الخطاب الديني المعاصر وضرورة التحرير المزدوج
فئة : مقالات
يُعاني الخطابُ الديني الإسلاميّ المعاصرُ من عدة مُكبِّلاتٍ تحولُ دون جعله خطاباً مُنتجا للمعنى في قلب المسلم وعقله؛ ذلك أنهُ ورغم السطو العددي للدعاة والكتب الدعوية والفضاءات الدينية التقليدية والقنوات الفضائية الدينية والمواقع الإلكترونية ذات الاهتمام بـ"التوعية والإرشاد" الدينيين...إلخ، فإنّ الغالب السائد في المشهد الديني اليوم إنتاجُ خطابٍ ديني مكرور يلقي بالمؤمن في غياهب أفكار وفتاوى وحكايات سرعان ما يستبينُ تهافُتُها عند أول فحص عقلانيٍّ إيماني أو غير إيماني، مثلما يستبينُ تهافتُ ذاك الخطابِ الحداثي الإقصائي النقيض الذي بدل أن ينظر في المعنى الديني لتحريره من المكرورية واللاعقلانيةِ، فإنهُ يُهدِرُ المعنى ويلقي بالمؤمن، بشكل ظاهر أو ضامر، في غياهب العدم.
ثمة، في ضوء هذا الرصد التمهيدي، اعتقالان بارزان يكبِّلان، في نظرنا، الخطابَ الديني الإسلامي المعاصر، ويَحُولان دونَ أن يكون هذا الخطابُ خطاباً إيمانيا وعقلانياً فعَّالا في تأطيرِ الوعي الإيمانيّ وتوجيهِ المسار الحياتي المعاصر للمؤمنين هنا والآن؛ دونما شعور بالتناقض، ودونما تكريس أو تغذية لانفصام مرضي فردي أو جماعي بين "معتقدات" المؤمن و"ضرورات" الممارسة الحياتية المعاصرة، انفصامٌ يحملُ نعتَ "النفاق" الذي ينهى عنه الخطابُ الديني، ويعتبرُه أخطرَ مُكدِّرٍ لصفاء الإيمان؛ لأن نتائجَهُ أخطر من الخروج عن الإيمان أي من الكُفرِ الصراح.
هذان الاعتقالانِ الرئيسانِ اللذان يأسران الخطاب الديني الإسلامي اليوم يتمظهرانِ في قراءتين متناقضتين للنصوص الدينية المؤسِّسَة وللتراث الديني المتمحور حولها. لكل واحدة من هذين القراءتين مأزقُها الخاص؛ الأولى "قراءة حرفية" مأزقُها الرئيسُ هو التفريطُ في التاريخيةِ؛ أي إنكارها لكل صيرورة أو تحول أو تأثير للسياقات الاجتماعية والأنثروبولوجية والسياسية والاقتصادية والمعرفية والنفسية في إنتاج الفهم؛ فيما الثانيةُ قراءةٌ نقيضةٌ مأزقُها الأساسُ الإفراطُ في الاعتقاد بتلك التاريخية وتمجيدها لتلك السياقات إلى درجة إلغاء التعالي الذي تتجوهر به النصوص الدينيةُ ومن ثم إعدام الإيمان، ونسمي هذه القراءة هنا "قراءة تاريخية"؛ سواء أكانت ذات مرجعية وضعانيةٍ أم ذات أفقٍ تفكيكي كما سنتبين لاحقاً.
بخلاف القراءتين، نحن ممَّن يرى أنّ ثمةَ أفقاً آخر ممكناً لضخ خطابنا الديني المعاصر بالفعاليةِ العقلانية والروحية؛ أفقاً يشج بين عدمِ نسيانِ التاريخِ ومشروطيتهِ وبينَ عدم التفريط في التعالي من خلال تجديد الإيمان وتغذيته بالمعنى، وهو الأفق القرائي الذي نُطلق عليه "قراءة عقلانية إيمانية"؛ قراءة نرى أنّ الحاجة المعاصرة إليها أضحت اليومَ ملحةً أكثر من أي وقت مضى؛ وذلك لتحريرنا مما نعتبرهُ مآزق تعتقلنَا فِي شِرَاكها القراءتان الحرفية والتاريخية.
