الحياة الاجتماعية كارتجال مقابلة مع هوارد سول بيكر

فئة :  ترجمات

الحياة الاجتماعية كارتجال  مقابلة مع هوارد سول بيكر

الحياة الاجتماعية كارتجال[1]

مقابلة مع هوارد سول بيكر

عُرف السوسيولوجي الأمريكي هوارد بيكر[2] Howard S.Becker برفضه للنظرية وارتباطه بالملاحظة الإثنوغرافية ethnographical observation للعوالم التي هو نفسه فاعلا فيها؛ واحدة من أهم دروسه للسوسيولوجيين، هي عليهم طرح سؤال "كيف" بدلا من "لماذا".

التفاهمات المشتركة Shared understandings

المحاورون: سؤال النظام الاجتماعي، المعايير وانبثاقها هو مركزي لجميع أعمالكم، كيف أصبحتم مهتمين بهذا السؤال؟

هوارد بيكر: لا أستعمل مصطلح معيار، أستعمل مصطلح »تفاهم مشترك«؛ فالمعيار هو مثل القاعدة، بينما التفاهم المشترك هو ما نجده أنت وأنا أنه يمكننا أن نتفق حوله بغية القيام بأي كان ما نود القيام به؛ فهو ليس قاعدة قبلناها. إنه ما قبلناه إلى حدود الآن. نريد أن تكون هناك مقابلة، حسنا، هذا ما سوف نفعله، وهذا ما يمكننا فعله؛ فمصطلح "التفاهم المشترك" لا يفترض أن هناك اتفاقا an agreement، ربما هناك (أي هناك اتفاق)، لكن فقط على الموضوع - نعم، سوف تكون لنا مقابلة- لكن خلافا لهذا، سوف نكتشف ما الذي نتفق حوله.

المحاورون: من أين جاء اهتمامكم بسؤال الاتفاق والتفاهم المشترك؟

هوارد بيكر: بالنسبة لي، إنها الفكرة الأساسية التي تفسر كيف يمكن لمجتمع أن يتواجد؛ فالناس تفهم. أعلم على أنك تعلم، لدي فكرة أنني إذا فعلت هذا، يمكنني أن أنتظر بدرجة أكبر أو أقل أن تفعل هذا. ربما لا تفعل، عادة لا تفعل بالضبط ما أنتظره. لكن تفعل شيئا يمكنني الاستجابة إليه. هناك عبارة رائعة وجدتها عند فيتغنشتاين Wittgenstein Ludwig "إذا استطاع أسد الكلام، لن نتمكن من فهمه"[3] التي يعني من خلالها أنه (لن نفهمه)؛ لأننا ليس لدينا أسلوب حياة مشترك، لكن أودّ أن أغير هذه الجملة على هذا النحو: "إذا استطاع أسد الكلام، لن نتمكن من فهمه من البداية." لكن إذا ما تحدثنا، حينئذ سنبدأ بامتلاك حياة معا... هذه صورة لما أتحدث عنه، لا أعلم بالضبط أين وجدت هذا الأسلوب من التفكير، لكن لا بد من أنه كان حينما كنت طالبا بشيكاغو.

المحاورون: هذا السؤال حاضر في جميع أعمالكم. إنه يعمل كخيط ناظم في جميع أبحاثكم.

