الخطاب الإسلامي بين النص المقدّس والتناول البشري
فئة : مقالات
الخطاب الإسلامي بين النص المقدّس والتناول البشري
إنّ حرية الإنسان اليوم تعني أولاً وقبل كل شيء تحريره من السلطة التعسفية، سواء كانت سلطان الدولة القمعية أو سلطان رجال الدين الذين يعتبرون أنفسهم وكلاء عن إرادة الله في الأرض. وهنا كان التمايز الذي جاء به الإسلام، أنه ليس به سلطة كهنوتية تحتكر تفسير الدين أو تطبيقه، على عكس الكنيسة الأوروبية في الحقبة الوسيطة، عندما كانت تمتلك سلطة طاغية ماثلت سلطة الإمبراطور أو ربما تفوقت عليه. حتى اضطر الإمبراطور هنري الرابع عام 1077 عندما تحدّى سلطان الكنيسة أن يقف حافياً وسط الثلوج يلتمس الصفح من الأب المقدّس.
وعندما ارتكب الإمبراطور ثيودوسيوس مجزرة مروعة ضدّ ضيوفه، رفض كبير أساقفة ميلانو إعطاءه المناولة الربّانية، فاحتج ثيودوسيوس مستنداً إلى الكتاب المقدس أنّ نبي الله داود أذنب هو الآخر، ليس بالقتل فقط، ولكن بالوقوع في الزنا، فناوله كبير الأساقفة الإجابة كالرعد: "أنت قلدته في المعصية فعليك أن تقلده في التوبة".
وما أذهل الجميع أنّ الإمبراطور، أقوى رجل في العالم، ظلّ طيلة ثمانية أشهر متوالية يظهر في شوارع ميلانو بملابس شحاذ ـ مثلما فعل داود في الحكاية الواردة بالكتاب المقدس ـ يقف بباب الكنيسة يطلب الصفح من كبير الأساقفة.
على عكس ذلك، كانت طبيعة الإسلام، حيث لا تتطلب القيادة الروحية فيه أية شروط طبقية خاصة. فالإمام في الصلاة أحفظهم للقرآن حتى لو كان من العوام، والأرض كلها طهور لإقامة المساجد دون اشتراط طبيعة خاصة لها؛ ولذلك على مدار العصور لم تظهر صراعات كبيرة بين مؤسسة المسجد وبين الخليفة أو الحاكم.
بل حذّر الله من طبقة رجال الدين، في الأديان السابقة، أنهم العدو الأول للدين، يستخدمونه للارتزاق والتربّح، ويحذّر أتباع الدين الجديد من تنامي طبقة مماثلة في الإسلام فيقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
في المسيحية الله شريك قيصر الصغير، لذلك من الوارد أن تقوم صراعات بين ممثلي الله، القيادة الروحية الكهنوتية، وبين القيادة الزمنية ممثلة في القيصر. وعبر تاريخ طويل من الصراع دام لأكثر من ألف سنة، اندلعت الشرارات الأولى للحرية.
أمّا في الإسلام، فالله هو القيصر، وبذلك اندمجت الطبيعة الدينية والسياسية في كيان واحد دون تعارض أو صراع، فيكون خليفة المسلمين هو إمامهم في الصلاة، وهو ما أنتج واقعاً جديداً، فلم يسيطر الدين على الدولة، بل سيطرت الدولة على القيادة الدينية، وكلما كانت القيادة السياسية أكثر استنارة وميلاً لدعم الإبداع والحرية، انعكس ذلك على الإنتاج الفقهي والتجديد الديني. وكلما كانت أكثر ميلاً للقمع والاستبداد أنتجت نسخة مشوّهة من الدين تنوعت على اتجاهين: اتجاه أغرق في شكليات الدين وفروعه وهوامشه وأغفل ما فيه من قواعد كُليّة تدعو للعدل والحرية وكرامة الإنسان والتكافل، وابتدع فقهاً مدجناً قابلاً لمهادنة السلطة يفترض الطاعة لولي الأمر، واتجاه ثانٍ، تبنّى خطاب العنف والتكفير والخروج المسلح، ليس على الحاكم وحده، وإنّما على المجتمع الذي قبل بهذا الحاكم بوصفه شريكاً في الجرم.
وتعتمد هذه الطائفة على تفسير مشوّه للدين، واستدعاء آيات القتال بشكل مجتزأ عن السياق الاجتماعي والتاريخي، وإعادة إنتاجها على واقع مختلف.
