الحكي والأسطورة أية علاقة؟
فئة : مقالات
تختزن ثقافتنا الشعبية عددًا كبيرًا من نصوص الأدب الشعبي من أغاني وأمثال وأحاجي وحكايات، وهي نصوص لصيقة بطبقات الشعب بوصفها الوسيلة التعبيرية التي تتخذ منها الحكمة والعبرة في توجيه سلوكها اليومي، بل هي الثقافة التي تقوم وتهذب حياة الناس وتطهر نفوسهم من كل عنصر خارج عن الذات، إنها ثقافة الفطرة التي نحن في أمس الحاجة إليها، وهي ثقافة الفطرة، لأنها تنبع من الذات وتتجه نحو الذات لتقويمها وتهذيبها.
ولأن الشعب تربطه علاقات حسية شعورية، فإنه غالبًا ما يتلمس مثل هذه الأشياء في ثقافته الشعبية التي تنقله بنصوصها المختلفة من عالم التوتر والتناقض إلى عالم الهدوء والشمولية، ولعله في انتقاله هذا يغذي نفسه بتطهير داخلي مادته القيم النبيلة التي لم تعد حاضرة، بل هي في اختفاء مستمر أمام زحف الماديات الذي غطى القيم الإنسانية، وبدل أن يكلف الإنسان نفسه جهدًا في سبيل الحفاظ على قيمه التي تحتفظ بهويته انجرف وراء الماديات التي فرضتها المدنية الحديثة، وبدل أن يحافظ على ثقافته الفطرية التي تمنحه كيانه في البيئة التي ينتمي إليها، وتجعل منه فردًا فاعلاً في تقويم العقل وتهذيبه أولاً وتنميته ثانيًا، توجه إلى الاهتمام بصنوف حديثة من أشكال الإلقاء والحركة التي فرضتها فضائيات ما بعد الحداثة.
وأمام هذا التناقض، نجد أنفسنا أمام أسئلة تفرض نفسها علينا بإلحاح، ويمكن طرحها على الشكل الآتي:
- هل يمكن الإقرار بوجود ثقافة شعبية في الحقل الثقافي العربي؟
- هل تستطيع النصوص الشعبية بمختلف ألوانها أن تستوعب قضايا العصر لتعبر عنها؟
- هل النصوص الشعبية قادرة على الاحتفاظ بخصوصيات الثقافة الأصيلة في زمن العولمة ؟
من المسلم به أن لكل شعب ثقافته الخاصة به التي ينسجم معها انطلاقًا من قيمها وعاداتها ورموزها بوصفها خصائص تنمو من خلال تفاعل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، مما يؤدي إلى نمط حياتي يخص هذا المجتمع أو ذاك، يسهم في نموها وتطورها حتى ترقى إلى مستوى التأثير والإعجاب. لذلك نقر بأن الأمة العربية تختزن ثقافة شعبية غنية يمكن التزود بها، إن لم نقل التسلح بها لمواجهة أي غزو ثقافي، فإذا كانت الثقافة الغربية اجتذبتنا بتطورها التقني إلى درجة الانبهار والإعجاب، فإنه من الواجب علينا أن نطور من ثقافتنا باستثمار نصوصها وفق ما يتماشى مع طبيعة المرحلة التي نعيشها اليوم، وذلك بغرض تشييد نوع من التكافؤ بين الثقافات، وبالتالي يتحقق فعل التثاقف، إذ أن المثاقفة هي الوسيلة التي تسمح بالاستفادة والإفادة من الثقافات الأخرى، وليس هيمنة ثقافة على أخرى، أو ما يسمى بالانتشار الثقافي، إذ تصبح الثقافة الواحدة هي السائدة، بسبب الانبهار والإعجاب بالثقافات الأخرى، وهو ما يؤدي إلى الانهزام الثقافي الذي يسمح بالغزو الثقافي.
