراط في هذا العمل، وهي: التواضع الجلي للأدبيات النقدية التي راهنت على نقد الخطاب السلفي. إضافة إلى المساهمة في تفعيل أبسط مقتضيات "مسؤولية المثقف"، ولا يخرج العنوان الأبرز لهذه المسؤولية عن "قول الحقيقة" ضد مختلف الأنظمة التي تحتكر النطق باسم الإنسان والذات والهوية والدين. وأخيرا تفاعلات أحداث "الربيع العربي" التي - حسب الباحث منتصر - "أعادتنا تقريبا إلى مراتب دنيا في مشاريع النهضة والتحديث والإصلاح كما طرقها العقل الإسلامي الجمعي في شقه الإصلاحي"[8]. وبحكم أن الكتاب يعالج موضوع السلفية الوهابية في المغرب فإنه تأسس على أرضية مفاهيمية؛ لأن الباحث منتصر حمادة عندما تحدث في كتابه عن التيار السلفي المعاصر أو "النزعة السلفية" أو حتى "العقيدة السلفية"، فإنه يقصد النزعة السلفية في نسختها الوهابية أو "السلفية الوهابية" دون سواها، والتي يمكن تلخيصها في شعار سلفية "التصفية والتربية" بتعبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.[9]
يتوزع كتاب "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجا" بين أربعة فصول مترابطة فيما بينها ومرتبة بناء على نسق إشكالي ومنهجي؛ فالفصل الأول المعنون بـ "التدين المغربي وصدمة السلفية الوهابية" ينطلق فيه الباحث منتصر حمادة من سؤال جوهري "من أين جاء السلفيون المغاربة؟"[10]، ليرصد التحولات التي شهدتها معالم التدين في المجال التداولي المغربي جراء الهزة الفقهية العنيفة التي تعرضت لها بسبب تبني سياسة "استيراد" الأدبيات السلفية الوهابية طيلة عقود مضت في إطار توظيفها من أجل حسابات سياسية وأمنية معينة، وهو ما يتطلب اليوم من الفاعلين الدينيين الرسميين فتح النقاش لتقييم سياسات تدبير الشأن الديني في المغرب.[11]
جاء الفصل الثاني تحت عنوان "مسؤولية المثقف وتحدي السلفية الوهابية"، عمل فيه الباحث على تقديم مستويات الاشتباك مع الخطاب السلفي الوهابي على المستوى النظري والمؤسساتي ومآزق هذا الاشتباك، خاصة أن واقع التيار السلفي الوهابي في المجال التداولي الإسلامي المغربي أنتج مجموعة من التحديات العقدية والمذهبية والسلوكية على صناع القرار، وعلى الرأي العام مع إصرار الأدبيات السلفية الوهابية على اعتبار أهم مميزات التدين المغربي لا تندرج في سياق "الإسلام الصحيح" أو "الإسلام النقي" أو تدين غير محسوب على "أهل السنة والجماعة"[12]. من هنا يطرح الباحث حمادة في هذا الفصل ضرورة انخراط أهل النظر والفكر في التصدي المعرفي للأطروحات السلفية الوهابية التي تعرف حضورا متزايدا في العديد من ربوع المجالات التداولية الإسلامية.
