الخروج على الأدلوجة الأوروبية


فئة :  مقالات

الخروج على الأدلوجة الأوروبية

الخروج على الأدلوجة الأوروبية

يقول عبد الله العروي: "ذات يوم خرجت أوروبا البشرية من أوروبا الجغرافية واستولت تدريجيا على سائر البسيطة. ليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ سبقت شعوب أوروبا في هذا الميدان شعوب كثيرة في القارات الأخرى. السؤال المطروح هو: فيم تختلف السيطرة الأوروبية، أثناء القرنين الأخيرين، عن السيطرات المتلاحقة التي عرفها التاريخ؟".[1]

لا شك في أن وجه الاختلاف يعود إلى طبيعة التعاطي مع المعطى الثقافي للشعوب؛ فمختلف السيطرات الأخرى، لم تمس ثقافة الشعوب المسيطر عليها، ولم تقرأ تاريخها قراءة تحريفية تخدم أهداف المسيطر، وتروض المسيطر عليه، وتقحمه في سياج تفكير المسيطر، إلى درجة أنها لم تعط فرصة للمسيطر عليه أن يأكل ويلبس ويمارس مختلف عاداته اليومية كما يرى وكما يريد، فقد وضعت أمامه خيارها ونموذجها للحياة، المشكلة هنا ليست في أن يتفاعل ويتثاقف المسيطر عليه مع ثقافة المسيطر، ويحصل إثراء ثقافي بين الطرفين، وهذا أمر مهم ومفيد، وهو الجاري به العمل بين مختلف الثقافات؛ إذ تتواصل وتتداخل بلطف فيما بينها. فالمشكلة هنا كل المشكلة، أن المسيطر عمل كلّ ما في وسعه من أجل عملية تثقيفية متحيزة لذاته ولثقافتها على حساب ثقافة المسيطر عليه، وبذل كل الجهد في بسط سرديات متعددة في إعادة قراءة تاريخ وثقافة المسيطر عليه؛ وذلك لطبيعة التداخل بين السلطة والهيمنة من جهة، وبين المعرفة والثقافة من جهة أخرى؛ فالسيطرة الأوروبية هي نتاج تحالف السلطة والمعرفة، وهذا هو بالضبط ما ميز السيطرة الأوروبية عن باقي السيطرات الأخرى عبر التاريخ، وهذا أمر بديهي فالاستعمار دائما تسبقه ما يسمى بالبعثات العلمية، التي تمهد له الطريق.

طيلة القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، نحن أمام سرديتين للتاريخ ولمختلف القضايا الاجتماعية والفقهية... سرديتنا الموروثة، وسردية الأوروبيين، وإلى جانب هذه وتلك، تشكلت أفكار وطروحات وملامح سرديات جديدة نتبناها نحن عن ذواتنا وعن تاريخنا وعن الآخر، وجزء كبير من مواطن الاختلاف في القرن العشرين وحتى هذه اللحظة تعود لطبيعة تعاملنا مع كلتا السرديتين (سرديتنا الموروثة/ وسردية الأوروبيين).

السواد الأعظم من المسلمين في القرن العشرين وما بعده، في تماهي مع مذاهبهم الفقهية الأربعة، ومع مختلف مذاهبهم في الاعتقاد؛ فالفقه ومجمل قضايا فهم الدين محكومة بالقواعد المنصوص عليها في المذهب المتبع، والعقيدة، وقد تم الحسم فيها وبشأنها وفق أقوال الأقدمين ولا خروج عنها؛ فالمعتزلة والفلاسفة وجزء من المتصوفة مبعدين ووجهات نظرهم مهمشة، كما أن الخلاف السياسي القديم ما بين الشيعة والسنة وأنصار علي والحسن والحسين والمطالبين بدم عثمان...كل ذلك وغيره بشكل مباشر أو غير مباشر لازال حاضرا، إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي. مجمل القول السواد الأعظم من المسلمين يرون الإسلام في الماضي، وحتى إن فكر بعضهم في الحاضر والمستقبل، فذلك يكون من خلال ما تعكسه مرآة الماضي أو مرآة الآخر. وإلى جانب كل هذا مختلف التشريعات والمقتضيات القانونية والتصورية للدولة الحديثة، في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع ومختلف مقتضيات الناس...الآن مختلف عواصم العالم الإسلامي تنعم من حيث المستلزمات الحديثة وغيرها بما تنعم به العواصم في العالم الغربي.

وهناك من اعترض على الحداثة والدولة الحديثة، وارتأى أن يكون تراثيا أكثر من اللازم في كل شيء، والغريب أنه يستعمل مختلف ما تنتجه التكنولوجيا والتقنية اليوم، وقد اتسع هذا الرأي في العالم الإسلامي، ممثلا في الإسلام السياسي ومختلف الجماعات الإسلامية، التي تكرر مقولة الغزو الفكري، ورد الغزو في مجال الفكر في نظرها يرتبط بالعودة إلى الماضي في كل شيء، إلى درجة أنها استعدت مختلف المثقفين والمفكرين والتنظيمات الحزبية المختلفة وغيرها في العالم الإسلامي، بدعوى أنهم ضحية للغزو الفكري، ولا شك في أن هذا انتحار حضاري.

