الخطاب الإصلاحي في ظل اقتصاد المعرفة: من التنظيم إلى التشبيك
فئة : مقالات
ما الخطاب الإصلاحي المفترض تشكله حول اقتصاد المعرفة (الشبكية)؟ يفترض أن تنشأ حول اقتصاد المعرفة أو الشبكية، بما هو التقنيات والموارد الجديدة (الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والجينوم والروبتة والطابعات ثلاثية الأبعاد، والبرمجة الإدراكية والمعلوماتية، ...)، منظومة اجتماعية وثقافية. وبطبيعة الحال، يفترض أيضا أن ينشأ خطاب إصلاحي جديد مستمد من التشكل الحضاري والاجتماعي المصاحب لهذه الموارد والتقنيات، فكما نشأت فلسفة وأفكار مصاحبة للاقتصاد الصناعي يتوقع/ يجب أن تنشأ أفكار وفلسفات "شبكية"، وأن يستمد منها خطاب إصلاحي.
تبدو التقنيات والموارد واضحة ومجمعاً عليها، لكن التشكل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ليس واضحاً ولا حتمياً أو تلقائياً، وفي ذلك فإن الخطاب الإصلاحي يجتهد بالاستجابة للمرحلة "الشبكية/ المعرفية" ببناء منظومة فكرية وفلسفية يستمد منها برامج وأفكار واتجاهات في التعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية والسياسية والقيم والثقافة والمدن، ...
إنها عمليات تكتنفها صعوبة الانقطاع عن الماضي "الصناعي" وغموض التشكل والاتجاهات، فما زلنا في مرحلة انتقالية من الصناعة إلى الشبكية/ ما بعد الصناعة، وهي مرحلة مليئة بالخوف وعدم اليقين والتغير المستمر، لكن وبطبيعة الحال يمكن تقدير اتجاهات ومبادئ للتفكير والاستشراف، منها إنشاء العلاقة الصحيحة والملائمة بين الموارد والتقنيات وبين التشكلات والاستجابات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، ومواجهة العلاقات والتشكلات الخاطئة، وإعادة صياغة الأهداف والأغراض العملية للإصلاح، في ظل الفرص والتحديات الجديدة الناشئة عن هذه التقنيات والموارد، وأخيراً إعادة تعريف الإصلاح نفسه، والتمييز بين الإصلاح وضده، وملاحظة ما أنجز بالفعل، أو تلقائياً، من أهداف إصلاحية، بفعل التقنية والتحولات الجديدة، وما يجب إنجازه، وما يجب التمسك به، وما يجب التخلي عنه، وإعادة توزيع الأدوار والأعباء والشراكات والتحالفات بين فئات العمل الإصلاحي ومكوناته، فما كانت تقوم به، على سبيل المثال، وسائل الإعلام، صارت تشارك فيه المجتمعات على نحو فاعل ومؤثر.
إنسان المعرفة بفرديته وإمكاناته الجديدة، في المعرفة والعمل، وقدراته على العمل بنفسه، يعيد تعريف المهن والحرف، وتتغير تبعاً لذلك المدن والمجتمعات، وعلاقتها بالأفراد والدولة والسوق؛ ففي مدن الأفراد القادرين على العمل، بأنفسهم ولأنفسهم، والذين لم يعودوا في مواردهم يرتبطون بمؤسسات عمل محددة، وأنظمة عمل تقليدية، يتغير تخطيط المدن والطرق والبيوت، وتتغير، أيضاً، العلاقة مع السلطات والأسواق... إنها مدن ومجتمعات أقرب إلى الاستقلالية والقدرة على تنظيم احتياجاتها وأولوياتها أو معظمها بلا حاجة كبيرة إلى السلطة المركزية، فتصعد أنظمة الحكم المحلي واللامركزية، ويدبر الأفراد وأهل المدن معظم احتياجاتهم وخدماتهم الأساسية، ما يجعلهم أكثر ولاية على أنفسهم واحتياجاتهم وخدماتهم، ويصبح للديمقراطية والحريات محتوى ومعنى جديد ومختلف.
