الحقيقة واللامتناهي عند لفيناس
فئة : مقالات
سنعرض في هذا المقال لفكرة الحقيقة عند لفيناس لا بوصفها مفهوما نظريا، بل لارتباطها بفكرة اللامتناهي؛ أي باعتبار الحقيقة أعمق من الحدث المعرفي ومن القصدية الموضوعاتية، بل هي أعمق حتى من اللاتحجب (الانكشاف) ذاته، وما يمنحها هذا العمق هو الرغبة في اللامتناهي.
يبين لفيناس في كتابه الأساسي "الكلية واللامتناهي، بحث في البرانية" في الفقرة الثانية المعنونة بـ "الحقيقة" (ص 54-58) من القسم الثاني "الانفصال والخطاب" المندرج ضمن الفصل الأول "المماثل والآخر" من الكتاب المشار إليه أعلاه[1]؛ كيف ينتج الانفصال أو الأناوية على نحو أصيل في متعة السعادة، وكيف يؤكد الكائن المنفصل، في هذه المتعة، استقلالا ليس مدينا بشيء، من الجانب الجدلي أو المنطقي، للآخر الذي يظل بالنسبة إليه متعاليا. وهذا الاستقلال المطلق - الذي لا يطرح ذاته بالتضاد - والذي يسميه لفيناس نزعة إلحادية، لا يستنفد ماهيته في النزعة الصورية لفكر مجرد. إنه يكتمل في امتلاء الوجود الاقتصادي[2]. غير أن الاستقلال الإلحادي للكائن المنفصل - بدون أن يطرح بالتقابل مع فكرة اللامتناهي، التي تشير إليها علاقة ما - هو وحده يصير هذه العلاقة ممكنة. وهذا يعني أن ما يسميه لفيناس "الانفصال الإلحادي" هو مطلوب من خلال فكرة اللامتناهي الذي لا يثير، مع ذلك، الكائن المنفصل. لا تلغي فكرة اللامتناهي - العلاقة ما بين المماثل والآخر - الانفصال. وهذا حسب لفيناس مشهود في التعالي. بالفعل، ليس بإمكان المماثل أن يلتحق بالآخر سوى إذا تعلق الأمر بمخاطر البحث عن الحقيقة عوض أن يستكين إلى نفسه في أمان تام. بدون انفصال، لن تكون ثمة حقيقة، لن يكون سوى الكائن. إن الحقيقة - اتصال أدنى من التماس - في مواجهة خطر الجهل، والوهم والخطأ لا تقبض على "المسافة"، لا تصل إلى اتحاد العارف والمعروف، ولا تصل إلى الكلية. على النقيض من أطروحات فلسفة الوجود، لا يتغذى هذا الاتصال من تجدر قبلي في الوجود. ينتشر البحث عن الحقيقة في ظهور الأشكال. إن الطابع المميز لأشكال كهذه، هو بالتحديد تجل إشراقي لها عن بعد. ولذلك، يعتبر لفيناس أن التجدر هو صلة قبلية أصيلة، تتمكن من المشاركة، كإحدى المقولات السائدة للكائن، في حين أن فكرة الحقيقة تطبع نهاية هذه السيادة. المشاركة هي كيفية للإحالة إلى الآخر: إمساك ونشر لكينونته، من غير أن يفقد الصلة معه بتاتا. والقطع مع المشاركة، هو بالتحديد، إمساك بالاتصال، لكنه لا يسحب كينونته من هذا الاتصال: فيَرى من غير أن يُرى، ك Gygès[3]. لأجل ذلك، لا بد لكائن ما بوصفه جزءا من كل ما، يمسك بكينونة ذاته وليس بحدوده – ليس بتعريفه – أن يوجد مستقلا، فلا يخضع لا للعلاقات التي تدل على مكانته في الكينونة، ولا للاعتراف الذي يحمله له الغير. أسطورة جيجيس هي أسطورة الأنا عينها، كما هي أسطورة الجوانية التي تظل غير معترف بها. بالتأكيد، تلكم هي احتمالات كل الجرائم التي ظلت من غير عقاب – غير أن ذلك هو ثمن الجوانية، والذي هو ثمن الانفصال؛ إذ إن الحياة الجوانية، الأنا، والانفصال هم تقويض للتجذر عينه، عدم المشاركة، وبالتالي، الإمكانية المتساوية الحدين للخطأ والحقيقة. الذات العارفة ليست جزءا من كل، لأنه ليس مجاورا لأي شيء. استلهامه للحقيقة ليس رسما مقعرا للكائن الذي ينقصه. يؤكد لفناس أن الحقيقة تفترض كائنا مستقلا داخل الانفصال – فالبحث عن حقيقة هو تحديدا علاقة لا تستند على الحرمان من الحاجة. البحث والحصول على الحقيقة، هو أن يكون المرء على صلة، ليس لأننا نحد بشيء آخر غير الذات، بل لأنه لا ينقصنا شيء، بإحدى المعاني.