هوارد بيكر: نعم ولا، لم أبدأ بهذه الفكرة. أخذت الفكرة تغتني بالنسبة لي كل الوقت، أخذت تحصل على الكثير من الدلالات connotations، على الكثير من النغمات overtones (بالمعنى الموسيقي لهذه الكلمة). فهمت أكثر فأكثر ماذا قد تعني. لا أحب فكرة أن تعالج أفكاري، تفكيري، وعملي ككل comme un tout. إنها قريبة أكثر لكونها رحلة، فالأشياء تتغير. قبل خمسة وعشرين عاما، قضيت ستة أسابيع بجامعة مانشستر. بعد أن انتهيت من التدريس هناك، قمت بجولة على الجزر البريطانية، حيث ألقيت ست محاضرات في جامعات مختلفة. كان لديّ شعور أنه أين ما (ذهبت)، وأيا كان ما تحدث حوله، حينما كنت في خضم (إلقاء المحاضرات)، قد يقف شاب(ة) ما ويقول: "بروفيسور بيكر، في سنة 1965 كتبت هذا، لكن في سنة 1972 كتبت هذا، والاثنان متناقضان، كيف تفسر هذا؟" بالنسبة لي، هذا ليس مشكلا، اكتشفت شيئا جديدا، شيئا لم أكن على دراية به، لهذا غيرت أفكاري. فأنا دائما أكتب شيئا جديدا، دائما أغير أفكاري، وأعتقد أن هذه صورة أكثر واقعية للعمل العلمي؛ لأنني أعتقد بالفعل أن ما نقوم به هو نوع من العلم وليس تجارة. الموضوع مهم، نحن نحاول اكتشاف كيف يعمل العالم، لا خلق بنية مثالية من الأفكار. هذه فكرتي عن العمل العلمي. وعليه في هذا الصدد، أعتقد أن الطريقة التي أفكر بها هي مماثلة جدًّا للطريقة التي يكتب بها أناس آخرون في سوسيولوجيا العلم، أناس مثل لاتور Bruno Latour، إنه حقل نشيط جدًّا. فعندما يصفون العلم، يبدو لي (العلم) أكثر شبها بما أقوم به من بناء تلك البنية الجميلة من الأفكار المنسجمة على نحو مثالي. لم أبدأ بفكرة وتَبِعتُها، بدأت بفكرة وغيرتها، وغيرتها مجددا ومجددا.

آخر كتاب نشرته باللغة الإنجليزية، مع روبرت فولكنر Robert Faulkner، يسمى Do You Know...؟[4]. بالنسبة لي هو خطوة كبيرة للأمام في التفكير حول كيف يُجري ويتشارك الناس التفاهمات. يبدأ الكتاب بسؤال. هناك أربعة أشخاص يزهون في حانة أو مكان ما، لا يعرفون بعضهم البعض، ليست لديهم أي موسيقى مكتوبة، والعرض على وشك البداية. ماذا سيفعلون؟ وقد استطاعوا العزف بنجاح. يعتقد كل شخص في الحانة أنه لا بد من أنهم عزفوا معا لسنوات، كيف يفعلون هذا؟ كان هذا سؤال بحثنا. الجواب الأول الذي كان لدينا، انطلاقا من خبرتنا الذاتية، هو: أنهم جميعا يعرفون نفس الأغاني، وعليه كل ما عليهم فعله هو ذكر اسم الأغنية، ومن ثُم يمكنهم عزفها. عندما بدأ روبرت فولكنر عمله الميداني، كتب ما وقع. لكن ليس ذلك ما يقع، ما يقع هو أن شخصا ما يقول: "هيا لنعزف، هيا لنقع في الحب". في الواقع، بإمكانه القول، "هل تعلم هيا لنقع في الحب؟" وشخص آخر قد يقول "طبعا، أي نغمة؟ بي فلات B flat. حسنا، هيا لنعزف". لكن أحيانا، يقول شخص ما "لا، لا أعلم هذا". وعليه الآن، ماذا نحن بفاعلين؟ ما تراه حينئذ هو سيرورة عمل مشترك من أجل إيجاد ما يمكنهم فعله. إنها استعارة مثالية للتفاهم المشترك: نعلم بعض الأشياء معا، بعض الأشياء لا (أي لا نعلمها معا)، لكن هناك بعض طرائق العمل بما نعلم؛ وذلك حتى يمكننا العزف معا. جواب آخر قد يكون: "لا، لا أعرف هذه الأغنية، لكن إذا عزفتم الكورال الأول، يمكنني عزف الثاني". لديهم جملة من المهارات المشتركة التي هي كافية بالنسبة إليهم للعزف معا. هذا شيء تعلمته، فقد كانت لدي فكرة التفاهم المشترك هذه لمدة طويلة، لكن فقط الآن أفهم حقا ماذا تعني. وعلى هذا النحو، يمكنك التفكير في كافة الحياة الاجتماعية على أنها ارتجال. فالأشخاص يرتجلون، وعندما يجدون شيئا يعمل، هذا كل ما في الأمر.