يمنح التطور التكنولوجي لحظة يجب توظيفها، كيف نوظف التكنولوجيا المتاحة اليوم لأجل الإصلاح؟ كيف تساعد التكنولوجيا في التأثير على السياسة العامة، وتدفع بها باتجاه الإصلاح؟ كيف تساعد في تغيير علاقات القوة والإنتاج في المجتمع والدولة، ومن ثم كيف تنشئ قيادات اجتماعية واقتصادية وطبقات ومصالح جديدة؟ ثم كيف تنظم هذه الطبقة الجديدة مصالحها وأدواتها في التأثير والتغيير؟ كيف ينشئ الإصلاحيون بالتكنولوجيا الجديدة فرصاً وموارد وأسواقاً وأعمالاً جديدة، تنشئ موارد مستقلة لهم، ولقواعدهم الاجتماعية؟ هم بذلك فقط ينشئون علاقات قوة وتأثير جديدة وبديلة، تحرك الأسواق والمجتمعات، بعيداً عن الاحتكار والامتيازات التي ترفل فيها النخبة المهيمنة، ويجبرونها على المشاركة في الإصلاح والتنافس العادل، أو يخرجونها من التأثير. يضعونها في مواجهة الانقراض والفناء. وببساطة، وعلى نحو عملي، يجعلون قواعد الدخول إلى النخبة (النخب تعني قيادة المؤسسات والأعمال والقطاعات) والخروج منها على قاعدة "البقاء للأصلح"، وفي هذه القاعدة يكون الإصلاح!
السؤال، إذن، ببساطة، ومرة أخرى، كيف تنشئ المجتمعات والطبقات موارد وأعمالاً جديدة، تحررها من هيمنة النخب والاستبداد والاحتكار والامتيازات والإذعان والوصاية؟ فبغير الخروج من هذه الدوامة اللعينة، لن تستفيد المجتمعات من الانتخابات والديمقراطية والحريات!
يجد المُستضعَفون دائماً في التقنية الجديدة فرصاً جديدة في التحرر ومواجهة الظلم، وربما يردّ على ذلك بالقول إنها (التقنية) كانت أداة جديدة للهيمنة والاستغلال، ويبدو ذلك صحيحاً أيضاً. ولكن، من المؤكد أنه كانت تصحب التقنية، على مرّ التاريخ، تحولات اجتماعية، تستفيد منها طبقات وفئات، كانت مهمشة أو مظلومة، وترحل دائماً طبقات مهيمنة!
المطبعة جعلت المعرفة والقراءة والكتابة والتعليم متاحةً للفقراء، كما الأغنياء، وأصبح، للمرة الأولى، في مقدور عامة الناس في أوروبا قراءة الكتاب المقدس، ... كان ذلك حدثاً جدلياً كبيراً غيّر في أوروبا حتى اليوم، وكان واحداً من أسس الدعوة البروتستانتية التي انشقت على الكنيسة الكاثوليكية.
ويمكن، اليوم، ملاحظة فرص جديدة تتشكل حول الشبكية، بعضها بدأ بالفعل، يستخدمه المهمَّشون والفقراء، وبعضها مازال فرصاً واعدةً تحتاج إلى نضال وتنظيم اجتماعيين؛ ففي التعليم الذي يشكل، اليوم، أحد الأولويات الأساسية والكبرى للأفراد والمجتمعات والدول يمكن إتاحة تعليم جيد، كان يحتاج من قبل إلى سفر ونفقاتٍ كبيرة، لكنه أصبح متاحاً، أو ممكناً، بتكاليف قليلة، يقدر عليها معظم الناس؛ إذ تفتح تقنيات الحوسبة والتشبيك آفاقاً جديدة في العملية التعليمية، سواء في التدريس أو المناهج أو المؤسسات التعليمية ودورها، ودور الأسرة والمجتمع الذي يكاد يكون ثانوياً، أو غير متكامل، مع دور المؤسسات والإدارة والمناهج التعليمية القائمة.