وبما أن ثقافتنا الشعبية هي الثقافة الأكثر تعبيرًا عن تفاعلات الحياة اليومية بوصفها ثقافة تنبع من الذات وتتجه نحو الذات، فإن شروط العصر بكل تحولاته تفرض علينا اليوم أن تخرج هذه الثقافة بكل أشكالها التعبيرية من دائرة الذات لتتجه نحو الآخر، حتى يطلع عليها ويعرف مضمونها وخصوصيتها، وهذا لا يتأتى إلا باستثمار النصوص وتطويرها وفق ما يقتضيه العصر، وبهذا قد يتحقق بعض التكافؤ بين الانبهار بالتقدم التقني والإعجاب بأشكال التعبير في الثقافة الشعبية، التي لا تخلو من إعجاب وإثارة تثير بال الآخر لينبهر بها ويجد نفسه يكررها ويمارسها في حياته اليومية، وبهذا تكون ثقافتنا الشعبية أدت دورًا مزدوجًا؛ تَمّثل الأول منها في الحفاظ على الخصوصيات الأصيلة لهذه الثقافة، وأصبح الثاني واجهة لثقافتنا عند الآخر، وبدل أن نعيش في دائرة الانبهار الثقافي الذي يؤدي إلى الغزو الثقافي، فإننا نمارس تبادل الثقافات بنوع من التكافؤ.
وتأسيسًا على ما سبق، تقتضي الضرورة المنهجية تحديد مفاهيم النصوص الشعبية وبيان الحدود الفاصلة بينها، وإن كانت صفة الشعبية هي الجامع بينها، حتى يتأتى للقارئ الكريم تكوين صورة متكاملة عن هذه النصوص، وبالتالي بيان إمكانية تطويرها حتى ترقى إلى مستوى المبادلة والإفادة.
1- الحكاية الشعبية
الحكاية نص شعبي يحتضن كل الأحداث والمشاعر الإنسانية، اشتق لغويًا من المحاكاة والتقليد، وأصبحت نصًا يحاكي الواقع في كل مستوياته، بما في ذلك الواقع النفسي الذي يمزج مادته الحكائية بين خيال واقعي وواقع خيالي، يؤسس لعوالم نصية تقوم على السحر والأسطورة والكنوز الخفية، ويرسم بوضوح ثراء الثقافة الشعبية بخيالها وواقعها، مع الحفاظ على الحدود الزمانية التي تربط الحاضر بالماضي البعيد واليوم بالأمس.
ولما كانت الحكاية الشعبية جزءًا لا يتجزأ عن الأدب الشعبي، فإنها عادة ما تعبر عن بيئة اجتماعية بما تحمله هذه البيئة من ميزات فنية وأدبية وصور أخلاقية وفلسفية وطقوس دينية، إذ تقدم على ضوء هذا صورة اجتماعية، غالبًا ما تكون الغاية من موضوعها الإصلاح والتوجيه والدفاع عن الحياة، حتى وإن احتوت على معتقدات ونزعات الإنسان البدائي بسلوكياته ومعتقداته التي تركن إلى السحر والغيب، وكل ذلك في سبيل معالجة قضايا الإنسان وتوجيهه نحو غاية أخلاقية وتربوية. (1) تقودنا هذه الوظيفة التي تؤديها الحكاية إلى الآتي: هل يمكن للحكاية الشعبية الصمود أمام التطور التكنولوجي والمعرفي المتراكم؟ هل يمكن للراوي معاندة المحكي المتكنج؟
إن الحكاية الشعبية في نصوصها الأصيلة تقوم على غاية قوامها التربية والتوجيه والتطهير، وعلى الراوي، لكي تصمد وتثبت وجودها، أن يطور هذه الغاية، ويجعل من حكايته محكيًا قادرًا على الجذب والإثارة، وينتقي لغة حكائية تستجيب لشروط العصر، عصر أصبحت الإنسانية تعيش فيه واقعًا منافيًا لروح الإنسانية التي يمكن للإنسان أن يكون فيها إنسانًا، فالإنسان اليوم أمام قوة الآلة وتراكم التقنية، تراجعت أخلاقه وبات يلهث