من هذا المنظور، سنحاول ها هنا أن نبسطَ نوعاً من البسط - المبنيِّ على البيانِ الموجِزِ- ملامحَ القراءتين/ الاعتقالين، ثم الأفقَ القرائي الذي نقترحهُ لتحقيق التحرير المزدوج منهما.
1- القراءة الحرفيةُ ومأْزقُ اللاتاريخية
الاعتقالُ الأول الذي يُعاني منه الخطابُ الديني الإسلامي المعاصر، كما أسلفنا، تمثِّلُه القراءةُ الحرفية الظاهرية المتشددة للنصوص الدينية التأسيسية، وهي قراءةٌ تجثمُ على وجه أحادي لفهمِ الإسلام، وتعتبرُه فهماً نهائياً ومُغلقاً ومُطابقاً لمُراد الشارع، ومن ثم تَعُدُّ من الواجبِ الالتزامَ به لأنه عينُ الالتزام بالدين، وكل خروجٍ عنه هو، في اعتبارِها، خروجٌ عن الدين وانسلاخ عن ملة الإسلام. وهذا "الاعتقالُ" الذي مازال يكبِّل الخطاب الديني الإسلامي المعاصر، يستعيدُ أسئلةً وإشكالاتٍ وأجوبةً من سياقاتٍ علميةٍ واجتماعية وتاريخية وسياسية لا صلة لها اليوم بالواقع، ويحاولُ من خلالها قراءةَ حاضرٍ مُغايرٍ له ملامحُ اختلافِهِ التَّام والكاملِ عن مختلف تلكَ الأسئلة والإشكالات والأجوبة. إنه يُعَطِّل التفكير، ويستعيرُ أصواتاً من زمنٍ مضَى وانقضَى لتُفَكِّر عِوَضاً عنَّا في قضايا تندرجُ تاريخياً وفكرياً، ضمن دائرة اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة إلى تلكَ الأصوات؛ لا لتقصير ذاتي منها، بل لأنَّ النظامَ المعرفي العام المُهيمِن والمسيطر على سياقها التاريخي والمعرفي والحضاري لم يكن يُسعف على طرح مثل هذه القضايا.
قد يَعترضُ معترِض أنّ تلكَ الأصوات لم تكن تنطِقُ بآرائها، بل بأحكام الله تعالى في الأسئلةِ والقضايا المطروحة، وهي أحكام لا يجري عليها التبديلُ أو التغيير؛ إذ "لا تبديلَ لكلمات الله" (يونس، الآية 64)، قال تعالى أيضا:"وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"(الكهف، الآية 27)؛ وقال سبحانه:"وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام، الآية 115).
هذا هو الاعتراض الذي ترفعه القراءةُ الحرفيةُ، وفيه يكمنُ الداءُ العُضَالُ في تعاملها مع النصوص المُنْزَلَة، داءُ المُمَاهاةِ بين الفهمِ والنصِّ، بين القراءةِ والمقروءِ، بين الإدراكِ البشري النسبي المُتغيِّرِ وبين الكلمةِ الإلهية المتعالية الخالدة؛ فبدلَ أن تُدرِكَ أنّ الاختلافَ بشريٌّ كما اقتضت سنةُ اللهِ تعالى في خلقهِ، بما في ذلكَ الاختلافُ في الفهمِ، تُصنِّفُ هذه القراءةُ كلَّ مختلِفٍ في خانةِ الزيغِ والضلالِ، وتُنصِّبُ نفسها في مركزِ إصدار الحقيقةِ الإلهية؛ بينما ظلَّ كثير من أفذاذِ علمائنا القدامى يعتبرون ما يذهبون إليه مجرد اجتهادٍ يُؤخذ منه ويُردُّ، إيماناً منهم بتفرقِ الصحابة في الأمصار وتفاوتِ أهل الذكر في المدارك وتعرضِ البشر للزلل.