فيمكن بموارد قليلة تطوير التعليم ومواكبة الإنتاج المعرفي المتواصل والمتدفق، والحصول على وسائل معرفية واتصالية وتدريبية، وتؤسس لتعليم جديد قائم على التعليم والتواصل عن بعد، وتمكن من تفعيل اكتساب المعرفة الراقية والمهمة من مصادرها المهمة والأولية، بجهود وتكاليف وتراتيب سهلة وممكنة.
وتمضي الشبكية، أيضاً، بالناس إلى أنماط واتجاهات جديدة في التعليم وإدارته؛ فالترجمة والتأليف، والإنجازات يمكن إتاحتها وتنسيقها، لتكون بين يدي جميع الناس.
والشبكية نفسها تتحول إلى فلسفةٍ في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافية، بديلة للهرمية القائمة، أو التي كانت قائمة، فالناس، في تعاملهم الشامل مع الشبكات، للتعليم والتواصل والاتصال والعمل والتشاور والحصول على المعلومات والمعارف وتبادل الآراء والخبرات والمعارف، وتحويل وتلقي المال والخدمات والسلع، يستبدلون بنظامهم الهرمي التاريخي في الحياة نظاما شبكياً قائماً على المساواة والمشاركة المتحققة فنياً.
القادة الجدد
كانت التحولات الكبرى في الدول والمجتمعات على مدى التاريخ تتشكل حول التطورات في الموارد والتقنية. وفي ذلك، صعدت وهبطت دول وطبقات ومجتمعات وفئات اجتماعية أو مهنية. في مرحلة الصناعة، سقطت الأرستقراطية وصعدت الطبقة الوسطى، وانتهت الديكتاتوريات وصعدت الديمقراطية، ... فمن هم القادمون الجدد في اقتصاد المعرفة، ومن هم المنقرضون؟ السؤال ليس جديداً، ويكاد يكون أكثر الموضوعات شغلاً للكتب والدراسات الغربية (بالطبع)، ولو حاول كل إنسان التأمل في الأسواق والأعمال والعلاقات، فإنه سوف يلاحظ بالتأكيد حجم التغير الكبير والعميق في الأسواق والحياة عامة. يمكن لأحدنا أن يسير في الأسواق والشوارع التجارية، وينظر ويقرأ اللافتات، ويقارن ما يشاهده بما كان عليه الحال قبل عشرين سنة، أو ينظر في السلع والأجهزة المعروضة، ثم يتخيل الأعمال والمهن الجديدة الصاعدة والمنسحبة، ثم يقدر من هم القادمون الجدد!
في الحوسبة التي هيمنت على العالم، صعدت شركات الحواسيب والبرمجة، كما نلاحظ في مايكروسوفت وأبل وسامسونغ ونوكيا، .. وفرسانها المبرمجون ومهندسو الكمبيوتر ومصممو الأفكار والأجهزة، ونجومها مثل ألن تورينغ، وبيل غيتس وستيف جوبز. وفي موجة الاتصالات، صعدت شركات عملاقة لم تكن من قبل، أو كانت صغيرة محدودة، وظهر قادة أعمال جدد، وفي الشبكية (الإنترنت)، ظهرت غوغل وفيسبوك وتويتر، ... وفي النانو تكنولوجي والهندسة الحيوية، تشكلت أعمال واسعة في الزراعة والغذاء والطب، ثم أعاد القائمون على الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة والرعاية، إدارة أعمالهم وتنظيمها، وفق هذه التقنيات الجديدة، محدثين تغييرات كبيرة فيها، وبطبيعة الحال، فإن المؤسسات والمهن التعليمية والطبية تتغير تغيراً جذرياً!