أنواع عملٍ عادية Ordinary kinds of work

المحاورون: لقد اشتغلتم على المهن professions. والاهتمام بالمهن، في فرنسا، هو حاليا يتوسع تحت تأثير النظريات الأنغلو-أمريكية Anglo-American theories، لكن أيضا تحت تأثير سوسيولوجيا المجموعات المهنية the sociology of professional groups التي تقترح متغيرات لكل من الوظيفية والتفاعلية الأمريكيتين؛ كيف يمكنكم موقعة عملكم على المهن (على سبيل المثال عملكم على الأساتذة) وجها لوجه أمام هذه السوسيولوجيا الفرنسية الجديدة للمهن؟[5]

هوارد بيكر: عندما كنت طالبا، مشرفي، إفريت هيوز Everett Hughes، كان يدرس قسما سمي بسوسيولوجيا المهن. لكن قال إنها كانت خطأْ (أي تسمية القسم بسوسيولوجيا المهن كانت خطأ): الناس كانوا مهتمين؛ لأنه كانت لديهم فكرة أن هاته المهن (القانون، الطب، الدين...) كانت مختلفة عن باقي أنواع العمل الأخرى. كانوا يعتقدون أن أنواع العمل هاته أفضل، أكثر نبالة. (في حين) اعتقد هيوز أن هذه نظرة جزئية جدًّا لعالم العمل. عندما قَدِمت إليه وأخبرته أنني أود القيام ببحثي لرسالة الماجستير على الموسيقيين في الحانات، حسنا، كان يبحث عن أناس مثلي يودون دراسة أشياء ليست لديها تلك الهيبة أو الشرف. أنواع عملٍ عادية. سرعان ما غير اسم قسمه، أولا إلى "سوسيولوجيا الوظائف والمهن"، وأخيرا "سوسيولوجيا الوظائف". وأخيرا، أضحت سوسيولوجيا العمل.

كان للمهن في السوسيولوجيا الأمريكية هذه العلاقة الغريبة مع الوظيفية functionalism. كانت لدى تالكوت بارسونز Talcott Parsons الفكرة أن هناك هاته المشاكل الأساسية، هاته القيم الأساسية العميقة... إلخ، والمهن جسدت embodied، وجسمت incarnated هاته المثل العليا، قيم المجتمع. لقد كانوا (أي هاته المهن النبيلة) حول أشياء مهمة، مثل الطب، الجسد، الصحة. هاته لم تكن نتيجة بحث. هاته كانت قناعة، لكن إذا كنت تعرف الأطباء، وإذا كنت تعرف المحامين، إنهم فقط مثل أي شخصٍ آخر، ليسوا نبلاء جدًّا.

بالنسبة لي وبالنسبة إلى زملائي، مثل إيليوت فريدسون Eliot Freidson، كانت المهن شيئًا أراد الناس الذين تم تنظيمهم للقيام بنوع معين من العمل الحصول عليها (أي على المهن) كعلامة a label؛ لأنها سمحت لهم بالحصول على المزيد من الاستقلالية، للقيام بما يحلو لهم، بينما إذا أنت موسيقي يعزف في حانة ما، فأنت تقوم بما يريد المالك منك أن تقوم به. لا يمكنك أن تقول لا، لا يمكنك قول: "أنا أمثل المُثل الموسيقية لمجتمعنا"، أنت تعزف ما يريدون. لهذا بالنسبة لي، المهنة ما هي إلا جزءٌ صغير من فكرة أكبر عن سوسيولوجيا العمل. بالنسبة إلى هيوز، كانت سوسيولوجيا العمل كل شيء؛ أحد الأشياء التي كان يحب قولها هي أن كل شيء يقع هو عمل شخصٍ ما.

"كل ما يسمح لنا بفهم المزيد" “Whatever allows us to understand more”

المحاورون: في كتابكم Art Worlds[6]، استعملتم مفهوم "العالم" world للحديث عن المجال الفني، لكن أيضا عن عوالم مهنية أخرى. يسمح لكم مفهوم "العالم" بالتأكيد على مصطلح "التفاهم المشترك" الذي تحدثنا عنه للتو. بهذا، ميزتم أنفسكم عن تقليد آخر استعمل مفهوما آخر لتفسير عقلانية عالم الفن، مفهوم "الحقل" champ عند بورديو Pierre Bourdieu. لم تذكروه أبدا في كتابكم.