وراء الربح المادي بأية وسيلة، وانتفت قيم المساواة والعدالة والمحبة، ولعل الحكاية الشعبية التي تضطلع بدور الوعظ والتوجيه عليها أن تعيد الإنسان إلى جادة الصواب عبر التطهير النفسي، وتذكره بالقوى الخارقة التي تفوق حدود العقل وقوة التقنية، فالراوي يجر السامع إلى الاعتقاد بأن ما يجري لا يتجاوز حدود الممكن والواقع، فيصوغ حكايات تمتح مادتها من الغريب والعجيب، لتصبح المادة تعبيرية لا تتناقض مع المألوف، بل تدفع السامع إلى الشعور بمزيد من الرغبة في الاستماع، فبفضل " الجو الخرافي الأسطوري وخلط التواريخ والتكرار ومتعة الحكي والحوار الذاتي لا يجتذبنا واقع الحكاية كنص فقط، وإنما تجتذبنا حكاية الواقع بكل ما يحمله من فواجع وآمال".(2 )
2- الأمثال الشعبية
للمثل في اللغة معان عديدة ومختلفة، منها الشبه والنظير، والمثال، والتمثيل (تشبيه شيء بشيء) والصفة، والخبر، والعبرة، والمقدار، والحذو 3)). قال أبو هلال العسكري: "أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام، كقولهم" كما تدين تدان"، وهو من قولك: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول شبهه وشبهه"(4) والمثل، فوق ما تقدم، هو عصارة تجارب شخصية وقعت وحدثت، ومواقف جربت فصحت، فتناقلتها الألسن، وحفظتها الذاكرة الجماعية. (5) والمثل هو تلك الجملة الوجيزة المعبرة عن واقعة معينة أو دالة عليها، وتطلق عادة للتذكير أو للتحديد أو لإعطاء المصداقية للحديث المراد إبلاغه.(6)
تفيد هذه التعريفات أن المثل الشعبي هو من فنون القول المعبرة عن تجربة إنسانية بأسلوب موجز ودقيق، تستمد منه الحكمة للاستفادة منها في مواقف أخرى. والأمثال كثيرة ومتنوعة، تتوزع بين المحلي والمشترك بين الشعوب، لذلك نجده تتداوله الألسن في منطقة بلهجة تختلف عن اللهجة الأخرى، وإن كان المعنى المقصود واحدًا، ولأن المثل يروم فيه صاحبه الدقة والمتانة في اللفظ والمعنى، فإن ذلك قد يعد رافدًا مهمًا في دعم اللغة وتقويتها، وكلما كانت اللغة قوية كانت المرآة التي تعكس الفكر العربي الإنساني؛ فالمثل جزء من التاريخ الذي يحفظ هوية الأمة وكيانها، وكلما قمنا بتطوير المثل وتوظيفه في تجارب الحياة اليومية، كان ذلك تسجيلاً في الذاكرة التي تمد التاريخ بمادته المتمثلة في الحدث، ونجد أنفسنا وقتها داخل التاريخ لا خارجه، ولسنا ممن قال بنهاية التاريخ.
ونحن نتحدث عن المثل، فلا بأس من ذكر بعض الأمثال:
- " كل راس ليه حكمة": ويعني أن كل إنسان له طريقته الخاصة في التفكير والتعامل مع ضروب الحياة ومتاعبها.
- "الكلام الزين ينفع في الدين": فصاحب اللسان الجميل يخرج نفسه من المواقف الحرجة، مثل موقف الدين، والكلام الحسن الذي يتخاطب به صاحبه مع الناس يمنحه مكانة واحترامًا وسط الناس.
- "رفاقة من والى تورث البلا": وهو تحذير صريح في اختيار الأصحاب والأصدقاء، فلا يصح مرافقة أي شخص تعرفه أو لا تعرفه، بل لابد من انتقاء الأشخاص الذين يفيدونك، وتعود عليك مرافقتهم بالنفع لا بالضرر.