ولأنّ الظواهر البشرية لا تأتي بشكل فجائي، على قدر ما تكون تراكماً لسنوات طويلة من الأحداث التاريخية المتشابهة، فقد ظهرت بوادر هذا الفكر عندما قبل الإمام علي بن أبي طالب التحكيم بينه وبين جيش معاوية، بعد الحرب الأهلية بين المسلمين في صفّين، وقتها انفصلت جماعة من المقاتلين في صفوف الإمام عن الجيش، وخرجوا عليه وأعلنوا احتجاجهم، وقالوا جملتهم الشهيرة، لتكون محور الأحداث للمرة الأولى: "الحكم لله، ليس لك يا علي".
كأنّ علياً، الذي قال فيه الرسول أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، كأنّه لا يعرف حكم الله. وتعليقاً على كلامهم فيما يروي ابن إسحاق، قال الإمام علي: "يقولون الحكم لله، وفي الأرض حكام، ولابد للناس من إمارة، يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الكافر والفاجر".
ثم أرسل عبد الله بن عباس يناقشهم في دعواهم، وعندما دخل عليهم وصفهم أنّه ما رأى قوماً أشد اجتهاداً في العبادة منهم، ووجوههم يظهر فيها أثر السجود. قال لهم: "ما تنقمون على ابن عم رسول الله، وختنه، وأول من آمن به؟" قالوا: إنّه حكّم الرجال في دين الله، والله قال (إن الحكم إلا لله).
قال: "اسمعوا قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) المائدة:95.. وقال (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) النساء:35.. فالله قد ارتضى حكم الرجال فيما يقترفه المُحرم من صيد، ولو في أرنب ثمنه ربع درهم.. وارتضى حكم الرجال فيما ينشب بين الزوجين من خلافات. استحلفكم بالله، أحكم الرجال خير في حقن دماء المسلمين وصلاح ذات بينهم، أم في أرنب ثمنها ربع درهم"؟
وخلال نقاشات كتلك، عاد قسم كبير من هؤلاء الحروريين إلى صفوف المسلمين، إلا أنّ المشكلة لم تنحلّ بالكليّة، وظل بعضهم على موقفهم، إلى أن قام عبد الرحمن بن ملجم، وهو رجل كثير العبادة ويحافظ على تلاوة القرآن، بشحذ سيفه بالسمّ، ليقتل به عليّاً بن أبي طالب، لأنّه شر خلق الله، في نظره.
يقول الله في كتابه:
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) 32 فاطر.
الفكرة تبدأ من الأحادية، أنا موجود وغيري لا شيء، صفر على الشمال، هواء لا قيمة له. ولأنّه لا شيء، أو هو والعدم سواء، فلا بأس من الاعتداء عليه وانتهاك حرماته وسلبه كل حق في الحياة. لن يلومني أحدهم لو طعنت الهواء بسيفي أو وجّهت رصاصات البندقية إلى العدم، ولو منحته الفتات، فليحمد الله ـ ويحمدني- عليه.
تلك الطريقة في التفكير هي التي يُقنع بها المتطرف نفسه، ليبرهن على عدم الاعتداد بحياة الآخرين أو كرامتهم.
الآية السابقة هي بداية المواجهة، لأنها تضمن التعددية والاختلاف بين البشر في العزيمة وسبل الطاعة ومراتب الإيمان، والكل موجود، والتنوع هو أول ما يحفظ التعايش، وإقرار التنوع هو الضمانة المركزية في حق الغير في الوجود، وغلّ يد الإنسان على اعتبار نفسه الأوحد الذي تحميه قوانين الطبيعة.
تقول الآية: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، فكلّ المذكورين تباعاً هم الأخيار الذين اصطفاهم الله لحمل كلماته، ورغم أنهم الأصفياء إلا أنهم ليسوا على شكل واحد، فداخل الاصطفاء تنوع؛ منهم ظالم لنفسه، ومقتصد يقوم بالتكاليف دون زيادة، وسابق بالخيرات. ورغم هذا التنوع بين النقص والكمال إلا أنّ الله ختم الآية بـ (ذلك هو الفضل من الله).
حتى من ظلم نفسه يجد مساحة وجود في فضل الله تضمن له الحماية والرعاية، وتغلّ يد الطبقات الأخرى في البطش، ولا تعطي لأحدهم الحق في القضاء على الأخرى أو ممارسة السطوة عليها.
بهذا نستطيع أن نقول إنّنا بدأنا في وضع أيدينا على أول الخيط.