المنحى نفسه ستُعمِّقهُ المعارفُ الحديثةُ حينَ ستذهب أبعد من ذلك في التأكيدِ على أن الاختلافَ في الفهم ضرورةٌ لغوية ومعرفية وثقافية، لتعلِّمنا كيف ننظر إلى نتاج أولئك العلماءِ نظرةً تاريخية تصلُ فكرَهم بسياقهم التاريخي ومنهجهم المعرفي وبالمُسبقات الحاكمة لفهمِهم، والتي تؤثِّرُ في إدراكهم بوعي وبغير وعي. وهذا يعني أن بعضَ القدماء أدركوا بحسِّهم الأخلاقي وحدسهم المعرفي نسبيةَ آرائهم؛ فيما أكدتْ ذلك العلوم الإنسانيةُ الحديثةُ بالحجة والدليل العلميين، بل وذهبت إلى القولِ باستحالةِ إنتاج فهمٍ مُطابقٍ، بشكل مطلقٍ، لمعان ومقاصد تخصّ نصًّا يتموضعُ مُتلقيهِ في شروطٍ مغايرة لشروط إنتاجهِ أو تلقيه أول مرةٍ.
لقد صارَ هذا الوعيُ المعرفيُّ الحديث بتاريخية القراءة يُؤَزِّمُ القراءةَ الحرفيةَ للوحيِ ويكشِفُ عوراتِها المعرفيةَ، فيما سِرُّ الوحيِ كامنٌ في موضِعٍ لا تُدركهُ القراءةُ الحرفيةُ المذكورةُ، إنهُ كامنٌ في قدرة الوحي أن يُخاطِبَ كلَّ الناسِ دونَ أن يُلغيَ سياقَ مُخاطَبيهِ المبَاشِرينَ في زمنِ النبوة؛ ذلك أنّ عَظَمةَ التنزيلِ أن يتواصلَ مع التاريخِ دون أن يحتكِرهُ فهمٌ تاريخي معلوم. فمثلمَا وجدَ أجدادُنا في الوحيِ رُواءً لأسئلتهم، فإنَّ الوحي قادرٌ على الإجابة على أسئلتنا المُغايرةِ تاريخيا لتلك التي طرحها أجدادنا؛ أسئلةٍ نابعةٍ من صميمِ حياتنا المعاصرةِ كما هو شأن أسئلة الحقوق الإنسانيةِ والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمجتمع الحديث، وكذا أسئلة التواصل ورهاناتهِ، وأسئلة المواثيق الأممية الخاصة بالسياسة الدولية والتبادل التجاري والإعلام والبيئة والرياضة وحقوق التأليف وبراءة الاختراع، وأسئلة الفن والإبداع، وتلك المتصلة بالبحوث العلمية المختلفة في الطب والفيزياء والبيولوجيا وعلم الجينات وغيرها؛ والتي يؤثر تطور البحث فيها في تمثّلنا لمفاهيم الأسرة والزواج والبنوة والأبوة والهوية الجنسية للأفراد وغيرها، فضلاً عما تطرحه كشوفات تلك البحوث من إشكالات أخلاقية تتعلق بمنظومات القيم بوجه عام والمنظومات القيمية الدينية بشكل خاص. قضايا وإشكالات نرى أن الوحيَ لا محالةَ قادرٌ على أن يُمِدَّنا بما يضيء تعاطينا معها بشرطِ أن نُجدد "الدِّلاءَ" لنجددَ تلقينا للوحيِ، ولنبلغَ من الأعماقِ ما فاتَ الأجدادَ، لا لتقصيرٍ منهم في البذلِ كما قلنا، بل لغياب شروط إمكان السؤال الذي نطرحه اليوم ولمحدوديةِ المعارف المتعلقة بالشروط نفسِها.