- "خلطك في الأجناس توصلك للأحباس": هو المعنى نفسه في المثل السابق.
- "استنى يا الجوع حتى تخمر العجينة": وهو مثل يوحي بضرورة الانضباط واحترام الوقت، فلا يصح لمن يشعر بالجوع أن ينتظر مدة من الزمن.
- "الشبكة سبت الغربال وقالت له يا واسع العيون": وهو مثل يوحي بنعت الناس بشيء ليس فيهم.
إن الأمثال كثيرة ومتنوعة، وإذا ما تم استثمارها في لغتنا بشكل متقن زاد ذلك من قوتها ورصانتها، والجدير بالإشارة هو أن لغتنا لغة قوية، غير أن مستعمليها بدأوا يبتعدون عنها بسبب الانبهار والإعجاب بلغات أخرى، إذ رأوا فيها الحداثة والتقدم، وابتعدوا نوعًا ما عن لغتهم الأم، لذلك ومن الضرورة العودة إلى هذه اللغة والتصالح معها من خلال ضبط قواعدها واستعمالها والاعتزاز بها؛ لأنها هي الوسيلة التي ننقل بها إلى الآخر فكرنا وحضارتنا، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى تطوير لغتنا باستثمار الماضي المجيد كقيم تعبيرية تحافظ على أصالة اللغة، وابتكار ما يتوافق مع طبيعة الحياة اليومية، انطلاقًا من أحداثها وتجارب الناس فيها وما قدموه من فنون تمنح لغتنا جمالية معاصرة تشد الانتباه.
3- الحكمة
الحكمة بالكسر: العدل، والعلم، والحلم والنبوة والقرآن، وأحكمه أتقنه، وحكمه منعه مما يريد. (7) وأخذت الحكمة في اللغة معان عدة، يمكن حصرها في ثلاثة معان تأتي كالآتي:
-الحكمة هي العلم.
-الحكمة هي الإتقان.
-الحكمة هي المنع.
أما في الاصطلاح، فتعني الكلام الموافق للحق، والكلام الذي يقل لفظه ويجل معناه، وهي العبارة التي تصيب المعنى الصحيح، وتعبر عن تجربة من تجارب الحياة أو خبرة من خبراتها، ويكون هدفها عادة الموعظة والنصيحة. ولعل ما تتسم به الحكمة في أسلوبها هو أسلوب التحذير، فهو الوسيلة التي يتبعها الحكيم في الوعظ والنصح والتقويم، ومثالاً على ذلك نضرب القول الآتي:
-"من قصر في العمل ابتلي بالهم" .
-"من جد وجد ومن زرع حصد".
-"من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع".
إن ما يثير الانتباه ونحن نتحدث عن هذا الفن من فنون القول، هو هل ثمة تداخل بين المثل والحكمة؟ أم يوجد ما يفصل بينهما على الرغم من العبارة الموجزة التي يتسمان بها؟
الجواب هو أن المثل والحكمة يلتقيان في شكل العبارة التي تأتي مختصرة اللفظ عميقة الدلالة، ولكن يختلفان من حيث أن المثل هو نتاج حدث ما لشخص ما في زمن ما، ولكنه أصبح عبرة تتداولها الألسن وتضرب بغرض النصيحة والتوجيه، إذن المثل هو تصوير لحالة نفسية تعبر عن محاسنها ومساوئها، وقوتها وضعفها.
أما الحكمة فيميل بها صاحبها إلى العمق في المعنى قصد التأمل والتدبر فيها، وينتقي لها أسلوبًا دقيق الصنعة، كما أن الحكمة لا تقف عند حد التجربة الشخصية كما هو الحال في المثل الشعبي، وإنما هي رسالة موجهة إلى كل من يرغب في فهم قصدها، فهي تنطلق من مجتمع ما ولكن تنفتح على الإنسانية جمعاء، لذلك كانت حدود المثل ضيقة بينما حدود الحكمة واسعة، ولأن مجتمعنا غني بالحكم، وجب استثمارها في لغتنا اليومية وتداولها بين الناس قصد التوجيه والتقويم أولاً، وتلوينها بألوان إنسانية تفيد الآخر ثانيًا.