لا ندعو هنا إلى القطيعة مع التراث ومع ماضي الأمة المجيد والغني والغزيز بإبداعاته العلمية والأدبية والفنية... وربما ليست هناك حضارة لها من غنى وعظمة تراثها أكثر من الحضارة الإسلامية، كما أننا لسنا ضد التقليد بمفهومه الإيجابي الذي يحضر معه الإبداع والبناء على القديم في استحداث الجديد، فالقائلون بالقطيعة مع تراث الأمة يجدون أنفسهم ملتحقين بتراث أمة غير أمتهم، أو يسقطون في فخ التفكير وفق مخططات الآخرين، وقد انطلت حيلة الاستشراق في وجهه المتحيز للسلطة والهيمنة، على جزء كبير من المثقفين الكبار في العالم الإسلامي، الذين نظروا لتراث أمتهم من خلال مقاسات النظارات التي استحدثها الاستشراق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهي نظارات تكبر الهفوات والعثرات، وتبدوا فيها مختلف النجاحات والمعاني والمواقف السامية...صغيرة جدا، التصغير أو التكبير الغاية منه هي الاختزال بالتركيز على الصورة التي تناسب الاستشراق، والأمثلة هنا كثيرة ومتعددة.

من بين الأمثلة نذكر اختزال هارون الرشيد (-193هـ) في مقولة له عندما رأى غمامة من أعلى مسكنه، اذهبي وأمطري أنى شئت، فإن خراجك راجع إلي، وهي مقولة اختزلت هارون الرشيد في جمع الخراج، وتوحي للسامع والقارئ أن الحضارة الإسلامية حضارة بنيت على جمع الخراج في أي مكان تمكنت من الوصول إليه. أما أشياء أخرى في غاية الأهمية تتعلق بفترة زمن هارون الرشيد، فيتم غض الطرف عنها. هذه مقولة تقفز إلى الأذهان في الغرب وفي الشرق كلما ذكر هارون الرشيد. السؤال هنا هل هذه المقولة حاضرة بقوة ومتداولة بشكل كبير في العالم الإسلامي ما قبل القرن العشرين؟ أم هي مقولة وجد فيها المسلمون نوعا من استمداد القوة والمجد من تاريخهم، وهم في حالة من الضعف الحضاري، ووجد فيها الأوروبيون وجها تبريريا، وهم يستغلون ثروات البلاد المستعمرة، وهي مسألة في نظرهم قد سبقتهم إليها حضارات أخرى. صحيح أن التاريخ الإسلامي عرف نظام جمع الخراج، ولكن السؤال الذي ينبغي التقرير فيه هل كان جمع الخراج سببا في التجويع والفقر والحرمان، مثل ما أقدمت عليه المركزية الغربية في علاقتها بمستعمراتها.

في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، كان الفضل للسلطان المولى إسماعيل (1727م) في توحيد المغرب، وتحرير مختلف ثغوره، وتحول إلى قلعة حصينة أمام أطماع الأوروبيين، دام ملكه ما بين 1672م و1727م، إلا أن النظارات الغربية لا يهمها هذا الأمر، أمر الاستقرار والتمكن، بدل التشتت والهزيمة، وإذا بها تختزل المولى إسماعيل وتصوره بأنه كان محاربا متعطشا للدماء، وكان غزير النسل وكثير المضاجعة، كما أنه خلف أزيد من ألف طفل من أربع زوجات وأكثر من 500 جارية كان يملكها...هذه الصورة صارت شائعة ومتداولة، فهي تختزل جزءا مهما من تاريخ المغرب في تكبير أمور ربما مبالغ فيها وربما لا وجود لها، والغالب ما هي إلا تصورات شعبية عن الحاكم، استثمرها المعمرون، ليقدم نموذج أخر يحل محلها، وهم حكام أوروبا. مقابل ذلك يتم تهميش الكثير من الأحداث المهمة في التاريخ المغربي في هذه الفترة، وهي كثيرة من بينها مثلا: استرجاع مدينة العرائش في العهد الإسماعيلي، وهو حدث تاريخي عظيم، احتفل به أهل المغرب أيمّا احتفال عند وقوعه، إلى درجة أنهم استحدثوا اللون الأصفر لونا جديدا لأحذيتهم فرحا بذلك. فخلاصة الفكرة أن التاريخ الإسلامي يظهر لدى عموم المستشرقين، بأنه تاريخ حروب وصراعات وفتن...

وتعتبر أمريكا وريثة السردية الأوروبية في نظرتها للآخر المختلف؛ فالغرائبي والعجائبي حاضر بقوة في هذه السردية، فقد ظهر المولى إسماعيل بصورة “غرائبية” في الصحافة الأمريكية من خلال صورة رسمها له موقع "لايف سيانس" الأمريكي، وهو موقع متخصص في الأبحاث العلمية تحت عنوان: السلطان المولى إسماعيل "دموي" و"شبق جنسيا".[2]

نحن اليوم في أمس الحاجة لمعرفة ماضينا وتاريخنا وانتمائنا الحضاري، وفق سردية نكتبها نحن، بدل أن نرى أنفسنا في مرآة الآخر، وهي مسألة تقتضي نقد سردية الآخر، ومراجعة سرديتنا الموروثة والنظر إليها بعقل الحاضر والمستقبل، و"الواقع أننا إلى حد الآن، وباستثناء كتابات ظرفية، لم نر مفكرا من كبار مفكري العالم الثالث نقد نقدا جذريا الأدلوجة الأوروبية الأساسية؛ أي العقلانية المطبقة على الطبيعة والإنسان والتاريخ".[3]

[1] عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1992، ص 155

[2] أنظر/ موقع هسبريس/ مقالة، عبد المغيث جبران، بتاريخ: 2 مارس 2014

https://www.hespress.com/%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B9-%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%84%D9%89-%D8%A5%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D9%84-%D8%AF-161966.html

[3] نفسه، ص 168