وحتى نقف عند نموذج لتجدد التلقي المذكورِ والذي يكشفُ مأزقَ القراءةِ الحرفيةِ، يكفِي مثلا أن نتأمل كيف تلقى علماؤنا القدامى مفهوم "العالَم" في تعاملهم مع الوحي. فقد كان مفهوم "العالَم" بالنسبة إلى علماء عظماء من ثقافتنا الإسلامية إلى حدود القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي؛ كان محدوداً بحدود الوعي الجغرافي الوسيط وبالمخيال الجغرافي لأجدادنا الممتد بين الصين و"بحر الظلمات". لكن هذا المفهوم سيعرف صيرورةَ إدراكٍ مُحايثةٍ لمختلف التطورات التي ستُسفر عنها الاكتشافاتُ الجغرافيةُ والثوراتُ الصناعية والتجارية والعلمية والتكنولوجية اللاحقة، والتي ستنعكس على إدراكنا لمفهوم "العالم"، ومن ثم سيصيرُ مَعيبا، عقلا وإيماناً، أن نستعيرَ فهمَ أجدادنا لمفهوم "العالَم" قبلَ تلك الاكتشافات والثورات لنُجيب به على الإشكالاتِ التي يطرحها فهمُنا اليوم لـ"العالم" أفقًا كوكبيّا تواصليّا منفتحا أو للإسلام اليوم بوصفه دينًا عالميّا.
معنى هذا أنّه لا يمكن أن نفهم، مثلاً، عالمية الرحمة المحمدية اليومَ بحدود فهمِ أجدادنا للعالميةِ، والذي كان أسيرَ محدوديَّة إدراكهم لمفهوم "العالم" في العصر الوسيط. لذا يُخطئ، أيما خطأ، من يستعيرُ حديث أجدادنا عن "العالمية" ليدلِّل على انفتاح ثقافتنا الإسلامية اليومَ على "العالمية"، فـ"عالميةُ" الرسالة المحمديةِ متجددةٌ بتجدد مفهوم العالم؛ ذلك أنّ لهذا المفهومِ نفسِه تاريخاً، وهو كذلك مفهومٌ صائر ما يفتأ يتحول، ولا يمكن أخذه في إطلاقه بعيدا عن الإحداثيات المكانية والزمانية والمعرفية المؤطرة له، وإلا سنقع فيما يسمى اليوم بـ"المغالطة التاريخية"؛ أي إسقاط السابق على اللاحق أو محاكمة السابق باللاحق بما لا يتلاءم ومساقَه الخاص وسياقه التاريخي. إنّ الكلمةَ الإلهيةَ دوماً متعاليةٌ، لكنّ فهمهَا تاريخيٌّ مُتجددٌ بتجددِ الأطرِ المعرفية والاجتماعية للفهم، وأيُّ مغالطةٍ تَلحق الإدراكَ فمردُّها إلى الفهم لا إلى النص، وتعليلُها في القراءةِ لا في المقروء.
يقتضي، إذن، تَجديدُ تلقي الوحيِ الوعيَ بتعالي هذا الأخيرِ في روحِه وبصيرورة أشكالِ فهمه وتاريخيتها، وكل تلقٍّ يفتقد هذا الوعيَ سيقع في أزمة تُشَوِّشُ على فهمه للوحي. وأزمة القراءة الحرفية أنّها قراءةٌ لا تاريخية؛ أي أنّها لا تُدرك أنّ أشكال فهم الوحي تاريخيةٌ صائرة لارتباطها ببشرية الفهم وبسياقه وأدواته، وهو ما يجعلها تَجْمُدُ على تحيين وتنزيل تاريخي محدد للتعالي، فتعتبرُ ذاك التنزيلَ أو التحيينَ متعالياً في ذاته. "اللا تاريخية"، إذن، هي أبرزُ مظهر من مظاهرِ الأزمة التي تورطُنا فيها القراءةُ الحرفيةُ بما هي مدار الاعتقالِ الأول الذي يُكبلُ خطابَنا الإسلامي المعاصر.
على أن تغييبَ التاريخيةِ في القراءة الحرفيةِ هو أيضا تغييب لـ "النقد"، ومن ثم إضفاء لأردية القداسة على كثير من مُنتَجَات الفكر البشري النسبي، وهذا ما يجعل الخطابَ الديني المعاصر مُكَبَّلا إلى اجتهادات فقهية وتفسيرية بشرية تاريخية نسبية، ما تفتأ تأسرهُ لكونها تتقدم بوصفها فهمًا مطابقا لحقيقة النصِّ الديني المتعالية كما شرحنا؛ فهمًا يصبح معه كل نقد ممجوجا ومنكرا من القول لكونه يُعَد نقدا للدين ذاته ولمتعالياته.