لذلك قال الله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
لم يشأ الله أن نصير أمّة واحدة، لوناً واحداً، ويقرّ حقيقة التعددية والتنوع التي خلق بها الكون، والتي تبقى ببقائه. تعدد الشرائع والطرائق وأنماط البشر، والهدف هو أن نتسابق إلى الخير. والله وحده يفصل بين العباد يوم القيامة فيما يختلفون فيه، فهي ليست وظيفة البشر.
ولو تجاوزنا نفسية المتطرف التي لا تعترف بالآخر وتتجاهل وجوده، وإن سمحت له بالوجود فيكون ذلك تحت وصايته ووفقاً لتفسيراته الدينية المتشددة، ولو خرج عنها يمنح نفسه سلطة إضافية، وهي سلطة العقاب وفقاً لتفسيرات مجتزأة لنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردة بكثرة في القرآن، والتي يتمحور معظمها في أذهانهم حول أمور شكلية، مثل حجاب المرأة، والمساجد المقبورة، ولحية الرجال، وصلاة الجماعة، وبعض المخالفات اللفظية العادية في الكلام، مثل الحلف بالنبي، وهي أمور بعيدة كلّ البعد عن روح الإسلام والأهداف الكبرى التي كرّس لها لبّ التشريع، والتي عاش الرسول يناضل من أجلها طيلة سنوات البعثة.
وتكمن الاختلالات في أنّهم لا يرون في القضايا الرئيسة التي تتقاطع بين الدين ونماء الحياة أيّة أهمية تُذكر؛ فهم لا يرون في الفقر ذنباً، رغم أنّ الإمام عليّاً كان ينصح ابنه قائلاً: "يا بُني استعذ بالله من الفقر فإنّ الفقر منقصة لدين الرجل".
ولا يرون في العمل الدنيوي أيّة أهمية تذكر، وينسون أنه عندما مرّ شاب قويّ بالصحابة، وهم جلوس عند النبي، قالوا: لو كان هذا في سبيل الله لكان خيراً. فقال الرسول: "لو كان على أبوين شيخين كبيرين يعولهما فهو في سبيل الله، ولو كان على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله".
فسبيل الله، وفقاً للحديث، يكمن في القيمة المضافة في الحياة من عمل، والتي تحمي الناس من الفقر والذل وسؤال الغير. وقال الرسول: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو حيوان إلا كان له بها صدقة." وحديث آخر، "على كل مسلم صدقة، قالوا ومن لم يجد يا رسول الله؟ قال يعمل بيده، فيكفي نفسه ويتصدق".
فالمسلم مكلف بصورة يومية أن يشارك مجتمعه شيئاً ممّا يملك؛ لتغليب مشاعر الرحمة والعطاء والتنمية، ولو لم يجد، فليعمل ليكفي نفسه، ويعطي غيره.
كما أنهم ينسون أنّ الضعف فتنة، وأنّ القتال في الرعيل الأول كان دفاعاً عن قضية الضعفاء، كما جاء في القرآن:
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) النساء:75
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الأنفال:39
تبين الآية الأولى أنّ القتال كان دفعاً للظلم الواقع على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين أخرجوا، ظلماً، من ديارهم، ولا يتمتعون بحرية اختياراتهم العقائدية.
وتُشرّع الآية الثانية القتال لدفع الفتنة، حيث كان الرجل يفتن في دينه لما يتعرض له من ظلم وأذى، لثلاث عشرة سنة كاملة، فكان القتال حلاًّ أخيراً لمواجهة الضعف وتأمين العقيدة، وليس فرضها.
الآن صارت الفتنة التي نتعرض لها، والضعف الذي نعانيه، فيما نواجهه من فقر وجهل وتخلف، وانعدام أي وزن أو تأثير دولي. فالعالم الحديث لا يعترف إلا بالقوي، والقوي يقف على دعم من اقتصاد داخلي قوي واستقرار سياسي وارتفاع معدلات التنمية.
الحرب حديثاً، لم تعد في سنابك الخيل وصليل السيوف... بل بطائرات بدون طيار (درون) وأجهزة تجسس عبر الأقمار الصناعية وقنابل ذكية. وكلها تقوم على البحث العلمي والجامعات الحديثة ونظم الإدارة الغربية القائمة على حرية الإنسان واحترام التعددية والتواصل البشري ونبذ العنف.