يتوقف الباحث منتصر حمادة في الفصل الثالث من الكتاب الذي حمل عنوان "وقفات نقدية مع المراجعات السلفية" عند السياقات الخارجية والداخلية التي عجلت بصدور مراجعات عن التيار السلفي "الجهادي" بالمغرب، وأبرزها صدمة أحداث 11 سبتمبر/ أيلول2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وصدمة تفجيرات الدار البيضاء يوم 16 مايو/ أيار 2003، محاولا في هذا الفصل وبشكل نقدي توضيح أعطاب المراجعات السلفية، وأهمها عطب المقاربة الأمنية التي رغم أنها ساهمت في التعجيل بصدور هذه المراجعات، فإنها أثبتت محدودية أفقها الاستراتيجي في تسوية ملف المعتقلين السلفيين. إضافة إلى الأعطاب الذاتية والموضوعية التي ساهمت في إعاقة تفعيل "المراجعات" الفقهية في تجلياتها المغربية.[13]
يختم الباحث كتابه بفصل رابع عنونه بـ "الخطاب السلفي وتحولات الربيع العربي"، حيث تدارس فيه أهم معالم التفاعل النظري والعملي للسلفيين المغاربة مع أحداث "الربيع العربي" في نسخته المغربية التي ساهمت بشكل واضح في زعزعة العديد من قناعات رموز التيار السلفي في المغرب ودفعتهم إلى الانخراط في النقاش السياسي والدستوري، وهو ما يبرز من خلال مواقف التيارات السلفية المغربية من المسألة الدستورية التي تندرج ضمن ملف أكبر يحمل عنوان موقف هذه التيارات من العمل السياسي[14]، ولعل أوضح مثال طرحه الباحث منتصر ويعبر عن الدور الذي لعبه السلفيون المغاربة إبان الحراك المغربي هو لجوء الدولة المغربية إلى خطاب سلفي تقليدي تمتح مرجعيته من خطاب "قروسطي" يضفي القداسة والهالة على السلطة السياسية، ويستدعي أحكاماً ومقولات تراثية بعيداً عن الواقع السياسي وعن مقاصد الشريعة في التعامل مع السلطة[15]، وذلك في إطار النقاش المجتمعي حول تعديل الوثيقة الدستورية في المغرب آنذاك.
يمكن القول أخيرا، إن "الربيع العربي" وتجلياته المغربية ممثلة في الدينامية السياسية والاجتماعية التي عاشتها البلاد سنة 2011، وفرت للتيارات السلفية فضاء مناسبا للتطور الفكري والسياسي ودفعتها لتسجيل حضورها على الساحة السياسية، وهو ما يدفعنا إلى التأكيد على أن المرحلة الحالية التي تعيشها "التيارات السلفية" بمختلف مدارسها وتوجهاتها هي الأنسب زمنيا ومعرفيا لوضعها تحت مجهر البحث لخلخلة جهازها المعرفي، ومعرفة مسارات وآليات تغلغل "الإبستيم السلفي" في المجال التداولي المغربي ومؤسساته الدينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاشتباك الفقهي مع الخطاب السلفي الوهابي أشبه - كما يقول الباحث منتصر في كتابه - بالدخول إلى حقل ألغام عقدية ومذهبية وسلوكية، بحكم أننا نشتبك مع أحد أبرز "أنظمة الحقيقة" في المجال التداولي الإسلامي الذي يعتبر نفسه تجسيدا للـ "الإسلام الصحيح"[16]، وهو ما يتطلب الشجاعة الأدبية من طرف المثقفين والباحثين والتسلح بالعدة المعرفية والمفاهيمية للعلوم الاجتماعية للحفر في العقل السلفي.
[1] - مجلة ذوات العدد36
[2] مجموعة من الباحثين: مقاربات في إشكالية الدولة في خطاب الإسلام السياسي، إعداد: عبد الله إدالكوس، سلسة أبحاث (1)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ط1، الدار البيضاء- بيروت، المركز الثقافي العربي، 2014، ص 7
[3] سمير الحمادي: الحالة السلفية: بين المدافعة السياسية والمدافعة الجهادية، تقرير الحالة الدينية في المغرب (2013-2014)، إعداد وتنسيق: منتصر حمادة- سمير الحمادي، ط1، الرباط، مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، 2014، ص 123
[4] محمد سليمان أبو رمان وآخرون: أوراق ونقاشات مؤتمر "التحولات السلفية": الدلالات، التداعيات والآفاق، عمان، مؤسسة فريدريش إيبرت - مكتب عمان، 2013، ص 9
[5] منتصر حمادة: في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجا، ط1، الدار البيضاء- بيروت، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث والمركز الثقافي العربي، 2014، ص 8.
[6] المرجع نفسه، ص 7.
[7] نفسه، ن. ص.
[8] نفسه، ص 10
[9] نفسه، ص 23
[10] نفسه، ص 38
[11] نفسه، ص 68
[12] نفسه، ص. ص 72-73
[13] نفسه، ص 185
[14] نفسه، ص 224
[15] محمد أبو رمان: السلفية والسلفيون، جريدة الغد، الجمعة 2 نونبر/تشرين الثاني 2007، على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.alghad.com/articles/546220.
[16] منتصر حمادة: في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجا...م.س، ص 9