4- الألغاز الشعبية
اللغز شكل تعبيري يعكس ثقافة الشعب، ويعبر عن جوانب من ثقافته العقلية والروحية والاجتماعية؛ فاللغز من خلال طرحه يكشف عن القدرات الثقافية التي يتداولها الناس ويتبادلونها في ثقافتهم لتنمية عقولهم حتى تتفاعل مع جوانب الحياة، وتظهر الحضارة الفكرية. ويتسم اللغز بالتنوع والتعدد من حيث الشكل والصياغة والأسلوب بحسب البيئة التي نشأ فيها.
5- الشعر الشعبي
هو فن من فنون القول الذي ينظمه الشاعر الشعبي وفق خصائص فنية لا تكاد تكون بعيدة عن الشعر المنظوم، غير أن الشاعر الشعبي يتميز عن شاعر الفصحى في كونه ينتقي من الكلام ما يفهمه الجميع، ومن الصور ما يعلق في الأذهان، لذلك نجد هذا اللون من ألوان القول يتداوله الكثير من الناس ويرددونه على ألسنتهم ويتناقلونه فيما بينهم في المجالس والمناسبات، إنه الشكل التعبيري الذي يتذوقه الناس، فيتحسسون فيه آمالهم وآلامهم أفراحهم وأحزانهم.
وعليه حرص الشاعر الشعبي أن ينظم في موضوعات متعددة، تبدأ بالعاطفي ثم الاجتماعي والوطني والديني؛ أي إنه يعمل على نقل ثقافة الناس إلى كلام منظوم يشد الانتباه ويجذب الأسماع. وفوق ما تقدم، يمكن القول إن الأدب الذاتي يختلف ولا شك في شكله وتعبيره عن الأدب الشعبي، فالإنسان الفرد الذي يحرص على أن يدون اسمه في تاريخ الأدب، وجب عليه أن يجلي عمله الأدبي انطلاقًا من الذات وروح العصر، حتى يضمن له الاستمرار، أما إذا فشل في ذلك فإن أدبه سرعان ما يتلاشى ويذوب.
أما الأدب الشعبي، فإنه ينطلق من الذات وينبع منها، ينبع من الوعي المشترك بين أفراد الشعب من اللاشعور الجمعي الذي تصدر عنه الأفعال والتعبيرات الواعية التي لا يمكن إدراك مغزاها إلا إذا بحثنا عن جذورها الباطنية، فأشكال التعبير من مثل وحكاية ولغز وشعر شعبي وما إلى ذلك، كلها أنواع أدبية تمتح من حقل شعبي، غير أنها يختلف بعضها عن البعض الآخر، وإن كانت صفة الشعبية تجمع بينها، والسبب هو أن كل شكل تعبيري ينبع من مجال محدد..(8)، ولا يمكن لهذه الأشكال أن تتكامل وتؤدي دورها إلا إذا تم استثمارها بشكل يفيد الشعب الذي أصبح في عصرنا الحالي يجهل الكثير من أشكال التعبير الشعبي، وهذا لا يتحقق إلا بنهج استراتيجية، ليس لإحياء الأدب الشعبي فحسب، بل العمل على تطويره استجابة لشروط المرحلة التي أصبحت تستدعي التحدي.