[4] غير أن البحث عن الحقيقة، وهذا مهم بالنسبة إلى لفيناس، هو حدث أكثر عمقا من النظرية، مع العلم، أن البحث النظري، هو نمط مخصوص لهذه العلاقة بالبرانية التي نسميها حقيقة. لأن انفصال الكائن المنفصل لم يكن نسبيا، لم يكن حركة للابتعاد من الآخر، غير أنه ينتج كنفسانية، فلا تقوم العلاقة مع الآخر على إعادة تشكيل في اتجاه مضاد لحركة الابتعاد، بل على التوجه نحوه عبر الرغبة، التي تستعير منها النظرية عينها برانية حدها؛ لأن فكرة البرانية التي تقود البحث عن الحقيقة، ليست ممكنة إلا بوصفها فكرة اللامتناهي. تحول الروح نحو البرانية أو إلى مطلق الآخر أو اللامتناهي ليس راجعا للهوية حتى ولو كانت هوية هذه الروح، لأنها ليست على مقاس هذه الروح. فكرة اللامتناهي لا تنطلق إذن من الأنا، ولا من نقص في الأنا يقيس بالضبط هذه الفراغات. ففيها تنطلق الحركة من الفكر وليس من المفكر. إنها وحدها المعرفة هي التي تقدم هذه الصيغة - معرفة من غير ما هو قبْلي. تنكشف فكرة اللامتناهي بالمعنى الشديد للكلمة. ليس ثمة دين طبيعي. لكن هذه المعرفة الاستثنائية ليست قط موضوعية لأجل ذلك. اللامتناهي ليس "موضوعا" لمعرفة ما - ترده إلى نظرة المتأمل - بل هو المرغوب، الذي يحث الرغبة، أي ما يقارب بفكر الذي يفكر في كل لحظة أكثر مما يفكر. ليس اللامتناهي بذلك موضوعا ضخما، متجاوزا آفاق الرؤية. إنها الرغبة التي تقيس لا تناهي اللامتناهي، لأنها مقياس عبر استحالة القياس. الإفراط (ما لا يقبل القياس) المقيس بالرغبة هو الوجه. غير أننا بذلك، نجد تمييزا بين الرغبة والحاجة كذلك. الرغبة هي استلهام ينشطه المرغوب فيه؛ إنها تنشأ انطلاقا من "موضوعها"، إنها إلهام. في حين أن[5] الحاجة هي فراغ الروح، إنها تنطلق من الذات.
يتم البحث عن الحقيقة حسب لفيناس في الآخر، لكن من طرف من لا ينقصه شيء. المسافة غير قابلة للاقتحام، وهي في الآن ذاته، مقتحمة. الكائن المنفصل راض، مستقل، ومع ذلك، يبحث عن الآخر بحثا ليس مبعثه نقص الحاجة - ليس من قبل تذكر لخير مفقود - إن وضعية كهذه هي اللغة. تنبعث الحقيقة هناك، حيث إن كائنا منفصلا عن الآخر لا يتهالك فيه، بل يكلمه. اللغة التي لا تمس الآخر، مفعول التماس، تبلغ الآخر بمناداته أو بتوصيته، أو بطاعة كل استقامة لهذه العلاقات. يؤسس الانفصال والجوانية، الحقيقة واللغة مقولات فكرة اللامتناهي أو الميتافيزيقا.[6]
في الانفصال - الذي ينتج من قبل نفسانية المتعة، والمتعة، والسعادة، حيث تتحدد هوية الأنا - يتجاهل الأنا الغير. غير أن رغبة الآخر، الأسمى من السعادة، تقتضي هذه السعادة، وهذا الاستقلال للمحسوس داخل العالم، حتى ولو أن هذا الانفصال لا يستنبط لا من الآخر، لا بكيفية تحليلية، ولا بكيفية جدلية. إن الأنا المتحلي بالحياة الشخصية، الأنا الملحد، حيث إن الإلحادية من غير نقص ولا تندمج في أي مصير، يتجاوز ذاته، في الرغبة التي تأتيه من حضور الآخر. الرغبة هي رغبة في كائن حر سلفا: الرغبة هي بؤس السعيد، هي حاجة راقية.[7]
يوجد الأنا قبلا بمعنى بارز: لا يمكننا بالفعل تصوره كموجود أولا، والأكثر من هذا كموهوب السعادة، هذه السعادة تضاف إلى ذلك الوجود كصفة. يوجد الأنا كمنفصل بمتعته، أي كسعيد ومن أجل السعادة بإمكانه أن يضحي بوجوده المحض المجرد. إنه يوجد بمعنى بارز، يوجد فوق الكينونة. غير أنه في الرغبة، ما تزال تظهر كينونة الأنا أكثر علوا، ما دام يمكنه أن يضحي لأجل رغبته بسعادته نفسها. هو يوجد هكذا في الأعلى، أو على القمة، في أوج الكينونة بالمتعة (السعادة) وبالرغبة (الحقيقة والعدالة). ما فوق الكينونة. بالعلاقة مع مفهوم الجوهر الكلاسيكي - فإن الرغبة تتسم بوصفها تحولا. فيها يصير الكائن حِلْما: وهو في قمة كينونته، منشرحا بالسعادة، وفي الأناوية، يقوم كأنا، وها هو، إذ يحقق مجده القياسي، منشغلا بكائن آخر.