لقد ظلت لا تاريخيةُ القراءة الحرفية مصدرَ المماهاة بين فهم بشري معين وبين حقيقة النص الإلهي، وهو ما جعلها تُسَوِّغ إقصاء كل فهم مختلف للدين، بل كانت تلك المماهاة، وما تزال، خلفَ إراقة دماء، وتخريب عمرانٍ، وكتم أصوات، وإبادةِ تيارات فكرية، خصوصاً منذ اللحظات التاريخية الذي بدأ يدب فيها الضعف والهوان للإمبراطورية الإسلامية، والتي صار فيها الدين آخِرَ ملجأ لحماية الكيان السياسي للأمة. غير أنّ تحولاتِ العصور الحديثة واضطرارَ المسلمين للتفاعل مع الحداثة ورهاناتها، ورغبة كثير منهم في تجاوز أحوالِ التأخر التاريخي والتخلفِ الحضاري اللذين يطوقان واقع المسلمين، جعلَ القراءة الحرفيةَ تتعرضُ للتفكيك والنقد، بل أفرز أصواتا تركبُ مسارا نقيضا للقراءة الحرفية، ذهب بعضها إلى حدِّ متطرف أوقع الخطاب الديني الإسلامي المعاصر في مأزقٍ ثانٍ واعتقال آخر.
2- القراءة التاريخيةُ ومأزقُ العدميةِ الروحية
الاعتقال الثاني الذي وقع فيه الخطاب الديني الإسلامي المعاصر هو نقيض السابق كما أسلفنا. إنّه الإفراط في الاعتقاد بالتاريخية إلى درجة اعتبار كل التراث من الماضي الذي ينبغي إعدامُه ونسيانُه دونما تمييز بين المتعالي والتاريخي فيه؛ إذ لا شيء مقدس في التاريخ حسب هذا المنظور. إنّها مقاربة تاريخية وضعانية تعتبر كل النصوص الدينية، بما فيها النصوصَ الدينية التأسيسية العليا، منتوجاً تاريخياً ثقافياً تنتهي صلاحيتُه بانتهاء شروطِه التاريخية، وأن كلَّ هذا الانشدادِ إلى ماضٍ مُتَوهَّمٍ يحول دون الانخراط الفعال والمنتِج في الحداثة بما هي قَدَرٌ تاريخيّ عالمي.
تقع المقاربة التاريخية الوضعانية في المأزق ذاته الذي تعاني منه المقاربة الحرفية، فمثلما تقع هذه الأخيرةُ في شَرَك اللاتاريخية وتغتال العقلَ بذريعة التمسك بظاهر النقلِ، تقع المقاربةِ التاريخيةُ الوضعانيةُ في العدم الروحي فتغتال الإيمانَ بذريعة تحرير العقل؛ ذلك أنّها تتنكر لمستوى أنطولوجي ثابت من أبعاد الإنسان التكوينية، ويتصل الأمر بالبعد الإيماني الذي يُنتجُ ويغذي معنى أن يكونَ الإنسان موجوداً، هذا البعدُ الذي يشكل رافداً لطاقةِ الإنسان المعنوية يقوِّيهِ على التعامل مع ضعفه ومع المجهول في آن.
