الحقيقة والشريعة
فئة : مقالات
عرفت ثقافة القرون الوسطى سجالا طويلا حول التوفيق بين الحقيقة والشريعة؛ أي بين ما تقول به الحكمة العقلية وما يقول به الدين، ثم فيما إذا كان يصحّ إخضاع النصوص الدينية لتحليل عقلي برهاني، أم ينبغي التسليم بها من دون ذلك؟ شغل لاهوت الأديان السماوية بهذه القضية لقرون عدة بسبب هيمنة النموذج اللاهوتي القديم للفكر، وهو النموذج الذي انهار جزء منه بسبب الكشوفات العقلية والعلمية في العصر الحديث، لكنه لم يزل نافذا لدى أتباع بعض الديانات التي لم يسمح للعقل بعد بفحصها، وتجريدها من الغلوّ اللاهوتي الذي استوطنها، إلى درجة يستأثر اللاهوت فيها بمكانة كبيرة في بعض المجتمعات التقليدية، فكأن التاريخ يعيد نفسه إلى ما شغل الأجداد به قبل نحو ألف سنة؛ فالزمن الدائري يعيدنا إلى اللحظات الأولى كأننا في حلقة مفرغة، فيما أخذ العقل الحديث بفكرة الزمن الخطي الذي يمضي إلى الأمام من دون احتمال أية عودة إلى الوراء.
يصحّ اعتبار التحوّل من الجوهر الديني للرسالات السماوية إلى السجال اللاهوتي حولها المهدّد الحقيقي للأديان كافة، ذلك أن الأديان رسائل أخلاقية واعتبارية، فيما اللاهوت نظام من الفرضيات التي تضيّق الخناق على البعد الأخلاقي والاعتباري للدين. اللاهوت نظام متلازم من الحقائق المنطقية، وليس الواقعية، تهدف إلى تجريد الدين من حدود الزمان والمكان، وإطلاقه في فضاء لا حدود له. وانتهى الأمر بالأديان إلى أن ما يتحدّث به اللاهوتيون هو الدين الحقيقي، وهذا أمر يجافي الحقيقية، فقد ظهرت العقائد قبل اللاهوت، وآمن بها الناس بمعزل عن فرضياته، والحقّ، فاللاهوت ظهر نتيجة السجالات الصراعية بين رجال أرادوا احتكار الدين، واستقام مع الزمن، وفرض نفسه على أنه الدين نفسه. ومن أجل توضيح أبعاد هذه الفكرة أريد الوقوف على جانب منها في اللاهوت المسيحي، هو أمر له نظائر في الديانات السماوية الأخرى التي مرّت بالتجربة نفسها تقريبا.
معلوم أن اللاهوت الكنسي استقام على يدي القديس أوغسطين في بداية القرن الخامس الميلادي، وظل يمارس نفوذه طوال القرون الوسطى، وتكاد السجالات اللاهوتية اللاحقة تدور في الفضاء ذاته الذي شيده أوغسطين، إذ انغمر اللاهوتيون في جدالاتهم حول التوفيق بين العقل والشرع، إلى ذلك استأثرت موضوعات الكنيسة وسلطاتها الروحية ودورها الإرشادي وعلاقاتها بالمؤسسات المعاصرة لها، باهتمام نخبة من رجال الدين اللاهوتيين، أبرزهم القديس «كيرلس» والقديس «بندكتوس» والقديس «أوريجين» وغيرهم ممن فصّلوا كثيرا، وساجلوا أكثر، في كل الموضوعات الدينية والأخلاقية الخاصة بالمسيحية، وتضافرت تلك السجالات لتكوِّن «كتلة خطابية لاهوتية» ضخمة صهرها الزمن، فأصبحت مأثورا كنسيّا، استجاب في كثير من جوانبه للصراعات المذهبية والسياسية، فكان يعاد تشكيل المتن اللاهوتي للمسيحية على نحو يوافق المرجعيات القائمة.
معلوم أن اللاهوت الكنسي استقام على يدي القديس أوغسطين في بداية القرن الخامس الميلادي، وظل يمارس نفوذه طوال القرون الوسطى
اجتذبت قضية التوفيق بين العقل والإيمان اهتمام اللاهوتيين أكثر من غيرها، ومن ذلك أنّ القديس أنسلَم(1033-1109م)عاين الموروث الكنسي بما فيه الانشقاقات المذهبية التي ظهرت طوال القرون السابقة، فسعى لإيجاد توازن أكثر ثباتا بين الإيمان والعقل، علّ ذلك يكون له أثر في امتصاص الغلواء المتصاعدة هنا وهناك بسبب الأطر القاسية التي طورت الكنيسة مظاهر الخضوع لها. وكان أنسلم واضحا في دعواه التي يهتدي فيها بالموروث الأوغسطيني: إن التوراة والأناجيل والكنيسة لها عقائدها الإيمانية المفروضة على الإنسان، مثل وجود الله والتجسيد، ولا مرقاة للإنسان إلى هذه العقائد إلا طريق النقل، فالعقل عاجز عن أن يؤدي بالإنسان إليها، بيد أنّه متى ما وجد الإيمان، مال الإنسان إلى تعقّل تلك العقائد، ومال إلى البحث في موجباتها. ومؤدّى فكرة أنسلم أنّ المعرفة العقلية بالعقائد هي حالة تقع بين الإيمان المحض والمعاينة المباشرة للوجود الإلهي. تلك المعاينة الإشراقية- الكشفية التي وُعد بها المصطفون فقط.