هوارد بيكر: لم أقرأ لبورديو، حينما كتبت لأول مرة عن عوالم الفن؛ لأنه لم يكن قد كتب عن هاته الأشياء بعد. عندما اقترحت أول مرة فكرة عالم الفن، في مقال سنة 1974، لم تكن حول القطيعة. ففي ذلك الوقت، لم أقرأ الفرنسية. هذا جاء لاحقا. قلت هذا مرات عديدة، لكنه صحيح: أول كتاب قرأته "بالفرنسية" هو لرايمون مولان Raymonde Moulin حول سوق الفن[7]. بالنسبة لي كان هذا (أي هذا الكتاب) هو السوسيولوجيا الفرنسية عن الفن. لم يكن عمل بورديو مفيدا بالنسبة لي. يتعامل مفهوم "العالم" مع واقع مختلف تماما عن ذلك الذي تتعامل معه فكرة "الحقل". فمفهوم "الحقل" مملوء بأشياء لا يمكنك ملاحظتها، قوى لا مرئية، (بينما) تشير فكرة العالم للمرئي، للأشياء الشائعة التي يمكنك رؤيتها بسهولة. أينما نظرتُ، أجدُ طرائق عمل الروابط التي تشكل عوالم الفن. هناك هذه القصة الرائعة التي وجدتها في سيرة لبيكاسو Picasso، عن الرجل الذي صنع السيراميك الذي زينه بيكاسو. قال هذا الحرفي أن الأشياء التي أرادها بيكاسو أن تقام كانت مستحيلة، لكن بيكاسو تلاعب به حتى قام أخيرا بما أراده بيكاسو، (أي) الأشياء التي قال إنه لا يستطيع القيام بها. عندما قال السيراميكي، "هذا مستحيل، سيدي، " ردّ عليه بيكاسو، "أوه، أنا آسف، ظننت أنك جيد حقا، أرى أنك لست جيدا كما كنت أظن." كان هذا جزءا من مهارته. فكفنان، كان عليه أن يعرف ما يستطيع قوله لهذا الرجل لجعله يقوم بما لا يستطيع القيام به. ليس هناك مكان لهذا في فكرة "الحقل"، لا أعتقد أن هناك أي صراع بيني وبين بورديو، أنا فقط أعتقد أنها (أي فكرة الحقل) طريقة أخرى للتفكير. بالنسبة لي، فكرة الحقل ليست مفيدة[8]، ليس لدي هذا التصور للعلم الاجتماعي كميدان للمعركة. يقع طبعا، في الكثير من الأحيان بما فيه الكفاية، لكن جوهر المشروع هو اكتشاف الأشياء. كيف يعمل هذا؟ كيف هذه الحانة هنا...كيف يعمل هؤلاء الناس هنا معا؟ هذا يتطلب تفسيرا. وهذا هو ما أود تفسيره. انطلاقا من هذا المنظور المغاير، المشكل هو، "حينما أنظر هنا، طبعا هناك شكل ما من الهيمنة. أين هي؟" لكن إذا نظرت في الواقع إلى ما يقع هناك، هل يمكنك رؤية الهيمنة؟ هذا مشكل. طبعا، من المحتمل أنها هناك (أي الهيمنة)، لكن هذا ليس كل شيء. هذا النوع من السؤال ليس مثيرا للاهتمام بالنسبة لي. أنا فقط مهتم بمتابعة هاته الأفكار ورؤية، ماذا يمكننا أن نفعل معهم. تعلمت هذا من هيوز. إنها نفعية جدا، كل ما يعمل، كل ما يسمح لنا بفهم المزيد.