فبعد أن ظنت الحداثةُ الوضعانية أنّها قادرةٌ على إعدام البعد الديني بنسيانه والتركيز على البُعدين المادي والتاريخي الملموس والمحسوس في حياة الإنسان، خابَ ظنها، وبدا أنّهُ مجرد "وهمٍ" تَبدَّدَ بفعل ما عرفه النصفُ الثاني من القرن الماضي وبداية القرن الحالي من عودة قوية لـ "الدينيّ"، على اختلاف في مضمونه بين عودة "سؤال المعنى" عَقِبَ الجفاف الروحي الذي وقعت فيه الحداثة في الغرب، ولا سيما عند تفريطها في البعد الأخلاقي مقابل تطويرها للمستويات العلمية والتقنية والتكنولوجية والاقتصادية من حياة الإنسان؛ وبين مضمونِ عودة "الديني" في الضفَّة الإسلامية، وما يعنيه من عودة لطقوسية التدين واحتلال الدين لمواقع متقدمة في الحياة السياسية والفضاء العام بوجه عام، وهي عودة يستأسد فيها "التسييس" و"التطقيس" على "الروحنة" و"العقلنة"؛ أي يستأسدُ فيها ما صار يُسمى بـ "الإسلام السياسي"، والذي يُسَخِّر كل الموروثِ الديني في قراءة سياسية للواقع ورهاناته، وذلكَ في نسيان، يكاد يكون تاما، للعنفوان الروحي الذي يميز الدين في وظيفته الإيمانية المتعالية. وهذا ما أوقع التدينَ "العائدَ" بيننا في "تطقيس" تحولت معه مختلفُ مظاهر التنسك والتعبد من دلالاتها الروحية الكونية المتعالية إلى أشكال ورسوم تؤشر على تقليدانية تَدَيُّنيةٍ أو على انتماءٍ إلى مشروع سياسي مُعين يرفع عنوان الدين مرجعيةً وأفقاً، الأمر الذي جعلَ عودة "الديني" في الضفة "الإسلامية" مقرونةً بعُقْمٍ في إنتاج المعنى، سواء في مستوى الأفق الروحي المتعالي أو في مستوى معقولية الفهم التاريخي.
إنّ ما نسجله، هنا، هو أنّ إهمالَ الحداثة الوضعانية للبعدِ الديني، مع كونه حاجةً ضروريةً ضمن الحاجات الأنثروبولوجية للإنسان، جعلت هذه البعد ينفجرُ من جديد في وجهها بأشكالٍ متباينة في الضفتين الغربية والإسلامية؛ لأنّ هذا البعد لا بديلَ عنه، ولا يمكن لغيره أن يضطلع بوظائفه المعنوية والروحية والنفسية. من هنا تهافتُ كل دعوى إلى إقصاء البعد الديني وتهميشه في أي مسار تحديثي.
بخلاف القراءةِ التاريخيّة الوضعانية للدين، ثمةٌ مسار آخر تلجأ إليه كثير من المقاربات التاريخية الحداثية، وهو رفع شعار "تحرير الدين" بدل "التحرر من الدين"، حيثُ تعلنُ أنّها لا تتنكرُ للإيمان، وإنّما تسعى إلى مقاربتهِ مقاربة تاريخية تفكيكية لا وضعانية، وذلك لتحريره من أشكاله التاريخية القروسطية. وعليه، فهي لا تروم إقصاءَ البعد الديني والإيماني من التقصي والبحث والدراسة، لكنها تعمدُ إلى تفكيك المرجعيات المعتبَرَة دينيةً لإثبات تاريخيتها، والاقترابِ التاريخي من كثير من "المتعاليات" لإثبات بشريتِها.
وعكس الإقصاء والإلغاء اللذين تقعُ فيهما المقاربة الوضعانيةُ، تروم هذه المقاربة تفكيكَ التراث الديني من الداخل لـ"تحرير" الناس من كثير مما تعتبره أوهاما تلبس لباس "التقديس". وهنا تلتبسُ الأمور بين "تحرير الإيمان" من الخرافي والأسطوري والنسبي والبشري المتلبس والملتبس بالمطلق، وبين إنكارِ كل مُطلق ونسفِ كل غيبٍ ونبذ كل متعال وإبادة كل منزع إيماني. وهذا الالتباس بدل أن يُحَرِّرَ إيمان الناس، فإنّه يؤدي إلى تشكيكهم في كل "إيمان"، مما يَفْجَعُ وعيَهُم الإيماني ويهدده بالعدم، فيبذُر فيهم تلك العودةَ الانفجارية للتدين التقليداني بما هو ملجأ نفسي من هَلَعِ العدم. وهذا ما يجعلُ من المقاربة التاريخية التفكيكية عامِلاً آخر يُسْهِمُ في إنعاشِ المقاربة الدينية المتشدِّدة، في الوقت الذي لا تفتر فيه عن إعلان مطمحها في تفكيكِ هذا التشدد وإبطاله.