هناك توتر إيماني منقسم بين التعقّل لموضوع الإيمان، والتصوف الذي ينشد يقينا مشدودا إلى غبطة الذات الإلهية مباشرة، يستعيد أنسلم جانبا من الجدل الأفلاطوني، فالحركة التي تتأدى من الإيمان إلى التعقّل، ومن التعقل إلى المعاينة، قريبة الصلة بالفكرة الأفلاطونية القائلة بأنّ الاعتقاد يفضي إلى التفكير الاستدلالي. إنّ هذا يؤدي إلى الحدس العقلي. أوجد أنسلم تناظرا بين التوراة والأناجيل والكنيسة، وناظر بين عقائد الكتب المقدسة و«عقائد» الكنيسة. وأكد أنّ الإيمان هو الذي يفضي إلى التعقّل، وكتابه «آمن كي تعقل» يوضح ذلك، ويفصح عن مقاصده، فالبدء بالإيمان وعكوف الإنسان على تأمّل ما يدور في نفسه أول اكتشاف للحقيقة، والتركيز على القلب يخلق موضوع التأمل نفسه، كما هو الحال عند الإشراقيّين.
عكف أنسلم على دراسة أفكار أوغسطين اللاهوتية، وتشبّع بها، وما «فلسفته» إلا روح أوغسطين في إعادة بناء جديدة في القرن الحادي عشر، بعد ظهور الجدل كمنهج للتفكير في هذه الفترة من العصر الوسيط. فهو يبدأ بالإيمان ضد أنصار الجدل، ويرفض إخضاع الكتب المقدسة لمناهج الجدل، فالإيمان هو المعطى الأول للإنسان، والعقل نفسه يفترض البدء بشيء آخر سواه، هو الإيمان، وبما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يفكر في لا شيء، فلا بد له من أن يعقل شيئا، ومن ثمَّ فهو عقل للإيمان. وقد نصّ الوحي على ضرورة التعقل، فالإيمان يفترض التعقّل، لكنه يعارض في الوقت نفسه خصوم الجدل، وذلك لأن البدء بالإيمان لا يحتمّ أبدا معاداة العقل والوقوف في وجه الجدل، فالإيمان يحتاج إلى عقل له، كما يحتاج العقل بالتالي إلى إيمان له، بل إنّ الحواريين وآباء الكنيسة لم يعارضوا تعقّل الإيمان، وفهم محتواه. وهكذا يشتق أنسلم طريقا بين عقل أنصار الجدل وإيمان خصوم الجدل، هذا الطريق هو عقل الإيمان.
وجّه أنسلم رسالته «آمن كي تعقل» إلى «كل من يحاول أن يعلو بنفسه نحو الله، وإلى كل من يحاول أن يعقل إيمانه» وهيمنت صيغ الدعاء والالتماس على أسلوبها، وهو رجاء محض موجّه إلى الذات الإلهية، واحتشدت بالخوف والتذلل، واختتم أنسلم فصلها الأول بالفقرة الآتية المعبّرة عن مقاصده «ربي لا أحاول أن أنفذ إليك في علاك، لأني لا أستطيع أن أصل إلى ذلك بعقلي، ولكنني أود أن أنفذ إلى حقيقتك التي يعتقدها قلبي ويحبها، لا أحاول أن أعقل كي أؤمن، بل أؤمن كي أعقل، لأني أؤمن أيضا أني لا أستطيع أن أعقل إن لم أؤمن». وفي الفصل الثاني يفصح عن مضمون فكرته، عارضا تصوّره بتفصيل، مناقشا موضوع وجود الله، وهو ما أصبح يصطلح عليه بـ«البرهان الوجودي». يقول: «ربي أنت الذي تجعلني أعقل الإيمان، فوفّقني أن أعقل بقدر ما تراه صالحا لي، إنك موجود كما نؤمن، وإنك موجود على النحو الذي نؤمن به. نحن نؤمن أننا لا نستطيع أن نتصور أعظم منك».
هدف أنسلم إلى تحقيق نوع من تعقّل الإيمان على غرار ما دعا إليه أوغسطين؛ فالإيمان يولد في النفس المحبة، والمحبة تدفع بالنفس إلى استعجال الرؤية الآجلة بالاستدلال. فالإيمان شرط التعقل. قال أشعيا: «إن لم تؤمنوا فلن تفهموا». ولا يوافق أنسلم الجدليّين في محاولتهم إخضاع الإيمان للمنطق؛ أي مناقشة موضوعه كما لو كان من الممكن ألا يكون صادقا. ويخالف معارضي المنطق في اقتصارهم على السنّة، فيقول إنّ الرسل والآباء لم يقولوا كل شيء، وإن الحقيقة أوسع وأعمق من أن يأتي البشر على آخرها، فالعقل في فحصه عن معاني العقائد لن يبلغ أبدا إلى إتمام إدراكها، ولكن له أن يذهب في الفحص إلى أبعد حدٍّ مستطاع، فحيث يتعذّر عليه الوصول إلى برهان ضروري، فقد يهتدي إلى تشابيه تقرّب للفهم معناها.
هذا الجدل اللاهوتي له نظائر كثيرة في الإسلام واليهودية، وهو فرضيات منطقية تحاول أن تستنطق الدين على وفق أحكام خاصة تؤدي إلى إنتاج أيديولوجيا دينية تهيمن على المؤمنين مع الزمن أكثر من هيمنة الأديان على قلوبهم.