أما الأسطورة، فنتاج معرفي جماعي يجسّد وضعاً معرفياً أنثروبولوجياً، بوساطته يمكننا دراسة المكوّنات الثقافية والفكريّة لدى أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، وهي بنية مركبة من تاريخ، وفكر، وفن، وحضارة، ودين. وبالتالي، فإنّ لها قدرة على الامتداد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ويمكن اعتبارها مرجعاً ثقافياً متميّزاً تنهل منه الكثير من الدراسات الاجتماعية والفكرية والتاريخية والفولكلورية، إنها مكوّن أساسي من مكوّنات الفكر الإنساني، وقد رافقت الإنسان في كفاحه المتواصل مع الطبيعة وتبدلاتها وقسوة الحياة وشظفها، وهي المعادل لخيبات هذا الإنسان، والبؤرة التي يرى منها النور والفرح وإشراقات المستقبل، إنها تجسّد حلمَ الإنسان في مستقبل أكثر نقاء، وفي علاقات أكثر تكافؤاً وعدالة.
والجدير بالإشارة أن تأثير الفكر الأسطوري لم يقتصر على الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافة: الرسم والموسيقى والنحت والشعر والرقص، بالإضافة إلى معظم الأجناس الأدبية التي استفادت منه؛ أي الفكر الأسطوري. فالأسطورة في القصة والرواية والمسرح، وقد أثّرت حديثاً في الأعمال الدرامية التلفزيونية وصناعة السينما، وهي في بنيتها العميقة رؤية شعرية مركّبة تجمع بين التاريخ والفكر والفن، ويمكن أن تكون نواةً للأعمال القصصية والروائية، إذا ما طُبقت عليها مفاهيم السرد والقص الحديثة.
لقد ساق الباحث السوري فراس السواح تعريفات عديدة للأسطورة، نختزلها في الآتي:
- الأسطورة قفزة أولى نحو المعرفة، وهي مرحلة لاحقة على السحر بعد أن يئس منه الإنسان القديم.
- وهي نظام فكري متكامل، ومجمع للحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم.
- الأسطورة حكاية، حكاية مقدسة. لكنه سيعود للتأكيد على أن للأسطورة نسيجها المتميز، على الرغم من تداخلها مع الخرافة والحكاية.
- الأسطورة مغامرة العقل الأولى.
- الأسطورة نصٌّ أدبي، وُضِعَ في أبهى حلَّة فنية ممكنة.
وعلى الرغم من أن هذه التعريفات تحمل في ثناياها حضورًا إيديولوجيًا يلغي حواجز التفسير والفهم، فإن الأسطورة تنتمي إلى الكلام، وهو كلام موسوم بخصائص فنية وأخرى مضمونية حددها محلِّلو الأساطير في الوحدات الأسطورية، أو التيمات الغنية بالعلامات التي تميِّز الأسطورة عن الحكي وفنون القول الأخرى.
ومن ثم نلاحظ كيف ميز فقهاء اللغة بين لغة القرآن الكريم، كونها لغة إعجازية غير عادية بخلاف اللغة العادية التي صنفوها في درجة ثانية كونها لغة حكي واستعمال، على اعتبار أن القصص القرآني كان في مستوى أعلى من مستوى الحكي الذي كان يَرِدُ على لسان كفار قريش، الذين كانوا يأتون به من فارس ويروونه في حضرة الرسول الكريم لإحراجه. إن الوحدات الأسطورية التي ترتكز عليها بنية الأساطير تجعل من الأسطورة بنية تمارس حضورها على الماضي والحاضر والمستقبل، وفي الوقت ذاته تؤكد استقلاليتها عن الحكي والحكاية، وإن كانت لا تدرس بوصفها نصًا، بل باعتبارها لسانًا آخر.
* د. عبد السلام شرماط باحث من المغرب
المراجع
1.الحكاية الشعبية....، فضاءات، العدد31، مارس 2007، ص 45
2.عين الفرس ... واقع الحكاية وحكاية الواقع، آفاق،ع 1990ص 75
3.لسان العرب، مادة (مثل).
4.موسوعة أمثال العرب، ص17
5.مجلة تراث الشعب،ع 3-4، 2007، ص. 79
6.التعريف بالأدب الليبي، ط1، 1997، ص117
7.مختار القاموس، ص 149
8.أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب للطباعة، ط2، ص 3-4 م