الانحراف هو حكم Deviance is a judgment

المحاورون: في تعريف الانحراف الذي اقترحتموه في كتاب Outsiders[9]، هناك جزءٌ مهم من الاعتباطية. قدمتم مثال المكتب الفدرالي للمخدرات Federal Bureau of Narcotics الذي أصبح، بعد المنع، راعي أخلاق a moral entrepreneur. يبدو أنكم بلغتم نفس خلاصات فوكو Foucault، غير أنه من خلال مسار itinerary مختلف جدا، هل ساهمت أعمال فوكو في تأملاتكم عن الانحراف؟

هوارد بيكر: لا، اكتشفت سنوات عديدة فيما بعد، من خلال باحث فرنسي شاب، أن ما كتبته عن تطور هاته القوانين كان جاهلا جدّا. كتب فرنسوا غزافيي ديدويي François-Xavier Dudouet هذه الأطروحة الرائعة حول التحكم الدولي في المخدرات غير المشروعة[10]. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، جميع القوانين التي تحظر استعمال المخدرات بُررت بفكرة واحدة، كان السبب المقدم بالنسبة إليهم هو أنه: لدينا معاهدة دولية مع دول أخرى تتطلب مثل هاته القوانين، وعليه كانت الولايات المتحدة ملزمة بأن تكون لديها هاته القوانين بسبب الاتفاقات الدولية التي وقعت عليها؛ أولا في عصبة الأمم League of Nations، ومن ثُم في الأمم المتحدة United Nations، لكن هذا لم يكن (السبب) الأصلي في هاته المحظورات. فلا أحد ممن كانوا مقحمين في صناعة هاته الاتفاقات، كان له أي اهتمام فيما يخص مشكلة الإدمان أو في التعاطي غير المشروع للمخدرات. لقد كانوا مهتمين بشيء آخر مختلف تماما: حفظ الاحتكار الذي كانت فرنسا، بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة تمتلكانه على السوق القانوني للمخدرات؛ (أي) الأدوية الأفيونية opiate drugs المستخدمة في الممارسة الطبية وفي المستشفيات. فهناك حيث (يوجد) المال. كانت هذه الدول مهتمة بالحفاظ على هذا الاحتكار المربح كثيرا. يوجد الكثير من الكوكايين والكثير من المورفين المستخدم، كل يوم، ليس عند المدمنين في الشوارع، بل في المستشفى وعند عيادة الطبيب، هناك حيث المال. فقد أراد ممثلو هذه الدول التأكد من أن لا أحد قد يجلب المخدرات غير المشروعة إلى هذا السوق، ويهدد احتكارهم. لهذا كل شيء قد كُتب عن هذا (أي عن القوانين المانعة لاستعمال المخدرات) من قِبل الجميع كان خاطئا. وأفترض أن فوكو لم يعلم هذا الجزء المهم جدًّا من القصة. لهذا الآن، لدي فهم مختلف تماما لما حدث. إنها حقا مسألة فاعلين اقتصاديين وسياسيين يحمون مصالحهم.

المحاورون: إن تعريفكم للمعيار هو نسبي - نسبي للحظة تاريخية، نسبي لمجموعة معينة. فالناس الذين يمكن للمرء أن ينعتهم عفويا "كمنحرفين" هم أيضا يتبعون مجموعة من المعايير، التي هي خاصة بالمجموعة، لكن ألا تخشون أن مفهوم "الانحراف" قد أخذ يتميع؟

هوارد بيكر: لا أستعمل أبدا كلمة "معيار". بدلا من ذلك، أستعمل فكرة "القناعات المشتركة". هذه ليست فقط مسألة استعمال، إنها الفكرة وراء العبارة التي لا أقبلها. فالناس ليست لديهم معايير، لديهم أفكار. إذا قمت بها على هذا النحو، فأنت غالبا لديك سبب. إذا لم تقم بها على هذا النحو، فهذا مضيعة لوقتك، لهذا سأريك كيف تعمل حتى يمكنك القيام بها. إنها ليست معيار، إنها ممارسة. المعايير لديها دائما هذا الإيحاء overtone بأن "هذا هو الشيء الصحيح للقيام به." لكن لا أحد سوف يخبرك أن عليك أن تدخن الماريجوانا؛ لأن هذا هو الشيء الصحيح للقيام به، أو يخبرك أن عليك أن تدخنها بهذه الطريقة وإلا فإنك تقوم بشيء خاطئ. لكن سوف يقولون، "إذا أردت أن تبلغ هذه النتيجة - الانتشاء - سيكون من الأفضل إذا دخنت بهذه الطريقة."