وعندما دعا بعض الفرقاء السياسيين المتناحرين عبد الله بن عمر بن الخطاب للمشاركة فيما يجري من صراع بين عبد الله بن الزبير، أمير المدينة، وعبد الملك بن مروان، أمير الشام، والتدخل للجهاد في سبيل الله، قال ابن عمر: "قاتلنا في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، وقت أن كان المسلمون يتخطّفون من الأرض، أمّا الآن وقد أمن الناس على نفوسهم ودينهم، فلا حاجة لنا للقتال".
لذلك قال الإمام أبو حنيفة، تعليقاً على القسمة التقليدية للعالم بين دار سلم ودار حرب: إنّ دار السلم هي كل بلد تسمح للمسلم بالتعبد وممارسة الشعائر بحرية وأمان، التي يجهر فيها المسلم بدينه دون أن يخاف على نفسه، حتى لو حكمها غير مسلم.
فالقتال له هدف ووسيلة... هدفه الوصول إلى درجة من الأمان والحريّة تضمن للناس اختيارها العقيدي، والوسيلة تكون فيما استطعتم من قوة، والهدف حديثاً صار ممكناً بالاتفاقات الدولية والقانون الدوليّ العام، والدخول في دائرة العالم المعاصر وما فيه من أحلاف ومعاهدات، والوسيلة تغيّرت، فصارت القوة في العقل والعلم والاقتصاد وسبل الإدارة الحديثة. ولو وصلنا للهدف بوسائل سلمية، لما عاد لنا في العداء والقتال حاجة.
يضاف إلى كلّ الاختلالات الواردة في منظومة التفكير، احتقار هؤلاء للعلوم الحديثة، أو على أقل تقدير وضعها في درجة أقلّ من الاهتمام بالمقارنة بالعلوم الدينية، رغم أنّ آيات القرآن تنصبّ في جانب كبير منها على فتح حواسّ الإنسان وآفاق عقله على الإعجاز الكونيّ. من جبال ونجوم وأفلاك، لا ينغلق على نفسه، وإنّما يستكشف العوالم الأخرى من حيوان ونبات وطفيليات التي جعلها الله بوصف القرآن: (أمم أمثالكم).
فمعرفة الطبيعة، والتحاور معها، وفك طلاسمها، والتحسّب لهجماتها الغادرة، وتطويعها لمصلحة الإنسان، هو العمل الديني الأول الذي يجب أن يستنفد كل طاقتنا ووقتنا ومجهودنا الفكريّ. وذلك ما يلائم عمارة الأرض، لأنّ الله عندما كتب على آدم الهبوط إلى الأرض قال له: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ).
وعندما طالب الكفار الرسول بآية خارقة للطبيعة حتى يؤمنوا، قرأ عليهم: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، ثم تلا: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).
الله لا يريد أعناقاً خاضعة ذليلة على قدر ما يريد عقولاً متفتحة مستنيرة ترى آياته، تتأملها وتقبلها عن رضا وقناعة. وجعل الله آياته هنا في الأرض، وما تخرجه من زروع ونبات وثمر مختلف ألوانه.
لم يجعل الله معجزته الدائمة في كسر النظام، ولكن في النظام ذاته. ولن يرى النظام إلا من امتلك المعرفة والعلوم الإمبريقية القائمة على التجربة والملاحظة والنتيجة.
إذن، فمن لم يتواصل مع الطبيعة ليرى فيها عظمة الله، فإنّه فقد شطر إيمانه... أو يزيد، وكيف نتواصل مع الطبيعة في بيئة كلها حروب وقتل وتهديد وما يورثه ذلك من تخلف وفقر؟
ولأنّ هؤلاء فقدوا عقولهم، فقد فقدوا ما تبقى لهم من ارتباط حقيقي بجوهر الدين، ففي الحديث الصحيح: "ما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله". وفي حديث ثانٍ: "لكلّ شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته، أما سمعتم قول الفجّار في النار؟ (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)."
وفي الحديث القدسي: "أوّل ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب".
وعلى الرغم من أنّ القرآن وضع رسول الله في مرتبة خاصة، فإنّ رسول الله لا يملك إجبار الناس على شيء، قال الله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) ق:50؛ فالآية تنفي عنه صفة الإكراه المادي أو المعنوي، ولا تعطيه أيّة سلطة قمعية على قلوب الناس وإرادتهم إلا أن يذكّر بالقرآن، فسلاحه الوحيد... كلمات.
وقال: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الغاشية:22.
ولكن يبدو أنّ بعضهم يحلم بسلطان على الناس يفوق سلطان الأنبياء.