3- القراءة العقلانية الإيمانية وأفق التحرير المزدوج
بعيداً عن القراءة الحرفية المتشددة وعن القراءة التاريخية الإقصائية وضعانيةً كانت أم تفكيكية، ثمة طريقٌ ثالثٌ من شأنهِ أن يُحَررَّنا بشكل مزدوج من آفات القراءتين الحرفية والتاريخية، طريق مازالَ في مسيس الحاجة إلى كبير تعميق وبحث، ويتعلق الأمر بما يمكن أن نطلقَ عليه "قراءةً عقلانية إيمانية"؛ وقوامُها العمل على إنتاج خطاب ديني يتأسس على مقاربةٍ تأويليةٍ ترفضُ الحرفيةَ والتسَيُّبَ في الفهم على حدٍّ سواء، مثلما ترفضُ التهجين والتلفيق اللذين تقع ضحيتهما كثير من المحاولات التوفيقية. وتجعل هذه القراءةُ المنشودةُ نصب عينيها إنتاج خطاب ديني يجمعُ بين "الروحنة" و"العقلنة"؛ أي بين التغذية المتجددةِ لِلقلب والعقل بالمعنى من غير تنافر أو تصادم، وهي مقاربة تقتضي ضرورة الانفتاح على العِلم في مختلف تجلياته المعرفية الإسلامية والغربية، مع ضرورة تطوير أدوات النقد الإبستمولوجي لهذه المعارف وتنخيلها العلمي قبل استثمارها في البحث وإنتاج الفهم، سواء تعلق الأمر بفهم النصوص أم بفهم الواقع.
إنّ من شأن مقاربةٍ بهذه الملامحِ أن تستوعبَ التعالي والتاريخ في مقاربةِ الوحي وفهمه؛ ذلكَ أن عظمةَ الوحيِ كامنةٌ في قدرة الكلمة الإلهيةِ على أن تتجاوبَ مع كل عصرٍ وفقَ شروطِهِ التاريخية، وأن تُخَاطِبَ أهلَ كلِّ زمانٍ على قدرِ ما بلغتهُ عقولُهم ومعارفُهم من التطور، وذلك دون أي تفريطٍ في المُوَجِّهاتِ العَقدية والأخلاقية والتعبدية التي تشكلُ دائرة انتماء كلِّ المسلمين مهما كان زمانُهم أو مكانهم أو أسئلتُهم. ذاك، في نظرنا، هو معنى "التعالي" الذي يميزُ الوحي، والذي يعني، فيما يعنيهِ، أنّ القرآنَ يظل دائمَ التنزُّل في كلِّ زمانٍ ومكان، وهو ما نفهمُه من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم عن القرآن الكريم أنّه "لا يخلُقُ عن كثرةِ رَدِّ، ولا تنقضِي عَجَائِبهُ" (من حديث طويل أخرجه الدارمي)؛ ذلك أنّ الرتابةَ لا تلحقهُ مهما كثُرَ ترديدهُ، وقراءتُه مهما تكررتْ تقطُنُها الغرابةُ، إذ كلُّ قراءةٍ تَدَبُّريةٍ بالضرورةِ متجددةٌ، وحاملةٌ مَعهَا أفقاً جديداً للفهمِ لا محالةَ مُبهِرٌ القارئَ بأصدافِ معنى لا قِبَلَ لهُ بها.
يكفي أن يتأهَّل القارئُ للإنصات إلى وحيٍ ما يفتأ يتنزلُ على متدبريهِ، وأن يستعدَّ لذلك بتجديدِ أدوات الغوصِ عن طريقِ تطهيرِ قلبِهِ لإدراك تعالي الوحي واستبطان معناه الروحي المتجدد، وكذا تأهيلِ عقلِه لتنزيل ذاك التعالي ضمن شروطه فهمه التاريخي، وإلا ظلَ هذا القارئُ أسيرَ ما اقتنصهُ الأجدادُ من معانٍ روحية وتاريخية مُنكِراً ما سواها ومتهماً البحرَ بالشُّحّ، فيما اللانهايةُ هي واحدةٌ من أسرار بحر الكلمة الإلهية: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً"(الكهف، الآية 9).