الانحراف هو نتيجة عمل تعريفي. فلا شيء منحرف بطبيعته. أنت تعلم، إنه (أي الانحراف) مثل الوهم البصري الخاص بالبطة والأرنب the duck-rabbit optical illusion. تنظر إليها من زاوية واحدة، تبدو وكأنها بطة. تنظر إليها من زاوية أخرى، تبدو وكأنها أرنب. هناك تعريف ممتاز لهذه الفكرة باللغة الفرنسية. ما هي عشبة غير مرغوب فيها a mauvaise herbe؟ (حرفيا، "نبتة سيئة a bad plant" وباللغة الإنجليزية العادية "حشيش a weed") إنها ليست سيئة في حد ذاتها، إنها فقط ليست حيث يعتقد الشخص أنها يجب أن تكون. بالنسبة لي، على سبيل المثال، نبتة العليق/التوت البري blackberry ليست نبتة سيئة. إنها نبتة رائعة تنتج توتًا، لكن بالنسبة إلى شخص لديه حديقة، فإنها نبتة فظيعة. هذا نموذج جيد للاستعمال عند التفكير حول أشياء مثل هذه. في الحقيقة، أحد أوائل سوسيولوجيي الانحراف في أمريكا، دافيد ماتزا[11] David Matza، كتب ورقة والتي لم ينشرها أبدا عن "الحشائش"، إنها استعارة مثالية.

المحاورون: إذن ما تعنونه هو أن المرء دائما ما يكون منحرفا بالنسبة إلى شخص آخر؟ لكن هل يوجد الانحراف حقا إذا كان يتوقف على وجهة نظر الآخر؟

هوارد بيكر: الانحراف ليس حقيقة، إنه حقا حكم. إنه مثل الوهم البصري، أعلم أن الناس تفكر على هذا النحو، لا يمكنهم رؤية كيف يفكرون، أعلم أنهم يفعلون، أقبل أن بعض الناس يفكرون هكذا. لهذا بالنسبة لي. إنه واضح، كما هو (واضح) بالنسبة إليهم. فإذا قلتُ لهم، أظهروا لي الانحراف، سيقولون "لا تكن سخيفا. أنت تعلم ما أعني". لا. أنا مثل، الفصل الأول من كتاب لاتورLa science en action[12]: الرجل الذي يشك، "لم أفهم هذه، أظهر لي الآلة، كيف تعلم أن هذه الآلة تعمل؟" يقول العالم أخيرا: "انظر، نضع المورفين في المحلول والعضلة تستجيب هكذا"، ويسأل الرجل "لكن كيف تعلم أن هذا مورفين؟" يقول العالم: "انظر للعلامة، تقول إنه مورفين، لقد صنع من طرف المختبر الفلان الفلاني بشيكاغو"، "لكن كيف تعلم أنهم لا يكذبون؟"، "حسنا، انصرف". عند نقطة معينة، لا أحد يجادل باستثناء شخصٍ مجنون. طبعا، يقع أحيانا أن المورفين ليس بمورفين؛ فبعض الشركات تغش، لكن بعض الأشياء نقبلها. لن نجادل، نقبل أنه إذا قالت مورفين، إنه مورفين. إنه نفس الشيء مع الفن. كيف نعلم أن هذا فن كمقابل لكل شيء آخر ليس فنا؟ عندما كنت طالبا لمدة قصيرة في مدرسة للفن بسان فرانسيسكو، حينما تعلمت الفوتوغرافيا، كان هناك فنان فرنسي زائر التقط وأخذ أفضل طاولات المطعم مغطاة بأطباق وطعام غير مأكول من وجبات حقيقة. هل هذا فن؟ لهذا كان مارسيل دوشامب Marcel Duchamp شخصية رئيسة. فالسؤال ليس: هل ما قام به دوشامب فن؟ إنه فن لأنه في المتحف. هذا هو التعريف العملي للفن: إنه في المتحف، جامعو التحف سوف يدفعون من أجلها. (لكن) فلسفيا، إنها صعوبة حقيقية. فعالم الفن قد أخذ موقفا من دوشامب، جميعهم يتفقون على أن هذا فن. لهذا، عمليا، إنها ليست بالمشكلة، لكن فلسفيا هي كذلك.