ووجد الناشطون والقادة الاجتماعيون الجدد مجالاً جديداً للعمل والتأثير، وخرجت من الحصار والتهميش طبقات وفئاتٌ لم يكن متاحاً لها من قبل المشاركة، واتخذ النضال لأجل الكرامة والحريات وتحسين الحياة أدواتٍ ووسائل جديدة، وسلك في آفاق جديدة مختلفة. وسأغامر بالقول، إن النخب التي تشكلت مصاحبة للدولة الحديثة في السنوات المائة الماضية، من قادة السياسة والمجتمعات والأعمال والثقافة والمؤسسات، تؤول إلى السقوط، إلا فئة قليلة منها؛ من القادة الذين يحاولون أن ينهضوا بدولهم ومجتمعاتهم وأعمالهم، ويستوعبوا التغيرات، أو تسعفهم نياتهم الحسنة في الإصلاح. وبعامة، إنها طبقة تلعب في الوقت الضائع، وليس لها أمل في البقاء والاستمرار، سوى أن تطور نفسها، وتشارك القادمين الجدد، أو تمضي في صناعة الخوف والحروب الأهلية الداخلية والفوضى، وهذا سوف يزيد أزمتها مع المجتمعات والناس، لأنها تزداد سوءاً وقبحاً في نظرهم، وتضيف إلى فشلها وفسادها أنها تتحول إلى جماعات من الأشرار!
لقد توجت التقنية الجديدة، أو مرحلة اقتصاد ومجتمعات المعرفة، بـ "الأنسنة"، بمعنى قابليتها للتداول والاستخدام بسهولة وبساطة، من غير خبرات معقدة، ومن دون حاجة إلى تدريب متخصص ومؤسسي، بل يمكن لكل إنسان (تقريباً) إتقانها والتعلم ذاتياً على استخدامها وتطبيقها. "الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه" تكاد هذه العبارة تلخص المحتوى الجديد لاقتصاد المعرفة، ففي قدرة الإنسان على التعلم والتواصل والعمل مستقلاً عن السلطات والشركات الكبرى، وفي تطور تقنيات الطاقة والتواصل والغذاء والصحة سيكون في مقدور الأفراد والمجتمعات الاستقلال عن الدولة والشركات بنسبة كبيرة. ولذلك، سوف تعيد المجتمعات تنظيم نفسها من جديد، حول أولوياتها وخدماتها، لتدير، معتمدة على نفسها، مواردها وخدماتها الأساسية في التعليم والرعاية وتوفير السلع والخدمات. وبذلك، سوف تعيد إدارة وتنظيم علاقتها بالحكومات والشركات اعتماداً على قدراتها وفرصها الجديدة.
سوف تكون المجتمعات قوة ثالثة جديدة، إلى جانب الشركات والحكومات، وبطبيعة الحال، فإن قادة المجتمعات سوف يكونون قادة جدداً، ومؤثرين في الدولة والمجتمع، رؤساء البلديات وقادتها وأعضاء مجالسها وقادة الأعمال والمؤسسات المجتمعية في التعليم والصحة والخدمات والرياضة والثقافة، ومن بين هؤلاء ستكون نسبة كبيرة من أعضاء المجالس النيابية، وبطبيعة الحال الوزراء!
سيكون في مقدور المدن والمحافظات أن تمول وتدير وتنظم معظم، إن لم يكن جميع، الخدمات والاحتياجات الأساسية والإدارية. وبذلك، سوف يتراجع كثيراً الإنفاق الحكومي، وكذلك المؤسسات المركزية، ففي قدرة المجتمعات على إدارة ومراقبة الطرق والأماكن العامة بتكاليف قليلة، وتقنيات متاحة، يقل كثيراً عدد أفراد الأمن، وتصبح الأجهزة الأمنية مكاتب تقنية أنيقة محدودة العدد. وفي انتهاء الحروب، وتطور تقنيات المراقبة والردع، تتغير الجيوش ووسائل الدفاع. وفي ولاية المجتمعات والبلديات على التعليم والصحة والرعاية، تتحول الوزارات المركزية لهذه الخدمات إلى مؤسسات للتنسيق والمراقبة، أكثر منها تنفيذية مباشرة.
وهكذا، فإن الأرستقراطية القادمة سوف يضاف إليها مجموعتان جديدتان مؤثرتان، بل وحاسمتان، قادة المجتمعات، وقادة الإبداع والابتكار والخيال.