شرطٌ، إذن، أن يتأهلَ القارئُ لهذه المقاربةِ كيما يرى في آيات اللهِ ما لا يُرى ويسمعَ غيرَ ما ألِف أن يُسمع. ويقتضي هذا الشرطُ أن يعتني المؤمنُ بقلبه وعقله على السواء، وأن يُجاهِد من أجل بلوغِ جدليةٍ مبدعة بين روحه وعقله، تكفلُ له تلقيا متجدداً للوحي من شأنه أن يُسفر عن فهم تاريخي متجدد يغذي روحَه بالإيمان، ولا يتناقضُ مع مقتضياتِ المعقولية المنتجةِ والفعالةِ التي تستلزمها حياتُه وعصره. على أنّ الجمع بين العقل والروح، بين التاريخِ والتعالي، ومثلما يستدعي النظر في شروط التاريخِ، يستدعي أيضاً الانفتاحَ على التجربة الدينية بما هي تجربة إيمانية لها "منطقها" الروحي الخاص في توليد طاقة المعنى وإضفاء بعد إيماني على حياة الفرد والجماعة بما يصل الإنسان بالمطلقِ ويخدم إنسانيتهُ ويحول دون تشييئه أو تبهيمه.
ومثل هذا الأفق لابد أن يتضافر في صياغتهِ "العقلانيون" و"الروحانيون" على السواء، وأن تتم مراجعة كثير من الأحكام التي يقع ضحيتها "العقلانيون" في تعاملهم مع الدين حين يقاربونه بوصفه "ظاهرة" اجتماعية وثقافية فقط، فيتفلَّتُ منهم ذاك البعدُ الغيبي واللامادي والروحي والمعنوي المشكِّل لبؤرة الدين وعنوان هويته. في حين ينغمِسُ "الروحانيون" في هذه البؤرة فيفقدون البوصلةَ التاريخية والعقلانيةَ التي من شأنها أن تنبِّههم إلى بشريةِ كثير من مظاهر تدينهم ومُوَجِّهاتهِ ونسبيتها.
على أنّ تضافر آليتي "الروحنة" و"العقلنة" بتجديد أدواتهما وخلق حوار مبدع بينهما من شأنه أن ينتج لنا تيولوجيا عقلانية معاصرة تحررنا من اللاتاريخية فترصِّع الإيمان ببناء معرفي عقلاني يجعلهُ معاصرا في مستويات الفهم والإدراك ومنسجما مع سياقه التاريخي ونظامه المعرفي الحداثي، مثلما تحررنا من كل عدمية روحية فتَحْفظ تلك التيولوجيا في الوقت ذاته للإيمانِ مضمونَه الروحي ووظيفتَه في تغذية القلب وإنتاج المعنى، وهو ما من شأنه أن يقوي الإنسان على أن يحيا بعدَه المتعالي الثابت في انسجام وفعالية وإبداعية مع بعده التاريخي والبشري المتحول.
أعرفُ أنّ مثل هذا الأفق التحريري الذي ترومه "القراءة العقلانية الإيمانية" يشكلُ "يوتوبيا" جَمٍّ من المؤمنين المُعاصرين، وهي يوتوبيا جميلة وغير مستحيلة، إنّما تقتضي جهداً مازلنا بعيدين عن إنجازِه، بل لم نتأهل بعد علميا ودينيا وتاريخيا ونفسيا للقيام به. ويلزمُ للسيرِ في هذا الأفق إنجازُ تحرير مزدوج للخطاب الديني الإسلامي المعاصر، تحريرُه من القراءة الحرفيةِ المتشددة وكذا من القراءة الحداثية الإقصائيةِ؛ أي يلزمُ تحريره من "الأدلجة"، أكانت تتدثر بالإسلام أم بالحداثة، وإغراء العلماء المسلمين والعالمات بالانخراط النضالي والنسكي في هذا الأفق العلمي والروحي في آن، وهو الإغراء الذي لا مدخل له غير الإيمان بأنّ مثل هذا الأفق هو المسارُ الوحيد من أجل إنقاذ العقل والإيمان معا في الخطاب الإسلاميّ، مثلما هو الممكنُ الوحيدُ لتحقيقِ "عالمية" الرحمة المحمدية و"خلود" الإسلام بما يضمنُ للإيمان التجدد الدائم ضمن شروط تجدد العقل والتاريخ.