المحاورون: في Outsiders، أظهرتم أن هناك مسار انحراف. وبحسبكم، السؤال المناسب ليس "لماذا" بل "كيف". رغم ذلك، يبدو سؤال "لماذا" يقاوم، كما يظهر من خلال تضاعف الدراسات حول الأوبئة epidemiological studies، والخطابات السياسية...

هوارد بيكر: السبب لماذا أقول لا تسأل "لماذا"، اسأل "كيف"، هو عملي جدًّا. فإذا قلت لك "لماذا أصبحت سوسيولوجي"، عليك أن تعطيني جوابا جيدا. الكثير منا لا يعلم ماذا كنا نفعل عندما اخترنا هذه المهنة. لم تكن لي أبدا نية أن أكون سوسيولوجيا، أردت أن أكون عازف بيانو رهيبا. السوسيولوجيا كانت نوعا من الهواية. لكن بعد بضع سنوات، أدركت أنه يمكنني أن أكون لاعب بيانو جيد، لكن لن أكون أبدا عازف بيانو رهيب. كان علي أن أعترف بالحقيقة: كنت سوسيولوجي، ولست موسيقي محترف. مازلت لا أستطيع أن أخبرك لماذا أصبحت سوسيولوجيا، لكن يمكنني أن أخبرك كيف. إذا سألتُ لماذا. أحصل على إجابة دفاعية defensive response، يريد الشخص الذي أسأله أن يعطيني سببا جيدا. سببا يمكن الدفاع عنهa defensible reason. لكن إذا سألت: كيف وقعت؟ يمكنك أن تعطيني أجوبة عملية. هذه الطريقة في التفكير لها أصول دقيقة في الولايات المتحدة، (انظر) مقال شارلز رايت ميلز C. Wright Mills سنة 1940، "Situated Actions and the Vocabulary of Motives"[13].

 

[1]- أجريت هذه المقابلة مع هوارد بيكر من طرف بولين بيرتز (Pauline Peretz)، أوليفييه بيلمي (Olivier Pilmis)، ناديج فيزينا (Nadège Vezinat)، وذلك في 12 من أكتوبر 2010، بباريس، ونشرت بمجلة booksandideads.net في 31 من يناير 2011

[2]- هوارد بيكر هو أستاذ ذو خبرة طويلة بكل من جامعة نورث ويسترن Northwestern University وجامعة واشنطن the University of Washington بسياتيل، وهو أحد الشخصيات البارزة في التفاعلية interactionism. كاتبا عن الفن، الفلسفة والموسيقى. يوضح بيكر، في هذه المقابلة، انتقائيته eclecticism وأسلوبه الفريد في تحليل الوقائع الاجتماعية المركبة على نحو بسيط وعَملانِي، مستعملا أمثلة ملموسة لاقتراح أفكار مجردة.

[3] L. Wittgenstein, Philosophical Investigations, 1953, II, xii

[4] Do You Know ...? The Jazz Repertoire in Action (Chicago: University of Chicago Press, 2009), with Robert R. Faulkner.

[5] D. Demazière, C. Gadéa, Sociologie des groupes professionnels. Acquis récents et nouveaux défis, (Paris : La Découverte, 2009).

[6] H.S. Becker, Art Worlds (Berkeley: University of California Press, 1982).

[7] R. Moulin, Le marché de la peinture en France. Paris, Minuit, 1967 (Abridged English translation: The French Art Market. A Sociological View. New Brunswick, Rutgers, 1987).

[8] H.S. Becker, “A Dialogue on the Ideas of ‘World’ and ‘Field’ with Alain Pessin,” Sociological Forum, 21 (2006), 275–86

[9] H.S. Becker, Outsiders: Studies in the Sociology of Deviance. (New York: The Free Press, 1963).

[10] F.-X. Dudouet, Le grand deal de l’opium: Histoire du marché légal des stupéfiants. Paris, Syllepse, 2009

[11] See. D. Matza, Becoming Deviant. Englewood Cliffs (NJ), Prentice Hall, 1969

[12] B. Latour, Science in Action. Cambridge (Mass.), Harvard University Press, 1987

[13] C. W. Mills, “Situated Actions and Vocabularies of Motive”, American Sociological Review 5 (6), 1940: 904- 913