يمثل هذا في نظر لفيناس تحولا شديدا، ليس قط لإحدى وظائف الكينونة، الوظيفة المتحولة عن هدفها، بل هو تحول لتمرين كينونته، التي توقف حركتها التلقائية الوجود وتمنح معنى آخر لمديحها غير القابل للتجاوز.
إنها رغبة غير قابلة للإشباع، ليس لأنها تستجيب لجوع لا متناه، بل لأنها غير مدعوة للتغذية. وأنها رغبة لا تقبل الإشباع، لكنها ليست من قبيل تناهينا. يمكن تفسير الأسطورة الأفلاطونية للحب، ابن الرخاء والفقر، بوصفها عوز الثراء نفسه، كرغبة ليس في ما فقدناه، بل كرغبة مطلقة، ناتجة في كائن يتملك، وبالتالي فهو قبلا وبالتمام "على قدم"؟ ألم يقابل أفلاطون، وهو يقصي أسطورة الخنثوي التي يقدمها أرسطوفان، الطابع غير المشوق للرغبة وللفلسفة، مفترضا وجودا آهلا وليس منفى؛ وهي رغبة بمثابة تآكل لمطلق الكينونة بسبب حضور المرغوب فيه، وبالتالي فهو حضور منكشف، يحفر الرغبة في كائن ما، يبرهن على ذاته في الانفصال باعتباره مستقلا.[8]
غير أن الحب الأفلاطوني لا يلتقي مع ما يسميه لفيناس بالرغبة. ليس الخلود هدفا للحركة الأولى للرغبة، بل هو الآخر، الغريب. إنه ليس أنانيا بالمطلق، اسمه هو العدالة، هو غير متعلق بكائنات هي سلفا متقاربة. تقوم القوة العظمى لفكرة الخلق، كما جاءت بها النزعة التوحيدية، في أن ما يكونه هذا الخلق هو عدم سابق ليس لأن ذلك يمثل عملا أكثر إعجازا من الإخبار بخلق المادة، بل لأنه، بذلك، يكون الكائن المنفصل والمخلوق ليس منحدرا من أب، بل هو آخر بالمطلق. إن البنوة عينها لا يمكن أن تبدو جوهرية إزاء الأنا، إلا إذا احتفظ الإنسان بذكرى الخلق السابق على العدم، فبدونه ليس الابن آخر حقيقيا.
أخيرا إن المسافة الفاصلة بين السعادة والرغبة، هي التي تفصل السياسة والديانة. تنزع السياسة إلى الاعتراف المتبادل، أي إلى المساواة؛ فتضمن السعادة. أما القانون السياسي، فيكمل وينبري للصراع من أجل الاعتراف. وفق هذا المنظور يعتبر لفيناس الديانة بمثابة رغبة وليست صراعا قط من أجل الاعتراف. إنها الفائض الممكن في مجتمع المساواة، المتعلق بمجد التواضع، والمسؤولية والتضحية، شرط المساواة عينها.[9]
[1] - Emmanuel Lévinas, Totalité et Infini, Essai sur l’extériorité, Original édition Martinus Nijhouf, 1971,
[2] - Ibid. p54.
[3] - انظر جان فال "القاموس الذاتي"، في الشعر، الفكر، والإدراك، كالمان - ليفي، 1948. وذلك للمقابلة مع كيفية إمكان قول الأشياء شعريا، من "شخصيات عمياء".
[4] - Totalité et infini. p55.
[5] - Ibid. p56.
[6] - Ibid. p56.
[7] - Ibid. p57.
[8] - Ibid. p58.
[9] - Ibid. p57.